READ

Surah al-Baqarah

اَلْبَقَرَة
286 Ayaat    مدنیۃ


2:161
اِنَّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا وَ مَاتُوْا وَ هُمْ كُفَّارٌ اُولٰٓىٕكَ عَلَیْهِمْ لَعْنَةُ اللّٰهِ وَ الْمَلٰٓىٕكَةِ وَ النَّاسِ اَجْمَعِیْنَۙ(۱۶۱)
بیشک وہ جنہوں نے کفر کیا اور کافر ہی مرے ان پر لعنت ہے اللہ اور فرشتوں اور آدمیوں سب کی، (ف۲۹۰)

فالآية الكريمة قد فتحت للكاتمين لما يجب إظهاره باب التوبة وأمرتهم بولوجه، وأفهمتهم أنهم إذا فعلوا ما ينبغي وتركوا ما لا ينبغي وأخلصوا لله نياتهم، فإنه- سبحانه- يقبل توبتهم، ويغسل حويتهم، أما إذا استمروا في ضلالهم وكفرهم، ومضوا في هذا الطريق المظلم حتى النهاية بدون أن يحدثوا توبة، فقد بين القرآن مصيرهم بعد ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أى: إن الذين كفروا وكتموا ما من شأنه أن يظهر، كإخفائهم النصوص المشتملة على البشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم واستمروا على هذا الكفر والإخفاء حتى ماتوا.أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أى: أولئك الذين وصفوا بما ذكر عليهم اللعنة المستمرة من الله والطرد من رحمته، وعليهم كذلك اللعنة الدائمة من الملائكة والناس أجمعين عن طريق الدعاء عليهم بالإبعاد من رحمة الله.وعبر عن أصحاب ذلك الكتمان بالذين كفروا، ليحضرهم في الأذهان بأشنع وصف وهو الكفر، وليتناول الوعيد الذي اشتملت عليه الآية الكريمة كل كافر ولو بغير معصية الكتمان.وجملة وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ حالية، وأَجْمَعِينَ تأكيد بالنسبة إلى الكل لا للناس فقط.والمراد بالناس جميعهم مؤمنهم وكافرهم، إذ الكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة كما جاء في قوله- تعالى-: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. وقيل المراد بهم المؤمنون خاصة لأنهم هم الذين يعتد بلعنهم.
2:162
خٰلِدِیْنَ فِیْهَاۚ-لَا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ یُنْظَرُوْنَ(۱۶۲)
ہمیشہ رہیں گے اس میں نہ ان پر سے عذاب ہلکا ہو اور نہ انہیں مہلت دی جائے،

وقوله: خالِدِينَ فِيها الخلود البقاء إلى غير نهاية، ويستعمل بمعنى البقاء مدة طويلة. وإذا وصف به عذاب الكافر أريد به المعنى الأول، أى: البقاء إلى غير نهاية والظاهر أن الضمير في قوله فِيها يعود إلى اللعنة لأنها هي المذكورة في الجملة. وقيل إنه يعود إلى النار لأن اللعن إبعاد من الرحمة وإيجاب للعقاب والعقاب يكون في النار. وقوله لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أى: أن المقدار الذي استحقوه من العذاب لا يتفاوت بحسب الأوقات شدة وضعفا، وإنما هم في عذاب سرمدي أليم، كما قال- تعالى-: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ والزيادة في قوله- تعالى- فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً حملها بعض العلماء على معنى استمرار العذاب، فهي إشارة إلى الخلود فيه لا إلى الزيادة في شدته.وقوله: خالِدِينَ فِيها إشارة إلى دوام العذاب وعدم انقطاعه. وقوله: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ إشارة إلى كيفيته وشدته.وقوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أى: لا يمهلون ولا يؤخرون من العذاب كما كانوا يمهلون في الدنيا. من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال. أو من النظر بمعنى الانتظار يقال: نظرته وانتظرته، أى: أخرته وأمهلته ومنه قوله- تعالى-: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ.أو من النظر بمعنى الرؤية، أى: لا ينظر الله إليهم نظر رحمة ورضا ولطف كما ينظر إلى عباده الصالحين، لأنهم بكتمانهم للحق، وكفرهم بالله، استحقوا ما استحقوا من العذاب المهين.ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حذرت الناس بأسلوب تأديبي حكيم من كتمان الحق، ومن الكفر بالله، وفتحت أمامهم باب التوبة ليدخلوه بصادق النية، وصالح العمل، وتوعدت من يستمر في ضلاله وطغيانه بأقسى أنواع العذاب، وأغلظ ألوانه.وبعد أن حذر- سبحانه- من كتمان الحق، عقب ذلك ببيان ما يدل على وحدانيته، وعلى أنه هو المستحق للعبادة والخضوع فقال- تعالى-:
2:163
وَ اِلٰهُكُمْ اِلٰهٌ وَّاحِدٌۚ-لَاۤ اِلٰهَ اِلَّا هُوَ الرَّحْمٰنُ الرَّحِیْمُ۠(۱۶۳)
اور تمہارا معبود ایک معبود ہے (ف۲۹۱) اس کے سوا کوئی معبود نہیں مگر وہی بڑی رحمت والا مہربان

قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ معطوف على قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا عطف القصة على القصة، والجامع- كما قال الآلوسى- أن الأولى- وهي قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مسوقة لإثبات نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وجملة وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لإثبات وحدانية الله- تعالى- والإله في كلام العرب هو المعبود مطلقا ولذلك تعددت الآلهة عندهم. والمراد به في الآية الكريمة المعبود بحق بدليل الإخبار عنه بأنه واحد.والمعنى: وإلهكم الذي يستحق العبادة والخضوع إله واحد فرد صمد، فمن عبد شيئا دونه، أو عبد شيئا معه، فعبادته باطلة فاسدة، لأن العبادة الصحيحة هي ما يتجه بها العابد إلى المعبود بحق الذي قامت البراهين الساطعة على وحدانيته وهو الله رب العالمين.قال بعضهم: «والإخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجرى عليه الوصف بواحد، والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط إله بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه، كما تقول:عالم المدينة عالم فائق، وليجيء ما كان أصله خيرا مجيء النعت فيفيد أنه وصف ثابت للموصوف لأنه صار نعتا، إذ أصل النعت أن يكون وصفا ثابتا، وأصل الخبر أن يكون وصفا حادثا، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبنى عليه وصف أو متعلق كقوله: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً .وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مقررة لما تضمنته الجملة السابقة من أن الله واحد لا شريك له، ونافية عن الله- تعالى- الشريك صراحه، ومثبتة له مع ذلك الإلهية الحقة، ومزيحة لما عسى أن يتوهم من أن في الوجود إلها سوى الله- تعالى- لكنه لا يستحق العبادة.ومعناها: إن الله إله، وليس شيء مما سواه بإله.وهذه الجملة الكريمة خبر ثان للمبتدأ وهو إِلهُكُمْ أو صفة أخرى للخبر وهو (إله) وخبر (لا) محذوف أى لا إله موجود إلا هو، والضمير (هو) في موضع رفع بدل من موضع لا مع اسمها.وقوله: (الرحمن الرحيم) خبر مبتدأ محذوف، وقيل غير ذلك من وجوه الإعراب.والمعنى: وإلهكم الذي يستحق العبادة إله واحد، لا إله مستحق لها إلا هو، هو الرحمن الرحيم.أى: المنعم بجلائل النعم ودقائقها، وهو مصدر الرحمة، ودائم الإحسان.وأتى- سبحانه- بهذين اللفظين في ختام الآية، لأن ذكر الإلهية والوحدانية يحضر في ذهن السامع معنى القهر والغلبة وسعة المقدرة وعزة السلطان، وذلك مما يجعل القلب في هيبة وخشية، فناسب أن يورد عقب ذلك ما يدل على أنه مع هذه العظمة والسلطان، مصدر الإحسان ومولى النعم، فقال: (الرحمن الرحيم) ، وهذه طريقة القرآن في الترويح على القلوب بالتبشير بعد ما يثير الخشية، حتى لا يعتريها اليأس أو القنوط.وبعد أن أخبر- سبحانه- بأنه هو الإله الذي لا يستحق العبادة أحد سواه، عقب ذلك بإيراد ثمانية أدلة تشهد بوحدانيته وقدرته، وتشتمل على آيات ساطعات، وبينات واضحات، تهدى أصحاب العقول السليمة إلى عبادة الله وحده، وإلى بطلان ما يفعله كثير من الناس من عبادة مخلوقاته.ويشتمل الدليل الأول والثاني على أنه- سبحانه- هو المستحق للعبادة في قوله- تعالى-:
2:164
اِنَّ فِیْ خَلْقِ السَّمٰوٰتِ وَ الْاَرْضِ وَ اخْتِلَافِ الَّیْلِ وَ النَّهَارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِیْ تَجْرِیْ فِی الْبَحْرِ بِمَا یَنْفَعُ النَّاسَ وَ مَاۤ اَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ السَّمَآءِ مِنْ مَّآءٍ فَاَحْیَا بِهِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِیْهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ ۪-وَّ تَصْرِیْفِ الرِّیٰحِ وَ السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَیْنَ السَّمَآءِ وَ الْاَرْضِ لَاٰیٰتٍ لِّقَوْمٍ یَّعْقِلُوْنَ(۱۶۴)
بیشک آسمانوں (ف۲۹۲) اور زمین کی پیدائش اور رات و دن کا بدلتے آنا اور کشتی کہ دریا میں لوگوں کے فائدے لے کر چلتی ہے اور وہ جو اللہ نے آسمان سے پانی اتار کر مردہ زمین کو اس سے جِلا دیا اور زمین میں ہر قسم کے جانور پھیلائے اور ہواؤں کی گردش اور وہ بادل کہ آسمان و زمین کے بیچ میں حکم کا باندھا ہے ان سب میں عقلمندوں کے لئے ضرور نشانیاں ہیں،

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.الخلق: هو الإحداث للشيء على غير مثال سابق. وهو هنا بمعنى المخلوق. إذ الآيات التي تشاهد إنما هي في المخلوق الذي هو السموات والأرض.والسموات: جمع سماء، وهي كل ما علا كالسقف وغيره، إلا أنها إذا أطلقت لم يفهم منها سوى الأجرام المقابلة للأرض، وهي سبع كما ورد ذلك صريحا في بعض الآيات التي منها قوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ.وجمعت السموات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية، كما يدل عليه قوله- تعالى-: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ولأن إفرادها قد يوهم بأنها واحدة مع أن القرآن صريح. في كونها سبعا.وجاءت الأرض مفردة- وهي لم تجيء في القرآن إلا كذلك- لأن المشاهدة لا تقع إلا على أرض واحدة، ومن هنا حمل بعض أهل العلم تعددها الذي يتبادر من ظاهر قوله- تعالى-:اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ على معنى أنها طبقات لا ينفصل بعضها عن بعض.ومن الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته في خلق السموات ارتفاعها بغير عمد كما يرى ذلك بالمشاهدة، وتزيينها بالمصابيح التي جعلها الله زينة للسماء ورجوما للشياطين، ووجودها بتلك الصورة العجيبة الباهرة التي لا ترى فيها أى تفاوت أو اضطراب ومن الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته في خلق الأرض، فرشها بتلك الطريقة الرائعة التي يتيسر معها للإنسان أن يتقلب في أرجائها، ويمشى في مناكبها، وينتفع بما يحتاج إليه منها أينما كان، وتفجيرها بالأنهار، وعمارتها بحدائق ذات ثمار تختلف ألوانها ويتفاضل أكلها.وفي القرآن الكريم عشرات الآيات التي تتحدث عن نعم الله على عباده في خلق السموات والأرض، وعن مظاهر قدرته ووحدانيته في إيجادهما على تلك الصورة، ومن ذلك قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.وقوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ.وقوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً. لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً.إلى غير ذلك من الآيات الكريمة الدالة على وجود الله وقدرته ووحدانيته.ويتمثل الدليل الثالث على قدرته- سبحانه- ووحدانيته في قوله تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، والاختلاف: افتعال من الخلف، وهو أن يجيء شيء عوضا عن شيء آخر يخلفه على وجه التعاقب. والمراد أن كلا من الليل والنهار يأتى خلفا من الآخر وفي أعقابه، ويجوز أن يكون المراد باختلافهما، في أنفسهما بالطول والقصر، واختلافهما في جنسهما بالسواد والبياض.واللَّيْلِ: هو الظلام المعاقب للنهار، واحدته ليلة كتمر وتمرة.والنَّهارِ: هو الضياء المتسع، وأصله الاتساع، ومنه قول الشاعر:ملكت بها كفى فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءهاأى: أوسعت فتقها.وقد جعل الله الليل للسكون والراحة والعبادة لمن وفقه الله لقضاء جانب منه في مناجاته- سبحانه-، وجعل النهار للعمل وابتغاء الرزق.قال- تعالى-: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار، لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد سوى فوائد الآخر، بحيث لو دام أحدهما لا نقلب النفع ضرّا.قال- تعالى-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.ومن العظات التي تؤخذ من هذا الاختلاف أن مدد الليل والنهار تختلف فلكل منهما مدة يستو فيها من السنة بمقتضى نظام دقيق مطرد.قال- تعالى-: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وكون الليل والنهار يسيران على هذا النظام الدقيق المطرد الذي لا ينخرم دليل على أن الاختلاف تدبير من إله قادر حكيم لا يدخل أفعاله تفاوت ولا اختلال.وإذا كان لهذا الاطراد أسباب تحدث عنها العلماء، فإن الذي خلق الأسباب وجعل بينها وبين هذا الاختلاف تلازما إنما هو الإله الواحد القهار.أما المظهر الرابع من المظاهر الدالة في هذا الكون على قدرته- سبحانه- ووحدانيته وألوهيته، فقد تحدثت عنه الآية في قوله- تعالى-: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ.(الفلك) : ما عظم من السفن، ويستعمل لفظ الفلك للواحد والجمع. والظاهر أن المراد به هنا الجمع بدليل قوله- تعالى-: الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ولو كان هذا اللفظ للمفرد لقال:الذي يجرى، كما جاء في قوله- تعالى-: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ والجملة الكريمة معطوفة على خلق السموات والأرض.قال صاحب المنار: وكان الظاهر أن تأتى هذه الجملة في آخر الآية ليكون ما للإنسان فيه صنع على حدة وما ليس له فيه صنع على حدة. والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار، هي أن المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، والمسافرون في البحر أحوج إلى معرفة الأوقات وتحديد الجهات، لأن خطر الجهل عليهم أشد، وفائدة المعرفة لهم أعظم، ولذلك كان من ضروريات رباني السفن معرفة علم النجوم، وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم. قال- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فهذا وجه العلاقة بين ذكر الفلك وما قبله .و «ما» في قوله: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ مصدرية، والباء للسببية أى: تجرى بسبب نفع الناس ولأجله في التجارة وغيرها. أو موصولة والباء للحال، أى تجرى مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس. وخص- سبحانه- النفع بالذكر وإن كانت السفن تحمل ما ينفع وما يضر لأن المراد هنا عد النعم، ولأن الذي يحمل فيها ما يضر غيره هو في الوقت نفسه يقصد منفعة نفسه.ومن وجوه الاستدلال بالفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس على وجود الله وقدرته، أن هذه الفلك وإن كانت من صنع الناس إلا أن الله- تعالى- هو الذي خلق الآلات والأجزاء التي صارت بها سفنا، وهو الذي سخر لبحر لتجرى فيه مقبلة ومدبرة مع شدة أهواله إذا هاج، وهو الذي جعلها تشق أمواجه شقا حتى تصل إلى بر الأمان، وهو الذي رعاها برعايته وهي كنقطة صغيرة في ذلك الماء الواسع، ووسط تلك الأمواج المتلاطمة حتى وصلت إلى ساحل السلامة وهي حاملة الكثير مما ينفع الناس من الأطعمة والأشربة والأمتعة المختلفة، فسبحانه من إله قادر حكيم.الدليل الخامس والسادس على أنه- سبحانه- هو المستحق للعبادة يتمثل في قوله- تعالى-في هذه الآية: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ.والمراد بالسماء: جهة العلو، أى: وما أنزل من جهة السماء من ماء، و «من» في قوله:مِنَ السَّماءِ ابتدائية، وفي قوله: مِنْ ماءٍ بيانية، وهما ومجرورهما متعلقان بأنزل.والمراد بإحياء الأرض: تحرك القوى النامية فيها، وإظهار ما أودع الله فيها من نبات وزهور وثمار وغير ذلك.والمراد بموتها: خلوها من ذلك باستيلاء اليبوسة والقحط عليها.قال- تعالى-: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.(والبث) : التفريق والنشر لما كان خافيا، ومنه بث الشكوى أى: نشرها وإظهارها، وكل شيء بثثته فقد فرقته ونشرته، والضمير في قوله: «فيها» يعود إلى الأرض.(والدابة) : اسم من الدبيب والمشي ببطء، كل ما يمشى فوق الأرض فهو بحسب الوضع اللغوي يطلق عليه دابة. والظاهر أن المراد بالدابة هنا هذا المعنى العام، لا ما يجرى به العرف الخاص باستعماله في نوع خاص من الحيوان كذوات الأربع.وجملة وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ ... معطوفة على ما قبلها، وجملة وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ معطوفة على قوله: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.والمعنى: وإن فيما أنزله الله من جهة السماء من ماء مبارك، عمرت به الأرض بعد خرابها، وانتشرت فيها أنواع الدواب كلها، لدليل ساطع على قدرة الله ووحدانيته.ذلك لأنه هو وحده الذي أنزل المطر من السماء ولو شاء لأمسكه مع أن الماء من طبعه الانحدار، وهو وحده الذي جعل الأرض التي نعيش عليها تنبت من كل زوج بهيج بسبب ما أنزل عليها من ماء، وهو وحده الذي نشر على هذه الأرض أنواعا من الدواب مختلفة في طبيعتها وأحجامها، وأشكالها وألوانها، وأصواتها، ومآكلها، وحملها، وتناسلها، ووجوه الانتفاع بها، وغير ذلك من وجوه الاختلاف الكثيرة، مما يشهد بأن خالق هذه الكائنات إله واحد قادر حكيم.أما الدليل السابع والثامن في هذه الآية على قدرته- سبحانه- ووحدانيته واستحقاقه للعبادة فهما قوله- تعالى-: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.الرياح جمع ريح وهي نسيم الهواء.وتصريفها: تقليبها في الجهات المختلفة، ونقلها من حال إلى حال، وتوجيهها على حسب إرادته- سبحانه- ووفق حكمته. فتهب تارة صبا، أى من مطلع الشمس، وتارة دبورا، أى:من جهة الغرب، وأحيانا من جهة الشمال أو الجنوب وقد يرسلها- سبحانه- عاصفة ولينة، حارة أو باردة، لواقح بالرحمة حينا وبالعذاب آخر. وتَصْرِيفِ مصدر صرف مضاف للمفعول والفاعل هو الله، أى: وتصريف الله الرياح. أو مضاف للفاعل والمفعول السحاب، أى: وتصريف الرياح السحاب.وجاءت هذه الجملة الكريمة بعد إحياء الأرض بالمطر وبث الدواب فيها للتناسب بينهما، وتذكيرا بالسبب إذ بالرياح تكون حياة النبات والحيوان وكل دابة على الأرض، ولو أمسك- سبحانه- الرياح عن التصريف لما عاش كائن على ظهر الأرض.وَالسَّحابِ: عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة، سمى بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له.والْمُسَخَّرِ: من التسخير وهو التذليل والتيسير، ومعنى تسخيره- كما قال الآلوسى- أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضى صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا- والْمُسَخَّرِ صفة للسحاب باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله:سَحاباً ثِقالًا.والظرف «بين» يجوز أن يكون منصوبا بقوله المسخر فيكون ظرفا للتسخير، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر في اسم المفعول فيتعلق بمحذوف أى: كائنا بين السماء والأرض.وجاء ذكر السحاب بعد تصريف الرياح لأنها هي التي تثيره وتجمعه، وهي التي تسوقه إلى حيث ينزل مطرا في الأماكن التي يريد الله إحياءها.قال- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.ولا شك أن هذا التصريف للرياح مع أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى، وهي مع ذلك في غاية القوة بحيث تقلع الأشجار وتخرب الديار، وهذا التسخير للسحاب بحيث يبقى معلقا بين السماء والأرض مع حمله للمياه العظيمة التي تسيل بها الأودية المتسعة ... لا شك أن كل ذلك من أعظم الأدلة على أن لهذا الكون مدبرا قادرا حكيما هو الله رب العالمين.وقوله: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اسم إِنَّ لقوله- تعالى- في أول الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ودخلت اللام على الاسم وهو لَآياتٍ لتأخره عن الخبر والتنكير للتعظيم والتفخيم كما وكيفا.أى: إن فيما ذكره الله من مخلوقاته العجيبة، وكائناته الباهرة، لدلائل ساطعة، وآيات واضحة ترشد من يعقلون ويتدبرون فيها، إلى أن لهذا الكون إلها واحدا قادرا حكيما مستحقا للعبادة والخضوع والطاعة.وموقع هذه الآية الكريمة من سابقتها كموقع الحجة من الدعوى، ذلك أن الله- تعالى- أخبر في الآية السابقة أن الإله واحد لا إله غيره وهي قضية قد تلقاها كثير من الناس بالإنكار، فناسب أن يأتى في هذه الآية الكريمة بالحجج والبراهين التي لا يسع الناظر فيها بتدبر وتفكير إلا التسليم عن اقتناع بوحدانية الله- تعالى- وقدرته.قال الإمام الرازي: واعلم أن النعم على قسمين: نعم دنيوية ونعم دينية وهذه الأمور الثمانية، التي عدها الله- تعالى- نعم دنيوية في الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها، واستدل بها على معرفة الصانع، صارت نعما دينية، لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن، فلذلك قال: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .وقال الآلوسى: أخرج ابن أبى الدنيا وابن مردويه عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» .ثم قال الآلوسى: ومن تأمل في تلك المخلوقات التي وردت في هذه الآية وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده- تعالى- ووحدانيته وسائر صفاته الموجبة لتخصيص العبادة له، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه، مستنبعا لآثار معينه، وأحكام مخصوصة ... وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية، وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة».والحق أن هذه الآية الكريمة قد اتجهت في تثبيت عقيدة وحدانية الله وقدرته وألوهيته إلى تنبيه الحواس والمدارك والمشاعر إلى ما في هذا الكون المشاهد المنظور من آيات ودلائل على حقية الخالق- عز وجل- بالعبادة.لما فيها من عظات وعبر وصدق الله إذ يقول وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ.ورحم الله القائل: ألا إن لله كتابين: كتابا مخلوقا وهو الكون، وكتابا منزلا وهو القرآن.وإنما يرشدنا هذا إلى طريق العلم بذاك بما أوتينا من العقل. فمن أطاع فهو من الفائزين، ومن أعرض فأولئك هم الخاسرون.وبعد أن ذكر- سبحانه- جانبا من الآيات الدالة على ألوهيته ووحدانيته أردف ذلك ببيان حال المشركين، وما يكون منهم يوم القيامة من تدابر وتقاطع وتحسر على ما فرط منهم فقال- تعالى-:
2:165
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَّتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللّٰهِ اَنْدَادًا یُّحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللّٰهِؕ-وَ الَّذِیْنَ اٰمَنُوْۤا اَشَدُّ حُبًّا لِّلّٰهِؕ-وَ لَوْ یَرَى الَّذِیْنَ ظَلَمُوْۤا اِذْ یَرَوْنَ الْعَذَابَۙ-اَنَّ الْقُوَّةَ لِلّٰهِ جَمِیْعًاۙ-وَّ اَنَّ اللّٰهَ شَدِیْدُ الْعَذَابِ (۱۶۵)
اور کچھ لوگ اللہ کے سوا اور معبود بنالیتے ہیں کہ انہیں اللہ کی طرح محبوب رکھتے ہیں اور ایمان والوں کو اللہ کے برابر کسی کی محبت نہیں اور کیسے ہو اگر دیکھیں ظالم وہ وقت جب کہ عذاب ان کی آنکھوں کے سامنے آئے گا اس لئے کہ سارا زور خدا کو ہے اور اس لئے کہ اللہ کا عذاب بہت سخت ہے،

الأنداد: جمع ند، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه. وأصله من ند البعير يند ندا وندادا وندودا، أى: نفر وذهب على وجهه شاردا. ويرى بعض العلماء أن المراد بالأنداد هنا الأصنام التي اتخذها المشركون آلهة للتقرب بها إلى الله، وقيل: المراد بها الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم. والأولى أن يكون المراد بهذه الأنداد كل مخلوق أسند إليه أمر اختص به الله- تعالى- من نحو التحليل، والتحريم وإيصال النفع وغير ذلك من الأمور التي انفرد بها الخالق- عز وجل-.والمعنى: أن من الناس من لا يعقل تلك الآيات التي دلت على وحدانية الله وقدرته، وبلغت بهم الجهالة أنهم يخضعون لبعض المخلوقات خضوعهم لله بزعم أنها مشابهة ومماثلة ومناظرة له- سبحانه- في النفع والضر، ويحبون تعظيم تلك المخلوقات وطاعتها والتقرب إليها والانقياد لها حبا يشابه الحب اللازم عليهم نحو الله- تعالى- أو يشابه حب المؤمنين لله، ومِنَ في قوله: وَمِنَ النَّاسِ للتبعيض، والجار والمجرور خبر مقدم ومِنَ في قوله: مَنْ يَتَّخِذُ في محل رفع مبتدأ مؤخر، و «من دون الله، حال من ضمير يتخذ وأَنْداداً مفعول به ليتخذ.قال الجمل: وجملة يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ فيها ثلاثة أوجه:أحدها: أن تكون في محل رفع صفة لمن في أحد وجهيها، والضمير المرفوع يعود عليها باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ في يتخذ.والثاني: أن تكون في محل نصب صفة لأندادا والضمير المنصوب يعود عليهم والمراد بهم الأصنام، وإنما جمعوا جمع العقلاء لمعاملتهم معاملة العقلاء. أو أن يكون المراد بهم من عبد من دون الله عقلاء وغيرهم ثم غلب العقلاء على غيرهم.الثالث: أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير في يتخذ، والضمير المرفوع عائد على ما عاد عليه الضمير في يتخذ وجمع حملا على المعنى».ثم مدح- سبحانه- عباده المؤمنين فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أى: والذين آمنوا وأخلصوا لله العبادة أشد حبا له- سبحانه- من كل ما سواه، ومن حب المشركين للأنداد، ذلك لأن حب المؤمنين لله متولد عن أدلة يقينية، وعن علم تام، ببديع حكمته- سبحانه- وبالغ حجته، وسعة رحمته، وعدالة أحكامه، وعزة سلطانه، وتفرده بالكمال المطلق، والحب المتولد عن هذا الطريق يكون أشد من حب المشركين لمعبوداتهم لأن حب المشركين لمعبوداتهم متولد عن طريق الظنون والأوهام والتقاليد الباطلة.والتصريح بالأشدية في قوله: أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أبلغ من أن يقال أحب لله؟ إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل- كما يقول الآلوسى- بل المراد الرسوخ والثبات. وقيل: عدل عن أحب إلى أشد حبا، لأن «أحب» شاع في الأشد محبوبية فعدل عنه احترازا عن اللبس.ولقد ضرب المؤمنون الصادقون أروع الأمثال في حبهم لله- تعالى- لأنهم ضحوا في سبيله بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأغلى شيء لديهم، ولأنهم لم يعرفوا عملا يرضيه إلا فعلوه، ولم يعرفوا عملا يغضبه إلا اجتنبوه.ثم أخبر- سبحانه- عما ينتظر الظالمين من سوء المصير فقال: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ «لو» شرطية، وجوابها محذوف لقصد التهويل ولتذهب النفس في تصويره كل مذهب «والقوة» القدرة والسلطان.والمعنى: ولو يرى أولئك المشركون حين يشاهدون العذاب المعد لهم يوم القيامة أن القدرة كلها لله وحده، وأن عذابه الذي يصيب به المتخبطين في ظلمات الشرك شديد، لو يعلمون ذلك، لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة، ولوقعوا فيما لا يكاد يوصف من الحسرة والندامة.وكان الظاهر بمقتضى تقدم ذكرهم أن يقال: ولو يرون إذ يرون. ولكن وضع الموصول وصلته موضع الضمير، ليحضر في ذهن السامع أنهم صاروا باتخاذهم الأنداد من الظالمين، وليشعر بأن سبب رؤيتهم العذاب الشديد هو ذلك الظلم العظيم.وعبر بالماضي في قوله: «إذ يرون العذاب» لتحقق الوقوع، وكل ما كان كذلك فإنه يجرى مجرى ما وقع وحصل.وجملة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً سدت مسد مفعولي يرى، وانتصب لفظ جَمِيعاً على التوكيد للقوة. أى. جميع جنس القوة ثابت لله، وهو مبالغة في عدم الاعتداد بقوة غيره، فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ.وجملة وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ معطوفة على ما قبلها، وفائدتها المبالغة في تفظيع الخطب، وتهويل الأمر، فإن اختصاص القوة به- تعالى- لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه.هذا، وقد قرأ نافع وابن عمر «ولو ترى» بالتاء على الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتى له الخطاب.أى: لو ترى ذلك أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب لرأيت أمرا عظيما في الفظاعة والهول.
2:166
اِذْ تَبَرَّاَ الَّذِیْنَ اتُّبِعُوْا مِنَ الَّذِیْنَ اتَّبَعُوْا وَ رَاَوُا الْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْاَسْبَابُ(۱۶۶)
جب بیزار ہوں گے پیشوا اپنے پیروؤں سے (ف۲۹۳) اور دیکھیں گے عذاب اور کٹ جائیں گی ان کی سب ڈوریں (ف۲۹۴)

وقوله- تعالى-: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ... بدل من قوله: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ. أو مفعولا به بتقدير اذكر.وتَبَرَّأَ من التبرؤ وهو التخلص والتنصل والتباعد، ومنه برئت من الدين أى: تخلصت منه، وبرأ المريض من مرضه، أى: تخلص من مرضه.والمراد بالذين اتبعوا: أئمة الكفر الذين يحلون ويحرمون ما لم يأذن به الله.والمراد بالذين اتبعوا: أتباعهم وأشياعهم الذين يتلقون جميع أقوالهم بالطاعة والخضوع بدون تدبر أو تعقل.وجملة وَرَأَوُا الْعَذابَ حال من الأتباع والمتبوعين، والضمير يعود على الفريقين. أى:تبرؤا جميعا من بعض في حال رؤيتهم للعذاب.وجملة وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ معطوفة على تبرأ، أو رأوا.والباء في بِهِمُ للسببية أى: وتقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون من ورائها النجاة، وقيل للملابسة أى: تقطعت الأسباب ملتبسة بهم فخابت آمالهم وسقطوا صرعى.والْأَسْبابُ جمع سبب، وهو في الأصل الحبل الذي يرتقى به الشجر ونحوه، ثم سمى به كل ما يتوصل به إلى غيره، عينا كان أو معنى. فيقال للطريق سبب، لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تربده، ويقال للمودة سبب لأنك تتواصل بها إلى غيرك، والمراد بالأسباب هنا:الوشانج والصلات التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا، من القرابات والمودات والأحلاف والاتفاق في الدين ... إلخ.والمعنى: واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ يوم القيامة، ذلك اليوم الهائل الشديد الذي يتنصل فيه الرؤساء من مرءوسيهم، والاتباع من متبوعيهم حال رؤيتهم جميعا للعذاب وأسبابه ومقدماته وما أعدلهم من شقاء وآلام، وقد ترتب على كل ذلك أن تقطع ما بين الرؤساء والأذناب من روابط كانوا يتواصلون بها في الدنيا، وصار كل فريق منهم يلعن الآخر ويتبرأ منه.قال بعض العلماء: وفي قوله: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ استعارة تمثيلية إذ شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدة حياتهم وقد جاء إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتنى الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب- أى الحبل- عند ارتقائه فسقط هالكا، فكذلك هؤلاء قد علموا جميعا حينئذ أن لا نجاة لهم، فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة. وهي تمثيلية بديعة تشتمل على سبعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشبها بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبهة بها وهي:تشبيه المشرك في عبادته الأصنام بالمرتقى بجامع السعى، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل إليها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول، وتشبيه الحرمان من الوصول للنعيمبتقطع الحبل، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك..».
2:167
وَ قَالَ الَّذِیْنَ اتَّبَعُوْا لَوْ اَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّاَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوْا مِنَّاؕ-كَذٰلِكَ یُرِیْهِمُ اللّٰهُ اَعْمَالَهُمْ حَسَرٰتٍ عَلَیْهِمْؕ-وَ مَا هُمْ بِخٰرِجِیْنَ مِنَ النَّارِ۠(۱۶۷)
اور کہیں گے پیرو کاش ہمیں لوٹ کر جانا ہوتا (دنیا میں) تو ہم ان سے توڑ دیتے جیسے انہوں نے ہم سے توڑ دی، یونہی اللہ انہیں دکھائے گا ان کے کام ان پر حسرتیں ہوکر (ف۲۹۵) اور وہ دوزخ سے نکلنے والے نہیں

ثم بين- سبحانه- ما قاله الأتباع على سبيل الحسرة والندم فقال: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا.الكرة: الرجعة والعودة. يقال: كر يكر كرا: أى: رجع. و (لو) للتمني. وقوله فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ منصوب بعد الفاء بأن مضمرة في جواب التمني الذي أشربته لو، والكاف في قوله كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا في محل نصب نعت لمصدر محذوف أى تبرأ مثل تبرئهم.والمعنى: وقال الذين كانوا تابعين لغيرهم في الباطل بدون تعقل أو تدبر ليت لنا رجعة إلى الحياة الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين اتبعناهم وأضلونا السبيل كما تبرءوا منا في هذا اليوم العصيب، ولنشفى غيظنا منهم لأنهم خذلونا وأوردونا موارد التهلكة والعذاب الأليم.وقوله- تعالى-: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ تذبيل لتأكيد الوعيد، وبيان لحال المشركين في الآخرة.قال الآلوسى: وقوله: كَذلِكَ في موضع المفعول المطلق لما بعده، والمشار إليه الاراء المفهوم من قوله: إِذْ يَرَوْنَ أى: كإراء العذاب المتلبس بظهور أن القوة لله والتبري وتقطع الأسباب وتمنى الرجعة، يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم. وجوز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الضخامة. أى: مثل ذلك الاراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله- تعالى-: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.والمراد بأعمالهم: المعاصي التي ارتكبوها وفي مقدمتها اتباعهم لمن أضلوهم.وحَسَراتٍ جمع حسرة، وهي أشد درجات الندم والغم على ما فات. يقال: حسر يحسر حسرا فهو حسير، إذ اشتدت ندامته على أمر فاته.قال الرازي: وأصل الحسر الكشف. يقال حسر ذراعيه أى: كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة. والحسور الإعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر. قال- تعالى-:وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ .والمعنى: كما أرى الله- تعالى- المشركين العذاب وما صاحبه من التبرؤ وتقطع الأسباب بينهم، يريهم- سبحانه- أعمالهم السيئة يوم القيامة فتكون حسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم.ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان عاقبة أمرهم فقال: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.أى: وما هم بخارجين من تلك النار التي عوقبوا بها بسبب شركهم، بل هم مستقرون فيها استقرارا أبديا، وقد جاءت الجملة اسمية لتأكيد نفى خروجهم من النار، وبيان أنهم مخلدون فيها كما قال- تعالى- في آية أخرى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها.وهكذا يسوق لنا القرآن ما يدور بين التابعين والمتبوعين يوم القيامة من تنصل وتحسر وتخاصم بتلك الطريقة المؤثرة، حتى لكأنك أمام مشهد مجسم، ترى فيه الصور الشاخصة حاضرة. وذلك لون من ألوان بلاغة القرآن في عرضه للحقائق، حتى تأخذ سبيلها إلى النفوس الكريمة، وتؤتى ثمارها الطيبة في القلوب السليمة.ثم وجه القرآن نداء عاما إلى البشر أمرهم فيه بأن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات، ونهاهم عن اتباع وساوس الشيطان فقال- تعالى-:
2:168
یٰۤاَیُّهَا النَّاسُ كُلُوْا مِمَّا فِی الْاَرْضِ حَلٰلًا طَیِّبًا ﳲ وَّ لَا تَتَّبِعُوْا خُطُوٰتِ الشَّیْطٰنِؕ-اِنَّهٗ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِیْنٌ(۱۶۸)
اے لوگوں کھاؤ جو کچھ زمین میں (ف۲۹۶) حلال پاکیزہ ہے اور شیطان کے قدم پر قدم نہ رکھو، بیشک وہ تمہارا کھلا دشمن ہے،

كُلُوا صيغة أمر واردة في معنى الإباحة.والحلال ما أذن الله في تناوله من مطعومات أو مشروبات.قال الرازي: وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد، ومنه حل بالمكان إذا نزل، لأنه حل شد الارتحال للنزول، وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة، وحل من إحرامه، لأنه حل عقدة الإحرام.. ثم قال: واعلم أن الحرام قد يكون حراما لخبثه- في ذاته- كالميتة والدم ولحم الخنزير، وقد يكون حراما لوصف عارض كملك الغير إذا لم يأذن في أكله- فحرمته لتعلق حق الغير به- فالحلال هو الخالي عن هذين القيدين» .وَالطَّيِّبُ: هو المستلذ المستطاب الذي تقبل عليه النفوس الطاهرة وتنبسط لتناوله، وإنما تنبسط النفوس الطاهرة لتناول طعام غير قذر ولا موقع في تهلكة، إذ القذر ينفر منه الطبع السليم، والموقع في تهلكة يمجه العقل القويم.ومن: في قوله: مِمَّا فِي الْأَرْضِ للتبعيض، لأن بعض ما في الأرض كالحجارة- مثلا- لا يؤكل، ولأنه ليس كل ما يؤكل يجوز أكله فلذلك قال: حَلالًا طَيِّباً ...وقوله: حَلالًا مفعول به لقوله: «كلوا» أو حال مما في الأرض، أى: كلوه حال كونه حلالا. أو صفة لمصدر محذوف، أى: كلوه أكلا حلالا.وقوله: طَيِّباً صفة مقررة ومؤكدة لمعنى يستفاد من قوله: حَلالًا وهو طهارة المأكول وخلوه من القذارة، وعدم إيقاعه في ضرر.قال الآلوسى: «وفائدة وصف الحلال بالطيب تعميم الحكم كما في قوله- تعالى-:وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم، بخلاف غير الموصوفة» .والمعنى: يا أيها الناس لقد أباح الله لكم أن تأكلوا من كل ما تحويه الأرض من المطعومات التي أحلت لكم، والتي تستلذها النفوس الكريمة، والقلوب الطاهرة، فتمتعوا بهذه الطيبات في غير سرف أو غرور، واشكروا الله- تعالى- على ما رزقكم من نعم.ولقد أمر الله عباده في كثير من الآيات أن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات ومن ذلك قوله- تعالى-: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.وفي صحيح مسلّم عن عياض المجاشعي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرنى أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومى هذا. يقول الله- تعالى-: كل مال نحلته- أى منحته- عبادي فهو لهم حلال، وإنى خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا..» . وعن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فقام سعد بن أبى وقاص فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به» .وليس من الورع ولا الزهد المرضى عنه شرعا ترك بعض المباحاث، فإن الله سوى في المباح بين الفعل والترك، ومن يجعل ترك المباح من الورع، والورع مندوب، فكأنه يقول: إن الترك راجح على الفعل، وهو غير ما حكم الله به.وكان الحسن البصري- وهو من أجل التابعين- يقوم عوج من يعدون من الزهد المحمود الامتناع عن تناول بعض المباحات كالأطعمة اللذيذة.يحكى عنه أنه شهد يوما وليمة، فرأى رجلا يرفع يده عند ما قدمت الحلوى فقال له الحسن:كل يا لكع فلنعمة الله عليك في الماء البارد أعظم من نعمته في هذه الحلوى.ودخل عليه مرة أحد الزهاد فقال له الحسن: أتحب الخبيص- وهو طعام لذيذ- فقال الزاهد: لا أحبه ولا أحب من يحبه!! فأقبل الحسن على جلسائه وقال لهم: أترونه مجنونا.والخلاصة: أنه لا ورع في ترك المباح الذي أحله الله من حيث فيه متعة للنفس، فذلك هو التنطع في الدين، وإنما الورع في ترك الإكثار من تناول تلك المباحات، لأن الإكثار منها قد يؤدى إلى الوقوع فيما نهى الله عنه.هذا، وقد أورد بعض المفسرين آثارا تدل على أن هذه الآية نزلت في يوم معينين.قال الآلوسى: نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقيل نزلت في قوم من ثقيف وبنى عامر ابن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حيث حرموا التمر والاقط على أنفسهم والذي نراه أن الخطاب في الآية لجميع المكلفين من البشر، وأنها واردة لتفنيد آراء الذين يحرمون على أنفسهم مطعومات لم يقم دليل من الشارع على تحريمها، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.ثم قال- تعالى-: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.الخطوات: جمع خطوة كغرفة وقيل جمع خطوة كقبضة، وهي في الأصل ما بين القدمين عند المشي، وتستعمل على وجه المجاز في الآثار.أى: كلوا أيها الناس من الطيبات التي أحلها الله لكم. ولا تتبعوا آثار الشيطان وزلاته ووساوسه وطرقه التي يحرم بها الحلال ويحلل الحرام والتي يقذفها في صدور بعض الناس فتجعلهم ينتقلون من الطاعات إلى المعاصي.وفي الجملة الكريمة استعارة تمثيلية، إذ أن السائر في طريق إذا رأى آثار خطوات السائرين تتبع ذلك المسلك ظنا منه بأن ما سار فيه السائر قبله إلا لأنه موصل للمطلوب، فشبه المقتدى الذي لا دليل معه سوى المقتدى به وهو يظن مسلكه موصلا، بالذي يتبع خطوات السائرين، وشاعت هذه الاستعارة حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدى به.وقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهى عن اتباع الشيطان و «مبين» من أبان بمعنى بان وظهر، وقيل: من أبان بمعنى أظهر، أى: مظهر للعداوة.والمعنى: «ولا تتبعوا خطواته لأن عداوته ظاهرة لكم بحيث لا تخفى على أى عاقل.
2:169
اِنَّمَا یَاْمُرُكُمْ بِالسُّوْٓءِ وَ الْفَحْشَآءِ وَ اَنْ تَقُوْلُوْا عَلَى اللّٰهِ مَا لَا تَعْلَمُوْنَ(۱۶۹)
وہ تو تمہیں یہی حکم دے گا بدی اور بے حیائی کا اور یہ کہ اللہ پر وہ بات جوڑو جس کی تمہیں خبر نہیں،

وقوله- تعالى-: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لأنواع شروره ومفاسده.والسوء في الأصل: مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه، والمراد به هنا، كل ما يغضب الله- تعالى- من المعاصي، لأنها تسوء صاحبها وتحزنه في الحال أو المآل.والفحشاء والفاحشة والفحش: ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال.وروى عن ابن عباس أنه فسر السوء بما لا حد فيه، والفحشاء بما فيه حد.والأمر في الأصل: الطلب بالقول، واستعمل في تزيين الشيطان المعصية، لأن تزيينها في معنى الدعوة إليها.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ؟قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتنى نفسي بكذا، وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه، ولذلك قال: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وقال- تعالى-: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت».وقوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ معطوف على ما قبله.أى: يأمركم الشيطان بالسوء والفحشاء، ويأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون.ضم إلى ذلك الدليل الظنى أصل انعقد عليه الإجماع وأصبح مقطوعا به، وهو أن كل مجتهد بحق يكون حكم الشرع في حقه أو حق من يتابعه هو الحكم الذي أداه إليه اجتهاده، وبمراعاة هذا الأصل المقطوع به لم يكن المجتهد المشهود له بالرسوخ في العلم قائلا على الله ما لا يعلم» .هذا، ومن الآيات الكثيرة التي وردت في القرآن الكريم في التحذير من الشيطان ووساوسه قوله- تعالى-: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ.وقوله- تعالى-: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا.وقوله- تعالى-: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ.وقد أرشدنا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أن الإكثار من ذكر الله خير معين للإنسان للتغلب على وساوس الشيطان فقال في حديثه الطويل الذي رواه الترمذي والنسائي وابن حيان عن الحارث الأشعرى: «وآمركم بذكر الله كثيرا، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا فأحرز نفسه فيه، وكذلك العبد لا ينجو من الشيطان إلا بذكر الله.وبعد أن نهى- سبحانه- الناس عن إتباع خطوات الشيطان، وبين لهم مظاهر عداوته لهم، أردف ذلك ببيان حال طائفة من الناس لم يستمعوا لهذا النصح، بل اتبعوا خطوات الشيطان فقلدوا آباءهم في الشرك والجهالة فقال- تعالى-:
2:170
وَ اِذَا قِیْلَ لَهُمُ اتَّبِعُوْا مَاۤ اَنْزَلَ اللّٰهُ قَالُوْا بَلْ نَتَّبِـعُ مَاۤ اَلْفَیْنَا عَلَیْهِ اٰبَآءَنَاؕ-اَوَ لَوْ كَانَ اٰبَآؤُهُمْ لَا یَعْقِلُوْنَ شَیْــٴًـا وَّ لَا یَهْتَدُوْنَ(۱۷۰)
اور جب ان سے کہا جائے اللہ کے اتارے پر چلو (ف۲۹۷) تو کہیں بلکہ ہم تو اس پر چلیں گے جس پر اپنے باپ دادا کو پایا کیا اگرچہ ان کے باپ دادا نہ کچھ عقل رکھتے ہوں نہ ہدایت (ف۲۹۸)

أى: وإذا قيل لأولئك الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان، إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله من قرآن، أعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء فالضمير في قوله- تعالى-: لهم يعود على طائفة ممن شملهم الخطاب بقوله- تعالى- في الآية السابقة: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وهم الذين لم يستجيبوا لنداء الله بل ساروا في ركب الشيطان، واقتفوا آثاره، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ. القائل لهم ذلك هو النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون.والمراد بما أنزل الله: القرآن الكريم، وما أوحاه الله إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم من هدايات. وعدل- سبحانه- من خطابهم إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلهم وحمقهم صاروا ليسوا أهلا للخطاب، بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله.وبَلْ في قوله- تعالى-: بَلْ نَتَّبِعُ للإضراب الإبطالى، أى: أضربوا عن قول الرسول لهم اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ إضراب إعراض بدون حجة، إلا بأنه مخالف لما ألفوا عليه آباءهم من أمور الشرك والضلال.وقوله- تعالى-: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ رد عليهم، وبيان لبطلان الاعتماد في الدين على مجرد تقليد الآباء.والهمزة للاستفهام الإنكارى، والواو للحال، والمعنى: أيتبعون ما وجدوا عليه آباءهم والحال أن آباءهم لا يعقلون شيئا من أمور الدين الصحيح، ولا يهتدون إلى طريق الصواب.قال الآلوسى: وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما أتباع الغير في الدين بعد العلم- بدليل ما- أنه محق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله- تعالى- وليس من التقليد المذموم في شيء وقد قال- سبحانه- فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .وبعد أن بين- سبحانه- فساد ما عليه أولئك المشركون المقلدون من غير نظر ولا استدلال، أردف ذلك بضرب مثل لهم زيادة في قبيح شأنهم والزراية عليهم فقال- تعالى-:
2:171
وَ مَثَلُ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا كَمَثَلِ الَّذِیْ یَنْعِقُ بِمَا لَا یَسْمَعُ اِلَّا دُعَآءً وَّ نِدَآءًؕ-صُمٌّۢ بُكْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لَا یَعْقِلُوْنَ(۱۷۱)
اور کافروں کی کہاوت اس کی سی ہے جو پکارے ایسے کو کہ خالی چیخ و پکار کے سوا کچھ نہ سنے (ف۲۹۹) بہرے، گونگے، اندھے تو انہیں سمجھ نہیں (ف۳۰۰)

ومَثَلُ الصفة والشأن، وأصل المثل بمعنى المثل: النظير والشبيه، ثم أطلق على القول السائر المعروف، لمماثلة مضربه- وهو الذي يضرب فيه- لمورده- وهو الذي ورد فيه أولا- ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة، إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة.ويَنْعِقُ من النعيق وهو الصياح. يقال: نعق الراعي بالغنم ينعق نعقا ونعاقا ونعقانا، صاح بها وزجرها.والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد أى أن ثانيهما تأكيد للأول، وقيل: الدعاء للقريب والنداء للبعيد.والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات.وأولهما: وهو الدعاء معناه: الصياح بالبهائم لتأتى.وثانيهما: وهو النداء معناه: الصياح بها لتذهب.قال الإمام الرازي ما ملخصه: وللعلماء من أهل التأويل في هذه الآية طريقان:أحدهما: تصحيح المعنى بالإضمار في الآية.والثاني: إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار.أما الذين أضمروا فذكروا وجوها:الأول: كأنه قال: ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق، فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزلة الداعي إلى الحق. وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسائر الدعاة إلى الحق، وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها، ووجه الشبه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد، وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول صلّى الله عليه وسلّم وألفاظه، وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها.الثاني: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع كالغنم وما يجرى مجراها من البهائم. فشبه الأصنام- في أنها لا تفهم- بهذه البهائم، فإذا كان ولا شك أن من دعا بهيمة عد جاهلا، فمن دعا حجرا أولى بالذم.والفرق بين هذا القول والذي قبله أن ها هنا المحذوف هو المدعو، وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي.أما إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار فتقديره، ومثل الذين كفروا في قلة عقولهم في عبادتهم لهذه الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم، فكما أنه يقضى على ذلك الراعي بقلة العقل فكذا هاهنا.ثم قال- رحمه الله- ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد» .وقوله- تعالى-: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ زيادة في تبكيتهم وتقريعهم، أى: هم صم عن استماع دعوة الحق، بكم عن إجابة الداعي إليها، عمى عن آيات صدقها وصحتها، فهم لإعراضهم عن الهادي لهم إلى ما ينفعهم وينجيهم من العذاب صاروا بمنزلة من فقد حواسه، فأصبح لا يسمع ولا ينطق ولا يبصر وقوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ وارد مورد النتيجة بعد البرهان، بجانب كونه توبيخا لهم، لأنهم بفقدهم أهم طرق الإدراك وهما السمع والبصر، وأهم وسيلة للثقافة وهي استطاع الحقائق من طريق المحاورة والتكلم، صاروا بعد كل ذلك بمنزلة من فقد عقله الاكتسابى، فأصبح لا يفقه شيئا لأن العقل الذي يكتسب به الإنسان المعارف والحقائق يستعين استعانة كبرى بهذه الحواس الثلاث.وبعد هذا البيان البليغ لحال الذين يتخذون من دون الله أندادا، ولحال الكافرين المقلدين لآبائهم في الضلال بدون تدبر أو تعقل، بعد كل ذلك وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين بينت لهم فيه- وفيما سيأتى بعده من آيات- كثيرا من التشريعات والآداب والأحكام التي هم في حاجة إليها فقال- تعالى-:
2:172
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا كُلُوْا مِنْ طَیِّبٰتِ مَا رَزَقْنٰكُمْ وَ اشْكُرُوْا لِلّٰهِ اِنْ كُنْتُمْ اِیَّاهُ تَعْبُدُوْنَ(۱۷۲)
اے ایمان والو! کھاؤ ہماری دی ہوئی ستھری چیزیں اور اللہ کا احسان مانو اگر تم اسی کو پوجتے ہو (ف۳۰۱)

الطيبات من الأطعمة: المستلذات، ويجوز حملها على ما طاب من الرزق بتحليل الله له.وما رزقناكم: ما أوصلناه إليكم من الرزق، - وهو ما ينتفع به.أى: يا من آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كلوا من ألوان الطيبات التي أحللناها لكم، ولا تتعرضوا لما حرمناه عليكم.وكان الخطاب هنا للمؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأجدر بالعلم وأحرى بالاهتداء، وأولى بالتكريم والتشريف.ومفعول كُلُوا محذوف، أى: كلوا رزقكم حال كونه بعض طيبات ما رزقناكم.ثم أمرهم- سبحانه- بشكره على هذه الطيبات التي أباحها لهم فقال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة كُلُوا.والشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم لموجدها، ووضعها في الموضع الذي أمر به.أى: تمتعوا بنعم الله، واعترفوا له بها على وجه التعظيم، بأن تمتثلوا ما أمر به، وتجتنبوا ما نهى عنه، إن كنتم تخصونه بالعبادة حقا، وتفردونه بالطاعة صدقا.قال الآلوسى: وجملة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ بمنزلة التعليل لطلب الشكر، كأنه قيل:«واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة، وتخصيصكم إياه بالعبادة، يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه، وهي لا تتم إلا بالشكر، لأنه من أجل العبادات» .وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور والتقدير: إن كنتم إياه تعبدون فكلوا واشكروا لله.ولقد أمر الله- تعالى- عباده أن يشكروه في آيات كثيرة ومن ذلك قوله- تعالى-: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.وقال- تعالى-: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ.وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» وروى الإمام مسلّم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:«إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها» قال صاحب المنار: قال الأستاذ الإمام: لا يفهم هذه الآية حق فهمها إلا من كان عارفا بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله، فإن المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقا وأصنافا، منهم من حرم على نفسه أشياء معينة بأجناسها أو أصنافها كالبحيرة والسائبة عند العرب، وكبعض الحيوانات عند غيرهم وكان المذهب الشائع في النصارى أن أقرب ما يتقرب به إلى الله- تعالى- تعذيب النفس، وحرمانها من الطيبات المستلذة، واحتقار الجسد ولوازمه، واعتقاد أنه لا حياة للروح إلا بذلك ... ثم قال: وقد تفضل الله على هذه الأمة بأن جعلها أمة وسطا تعطى الجسد حقه والروح حقها، فأحل لنا الطيبات لتتسع دائرة نعمه الجسدية علينا، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقلية، فلم نكن جسمانيين محضا كالأنعام، ولا روحانيين خلصا كالملائكة، وإنما جعلنا أناسى كملة بهذه الشريعة المعتدلة، فله الحمد والشكر والثناء الحسن» .
2:173
اِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیْكُمُ الْمَیْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِیْرِ وَ مَاۤ اُهِلَّ بِهٖ لِغَیْرِ اللّٰهِۚ-فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ بَاغٍ وَّ لَا عَادٍ فَلَاۤ اِثْمَ عَلَیْهِؕ-اِنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ(۱۷۳)
اس نے یہی تم پر حرام کئے ہیں مردار (ف۳۰۲) اور خون (ف۳۰۳) اور سُور کا گوشت (ف۳۰۴) اور وہ جانور جو غیر خدان کا نام لے کر ذبح کیا گیا (ف۳۰۵) تو جو نا چار ہو (ف۳۰۶) نہ یوں کہ خواہش سے کھائے اور نہ یوں کہ ضرورت سے آگے بڑھے تو اس پر گناہ نہیں، بیشک اللہ بخشنے والا مہربان ہے،

وقوله- تعالى-: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ بيان لما حرمه الله- تعالى- علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا.والْمَيْتَةَ في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعه، فيدخل فيها: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع، ويدخل في حكم الميتة ما قطع من جسم الحيوان الحي للحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي عن أبى واقد الليثي، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» .وكان الأكل من الميتة محرما، لفساد جسمها بذبول أجزائه وتعفنها، ولأنها أصبحت بحالة تعافها الطباع السليمة لقذارتها وضررها.قال الآلوسى: وأضاف- سبحانه- الحرمة إلى العين- مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان- إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده، حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ، وخرج عن حكم الميتة السمك والجراد، للحديث الذي أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال وللعرف أيضا، فإنه إذا ما قال القائل: أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافا لمن أباحه» .والدم المحرم: ما يسيل من الحيوان الحي كثيرا كان أم قليلا وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد تذكيته، وهو الذي عبر عنه القرآن بالمسفوح في قوله- تعالى-: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ...والدم المسفوح: هو الدم الجاري المهراق من البهيمة بعد ذبحها.أما الدم المتبقى في أجزاء لحم البهيمة بعد تذكيتها فلا شيء فيه.قال القرطبي: وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى. والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه ... وقد روت عائشة- رضي الله عنها- قالت: كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره» لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع. وهذا أصل في الشرع» .وقد عرف عن بعض العرب في الجاهلية أنهم كانوا يأخذون الدم من البهائم عند ذبحها، فيضعونه في أمعائها ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ويسمون ذلك بالفصيد.قال بعضهم: والحكمة في تحريم الدم أنه تستقذره النفوس الكريمة، ويفضى شربه أو أكله إلى الإضرار بالنفس، وفضلا عن ذلك فإن تعاطيه يورث ضراوة في الإنسان، وغلظة في الطباع فيصير كالحيوان المفترس، وهذا مناف لمقصد الشريعة التي جاءت لإتمام مكارم الأخلاق.وحرمة الخنزير شاملة للحمه وشحمه وجلده. وإنما خص لحمه بالذكر، لأنه الذي يقصد بالأكل، ولأن سائر أجزاء الخنزير كالتابعة للحمه. وبعض الفقهاء يرى أنه لا بأس من الانتفاع بشعر الخنزير في الخرازة- أى: خياطة الجلود وغيرها-، وبعضهم كره ذلك.ومن الحكم في تحريم لحم الخنزير قذارته، واشتماله على دودة تضر ببدن آكله وقد أثبت ذلك العلم الحديث.وما يقوله قوم من أن وسائل العلم الحديث قد تقدمت، وصار في الإمكان التغلب على ما في لحم الخنزير من أضرار هذا القول مردود بأن العلم الحديث قد احتاج إلى ثلاثة عشر قرنا ليكتشف آفة واحدة في لحم الخنزير، فمن ذا الذي يجزم بأنه ليس هناك آفات أخرى في هذا اللحم لم يعرفها العلم حتى الآن؟إن الشريعة التي سبقت العلم الحديث بأكثر من ثلاثة عشر قرنا أولى بالاتباع، وأجدر بالطاعة فيما أحلته وحرمته مما يقوله الناس، لأنها من عند الله العليم بشئون عباده، الخبير بما ينفعهم وبما يضرهم.وقوله: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ معطوف على ما قبله من المحرمات. وأُهِلَّ من الإهلال، وهو رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقا، ومنه إهلال الصبى، والإهلال بالحج. وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها- كاللات والعزى- ورفعوا بها أصواتهم، وسمى ذلك إهلالا.فالمراد بما أهل به لغير الله: ما ذبح للأصنام وغيرها، ومنه ما يذبحه المجوسي للنار. ومنه عند جمهور العلماء: ذبائح أهل الكتاب إذا ذكر عليها اسم عزير أو عيسى، لأنها مما أهل به لغير الله.وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقا، لعموم قوله- تعالى- في سورة المائدة وهي من آخر السور نزولا: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أى ذبائحهم، وهو- سبحانه- يعلم ما يقولون.وروى الحسن عن على- رضي الله عنه- أنه قال: إذا ذكر الكتابي اسم غير الله على ذبيحته وأنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.وقد روى البخاري عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: إن قوما قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه. قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر.فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه، بل المحرم ما علم أن غير اسم الله من الأوثان والأنداد ونحو ذلك قد ذكر عليه.فأنت ترى أن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كان لاستقذار الأكل من هذه الثلاثة، أى:لعلة ذاتية فيها، أما تحريم ما أهل به لغير الله فليس لعلة فيه، ولكن للتوجه به إلى غير الله.وهي علة روحية تنافى سلامة القلب، وطهارة الروح، ووحدة المتجه فما ذكر عليه سوى اسم الله من الذبائح ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقة، وفي ذلك حض للناس على إخلاص العبادة لله- تعالى-، وزجر لهم عن التقرب إلى أحد سواه.وقوله- تعالى-: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بيان لحالات الضرورة التي يباح للإنسان فيها أن يأكل من تلك المحرمات.واضْطُرَّ من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء. يقال: اضطره إلى هذا الشيء. أى:أحوجه وألجأه إليه مأخوذ من الإضرار، وهو حمل الإنسان على أمر بكرهه، وقهره عليه بقوة يناله بدفعها الهلاك.وباغٍ من البغاء وهو الطلب. تقول: بغيته بغاء وبغيا وبغية أى: طلبته.وعادٍ اسم فاعل بمعنى متعد، تقول. عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غيره فهو عاد، ومنه قوله- تعالى- في شأن قوم لوط: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ.ولِغَيْرِ منصوب على الحال من الضمير المستتر في اضْطُرَّ وهي هنا بمعنى النفي ولذا عطف عليها لا.والمعنى: فمن ألجأته ضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات: حالة كونه غير باغ: أى غير طالب للمحرم وهو يجد غيره، أو غير طالب له لإشباع لذته، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر، أو غير ساع في فساد وَلا عادٍ أى: وغير متجاوز ما يسد الجوع، ويحفظ الحياة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أى: فلا إثم عليه في أكله من هذه المحرمات.وبهذا نرى لونا من ألوان سماحة الإسلام ويسره في تشريعاته، التي أقامها الله- تعالى- على رفع الحرج، ودفع الضرر، قال- تعالى-: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وقال- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.وقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل قصد به الامتنان. أى: إن الله- تعالى- موصوف بهذين الوصفين الجليلين، ومن كان كذلك كان من شأنه أن يعفو عن الخطايا، ويغفر الذنوب،ويشرع لعباده ما فيه يسر لا ما فيه عسر.هذا، وظاهر هذه الآية الكريمة يقتضى أنه ليس هناك محرم من المطعومات سوى هذه الأربعة، لكنا نعلم في الشرع أن هناك مطعومات أخرى قد حرم على المسلّم تناولها كلحوم الحمر الأهلية، فعل هذا تكون لفظة «إنما» متروكة الظاهر في العمل- كما قال الإمام الرازي- أى: أن الحصر فيها غير مقصود وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .ثم تحدث القرآن عن سوء عاقبة الذين يكتمون ما أمر الله بإظهاره وتوعدهم بأقسى ألوان العذاب فقال- تعالى-:
2:174
اِنَّ الَّذِیْنَ یَكْتُمُوْنَ مَاۤ اَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ الْكِتٰبِ وَ یَشْتَرُوْنَ بِهٖ ثَمَنًا قَلِیْلًاۙ-اُولٰٓىٕكَ مَا یَاْكُلُوْنَ فِیْ بُطُوْنِهِمْ اِلَّا النَّارَ وَ لَا یُكَلِّمُهُمُ اللّٰهُ یَوْمَ الْقِیٰمَةِ وَ لَا یُزَكِّیْهِمْۖ-ۚ وَ لَهُمْ عَذَابٌ اَلِیْمٌ(۱۷۴)
وہ جو چھپاتے ہیں (ف۳۰۸) اللہ کی کتاب اور اسکے بدلے ذلیل قیمت لیتےہیں وہ اپنے پیٹ میں آگ ہی بھرتے ہیں (ف۳۰۹) اور اللہ قیامت کے دن ان سے بات نہ کرے گا اور نہ انہیں ستھرا کرے، اور ان کے لئے دردناک عذاب ہے،

الكتم والكتمان: إخفاء الشيء قصدا مع تحقق الداعي إلى إظهاره.وقد تحدث القرآن- قبل هذه الآيات بقليل- في قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى عن المصير الأليم الذي توعد الله به أولئك الكاتمين لما أمر الله بإظهاره، وأعاد الحديث عن سوء عاقبتهم هنا لكي ينذرهم مرة بعد أخرى حتى يقلعوا عن هذه الرذيلة التي هي من أبشع الرذائل وأقبحها، ولكي يغرس في قلوب الناس- وخصوصا العلماء- الشجاعة التي تجعلهم يجهرون بكلمة الحق في وجوه الطغاة لا يخافون لومة لائم، ويبلغون رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه، ويبينون للناس ما أمرهم الله ببيانه بطريقة سليمة أمينة خالية من التحريف الكاذب، والتأويل الباطل.قال الإمام الرازي: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وأحبارهم. كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا، فلما بعث الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم خافوا انقطاع تلك المنافع فكتموا أمره- عليه السلام- وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية.ثم قال الإمام الرازي: والآية وإن نزلت في أهل الكتاب لكنها عامة في حق كل من كتم شيئا من باب الدين يجب إظهاره، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب».والمراد بالكتاب، التوراة، أو جنس الكتب السماوية التي بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.ومِنَ في قوله: مِنَ الْكِتابِ بمعنى في أى: يكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونعته ووقت بعثته.وقيل للبيان، وهي حال من العائد على الموصول والتقدير: أنزل الله حال كونه من الكتاب والعامل فيه أنزل.وقوله: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا معطوف على يكتمون.أى: يكتمون ما أنزل الله من الكتاب مما يشهد بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم ويأخذون من سفلتهم في مقابل ذلك عرضا قليلا من أعراض الدنيا.والضمير في قوله: بِهِ يعود إلى ما أنزل الله، أو إلى الكتمان الذي يدل عليه الفعل يَكْتُمُونَ أو إلى الكتاب.ووصف هذا الثمن الذي يأخذونه في مقابل كتمانهم بالقلة، لأن كل ما يؤخذ في مقابلة إخفاء شيء مما أنزله الله فهو قليل حتى ولو كان ملء الأرض ذهبا.وقوله- تعالى-: أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وما عطف عليه، بيان للعذاب المهين الذي أعدلهم بسبب كتمانهم لما أمر الله بإظهاره وبيعهم دينهم بدنياهم.أى: أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا ما يؤدى بهم إلى النار وبئس القرار كما قال- تعالى- في حق أكلة مال اليتامى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً.وفي هذه الجملة الكريمة تمثيل لحالة أولئك الكفار الحاصلة من أكلهم ذلك الثمن القليل المفضى بهم إلى النار، بحالة من يأكل النار نفسها. ووجه الشبه بين الحالتين: أنه يترتب على أكل ذلك المال الحرام من تقطيع الأمعاء وشدة الألم، ما يترب على أكل النار ذاتها، إلا أن العذاب الحاصل من أكل النار يقع عند ما تمتلئ منها بطونهم، والعذاب الحاصل من أكل المال الحرام يقع عند لقاء جزائه وهو الإحراق بالنار.وجيء باسم الإشارة في أول هذه الجملة لتمييز أولئك الكاتمين أكمل تمييز حتى لا يخفى أمرهم على أحد، وللتنبيه على أن ما ذكر بعد اسم الإشارة من عقوبات سببه ما فعلوه قبل ذلك من سيئات.وخص- سبحانه- بالذكر الأكل في بطونهم من بين وجوه انتفاعهم بما يأخذونه من مال حرام، للإشعار بسقوط همتهم ودناءة نفوسهم حتى إنهم ليخفون ما أمر الله بإظهاره من حقائق وهدايات، نظير ملء بطونهم.وقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أى: لا يكلمهم كلاما تطمئن به نفوسهم، وتنشرح له صدورهم وإنما يكلمهم بما يخزيهم ويفجعهم بسبب سوء أعمالهم كقوله- لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ. أو أن نفى تكليمه لهم كتابة عن غضبه عليهم، لأن من عادة الملوك أنهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ولا يكلمونه، كما أنهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث.وقوله: وَلا يُزَكِّيهِمْ أى: ولا يطهرهم من دنس الكفر والذنوب بالمغفرة، من التزكية بمعنى التطهير. يقال: زكاه الله، أى: طهره وأصلحه.وتستعمل التزكية بمعنى الثناء، ومنه زكى الرجل صاحبه إذا وصفه بالأوصاف المحمودة وأثنى عليه، فيكون معنى وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يثنى عليهم- سبحانه- ومن لا يثنى عليه الله فهو معذب.فهؤلاء الذين كتموا الحق نظير شيء قليل من حطام الدنيا، فقدوا رضا الله عنهم وثناءه عليهم وتطهيره لهم.ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان سوء منقلبهم، وشدة ألم العذاب الذي ينالهم فقال- تعالى- وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أى. موجع مؤلم.قال الآلوسى: وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر- سبحانه- اشتراءهم بذلك- الثمن القليل- وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية، بدأ أولا في الخبر بقوله: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. وابتنى على كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله ثمنا قليلا، أنهم شهود زور وأحبار سوء، آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآلموه فقوبلوا بقوله- سبحانه-: وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .
2:175
اُولٰٓىٕكَ الَّذِیْنَ اشْتَرَوُا الضَّلٰلَةَ بِالْهُدٰى وَ الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِۚ-فَمَاۤ اَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ(۱۷۵)
وہ لوگ ہیں جنہوں نے ہدایت کے بدلے گمراہی مول لی اور بخشش کے بدلے عذاب، تو کس درجہ انہیں آگ کی سہار (برداشت) ہے

ثم بين- سبحانه- ما هم عليه من جهل وغباء وسوء عاقبة فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ.الاشتراء: استبدال السلعة بالثمن. والمعنى: أولئك الذين تقدم الحديث عنهم وهم الكاتمون لما أنزل الله قد بلغ بهم الغباء وانطماس البصيرة أنهم باعوا الهدى والإيمان ليأخذوا في مقابلهما الكفر والضلال، وباعوا ما يوصلهم إلى مغفرة الله ورحمته ليأخذوا في مقابل ذلك عذابه ونقمته، فما أخسرها من صفقة، وما أغبى هؤلاء الكاتمين الذين فعلوا ذلك نظير عرض من أعراض الدنيا الفانية، فخسروا بما فعلوه دنياهم وآخرتهم.وقوله- تعالى-: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ معناه: فما أدومهم على عمل المعاصي التي تؤدى بهم إلى النار حتى لكأنهم بإصرارهم على عملها يجلبون النار إليهم جلبا. ويقصدون إليها قصدا بدون مبالاة أو تفكر.والمراد من التعجب في هذه الآية وأشباهها، الإعلام بحالهم وأنه ينبغي أن يتعجب منها كل أحد، وذلك لأن المعنى الظاهر من الجملة التعجب من صبر أولئك الكفار على النار، والتعجب انفعال- يحدث في النفس عند الشعور بأمر يجهل سببه وهو غير جائز في حقه- تعالى- لأنه لا يخفى عليه شيء، ومن هنا قال العلماء: إن فعل التعجب في كلام الله المراد منه التعجيب، أى: جعل الغير يتعجب من ذلك الفعل، وهو هنا صبرهم على النار، فيكون المقصود تعجيب المؤمنين من جراءة أولئك الكاتمين لما أنزل الله على اقترافهم ما يلقى بهم في النار، شأن الواثق من صبره على عذابها المقيم.وشبيه بهذا الأسلوب في التعجب- كما أشار صاحب الكشاف- أن تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن فأنت لا تريد التعجب من صبره، وإنما تريد إفهامه أن التعرض لما يغضبه لا يقع إلا ممن شأنه الصبر على القيد والسجن، والمقصود بذلك تحذيره من التمادي فيما يوجب غضب ذلك السلطان.قال الجمل ما ملخصه وما في قوله فَما أَصْبَرَهُمْ- وفي مثل هذا التركيب- فيها أوجه:أحدها: وهو قول سيبويه والجمهور أنها نكرة تامة غير موصولة ولا موصوفة وأن معناها التعجب فإذا قلت. ما أحسن زيدا، فمعناه: شيء صير زيدا حسنا.والثاني: وإليه ذهب الفراء: أنها استفهامية صحبها معنى التعجب، نحو: «كيف تكفرون بالله» .والثالث: ويعزى للاخفش: أنها موصولة.والرابع ويعزى له أيضا: أنها نكرة موصوفة وهي على هذه الأقوال الأربعة في محل رفع بالابتداء وخبرها على القولين الأولين الجملة الفعلية بعدها، وعلى قولي الأخفش يكون الخبر محذوفا .
2:176
ذٰلِكَ بِاَنَّ اللّٰهَ نَزَّلَ الْكِتٰبَ بِالْحَقِّؕ-وَ اِنَّ الَّذِیْنَ اخْتَلَفُوْا فِی الْكِتٰبِ لَفِیْ شِقَاقٍۭ بَعِیْدٍ۠(۱۷۶)
یہ اس لئے کہ اللہ نے کتاب حق کے ساتھ اتاری، اور بے شک جو لوگ کتاب میں اختلاف ڈالنے لگے (ف۳۱۰) وہ ضرور پرلے سرے کے جھگڑالو ہیں،

ثم بين- سبحانه- أن سبب استحقاقهم للعذاب الأليم، هو ارتكابهم لما نهى الله عنه عن قصد وسوء نية فقال: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ.أى: ذلك العذاب الأليم حل بهم بسبب أن الله أنزل التوراة مصحوبة ببيان الحق الذي من جملته التبشير ببعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فكتموا هم هذا الحق وامتدت إليه أيديهم الأثيمة بالتحريف والتأويل إيثارا لمطامع دنيوية على هدى الله الذي هو أساس كل سعادة.فاسم الإشارة ذلِكَ يعود على مجموع ما سبق بيانه من أكل النار، وعدم تكليم الله إياهم، وعدم تزكيتهم.. إلخ.والباء في قوله: بِأَنَّ للسببية، والمراد بالكتاب: التوراة.ثم ختم- سبحانه- الحديث عن هؤلاء الكاتمين للحق بقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.اختلفوا: خالف بعضهم بعضا، وأصله من اختلاف الطريق، تقول اختلفوا في الطريق.أى: جاء بعضهم من جهة والبعض الآخر من جهة أو جهات أخرى. ثم استعمل في الاختلاف في المذاهب والاعتقاد.والكتاب: التوراة، أو التوراة والإنجيل، إذ يصح أن يراد جنس الكتاب والمقام يقتضى صرفه إلى هذين الكتابين، وقد أبعد في التأويل من قال بأن المراد به القرآن لأن الحديث عن أهل الكتاب الذين كتموا ما في كتبهم من بشارات بالرسول صلّى الله عليه وسلّم واختلافهم في الكتاب من مظاهره: إيمانهم ببعضه وكفرهم بالبعض الآخر، وتحريفه عن مواضعه وتأويله على غير ما يراد منه.والشقاق: الخلاف، كأن كل واحد من المختلفين في شق غير الشق الذي يكون فيه الآخر، وإذا وصف الخلاف بالبعد فهم منه أنه بعيد عن الحق، يقال: قال فلان قولا بعيدا، أى بعيدا من الصواب.والمعنى: ذلك العذاب الأليم حل بأولئك الأشقياء بسبب كتمانهم لما أنزله الله في كتابه من الحق، وإن الذين اختلفوا في شأن ما أنزله الله في كتبه فأظهروا منها ما يناسب أهواءهم وأخفوا ما لا يناسبها- لفي بعد شديد عن الحق والصواب:وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت ألوانا من العقوبات الأليمة التي توعد الله بها كل من يكتم أمرا نهى الله عن كتمانه، لكي يقلع كل من يتأنى له الخطاب عن هذه الرذيلة وفاء للعهد الذي أخذه الله على الناس بصفة عامة، وعلى أولى العلم بصفة خاصة.ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر، ووجوه الخير، تهدى المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية فقال- تعالى-:
2:177
لَیْسَ الْبِرَّ اَنْ تُوَلُّوْا وُجُوْهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اٰمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْیَوْمِ الْاٰخِرِ وَ الْمَلٰٓىٕكَةِ وَ الْكِتٰبِ وَ النَّبِیّٖنَۚ-وَ اٰتَى الْمَالَ عَلٰى حُبِّهٖ ذَوِی الْقُرْبٰى وَ الْیَتٰمٰى وَ الْمَسٰكِیْنَ وَ ابْنَ السَّبِیْلِۙ-وَ السَّآىٕلِیْنَ وَ فِی الرِّقَابِۚ-وَ اَقَامَ الصَّلٰوةَ وَ اٰتَى الزَّكٰوةَۚ-وَ الْمُوْفُوْنَ بِعَهْدِهِمْ اِذَا عٰهَدُوْاۚ-وَ الصّٰبِرِیْنَ فِی الْبَاْسَآءِ وَ الضَّرَّآءِ وَ حِیْنَ الْبَاْسِؕ-اُولٰٓىٕكَ الَّذِیْنَ صَدَقُوْاؕ-وَ اُولٰٓىٕكَ هُمُ الْمُتَّقُوْنَ(۱۷۷)
کچھ اصل نیکی یہ نہیں کہ منہ مشرق یا مغرب کی طرف کرو (ف۳۱۱) ہاں اصلی نیکی یہ کہ ایمان لائے اللہ اور قیامت اور فرشتوں اور کتاب اور پیغمبروں پر (ف۳۱۲) اور اللہ کی محبت میں اپنا عزیز مال دے رشتہ داروں اور یتیموں اور مسکینوں اور راہ گیر اور سائلوں کو اور گردنیں چھوڑانے میں (ف ۳۱۳) اور نماز قائم رکھے اور زکوٰة دے اور اپنا قول پورا کرنے والے جب عہد کریں اور صبر والے مصیبت اور سختی میں اور جہاد کے وقت یہی ہیں جنہوں نے اپنی بات سچی کی اور یہی پرہیزگار ہیں،

ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر ، ووجوه الخير ، تهدي المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية فقال - تعالى - :( لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر . . . )( البر ) : اسم جامع لكل خير ، ولكل طاعة وقربة يتقرب بها العبد إلى خالقه - عز وجل- .قال الراغب : " البر - بفتح الباء - خلاف البحر ، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر - بكسر الباء - بمعنى التوسع في فعل الخير ، وينسب ذلك إلى الله - تعالى - تارة نحو : ( إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم ) وإلى البعد تارة فيقال : بر العبد ربه ، أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ، ومن العبد الطاعة " .وتولية الوجوه قبل الشيء معناه : التوجه إليه بجعل الوجه متجها إلى جهته فلفظ " قيل " بمعنى جهة وهو منصوب على الظرفية المكانية .( المشرق ) : الجهة التي تشرق منها الشمس ، والمغرب : الجهة التي تغرب فيها .قال الإِمام الرازي : اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص . فقال بعضهم : أراد بقوله : ( لَّيْسَ البر ) أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه بنحو بيت المقدس فقال - تعالى - ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله . وقال بعضهم : بل المراد مخاطبته المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام وقال بعضهم : بل هو خطاب للكل ، لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الفرض الأكبر في الدين ، فبعثهم الله - تعالى - بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات ، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً ، وإنما البر . كيت وكيت . وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخيصيص فيه ، فكأنه - تعالى - قال : ليس البر المطلوب هو أمر القبلة ، بل البر المطلوب هو هذه الخصال التي عدها " .وهذا القول الثالث - الذي يرى أصحابه أن الخطاب للكل ، والذي قال عنه الإِمام الرازي : هذا أشبه بالظاهر - هذا القول ، هو الذي تسكن إليه النفس ، لأنه لا يوجد نص صحيح يخصص الخطاب لطائفة معينة من الناس ولأن المقصود من الآية الكريمة إنما هو إفهام الناس في كل زمان ومكان أن مجرد تولية الوجه إلى قبلة مخصوصة ليس هو البر الكامل الذي يعنيه الإِسلام ، وإنما البر الكامل يتأنى في استجابة الإِنسان لتلك الخصال الشريفة التي اشتملت عليها الآية ، تلك الخصال التي تجعل المسكين بها على صلة طيبة بخالقهم وعلى صلة طيبة بغيرهم ، - كما سنبين ذلك عند تعليقنا على هذه الآية الكريمة- .والمعنى : ليس البر - الذي هو كل طاعة يتقرب بها الإِنسان إلى خالقه - في تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب ، وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدي إلى السعادة والفلاح - يكون في الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفي إنفاق المال في وجوه الخير ، وفي اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة .هذا وقد قرأ حمزة وحفص عن عاصم ( لَّيْسَ البر ) بنصب البر على أنه خبر ليس ، واسمها قوله - تعالى - : ( أَن تُوَلُّواْ ) أي : ليس توليتكم وجهوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله .وقرأ الباقون ( لَّيْسَ البر ) برفع البر على أنه اسم ليس ، وخبرها قوله - تعالى - : ( أَن تُوَلُّواْ ) أي ليس البر كله توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب .قال الطبرسي : وكلا المذهبين حسن ، لأن كل واحد من اسم ليس وخبرها معرفة ، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسما والآخر خبراً كما تتكافأ النكرتان .وقوله - تعالى - ( ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) إلخ بيان لما هو البر الذي يجب أن تتجه إليه الأفكار ، وتستجيب له النفوس .و ( ولكن ) حرف استدراك ، البر : اسمها . وقوله ( مَنْ آمَنَ ) وقع في اللفظ موقع الخبر عن قوله ( البر ) والخبر في المعنى لفظ مقدر مضاف إلى من آمن ، يفهم من سياق الجملة ، والمعنى مع ملاحظة المقدر : ولكن البر بر من آمن بالله .وهذا اللون من الإِيجاز الذي حذف فيه المضاف معهود في كلام البلغاء إذ تجدهم يقولون السخاء حاتم ، والشعر زهير .وقيل : إن البر هنا بمعنى البار فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل ، كما يقال : ماء غور أي : غائر ، ورجل صوم أي : صائم .وقيل : إن المحذوف هو لفظ مضاف إلى البر : أي : ولكن ذا البر من آمن بالله .وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإِيمان بالله ، لأنه أساس كل بر . وأصل كل خير ، والإِيمان بالله : هو التصديق بأنه هو الواحد الفرد الصمد ، الذي لا تعنو الوجوه إلا له ، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه ، ومتى رسخ هذا الإِيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله - تعالى - لبني آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها بنراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة .ثم ذكرت الإِيمان باليوم الآخر ، وهو التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان .والإِيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير ، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام .ولقد تحدث القرآن عن الإِيمان بالله واليوم الآخر في عشرات الآيات ، وأقام الأدلة الساطعة ، والبراهين القاطعة على وحدانية الله وعلى أنه هو صاحب الكمال المطلق ، كما أقام الحجج والبراهين على أن البعث حق وضرب الأمثال لذلك ، وسفه عقول المنكرين له .ثم ذكرت الإِيمان بالملائكة والملائكة : أجسام لطيفة نورانية ، قادرون على التشكل في صورة حسنة مختلفة ، وصفهم القرآن بأنهم( لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ووجه دخول التصديق بهم في حقيقة الإِيمان ، أن الله وسطهم في إبلاغ وحيه لأنبيائه ، وبين ذلك في كتابه ، وتحدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عنهم في كثير من أحاديثه ، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذي جاءت به الشريعة فقد أنكر الوحي ، إذ الإِيمان بهم أصل للإِيمان بالوحي ، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحي ، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة .ثم ذكرت الآية الإِيمان بالكتاب . والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة ، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله ، فما وافقه منها كان حقاً وما خالفه كان باطلا .والإِيمان به يستلزم الإِيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه ، لأنه هو الذي أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .ثم ذكرت الإِيمان بالنبيين ، أي : التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله - تعالى - لتلقي هدايته وكتبه وتبليعها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة .والنبيون الذين يجب الإِيمان بهم : كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح ، وكل من أنكر نبوة نبي قد ثبت نبوته فقد خرج عن طريق الإِيمان .ولقد قام الدليل القاطع على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين ، وكل من ادعى غير ذلك فهو من الضالين المضلين .وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التي ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يصدق به الإِنسان ، ليك يكون ذا عقيدة سليمة ، تصل به إلى الفلاح والسعادة .ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإِيمان الأعمال الصالحة فقالت . ( وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب ) .وهذه الجملة معطوفة على قوله - تعالى - : ( مَنْ آمَنَ بالله ) .والضمير في قوله ( على حُبِّهِ ) يعود إلى المال ، أي : أعطى المال وبذله عن طيب خاطره حالة كونه محباً له راغباً فيه . لأن الإِعطاء والبذل في هذه الحالة يدل على قوة الإِيمان ، وصفاء الوجدان ، ويسمو بصاحبه إلى أعلا الدرحات . قال - تعالى - : ( لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقة ما كان في حال الصحة ، لأن الإِنسان في هذه الحالة يكون مظنة الحاجة إلى المال فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا رسول الله ، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا وكذا وقد كان لفلان " " .وقيل الضمير يعود إلى الله - عز وجل - أي : يعطون المال على حب الله وطلباً لمرضاته .وقيل يعود إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله - تعالى - ( وَآتَى المال ) فكأنه قال : يعطيى ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله .والمراد بذوي القربى : أقرباء المعطى للمال ، والمعنى : وأعطاى المال مع محبته لهذا المال لأقاربه المحتاجبين لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم ، ولذلك جاء ذكرهم في الآية مقدماً على بقية الأصناف التي تستحق العطف والإِحسان .روى الإِمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة " .( واليتامى ) : جمع يتيم ، وهو من فقد أباه بالموت ولم يبلغ الحلم . وهؤلاء اليتامى في حاجة إلى الإِحسان إليهم بعد ذوي القربى متى كانوا محتاجين ، لشدة عجزهم عن كسب ما يسد حاجتهم .( والمساكين ) جمع مسكين ، وهو من لا يملك شيئاً من المال ، أو يملك ما لا يكفي حاجاته وهذا النوع من الناس في حاجة إلى العناية والرعاية؛ لأنهم في الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل على إراقة وجهوههم بالسؤال . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان . قالوا : فما المسكين يا رسول الله؟ قال الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئاً " .( وابن السبيل ) : هو المسافر المنقطع عن ماله . وسمى بذلك - كما قال الآلوسي - لملازمته السبيل - أي الطريق - في السفر ، أو لأن الطريق تبرزة فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه فهو أبدا يتوق إلى الجمع ، ويشتاق إلى الربع ، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه .وهذا النوع من الناس في حاجة إلى المساعدة والمعاونة حتى يستطيع الوصول إلى بلده ، وفي هذا تنبيه إلى المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة .( والسآئلين ) : جمع سائل ، وهو الطالب للإِحسان والمعروف . ويحمل حاله على أنه في حاجة إلى المعاونة ، لأن السؤال علامة الحاجة غالباً .والرقاب : جمع رقبة وهي في الأصل العنق ، وتطلق على البدن كله كما تطلق العين على الجاسوس . فصح حمل الرقاب على الأسارى والأرقاء .وقوله : ( وَفِي الرقاب ) متعلق بآتي ، أي : آتى المال على حبه في تخليص الأسرى من أيدي العدو بفدائهم ، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم ، وهذه الأوصناف الستة التي ذكرت في تلك الآية الكريمة ( وَآتَى المال على حُبِّهِ . . ) إلخ .ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر ، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة .والذي يراجع القرآن الكريم يجده قد عني عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوره تخلو من الحث على الإِنفاق عليهم ، وبذل العون في مساعدتهم - وأيضاً - هناك عشرات الأحاديث في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين ، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم ، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها .ثم ذكرت الآية ألواناً أخرى من البر تدل على قوة الإِيمان وحسن الخلق فقالت : ( وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة ) وإقامة الصلاة أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعي الذي أمر الله به ، والمراد بالزكاة هنا ، الزكاة المفروضة على الوجه الذي فصلته السنة المطهرة . وإبتاؤها : يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله في قوله - تعالى - : ( إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) وفي ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوي القربى واليتامى . . إلخ دليل على أن في الأموال حقوقاً لذوي الحاجات سوى الزكاة ، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة ، يجب على الأغنياء منها أن يسعو في سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة .والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة ، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين ، وتفريج كرب المكروبين ، ودفع ضرورة البائسين ، ليسوا على البر الذي يريده الله من عباده المتقين .ومسألة " هل في المال حق سوى الزكاة " من المسائل التي تناولها بعض العلماء بالشرح والتفصيل .وقوله : ( والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ) معطوف على قوله ( مَنْ آمَنَ ) فإنه في قوة قولك ، ومن أوفوا بعهدهم ، وأوثرت صيغة اسم الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء .الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنمون عليه الله من الإِعان لكل ما جاء به الدين ، ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضاً مما لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً .والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا بروا في أيمانهم ، وإذا قالوا صدقوا في قولهم ، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة ، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب ، وأعلى الدرجات .وفي قوله - تعالى - : ( إِذَا عَاهَدُواْ ) إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد .ثم ختم - سبحانه - خصال البر بقوله : ( والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ) .البأساء من البؤس ، وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج . يقال : بئس يبأس بؤساً وبأساً أي اشتدت حاجته .والضراء من الضر ، وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام يقال : ضره وأضره وضاره وضراً ، ضد نفع : والألف في البأساء والضراء للتأنيث .وحين البأس ، أي : ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته ، يقال : بؤس ببؤس بأسا فهو بئيس ، أي : شجاع شديد .وقوله : ( والصابرين ) معطوف في المعنى على ( مَنْ آمَنَ ) كقوله ( والموفون ) إلا أنه جاء منصوبا على المدح بتقدير - أخص أو أمدح - وغير سبكه عما قبله ، تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على غيره من الفضائل حتى لكأنه ليس من جنس ما سبقه من فضائل ، وهذا الأسلوب يسمى عند علماء اللغة العربية بالقطع ، وهو أبلغ من الإِتباع . ولا ريب في أن صفة الصبر على الشدائد والآلام وحين القتال في سبيل الله ، جديرة بأنه ينبه لمزيد فضلها ، إذ هي أصل لكثير من المكارم كالعفاف عما في أيدي الناس ، والتسليم للقضاء الذي لا مرد له ، والإِقدام الذي يحمي به الدين وتسلم به النفوس والأموال والأعراض :وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد ومحاولة للتغلب على المصاعب ، ومع الاحتفاظ برباطة الجأش والثقة بحسن العاقبة .وقد خصت الآية ثلاثة حالات بالصبر؛ لأن هذه الحالات هي أبرز الأشياء التي يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين ، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم .وجاءت كلمة " حين " في قوله : ( وَحِينَ البأس ) مشيرة إلى أن مزية الصبر في القتال إنما تظهر حين يلتقى الجمعان ، وتدور رحى الحرب ، لأن بعض الناس قد يكون قوياً في بدنه ، وقد يحشر نفسه في زمرة الأبطال المقاتلين ، ولكنه عندما يرى الأعناق تتساقط من حوله تخور قواه ، ويلوذ بالفرار ، أو يستسلم للعدو . وفي هذه الحالة تسلب عنه صفة الصابرين حين البأس . وتحق عليه صفة الضعفاء الجبناء .وقد جاءت أنواع الصبر في الآية على وجه الترقي من الشديد إلى الأشد ، وذلك لأن الصبر على المرض أصعب من الصبر على الفقر ، والصبر حين البأس أصعب من الصبر على المرض . ثم ختمت الآية حديثها عن هؤلاء الجامعين لهذه الخصال بقوله تعالى : ( أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون ) .أولئك اسم إشارة للجمع ، وقد أشير به إلى من تقدم ذكرهم من الجامعين لخصال البر . والصدق توصف به الأقوال المطابقة للواقع ، وتوصف به الأعمال الواقعة على الوجه الذي يرضى الله - تعالى- .والمتقون من الاتقاء وهو الحذر ، ويطلق المتقى في كلام الشارع على الإِنسان الذي صان نفسه عن كل ما يغضب الله ، وامتثل لأوامره ونواهيه .أي : أولئك الذين تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر هم الصادقون في إيمانهم وفي كل أحوالهم ، وأولئك هم المتقون لعذاب الله - تعالى - بسبب امتثالهم لأوامره ، واجتنابهم لما نهى عنه .واسم الإشارة ( أولئك ) جيء به لإحضارهم في أذهان المخاطبين وهم متصفون بتلك المناقب الجليلة .وفي تكرير الإِشارة زيادة تنويه بشأنهم وفضلهم . وجاء الإِخبار عنهنم بأنهم الصادقون المتقون ، لتشيرهم بأنهم قد بلغوا بإحرازهم لتلك الخصال السابقة الغاية التي يطمح إليها أرباب البصائر المستنيرة ، والنفوس المستقيمة ، والقلوب السليمة ، وهي مقام الصدق والتقوى الذي يرتفع بصاحبه إلى السعادة في الدنيا ، والنعيم الدائم في الآخرة .هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعاً من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا ، وإلى رضا الله - تعالى - في الآخرة ، وذلك لأنها قد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير : بر في العقيدة ، وبر في العمل ، وبر في الخلق .أما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان في قوله - تعالى - : ( وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب ) .ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم ، ويكون مظهراً من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضي الله - تعالى - .وأما بر الخلق فقد ذكرته بأحكم عبارة في قوله - تعالى - : ( وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ) .وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل . أداء الصلاة وإيتاء الزكاة . والوفاء بالعهود ، والتذرع بالصبر - يدل على صفاء الإِيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة .وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بر العقيدة وبر العمل وبر الخلق ، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم ، ونضع على هذا كله عنواناً واحداً " البر " وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى .فلله هذا الاستقراء البديع ، وذلك التوجيه السديد ، الذي يشهد أن هذا القرآن من عند الله ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ) وبعد أن بين - سبحانه - أن البر الجامع لألوان الخير يتجلى في الإِيمان بالله واليوم الآخر . . وفي بذل المال في وجوه الخير ، وفي المحافظة على فرائضة - سبحانه - وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة بعد كل
2:178
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا كُتِبَ عَلَیْكُمُ الْقِصَاصُ فِی الْقَتْلٰىؕ-اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْاُنْثٰى بِالْاُنْثٰىؕ-فَمَنْ عُفِیَ لَهٗ مِنْ اَخِیْهِ شَیْءٌ فَاتِّبَاعٌۢ بِالْمَعْرُوْفِ وَ اَدَآءٌ اِلَیْهِ بِاِحْسَانٍؕ-ذٰلِكَ تَخْفِیْفٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌؕ-فَمَنِ اعْتَدٰى بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهٗ عَذَابٌ اَلِیْمٌۚ(۱۷۸)
اے ایمان والوں تم پر فرض ہے (ف۳۴۱) کہ جو ناحق مارے جائیں ان کے خون کا بدلہ لو (ف۳۱۵) آزاد کے بدلے آزاد اور غلام کے بدلے غلام اور عورت کے بدلے عورت (ف۳۱۶) تو جس کے لئے اس کے بھائی کی طرف سے کچھ معافی ہوئی۔ (ف۳۱۷) تو بھلائی سے تقا ضا ہو اور اچھی طرح ادا، یہ تمہارے رب کی طرف سے تمہارا بوجھ پر ہلکا کرنا ہے اور تم پر رحمت تو اس کے بعد جو زیادتی کرے (ف۳۱۸) اس کے لئے دردناک عذاب ہے

ذلك شرع - سبحانه - في بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التي لا يستغني عنها الناس في حياتهم ، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن في إصلاح العالم - فقال - تعالى - :( ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص . . . )( كُتِبَ ) من الكتب ، وهو في الأصل ضم أديم إلى أديم بالخياطة . وتعورف في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، وأطلق على المضموم في اللفظ وإن لم يكتب بالخط ، ومنه الكتابة ، على الإِيجاب والفرض؛ لأن الشأن يما وجب ويفرض أن يراد ثم يقال ثم يكتب ، ومنه ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ) أي : فرض عليكم .( القصاص ) : العقوبة بالمثل من قتل أو جرح . وهو - كما قال القرطبي - مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار وقص الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، ومنه ( فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ) وقيل : القص القطع . يقال : قصصت ما بينهما . ومنه أخذ القصاص؛ لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به . يقال أقص الحاكم فلاناً من فلان به فأمثله فامتثل منه ، أي : اقتص منه " .فمادة القصاص تدل على التساوي والتماثل والتتبع .والقتلى جمع قتيل ، والقتيل من يقتله غيره من الناس .والمعنى : يأيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى . بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم ، فلا يجوز لكم أن تقتلوا غير القاتل ، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه .فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه في نظر الشريعة مساو للمقتول فيقتل به . وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي . وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود - أي القصاص - من القاتل .ولفظ " في " في قوله - تعالى - ( فِي القتلى ) للسببية ، أي : فرض عليكم القصاص بسبب القتلى . كما في قوله صلى الله عليه وسلم " دخلت امرأة النار في هرة " أي بسببها .وصدرت الآية بخطاب ( الذين آمَنُواْ ) تقوية لداعية إنفاذ حكم القصاص الذي شرعه الخبير بنفوس خلقه ، لأن من شأن الإِيمان الصادق أن يحمل صاحبه على تنفيذ شريعة الله التي شرعها لإقامة الأمان والاطمئنان بين الناس ، ولسد أبواب الفتن التي تحل عرا الألفة والمودة بينهم .وقد وجه - سبحانه - الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانباً من التبعة إذا أهمل الحكام تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله .وإذا لم يقيموها بالطريقة التي بينتها شريعته ، ولإِشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل . وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن ، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل ، وغير ذلك من وجوه المساعدة .وقوله - تعالى - ( الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة ، ومفادها أنه لا يقتل في مقابل المقتول سوى قاتله ، لأن قتل غير الجاني ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة في الأرض وفساد كبير .وقد يفهم من مقابلة ( الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) أنه لا يقتل صنف بصنف آخر ، وهذا الفهم غير مراد على إطلاقه ، فقد جرى العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة .قال القرطبي : " أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل " .والخلاف في قتل الحر بالعبد . فبعض العلماء يرى قتل الحر بالعبد ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكل فريق أدلته التي يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه .والغرض الذي سيقت من أجله الآية الكريمة ، إنما هو وجوب تنفيذ القصاص بالعدل . والمساواة وإبطال ما كان شائعاً في الجاهلية من أن القبيلة القوية كانت إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصا لا ترضى حتى تقتل في مقابلة من الضعيفة أشخاصاً . وإذا قتلت منها عبداً تقتل في مقابله حراً أو أحراراً ، وإذا قتلت منها أنثى قتلت في نظيرها رجلا أو أكثر . فيترتب على ذلك أن ينتشر القتل ، ويشيع الفساد ، وقد حكى لنا التاريخ كثيراً مما فعله الجاهليون في هذا الشأن .قال الإِمام البيضاوي عند تفسيره لهذه الآية : كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد ، والذكر بالأنثى ، فلما جاء الإِسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية . وهي لا تدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، كما لا تدل على عكسه ، فإن المفهوم يعتبر حيث لم يظهر للتخيصي غرض سوى اختصاص الحكم .ثم أورد - سبحانه - بعد إيجابه للقصاص العادل - حكماً يفتح باب التراضي ، بين القاتل وأولياء المقتول ، بأن أباح لهم أن يسقطوا عنه القصاص إذا شاؤوا ويأخذوا في مقابل ذلك الدية ، فقال - تعالى - : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) .عُفِي : من العفو وهو الإِسقاط . والعفو عن المعصية ، ترك العقاب عليها . والذي عفى له هو القاتل ، و ( أَخِيهِ ) الذي عفا هو ولي المقتول . والمراد بلفظ ( شَيْء ) القصاص ، وهو نائب فاعل ( عُفِيَ ) .والمعنى : أن القاتل عمداً إذا سقط عنه أخوه ولي دم القتيل القصاص ، راضيًا أن يأخذ منه الدية بدل القصاص ، فمن الواجب على ولي الدم أن يتبع طريق العدل في أخذ الدية من القاتل بحيث لا يطالبه بأكبر من حقه ، ومن الواجب كذلك على القاتل أن يدفع له الدية بالطريق الحسنى ، بحيث لا يماطله ولا يبخسه حقه .فقوله - تعالى - : ( فاتباع بالمعروف ) وصية منه - سبحانه - لولي الدم أن يكون رفيقاً في مطالبته القاتل بدفع الدية .وقوله : ( وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) وصية منه - سبحانه - للقاتل بأن يدفع الدية لولي الدم بدون تسويف أو مماطلة .وفي هذه الوصايا تحقيق لصفاء القلوب ، وشفاء لما في الصدور من آلام ، وتقوية لروابط الأخوة الإِنسانية بين البشر .وبعضهم فسر العفو بالعطاء فيكون المعنى : فمن أعطى له وهو ولي المقتول من أخيه وهو القاتل شيئاً وهو الدية ، فعلى ولي المقتول اتباعه بالمعروف ، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان .وسمى القرآن الكريم القاتل أخا لولي المقتول ، تذكيراً بالأخوة الإِنسانية والدينية ، حتى يهز عطف كل واحد منهما إلى الآخر ، فيقع بينهم العفو ، والاتباع بالمعروف ، والأداء بإحسان .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : عفى بتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ) ؟ قلت : يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال - تعالى - : ( عَفَا الله عَنكَ ) وقال : ( عَفَا الله عَنْهَا ) فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معاً قيل : عفوت لفلان عما جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه . وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل : فمن عفى عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية .وجاء التعبير بلفظ شيء منكراً لإفادة التقليل . أي : فمن عفى له من أخيه ما يسمى شيئاً من العفو والتجاوز ولو أقل قليل ، تم العفو وسقط القصاص ، ولم تجب إلا الدية ، وذلك بأن يعفو بعض أولياء الدم ، لأن القصاص لا يتجزأ .وفي ذلك تحبيب من الشارع الحكيم لولي الدم ، في العفو وفي قبول الدية ، إذا العفو أقرب إلى صفاء القلوب ، وتجميع النفوس على الإِخاء والتعاطف والتسامح . وفيه - أيضاً - إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من التعبير من قبول أخذ الصلح في قتل العمد ، وعدهم ذلك لوناً من بيع دم المقتول بثمن بخس . قال بعضهم يحرض قومه على الثأر .فلا تأخذوا عَقْلاً من القوم إنني ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهبوقال شاعر آخر يَذْكُر قوماً لم يقبلوا الصلح عن قتيل لهم :فلو أن حيا يقبل المال فدية ... لسقنا لهم سيباً من المال مفعماًولكن أبي قوم أصيب أخوهم ... رضا العار فاختاروا على اللبن الدماثم بين - سبحانه - أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر فقال : ( ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) .أي : ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولي القتيل إذا رضى طائعاً مختاراً ، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدية تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصاً ، وفيها كذلك نفع لولي القتيل ، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته .وبهذا نرى أن الإِسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة .إذ جعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إذا طالبوا به لا ينازعهم في ذلك منازع وهذا عين الإِنصاف والعدل .وجعل الدية عوضاً عن القصاص إذا رضوا بها باختيارهم ، وهذا عين الحرمة واليسر .وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها؛ إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس ، وتغسل غل الصدور ، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء ، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصا عادلاً .والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقى بعد التفرق ، وتتوادد بعد التعادي ، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو . فلله هذا التشريع الحيكم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به . والتمسك بتوجيهاته .ثم ختم - سبحانه - الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده ، ويتجاوز تشريعه الحيكم فقال : ( فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .أي : فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه ، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم؛ من الله - تعالى - لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد ، ورقه الدين ، وانحطاط الخلق .ثم بين - سبحانه - الحكمة في مشروعية القصاص توطيناً للنفوس على الانقياد له ، وتقوية لعزم الحكام على إقامته فقال - تعالى - : ( وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ) أي : ولكم في مشروعية القصاص حياة عظيمة ، فالتنوين للتعظيم .قال صاحب الكشاف ، وذلك أنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني قبيلة بكر بن وائل . وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر فلما جاء الإِسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة ، أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه ارتدع فسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود فكان القصاص سبب حياة نفسين .
2:179
وَ لَكُمْ فِی الْقِصَاصِ حَیٰوةٌ یّٰۤاُولِی الْاَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ(۱۷۹)
اور خون کا بدلہ لینے میں تمہاری زندگی ہے اے عقل مندو (ف۳۱۹) کہ تم کہیں بچو،

هذا وقد نقل عن العرب ما يدل على أنهم تحدثوا عن حكمة القصاص ومن أقوالهم في هذا الشأن : " قتل البعض إحياء للجميع ، وأكثروا القتل ليقل القتل " وأجمعوا على أن أبلغ الأقوال التي عبروا بها عن هذا المعنى قولهم " القتل أنفى للقتل " وقد أجمع أولو العلم على أن قوله - تعالى - ( وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ) أبلغ من هذه العبارة التي نطق بها حكماء العرب ، بمقدار ما بين كلام الخالق وكلام المخلوق ، وذكروا أن الآية تفوق ما نطق به حكماء العرب من وجوه كثيرة من أهمها :1 - أن الآية جعلت سبب الحياة القصاص وهو القتل على وجه التساوي ، أما العبارة العربية فقد جعلت سبب الحياة القتل ، ومن القتل ما يكون ظلماً ، فيكون سببا للفناء لا للحياة ، وتصحيح هذه العبارة أن يقال : القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما .2 - أن الآية جاءت خالية من التكرار اللفظي ، فعبرت عن القتل الذي هو سبب الحياة بالقصاص . والعبارة كرر فيها لفظ القتل فمسها بهذا التكرار من القتل ما سلمت منه الآية .3 - أن الآية جعلت القصاص سبباً للحياة التي تتوجه إليها الرغبة مباشرة ، والعبارة العربية جعلت القتل سبباً لنفي القتل الذي تترتب عليه الحياة .4 - الآية مبنية على الإِثبات والمثل على النفي ، والإِثبات أشرف لأنه أول والنفي ثان له .5 - أن تنكير حياة في الآية يفيد تعظيماً ، فيدل على أن القصاص حياة متطاولة كما في قوله - تعالى - ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ ) ولا كذلك المثل . فإن اللام فيه للجنس ، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء .6 - تعريف ( القصاص ) بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل - وغير ذلك ، والمثل لا يشمل ذلك .7 - أن الآية مع أفضليتها عن المثل من حيث البلاغة والشمول واللفظ والمعنى أقل حروفاً من المثل .هذه بعض وجوه أفضلية الآية على المثل ، وهناك وجوه أخرى ذكرها العلماء في كتبهم .وفي قوله : ( ياأولي الألباب ) تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص .و ( الألباب ) : جمع لب وهو العقل الخالص من شوائب الأوهام ، أو العقل الذيك الذي يستبين الحقائق بسرعة وفطنة ، ويستخرج لطائف المعاني من مكانها ببراعة وحسن تصرف .وفي هذا النداء تنبيه على أن من ينكرون مصلحة القصاص وأثره النافع في تثبيت دعائم الأمن ، يعيشون بين الناس بعقول غير سليمة ، ولا يزال الناس يشاهدون في كل عصر ما يثيره القتل في صدور أولياء القتلى من أحقاد طاغية ، لولا أن القصاص يخفف من سطوتها لتمادت بهم في تقاطع وسفك دماء دون الوقوف عند حد .وختمت الآية بهذه الجملة التعليلية ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) زيادة في إقناع نفوسهم بأمر القصاص ، أي : شرعنا لكم هذه الأحكام الحكيمة لتتقوا القتل حذراً من القصاص ، ولتعيشوا آمنين مطمئنين ، ومتوادين متحابين .وبهذا البيان الحكيم تكون الآيتان الكريمتان قد أرشدنا إلى ما يحمى النفوس ، ويحقن الدماء ، ويردع المعتدين عن الاعتداء ، ويغرس بين الناس معاني التسامح والإِخاء ، ويقيم حايتهم على أساس من الرحمة والعدالة وحسن القضاء .وبعد أن بين - سبحانه - ما يتعلق بالقصاص أتبعه بالحديث عن الوصية ، ليرشد الناس إلى ما ينبغي أن تكون عليه ، وليبطل ما كان من عوائد الجاهلية من وصايا جائرة فقال - تعالى - :( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت . . . )
2:180
كُتِبَ عَلَیْكُمْ اِذَا حَضَرَ اَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اِنْ تَرَكَ خَیْرَاﰳ -ۖۚ - الْوَصِیَّةُ لِلْوَالِدَیْنِ وَ الْاَقْرَبِیْنَ بِالْمَعْرُوْفِ-ۚ--حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِیْنَؕ(۱۸۰)
تم پر فرض ہوا کہ جب تم میں کسی کو موت آئے اگر کچھ مال چھوڑے تو وصیت کرجائے اپنے ماں باپ اور قریب کے رشتہ داروں کے لئے موافق دستور (ف۳۲۰) یہ واجب ہے پرہیزگاروں پر،

قوله - تعالى - : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ ) قد استفاض في عرض الشرع بمعنى وجب عليكم .و " حضور الموت " يقع عند معاينة الإِنسان للموت ولعجزه في هذا الوقت عن الإِيصاء فسر بحضور أسبابه ، وظهور أماراته ، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ . وقد شاع عند العرب استعمال السبب كناية عن المسبب ، ومن ذلك قول شاعرهم :يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوتوقل لهم ادروا بالعذر والتمسوا ... قولا يبرئكم إني أنا الموتوالخير : المال ، وقالوا إنه هنا مختص بالمال الكثير ، لأن مقام الوصية يشعر بذلك ، ولم يرد نص من الشارع في تقدير ما يسمى مالا كثيراً ، وإنما وردت آثار من بعض الصحابة والتابعين في تقديره بحسب اجتهادهم ، وبالنظر إلى ما يسمى بحسب العرف مالا كثيراً فقال بعضهم : من ألف درهم إلى خمسمائة درهم ، وقال بعضهم : من ألف درهم إلى ثمانمائة درهم . والحق أن هذا التقدير يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والعرف .ويرى بعض العلماء أن الوصية مشروعة في المال قليلة وكثيرة .قال القرطبي : والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة بعد الموت ، وخصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية . والوصي يكون الموصى والموصى إليه . وأصله من وصى مخففاً . وتواصي النبت تواصياً إذا اتصل وأرض واصية : متصلة النبات . وأوصيت له بشيء . وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك . والاسم الوصاية والوصاية - بالفتح وبالكسر - وتواصي القوم : أوصى بعضهم بعضاً .والمعنى : كتب عليكم أيها المؤمنون أنه إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت : من مرض ثقيل ، أو شيخوخة مضعفة ، وكان عنده مال كثير قد جمعه عن طريق حلال ، أن يوصي بجانب منه لوالديه وأقاربه رعاية لحقهم وحاجتهم ، وأن تكون وصيته لهم بالعدل الذي لا مضارة فيه بين الأقارب ، والوصية على هذا الوجه تعتبر حقاً واجباً على المتقين الذين اتخذوا التقوى والخشية من الله طريقاً لهم .فالآية الكريمة استئناف لبيان الوصية بعد الحديث عن القصاص ، وفصل القرآن الحديث عن الوصية عن سابقه للإِشعار بأنه حكم مستقل جدير بالأهمية .وقد جاء الحديث عن الوصية بتلك الطريقة الحكيمة ، لتغيير ما كان من عادات بعض أهل الجاهلية . فإنهم كانوا كثيراً مانعون القريب من الإِرث توهما منهم أنه يتمنى موت قريبة ليرثه ، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض فيؤدي ذلك إلى التباغض والتحاسد ، وربما فضلوا - أيضاً - الوصية لغير الأقارب للفخر والتباهي . فشرع الإِسلام لأتباعه ما يقوى الروابط ويمنع التحاسد والتعادي .قال الجمل : وكتب فعل ماض مبني للمجهول ، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله - تعالى - وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :أحدها : أن يكون الوصية ، أي : كتب عليكم الوصية ، وجاز تذكير الفعل لكون القائم مقام الفاعل مؤنثاً مجازياً ولوجود الفصل بينه وبين مرفوعه .والثاني : أنه الإِيصاء المدلول عليه بقوله : " الوصية " للوالدين ، أي : كتب هو ، أي الإِيصاء .والثالث : أنه الجار والمجرور ، وهذا يتجه على رأي الأخفش والكوفيين وعليه فيكون قوله : ( عَلَيْكُمْ ) في محل رفع ، ويكون في محل النصب على القولين الأولين وجواب كل من ( إِذَا ) و ( إِن ) محذوف . أي : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً فليوص .والباء في قوله : ( بالمعروف ) للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية .والمراد بالمعروف هنا العدل الذي جاءت به الشريعة ، بأن لا يتجاوز بالوصية الثلث ، وأن لا يوصى للاغنياء ويترك الفقراء أو يوصي للقريب ويترك الأقرب مع أنه أشد فقراً ومسكنة .وقوله : ( حَقّاً ) مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه ( كُتِبَ ) وعامله إما ( كُتِبَ ) أو فعل محذوف تقديره حق أي : حق ذلك حقاً .وقوله : ( عَلَى المتقين ) صفة له . أي حقاً كائناً على المتقين .وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضا به ، لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس جدير أن يتأسى به الناس ، ومن أهمله فقد حرم من الدخول في زمرتهم ، وخسر بذلك خسارة عظيمة .قال بعض العلماء : وقد وردت هذه الآية في الوصية للوالدين والأقربين ، والمعروف عند الأمة منذ عهد السلف أن الوصية لا تصح لوارث ، والوالدان لهما نصيب مفروض في المواريث ومقتضاه عدم صحة الوصية لهما؟ويزيح هذا الإشكال من طريق التفسير أن فريقاً من أهل العمل وهم جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن الآية قد نسخ منها حكم الوصية للوارث . وإيضاح وجه النسخ أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية فقامت مقامها في الوصية للوارث ودل على هذا المعنى صراحة الحديث الشريف وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث " .وهذا الحديث وإن لم يبلغ مبلغ الحديث المتواتر الذي يصح نسخه للقرآن بنفسه ، فقد امتاز عن بقية أخبار الآحاد بأن الأمة تلقته بالقبول ، وأخذوا في العمل به من غير مخالف ، فأخذ بهذا قوة الحديث المتوار في الرواية واعتمدوا عليه في بيان أن آية المواريث قامت بتقدير الأنصباء في الميراث مقام آية ( إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت ) في الوصية للوارث . وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس ، وجعل للمرأة الثمن والربع ، وللزوج الشطر الربع .ومن أهل العلم من لم يستطيعوا أن يهملوا حديث " لا وصية لوارث " لاستفاضيته بين الأمة وتلقيهم له بالقبول ، فقرروا العمل به وأبطلوا الوصية لوارث ولكنهم ذهبوا مع هذا إلى أن آية الوصية للوالدين محكمة غير منسوخة وتأولوها على وجوه منها أن المراد من قوله : ( لِلْوَالِدَيْنِ ) الوالدان اللذان لا يرثان لمانع من الإِرث كالكفر والاسترقاق ، وقد كانوا حيثي عهد الإِسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقد أوصى الله بالإِحسان إليهما .
2:181
فَمَنْۢ بَدَّلَهٗ بَعْدَ مَا سَمِعَهٗ فَاِنَّمَاۤ اِثْمُهٗ عَلَى الَّذِیْنَ یُبَدِّلُوْنَهٗؕ-اِنَّ اللّٰهَ سَمِیْعٌ عَلِیْمٌؕ(۱۸۱)
تو جو وصیت کو سن سنا کر بدل دے (ف۳۲۱) اس کا گناہ انہیں بدلنے والوں پر ہے (ف۳۲۲) بیشک اللہ سنتا جانتا ہے،

ثم توعد - سبحانه - من يبدل الوصية بطريقة لم يأذن بها الله فقال - تعالى - : ( فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ ) .بدله : غير . وتغيير الوصية يتأتى بالزيادة في الموصى به أو النقص منه أو كتمانه ، أو غير ذلك من وجوه التغيير للموصى به بعد وفاة الموصى .سمعه : أي علمه وتحققه ، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله . والضمائر البارزة في " بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه " عائدة على القول أو على الكلام الذي يقوله الموصى والذي دل عليه لفظ الوصية أو على الإِيصاء المفهوم من الوصية ، وهو الإِيصاء أو القول الواقع على الوجه الذي شرعه الله .والمعنى : فمن غير الإِيصاء الذي أوصى به المتوفي عن وجهه ، بعدما علمه وتحققه منه ، فإنما إثم ذلك التغيير في الإيصاء يقع على عاتق هذا المبدل ، لأنه بهذا التبديل قد خان الأمانة ، وخالف شريعة الله ، ولن يلحق الموصى شيئاً من الإِثم لأنه قد أدى ما عليه بفعله للوصية كما يريدها الله - تعالى .وقد ختمت الآية بقوله - تعالى - : ( إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) للإِشعار بالوعيد الشديد الذي توعد الله به كل من غير وبدل هذا الحق عن وجهه ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء من حيل الناس الباطلة ، فهو - سبحانه سميع لوصية الموصى ، عليه بما يقع فيها من تبديل وتحريف .
2:182
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُّوْصٍ جَنَفًا اَوْ اِثْمًا فَاَصْلَحَ بَیْنَهُمْ فَلَاۤ اِثْمَ عَلَیْهِؕ-اِنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ۠(۱۸۲)
پھر جسے اندیشہ ہوا کہ وصیت کرنے والے نے کچھ بے انصافی یا گناہ کیا تو اس نے ان میں صلح کرادی اس پر کچھ گناہ نہیں (ف۳۲۳) بیشک اللہ بخشنے والا مہربان ہے

ثم استثنى - سبحانه - حالة يجوز فيها التغيير فقال ، ( فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ) .خاف : من الخوف ، وهو في الأصل حالة تعتري النفس عند الانقباض من شر يتوقع حصوله على سبيل الظن أو على سبيل العلم .والجنف : الميل والجور . يقال : جنف في وصيته وأجنف، مال وجار، فهو جنف وأجنف . وقيل : أجنف مختص بالوصية وجنف في مطلق الميل عن الحق . ويقال : جنف وجنف عن طريقة جنفاً وجنوفاً .والإِثم : العمل الذي يبغضه الله . يقال : أثم فهو آثم وأثيم .قال بعضهم : والمراد بالجنف هنا : الميل عن الحق في الوصية خطأ ، بقرينة مقابلته بالإِثم وهو الميل عن الحق فيها عمداً .هذا ، ويرى جمهور العلماء أن هذه الآية الكريمة واردة في الوصي يرى أن الموصي قد حاد في وصيته عن حدود العدل ، فللوصي حينئذ أن يصلح فيها بحيث يجعلها متفقة مع ما شرعه الله ، وهو في هذه الحالة لا إثم عليه لأنه قد غير الباطل بالحق وعلى هذا الرأي يكون المعنى : أن الوصي إذا رأى في الوصية ميلا عن الحق خطأ أو عمداً وأصلح بين الموصي لهم يردهم إلى الوجه المشروع فلا إثم عليه في التغيير في الوصية .والضمير في قوله : ( بَيْنَهُمْ ) عائد على الموصي لهم .ويرى آخرون أن هذه الآية واردة في شأن كل من يبغي الإِصلاح من الناس ، بأن يرى الموصِي يوصِي ، فظهر له - أي هذا المصلح - أن الموصِي قد جانب العدل والصواب في وصيته ، فيأخذ في الإِصلاح ، بأن يرشده بأن فعله هذا لا يتفق مع شريعة العدل التي أمر بها الله ، ويحاول قدر استطاعته أن يزيل ما حدث من خلاف بين الموصِي والموصَى لهم .وعلى هذا الرأي يكون المعنى : إن خرج الموصِي في وصيته عن حدود العدالة ، ورأى أمارات ذلك منه من يريد الإِصلاح من الناس ، وتوقع أن شراً سيترتب على هذه الوصية التي فيها جور ، أو شاهد نزاعاً بين الموصى لهم بسبب ذلك ، فلا إثم على هذا المصلح في أن يصلح بين الموصِى والموصَى لهم ، وأن يرشد الموصى إلى سلوك طريق العدل والحق . وعليه فيكون الضمير في قوله : ( بَيْنَهُمْ ) يعود على الموصى والموصى لهم .ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب إلى الصواب ، لأن سياق الآية يؤيده ، إذ هي بمنزلة الاستثناء من قوله - تعالى - : ( فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ ) . . وهذا إنما يكون بعد موت الموصِى لا في حياته .وقوله : ( إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) تذييل أتى به - سبحانه - للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه ، فإن من يغفر الذنوب ويرحم المذنبين تكون مغفرته ورحمته أقرب إلى من يقصد بعمله الإِصلاح ولو اعتمد على ظن غالب أو أخطأ وجه الصواب فيما أتى من أعمال .وبهذا تكون الآيات الكريمة قد بينت للناس حكما آخر من أحكامها السامية ، يتعلق بالوصية في الأموال ، وفي هذا الحكم دعوة إلى التراحم والتكافل ، وغرس لأواصر المودة والمحبة بين الأبناء والآباء وبين الأقارب بعضهم مع بعض .
2:183
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا كُتِبَ عَلَیْكُمُ الصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِیْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَۙ(۱۸۳)
اے ایمان والو! (ف۳۲۴) تم پر روزے فرض کیے گئے جیسے اگلوں پر فرض ہوئے تھے کہ کہیں تمہیں پرہیزگاری ملے، ف۳۲۵)

وبعد أن تحدثت السورة الكريمة عن القصاص وعن الوصية أتبعتها بالحديث عن عبادة عظيمة من العبادات التي جعلها الله - تعالى - ركناً من أركان الإِسلام وهي صوم رمضان ، فقال - سبحانه - :( ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام . . . )الصيام مصدر صام كالقيام مصدر قام ، وهو في اللغة : الإِمساك وترك التنقل من حال إلى حال ، فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ومنه قوله - تعالى - مخبراً عن مريم : ( إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً ) أي : سكوتاً عن الكلام . وصوم الريح ركودها وإمساكها عن الهبوب وتقول العرب : صام النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لأنها كالممسكة عن الحركة .أما الصيام في عرف الشرع فهو - كما يقول الآلوسي - إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة .وقد فرض الله - تعالى - على المسلمين صيام شهر رمضان في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة وعده النبي صلى الله عليه وسلم أحد أركان الإِسلام الخمسة ، فقد روى البخاري - بسنده - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بني الإِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان " .وأل في الصيام للعهد الذهني ، فقد كان العرب يعرفون الصوم ، فقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت : " كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش والجاهلية " .والتشبيه في قوله - تعالى - : ( كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ ) راجع إلى أصل إيجاب الصوم وفريضته . أي : أن عبادة الصوم كانت مكتوبة ومفروضة على الأمم السابقة ، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله ، إذ لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه كيف كان صيام الأمم السابقة على الأمة الإسلامية .وقيل إن التشبيه راجع إلى وقت الصوم وقدره ، فقد روى عن مجاهد أنه قال : كتب الله - عز وجل - صوم شهر رمضان على كل أمة .ولفظ " كما " في قوله - تعالى - : ( كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ ) في موضع نصب على المصدر ، أي : فرض عليكم الصيام فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم .ومن فوائد هذا التشبيه ، الاهتمام بهذه العبادة والتنويه بشأنها إذ شرعها - سبحانه - لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولأتباع الرسل الذين سبقوه في الدعوة إلى توحيد الله ، وهذا مما يقتضي وفرة ثوابها ، وداوم صلاحها .كذلك من فوائد تسهيل هذه العبادة على المسلمين؛ لأن الشيء الشاق تخف مشقته على الإِنسان عند ما يعلم أن غيره قد أداه من قبله .والفائدة الثالثة من هذا التشبيه إثارة العزائم والهمم للنهوض بهذه العبادة ، حتى لا يكونوا مقصرين في أدائها ، بل يجب عليهم أن يؤدوها بقوة تفوق من سبقهم لأن الأمة الإِسلامية قد وصفها سبحانه بأنها خير أمة أخرجت للناس وهذه الخيرية تقتضي منهم النشاط فيما كلفهم الله بأدائه من عبادات .وقوله : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) جملة تعليلة جيء بها لبيان حكمة مشروعية الصيام فكأنه - سبحانه - يقول لعباده المؤمنين : فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم ، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله ، وبذلك تكونون ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه . ولا شك أن هذه الفريضة ترتفع بصاحبها إلى أعلى عليين متى أداها بآدابها وشروطها ، ويكفى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن الصوم : " الصوم جنة " أي : وقاية . إذ في الصوم وقاية من الوقوع في المعاصي ، ووقاية من عذاب الآخرة ، ووقاية من العلل والأمراض الناشئة عن الإِفراط في تناول بعض الأطعمة والأشربة .وقوله : ( أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ) أي : معينات بالعد أو قليلات ، لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافاً .والمراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان عند جمهور العلماء .قالوا : وتقريره أنه - سبحانه - قال أولا ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ) وهذا محتمل ليوم ويومين ثم بينه بقوله : ( أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ) فزال بعض الاحتمال ثم بينه بقوله : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ) فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان ، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره .وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة - أيضاً - تهوينا لأمره على المكلفين ، وإشعاراً لهم بأن الله - تعالى - ما فرض عليهم إلا ما هو في وسعهم وقدرتهم .وقيل : إن المراد بالأيام المعدودات غير رمضان ، وذكروا أن المراد بها ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر مضافاً إليها يوم عاشوراء . ثم نسخ ذلك بوجوب صوم شهر رمضان .والمعتمد بين المحققين من العلماء هو القول الأول ، لأنه - كما قال الإِمام الرازي - لا وجه لحمله على غيره ، والقول بالنسخ زيادة لا دليل عليها .
2:184
اَیَّامًا مَّعْدُوْدٰتٍؕ-فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَّرِیْضًا اَوْ عَلٰى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ اَیَّامٍ اُخَرَؕ-وَ عَلَى الَّذِیْنَ یُطِیْقُوْنَهٗ فِدْیَةٌ طَعَامُ مِسْكِیْنٍؕ-فَمَنْ تَطَوَّعَ خَیْرًا فَهُوَ خَیْرٌ لَّهٗؕ-وَ اَنْ تَصُوْمُوْا خَیْرٌ لَّكُمْ اِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ(۱۸۴)
گنتی کے دن ہیں (ف۳۲۶) تو تم میں جو کوئی بیمار یا سفر میں ہو (ف۳۲۷) تو اتنے روزے اور دنوں میں اور جنہیں اس کی طاقت نہ ہو وہ بدلہ دیں ایک مسکین کا کھانا (ف۳۲۸) پھر جو اپنی طرف سے نیکی زیادہ کرے (ف۳۲۹) تو وہ اس کے لئے بہتر ہے اور روزہ رکھنا تمہارے لئے زیادہ بھلا ہے اگر تم جانو (ف۳۳۰)

وقوله : ( أَيَّاماً ) منصوب على الظرفية ، أو بفعل مضمر مقدر أي : صوموا أياماً . وقوله : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) زيادة بيان ليسر شريعة الإِسلام بعد أن أخبرهم - سبحانه - بأن الصوم المفروض عليهم إنما هو أيام معدودات ، وتعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال .والمرض : الخروج عن الاعتدال الخاص بالإِنسان ، بأن يصاب بانحراف في جسده يجعله في حالة وجع أو اضطراب بدني .قال القرطبي : وللمريض حالتان :إحداهما : ألا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجباً .الثانية : أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة فهذا يستحب له الفطر . . فالفطر مباح في كل مرض إلا المرض اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام .وقوله : ( أَوْ على سَفَرٍ ) قال الآلوسي معناه : أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه ، بأن استغشل به قبل الفجر ، ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر . واستدل بإطلاق السفر على أن السفر القصير وسفر المعصية مرخص للإِفطار . وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وبما يلزمه العسر غالباً وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع " .والعدة فعله من العد ، وهي بمعنى المعدود ، كالطحن بمعنى المطحون ومنه عدة المرأة .والمعنى : لقد فرضنا عليكم الصوم أيها المؤمنون ، وجعلناه كما هو الشأن من كل ما شرعناه متسماً باليسر لا بالعسر ، ومن مظاهر ذلك أننا فرضنا عليكم صوم أيام معدودات وهي أيام شهر رمضان ، ولم نفرض عليكم صوم الدهر . وأننا شرعنا لمن كان مريضا مرضا يضره الصوم أو يعسر معه ، أو كان على سفر يشق عليه معه الصوم ، شرعنا له أن يفطر وأن يصوم بدل الأيام التي أفطرها أياما آخر مساوية لها في العدد .قال الإِمام الرازي : قال القفال : انظروا إلى عجب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، إذ أنه بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم المتقدمة ، والغرض منه ما ذكرناه من أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت . ثم ثانيا بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم وهو أنه سبب الحصول التقوى فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف ، ثم بين ثالثاً أنه مختص بأيام معدودة فإنه لو جعله أبداً أو أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة . ثم بين .رابعاً : أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة . ثم بين خامساً : إزالة المشقة في إلزامه أباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون . فهو - سبحانه- راعي في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمة كثيراً " .هذا ، وقد نص الفقهاء على أن الأفطار مشروع على سبيل الرخصة للمريض والمسافر ، وهما بالخيار في ذلك إن شاءا أفطر وإن شاءا صاما ، إلا أن أكثر الفقهاء قالوا : الصوم أفضل لمن قوى عليه .والذي نراه الله - تعالى - قد أباح الفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر ، لأن كلا منهما مظنة المشقة والحرج . والحكم الشرعي يوجد حيث توجد مظنته وينتفى حيث تنتفي . وعلى المسلم أن يقدر حال نفسه ، فإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره ليس في الصوم معه مشقة أو عسر صام عملا يقول - تعالى - ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) . وإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره يجعل الصوم شاقاً عليه أفطر عملا بقوله - تعالى - : ( يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ) فالمسألة ترجع إلى ضمير الفرد ودينه واستفتاء قلبه .والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صام في السفر وأفطر ، وخير بعض أصحابه بين الصوم والفطر . فقد روى البخاري ومسلم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم " وفي إحدى روايتي مسلم - في شهر رمضان - ، في يوم حار ، حتى ليضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحه " .وروى الإِمام مسلم في صحيحه عن قزعة قال : " أتيت أبا سعيد الخدري فسألته عن الصوم في السفر فقال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام ، قال : فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ، فكانت رخصة . فمنا من صام ومنا من أفطر . ثم نزلنا منزلا آخر فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا . وكانت عزمة فأفطرنا . ثم قال : ولقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك من السفر " .وروى الشيخان عن أنس بن مالك قال : كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم .والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .وهناك مسألة أخرى تعرض لها الفقهاء بالحديث وهي مسألة قضاء الأيام التي أفطرها المريض أو المسافر هل يقضيها متتابعة أو متفرقة وهل يقضيها على الفور أو على التراخي؟وجمهور الفقهاء على أن للمفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر أن يقضي ما أفطره متتابعاً أو متفرقاً؛ لأن قوله - تعالى - : ( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) . دل على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان ، لأن اللفظ - كما قال القرطبي - مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض .وله كذلك أن يقضي ما عليه على الفور أو على التراخي على حسب ما يتيسر له . ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : يكون علىَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان ، وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نص وزيادة بيان للآية " .ويرى داود الظاهري أن على المفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر أن يشرع في قضاء ما أفطره في اليوم الثاني من شوال المعاقب له ، وأن يتابع أيام القضاء .والمعتمد بين العلماء هو قول الجمهور لقوة أدلته التي سبق بيانها .وقوله - تعالى - : ( وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) بيان لحكم آخر من أحكام الشريعة فيما يتعلق بصوم رمضان يتجلى فيه تيسير الله على عبادة فيما شرع لهم من عبادات .ومعنى ( يُطِيقُونَهُ ) يقدرون عليه ويتحملونه بمشقة وتعب ، لأن الطاقة اسم للقدرة على الشيء مع الشدة والمشقة ، والوسع اسم للقدرة على الشيء على جهة السهولة .قال الراغب : والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإِنسان أن يفعله بمشقة ، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء ، ومنه ( رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) أي ما يصعب علينا مزاولته ، وليس معناه : " لا تحملنا ما لا قدرة لنا به " .والعرب لا تقول فلان أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمله بمشقة وعسر . فلا يقال - مثلا - فلان يطيق حمل نواة أو ريشة أو عشرة دراهم من حديد ، وإنما يقال : هو يطيق حمل قنطارين أو حمل الأمتعة الثقيلة .وللعلماء أقوال في المراد بقوله - تعالى - ( وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) أشهرها :1 - إن هذا راجع إلى المقيم الصحيح خيره الله - تعالى - بين الصوم وبين الفداء ، وكان ذلك في بدء الإِسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم ، فرخص لهم في الإِقطار والفدية ، ثم نسخ ذلك وأوجب الله عليهم الصوم .ويشهد لهذا القول ما جاء في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية ( وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) كان من أراد أن يفطر ويفتدي ، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها .وفي رواية للإِمام مسلم من طريق آخر عن سلمة - أيضاً - قال : كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء أفطر فافتدى بطعا مسكين حتى أنزلت هذه الآية ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) .2 - ويرى بعض العلماء أن قوله - تعالى - : ( وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ ) إلخ ، ليس بمنسوخ بل هو محكم ، وأنه نزل في شأن الشيخ الكبير الهرم ، والمرأة العجوز ، إذا كانا لا يستطيعان الصيام فعليهما أن يفطرا وأن يطعما عن كل يوم مسكينا .وأصحاب هذا الرأي يستدلون بما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فعليها أن يطعما مكان كل يوم مسكيناً " .3 - وهناك رأى ثالث لبعض العلماء يرى أصحابه أن قوله - تعالى - ( وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) ليس بمنسوخ - أيضاً - بل هو محكم ، وأن معنى الآية عندهم : وعلى الذين يطيقونه ، أي : يقدرون على الصيام بمشقة شديدة إذا أرادوا أن يفطروا أن يطعموا عن كل يوم يفطرونه مسكيناً . ( بأن يقدموا له نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ، أو قيمة ذلك ) .ولم يقصروا ذلك على الرجل الكبير والمرأة العجوز - كما فعل أصحاب الرأي الثاني - وإنما أدخلوا في حكم الذين يقدرون على الصوم بمشقة وتعب المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ومن في حكمها ممن يشق عليهم الصوم مشقة كبيرة .وأصحاب هذا الرأي يستدلون على ما ذهبوا إليه بمنطوق الآية ، إذا أن الوسع اسم للقدرة على الشيء على جهة السهولة ، والطاقة اسم للقدرة عليه مع الشدة والمشقة - كما سبق أن بينا - ، كما يستدلون - أيضاً - على ما ذهبوا إليه بقراءة ( يُطِيقُونَهُ ) - بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية - أي يتجشمونه ، ويتكلفونه بمشقة وتعب ، وقد انتصر بعض العلماء لهذا الرأي بناء على أن منطوق الآية يؤيده .كما انتصر بعضهم للرأي الأول بناء على أن الأحاديث الصحيحة تسانده وعلى أنه هو الأقرب إلى روح الشريعة الإِسلامية في التدرج في تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس ، كما انتصر بعضهم للرأي الثاني الذي روى عن ابن عباس .وهناك أقوال أخرى في الآية رأينا أن نضرب عنها صفحاً لضعفها .وقوله : ( فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ) حض من الله - تعالى - لعباده على الإِكثار من عمل الخير .والتطوع : السعي في أن يكون الإِنسان فاعلا للطاعة باختياره بدون إكراه والخير : مصدر خار إذا حسن وشرف ، وهو منصوب لتضمين تطوع معنى أتى ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي تطوعاً خيراً .والمعنى : فمن تطوع خيراً بأن زاد على القدر المفروض في الفدية ، أو أطعم أكثر من مسكين ، أو جمع بين الإِطعام والصوم ، فتطوعه سيكون خيراً عند الله - سبحانه - لا يضيع أجر من أحسن عملا .وقوله : ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ترغيب في الصوم وتحبيب فيه . أي : وأن تصوموا أيها المطيقون للصوم ، أو أيها المكلفون جميعاً خير لكم من كل شيء سواه ، إن كنتم تعلمون فوائد الصوم في حياتكم ، وحسن جزائه في آخرتكم .روى النسائي وابن خزيمة عن أبي أمامه رضي الله عنه قال : " قلت يا رسول الله مرني بعمل قال : عليك بالصوم فإنه لا عدل له - أي لا يعادل ثوابه بشيء - فقلت يا رسول الله مرني بعمل ، فقال : عليك بالصوم فإنه لا عدل له . فقلت : يا رسول الله مرني بعمل أدخل به الجنة . فقالت : عليك بالصوم فإنه لا مثل له " .
2:185
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِیْۤ اُنْزِلَ فِیْهِ الْقُرْاٰنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَ بَیِّنٰتٍ مِّنَ الْهُدٰى وَ الْفُرْقَانِۚ-فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُؕ-وَ مَنْ كَانَ مَرِیْضًا اَوْ عَلٰى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ اَیَّامٍ اُخَرَؕ-یُرِیْدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْیُسْرَ وَ لَا یُرِیْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ٘-وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللّٰهَ عَلٰى مَا هَدٰىكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ(۱۸۵)
رمضان کا مہینہ جس میں قرآن اترا (ف۳۳۱) لوگوں کے لئے ہدایت اور رہنمائی اور فیصلہ کی روشن باتیں تو تم میں جو کوئی یہ مہینہ پائے، ضرور اس کے روزے رکھے اور جو بیمار یا سفر میں ہو تو اتنے روزے اور دنوں میں اللہ تم پر آسانی چاہتا ہے اور تم پر دشواری نہیں چاہتا اور اس لئے کہ تم گنتی پوری کرو (ف۳۳۲) اور اللہ کی بڑائی بولو اس پر کہ اس نے تمہیں ہدایت کی اور کہیں تم حق گزار ہو،

وقوله : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان ) كلام مستأنف لبيان تلك الأيام المعدودات التي كتب علينا الصوم فيها وأنها أيام شهر رمضان الذي يستحق كل مدح وثناء لتشرفه بنزول الكتب السماوية فيه .قال الإِمام ابن كثير : يمدح - تعالى - شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم ، فقد ورد في الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإِلهية تنزل فيه على الأنبياء فعن وائلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإِنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " .و ( الشَّهْرَ ) مأخوذ من الشهرة ، يقال : شهر الشيء يشهر شهرة وشهراً إذا ظهر بحيث لا يتعذر علمه على أحد ، ومنه يقال : شهرت السيف إذا سللته قال بعضهم : وسمى الهلال شهراً لشهرته وبيانه ، وبه سمى الشهر شهراً .و ( رَمَضَانَ ) اسم لهذا الشهر الذي فرض علينا صيامه ، وهو مأخوذ - كما قال القرطبي - من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش والرمضاء : شدة الحر ، ومنه الحديث : " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال " - أي صلاة الضحى - قيل : إن العرب لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمى بذلك . وقيل إنما سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة " .وقوله : ( شَهْرُ رَمَضَانَ ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي شهر رمضان أي : الأيام المعدودات ، وقوله : ( الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ) صفة للشهر .ويجوز أن يكون قوله ( شَهْرُ ) مبتدأ وخبره الموصول بعده ، أو خبره قوله ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وصح وجود الفاء في الخبر لكون المبتدأ موصوفاً بالموصول الذي هو شبه بالشرط . وقرئ بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف . أي : صوموا شهر رمضان .و " القرآن " هو كلام الله المعجز المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته .والمراد بإنزال القرآن في شهر رمضان ابتداء إنزاله فيه ، وكان ذلك في ليلة القدر . بدليل قوله - تعالى - ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ) أي بدأنا إنزال القرآن في هذه الليلة المباركة ، إذ من المعروف أن القرآن استمر نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ثلاثة وعشرين سنة .وقيل المراد بذلك ، أنزل في فضله القرآن ، قالوا : ومثله أن يقال : أنزل الله في أبي بكر الصديق كذا آية ، يريدون أنزل في فضله .وقيل المراد أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن ، كما يقال : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا ، يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها .قال الآلوسي : وقوله - تعالى - : ( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان ) حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل . أي : أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير ، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق والفارقة بين الحق والباطل باشتماله على المعارف الإِلهية والأحكام العملية ، كما يشعر بذلك جعله بينات منها ، فهو هاد بواسطة أمرين ، مختص وغير مختص ، فالهدى ليس مكرراً ، وقيل : مكرر تنويهاً وتعظيماً لأمره وتأكيداً لمعنى الهداية كما تقول : علام نحرير " .وقوله : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) يصح أن يكون شهد بمعنى حضر . كما يقال : فلان شهد بدراً ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : حضرها ، فيكون المعنى : فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن كان مقيما وليس عنده ما يمنعه من الصو كمرض ونحوه ، فليصمه؛ لأن صيامه ركن من أركان الدين ، وعليه يكون لفظ " الشهر " مصنوب على الظرفية .ويصح أن يكون شهد بمعنى علم كقوله - تعالى - ( شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ) فيكون المعنى : فمن علم منكم هلال الشهر وتيقن من ظهوره فليصمه .وعليه يكون لفظ " الشهر " منصوب على أنه مفعول به بتقدير المضاف المحذوف و ( مَن ) موصولة أو شرطية وهو الأظهر و ( مِنكُمُ ) في محل نصب على الحال من الضمير في شهد فيتعلق بمحذوف أي : كائنا منكم . والضمير في " منكم " يعود على الذين آمنوا ، أي كل من حضر منكم الشهر فليصمه و ( أل ) في الشهر للعهد .وأعيد ذكر الرخصة في قوله - تعالى - ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ، لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ، أنه قد صار متحتماً بحيث لا تتناوله الرخصة بوجه من الوجوه أو تتناوله ولكنها مفضولة ، وفي ذلك عناية بأمر الرخصة وأنها محبوبة له - تعالى - .وقوله - تعالى - : ( يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ) بيان الحكمة الرخصة .أي : شرع لكم - سبحانه - الفطر في حالتي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر والسهولة . ولا يريد بكم العسر والمشقة . قال - تعالى - : ( يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ) وقال - تعالى - : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين ) وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن : " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " .وقوله - تعالى - : ( وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) معطوف على قوله : ( يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ) إذ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) إلى قوله : ( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) .والمعنى : شرع لكم - سبحانه - ما شرع من أحكام الصيام ، ورخص لكم الفطر في حالتي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، ولأنه يريد منكم أن تكملوا عدة الشهر بأن تصوموا أيامة كاملة فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته ، ومن لم يستطع منكم أداء الصوم في هذا الشهر لعذر فعليه قضاء ما فاته منه في أيام أخر ويريد منكم أن تكبروه - سبحانه - أي تحدوه وتعظموه ، فهو وحده الذي هداكم إلى تلك الأحكام النافعة التي في صلاحكم وسعادتكم ويريد منكم أن تشكروه بأن تواظبوا على الثناء عليه ، وعلى استعمال نعمه فما خلقت له فهو - سبحانه - الرءوف الرحيم بعباده ، إذ شرع لهم فيه اليسر لا ما فيه العسر .وقد دلت الآية الكريمة على الأمر بالتكبير إذ جعلته مما يريده الله - تعالى - ولهذا جاءت السنة باستحباب التحميد والتسبيح والتكبير بعد الصلوات المكتوبات ، وفي عيدى الفطر والأضحى يكون تكبير الله - تعالى - هو مظهرهما الأعظم .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت أكمل بيان وأحكمه فضل الصوم ، وحمة مشروعيته ومظاهر رحمة الله بعباده في هذه الفريضة ، وقد ذكرت أن المسلم له بشأن هذه الفريضة حلاة من حالات ثلاث :الحالة الأولى : إذا كان المسلم في شهر رمضان كله أو بعضه مريضاً بمرض عارض غير مزمن يرجى الشفاء منه ، أو مسافراً تتوفر فيه شروط الفطر ، فله أن يفطر وأن يقضي بعد رمضان الأيام التي أفطرها بدليل قوله - تعالى - : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) .الحالة الثانية : إذا كان المسلم في شهر رمضان مريضاً بمرض مزمن لا يرجى شفاءه والصوم فيه مشقة عليه ، أو كان شيخاً كبيراً أو امرأة عجوزاً ولا يستطيعان الصوم ، فقد أباح الشارع لهؤلاء أن يفطروا وأن يطعموا عن كل يوم مسكيناً ، لأن هذه الأعذار لا يرجى زوالها ، ولا ينتظر أن يكون المبتلي بعذر منها بعد رمضان خيراً منه في رمضان ، لذا أوجب الشارع على هؤلاء الفدية دون القضاء ، بدليل قوله - تعالى - ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ويحرم عليه أن يفطر ، وإن أفطر لغير عذر شرعي كان من الخاسرين في الدنيا والآخرة ، ففي الحديث الشريف الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه - أي لم يجزه - صوم الدهر كله وإن صامه " .أي : لو حصل منه صوم طول حياته فلن يدرك ثواب ما ضيع بسبب فطره بغير عذر شرعي .والأحاديث في الترغيب في صوم شهر رمضان ، وفي الترهيب من الفطر فيه كثيرة متنوعة .
2:186
وَ اِذَا سَاَلَكَ عِبَادِیْ عَنِّیْ فَاِنِّیْ قَرِیْبٌؕ-اُجِیْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ اِذَا دَعَانِۙ-فَلْیَسْتَجِیْبُوْا لِیْ وَ لْیُؤْمِنُوْا بِیْ لَعَلَّهُمْ یَرْشُدُوْنَ(۱۸۶)
اور اے محبوب جب تم سے میرے بندے مجھے پوچھیں تو میں نزدیک ہوں (ف۳۳۳) دعا قبول کرتا ہوں پکارنے والے کی جب مجھے پکارے (ف۳۳۴) تو انہیں چاہئے میرا حکم مانیں اور مجھ پر ایمان لائیں کہ کہیں راہ پائیں،

ثم بين - سبحانه - أن العباد إذا حافظوا على فرائضه ، واستجابوا لأوامره ، وابتعدوا عن نواهيه ، فإنه - عز وجل - لا يرد لهم طلباً ولا يخيب لهم رجاء فقال :( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ . . . )قال الإِمام البيضاوي في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من آيات الصيام : واعلم أنه - تعالى - لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبة بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم ، مجيب لدعائهم ، مجاز على أعماله تأكيداً له وحثاً عليه " .وروى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه بن جرير وابن أبي حاتم أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقريب ربنا فنناجيه - أي : ندعوه سرا - أم بعيد فنناديه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية .ومنها ما رواه ابن مردويه - بسنده - عن الحسن قال : سأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أين ربنا؟ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .والمعنى : وإذا سألك عبادي يا محمد عن قربي وبعدي فقل لهم : إني قريب منهم بعلمي ورحمتي وقدرتي وإجابتي لسؤالهم . قال - تعالى - : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ) وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيها الناس اربعوا على أنفسكم - أي أرفقوا بها - فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم ، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " .فقوله - تعالى - : ( فَإِنِّي قَرِيبٌ ) تمثيل لكمال علمه - تعالى - بأفعال عباده وأقوالهم ، واطلاعه على سائر أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم إذ القرب المكاني محال على الله - تعالى - .وفي الآية الكريمة التفات عن خطاب المؤمنين كافة بأحكام الصيام ، إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن يذكرهم ويعلمهم ما يجب عليهم مراعاته في سائر عبادتهم من الإِخلاص والأدب والتوجه إلى الله وحده بالسؤال .ولم يصدر الجواب بقل أو فقل كما وقع في أجوبة مسائلهم الواردة في آيات أخرى ، نحو ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ) بل تولى - سبحانه - جوابهم بنفسه إشعاراً بفرط قربه منهم ، وحضوره مع كل سائل بحيث لا تتوقف إجابته على وجود واسطة بينه وبين السائلين من ذوي الحاجات .والمراد بالعباد الذين أضيفوا إلى ضمير الجلالة هم المؤمنون لأن الحديث عنهم ، ولأن سياق الآيات بيان أحكام الصوم وفضائله وهو خاص بالمؤمنين ، وقد أضيفوا إلى ضمير الجلالة لتشريفهم وتكريمهم .وقوله - تعالى - : ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ) تقرير للقرب وتحقيق له ، ووعد للداعي بالإِجابة متى صدر الدعاء من قلب سليم ، ونفس صافية ، وجوارح خاشعة ، ولقد ساق لنا القرآن في آيات كثيرة أمثلة لعباد الله الذين توجهوا إليه بالسؤال ، فأجاب الله سؤالهم ، ومن ذلك قوله - تعالى - :( وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ ) وقوله - تعالى - ( وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين . فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ) وقوله - تعالى - : ( وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ) وورد في الحديث ما يدل على أن العبد إذا دعا الله - تعالى - بما فيه خير ، لم يخب عند الله دعاؤه ، ولكن لا يلزم أن يعطيه - سبحانه - نفس ما طلبه ، لأنه هو الأعلم بما يصلح عباده . روى الإِمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يدعو الله - عز وجل - بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل إليه دعوته ، وإما أن يدخرها له في الأخرى ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " .وقوله - تعالى - ( فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) توجيه منه - سبحانه - إلى ما يجعل الدعاء مرجو القبول والإِجابة .والاستجابة : هي الإِجابة بعناية واستعداد ، والسين والتاء للمبالغة .والرشد : الاهتداء إلى الخير وحسن التصرف في الأمر من دين أو دنيا يقال : رشد ورشد يرشد ويرشد رشداً ، أي اهتدي .والمعنى : لقد وعدتكم يا عبادي بأن أجيب دعاءكم إذا دعوتموني ، وعليكم أنتم أن تستجيبوا لأمري ، وأن تقفوا عند حدودي ، وأن تثبتوا على إيمانكم بي ، لعلكم بذلك تصلون إلى ما فيه رشدكم وسعادتكم في الحياتين العاجلة والآجلة . وأمرهم - سبحانه - بالإِيمان بعد الأمر بالاستجابة ، لأنه أول مراتب الدعوة ، وأولى الطاعات بالاستجابة .قال الحافظ ابن كثير : وفي ذكره - تعالى - هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر ، كما روى أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر جمع أهله وولده ودعا . وروى ابن ماجة عن بعد الله بن عمرو قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد " وكان عبد الله يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي " وروي الإِمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإِمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم ، يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين " .هذا والحديث عن الدعاء وعن فضله وعن آدابه وشروطه وفوائده وجوامعه وغير ذلك مما يتعلق به قد بسطناه في غير هذا المكان فليرجع إليه من شاء . .
2:187
اُحِلَّ لَكُمْ لَیْلَةَ الصِّیَامِ الرَّفَثُ اِلٰى نِسَآىٕكُمْؕ-هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَ اَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّؕ-عَلِمَ اللّٰهُ اَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُوْنَ اَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَیْكُمْ وَ عَفَا عَنْكُمْۚ-فَالْــٴٰـنَ بَاشِرُوْهُنَّ وَ ابْتَغُوْا مَا كَتَبَ اللّٰهُ لَكُمْ۪-وَ كُلُوْا وَ اشْرَبُوْا حَتّٰى یَتَبَیَّنَ لَكُمُ الْخَیْطُ الْاَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْاَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ۪-ثُمَّ اَتِمُّوا الصِّیَامَ اِلَى الَّیْلِۚ-وَ لَا تُبَاشِرُوْهُنَّ وَ اَنْتُمْ عٰكِفُوْنَۙ-فِی الْمَسٰجِدِؕ-تِلْكَ حُدُوْدُ اللّٰهِ فَلَا تَقْرَبُوْهَاؕ-كَذٰلِكَ یُبَیِّنُ اللّٰهُ اٰیٰتِهٖ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ یَتَّقُوْنَ(۱۸۷)
روزہ کی راتوں میں اپنی عورتوں کے پاس جانا تمہارے لئے حلال ہوا (ف۳۳۵) وہ تمہاری لباس ہیں اور تم ان کے لباس، اللہ نے جانا کہ تم اپنی جانوں کو خیانت میں ڈالتے تھے تو اس نے تمہاری توبہ قبول کی اور تمہیں معاف فرمایا (ف۳۳۶) تو اب ان سے صحبت کرو (ف۳۳۷) اور طلب کرو جو اللہ نے تمہارے نصیب میں لکھا ہو (ف۳۳۸) اور کھاؤ اور پیئو (ف۳۳۹) یہاں تک کہ تمہارے لئے ظاہر ہوجائے سفیدی کا ڈورا سیاہی کے ڈورے سے (پوپھٹ کر) (ف۳۴۰) پھر رات آنے تک روزے پورے کرو (ف۳۴۱) اور عورتوں کو ہاتھ نہ لگاؤ جب تم مسجدوں میں اعتکاف سے ہو (ف۳۴۲) یہ اللہ کی حدیں ہیں ان کے پاس نہ جاؤ اللہ یوں ہی بیان کرتا ہے لوگوں سے اپنی آیتیں کہ کہیں انہیں پرہیزگاری ملے،

وبعد هذا الحديث المؤثر عن الدعاء ، عاد القرآن إلى الحديث عن أحكام الصيام ، وعن مظاهر رحمة الله بعباده فيما شرع لهم فقال - تعالى - :( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ . . . )روى بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية الكريمة أحاديث تفيد أن المسلمين كانوا عند ما فرض صيام شهر رمضان . إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويقربون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا حرم عليهم بعد ذلك الطعام والشراب وقربان النساء حتى يفطروا من الغد .ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما أخرجه الإِمام أحمد وابن جرير وابن حاتم عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه . قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حمر عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فأراد امرأته فقالت إني قد نمت ، فقال ما نمت ثم واقعها ، وصنع كعب مثل ذلك . فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت .ومنها ما رواه البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإِفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمس . وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما . فلما حضر الإِفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فما رأته قالت : خيبة لك . فلما انتصف النهار غشى عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ) ففرحوا فرحاً شديداً ، ونزلت ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) .وجمهور المفسرين - كما يقول الإِمام الرازي - على أن هذه الآية من قبيل النسخ ، لأنها قد نسخت ما كان حاصلا في أول فرضية من أن الصائم إذا نام بعد فطره لا يحل له الأكل أو الشرب أو الجماع إلى أن يفطر من الغد .ويرى بعض العلماء أن الآية ليست من قبيل النسخ وإنما هي إرشاد إلى ما شرعه الله - تعالى - لعباده خلال شهر الصوم من إباحة غشيان أزواجهن ليلا . ومن جواز الأكل والشرب ، حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وكأن الصحابة كانوا يتحرجون عن ذلك ظناً منهم أنه من تتمة الصوم ، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عن الأكل والشرب والجماع ليلا ، فبين الله لهم أن ذلك حلال لا حرج فيه .وأصحاب هذا الرأي يستشهدون لذلك بما رواه البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله - تعالى - ( عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ) فالمقصود من الآية الكريمة عند هؤلاء رفع ما توهمه بعض الصحابة من أن الأكل أو الشرب أو الجماع لا يجوز ما دامو قد ناموا بعد فطرهم؛ لأن الله - تعالى - رءوف رحيم بهم ، ولم يشرع لهم ما فيه حرج أو مشقة عليهم .وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تسوق لنا لونا من ألوان رحمة الله - تعالى - بعباده فيما شرع لهم من فرائض وأحكام .والمراد بليلة الصيام : الليلة التي يصبح فيها الإِنسان صائما دون تحديد ليلة معينة من شهر رمضان ، فالإِضافة لأدنى ملابسة .قال الجمل وقوله : ( لَيْلَةَ الصيام ) منصوب على الظرف ، وفي الناصب له ثلاثة أقوال :أحدها : وهو المشهور عند المعربين أنه أحل ، وليس بشئ ، لأن الإِحلال ثابت قبل ذلك الوقت .الثاني : أنه مقدر مدلول عليه بلفظ الرفث تقديره : أحل لكم أن ترفثوا ليلة الصيام .الثالث : أنه متعلق بالرفث وذلك على رأى من يرى الاتساع في الظرف والمجرورات " .والرفث في الأصل : الفحش من القول ، وكلام النساء حين الجماع ، كنى به عن المباشرة للزومه لها غالباً . يقال رفث في لكامه - كنصر وفرح وكرم - وأرفث ، إذا أفحش فيه . والمراد به في الآية الجماع والمباشرة .وعدي بإلى - مع أن المستعمل الشائع أن يقال : رفث بالمرأة - لتضمنه معنى الإِفضاء كما في قوله - تعالى - : ( وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ ) والمعنى : أحل الله لكم في ليالي صومكم الإِفضاء إلى نسائكم ومباشرتهن وقوله - تعالى - ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) وارد مورد المقتضى لإِباحة مباشرة النساء في ليالي الصيام ، ذلك أن كلا مع الزوجين يسكن إلى صاحبه ، ويكون من شدة القرب منه كالثوب الملابس له وكانت العرب تسمى المرأة لباساً ، وهذه حال تقوى معها الدواعي إلى المباشرة ، فمن رفقه - تعالى - بعباده أن أحلها لهم ليلة الصيام .قال الراغب : جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء ، كما أن اللباس ستر عنه أن يبدو منه السوء .وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما موقع قوله : ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ) قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإِحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن " .وفي هذا التعبير القرآني ما فيه من اللطافة والأدب وسمو التصوير لما بين الرجل وزوجه من شدة الاتصال والمودة واستتار كل واحد منهما بصاحبه .وقوله - تعالى - : ( عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ) جملة معترضة بين قوله : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام ) وبين قوله : ( فالآن بَاشِرُوهُنَّ ) إلخ .وقد جيء بها لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم ، ولبيان مظهر من مظاهر لطف الله بهم ، ورحمته إياهم .وقوله : ( تَخْتانُونَ ) قال الراغب : الاختيان مراودة الخيانة ، ولم يقل تخونون أنفسكم لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان ، فإن الاختيان تحرك شهوة الإِنسان لتحري الخيانة وذلك هو المشار إليه بقوله - تعالى - : ( إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء ) والمعنى : علم الله - تعالى - أنكم كنتم تراودون أنفسكم على مباشرة نسائكم ليلا ، وعلى الأكل بعد النوم ، قبل أن يظهر الفجر الصادق ، بل إن بعضكم قد فعل ذلك ، فكان من رحمة الله بكم أن أباح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم ، وأن قبل توبتكم وعفا عنكم ، أي : محا أثر ما فعلتموه من الأكل والجماع قبل أن يأذن لكم بذلك .وجملة ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) معطوفة على محذوف ، والتقدير : قتبتم فتاب عليكم .والذين لا يرون أن الآية ناسخة لحكم سابق عبر عن وجهة نظرهم صاحب المنار فقال : وقوله - تعالى - : ( عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) أي : تتنقصونها بعض ما أحل الله لها من اللذات توهما أن من قبلكم كان كذلك فيكون بمعنى التخون أي : النقص من الشيء أو معناه : تخونون أنفسكم إذ تعتقدون شيائً ثم لا تلتزمون العمل به فهو مبالغة من الخيانة التي هي مخالفة مقتضي الأدلة ولم يقل تختانون الله كما قال في آية أخرى : لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " للإِشعار بأن الله - تعالى - لم يحرم عليهم بعد النوم في الليل ما حرمه على الصائم في النهار ، وإنما ذهب بهم اجتهادهم إلى ذلك فهم قد خانوا أنفسهم في اعتقادها ، فكانوا كمن يتغشى امرأته ظاناً أنها أجنبية ، فعصيانه بحسب اجتهاده لا بحسب الواقع ، فهم على أية حال كانوا عاصين بما فعلوا محتاجين إلى التوبة والعفو ولذلك قال ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ) .وقوله - تعالى - : ( فالآن بَاشِرُوهُنَّ ) الأمر فيه للإِباحة وهو مرتب على قوله : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ) .ولفظ ( فالآن ) يطلق حقيقة على الوقت أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك وعلى المستقبل القريب الوقوع تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا .( بَاشِرُوهُنَّ ) من المباشرة وأصلها اتصال البشرة بالبشرة ، وكنى بها القرآن عن الجماع الذي يستلزمها .وقوله - تعالى - ( وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ ) تأكيد لما قبله . والابتغاء الطلب والمعنى : لقد أبحنا لكم الإِفضاء إلى نسائكم في ليالي رمضان بعد أن كان محرماً عليكم فضلا منا ورحمة بكم فالآن باشروهن واطلبوا من وراء هذه المباشرة ما كتبه لكم الله من الذرية الصالحة ومن التعفف عن إتيان الحرام .وفي هذا إشعار بأن النكاح شرع ليبتغي به النسل حتى يتحقق ما يريده الله - تعالى - من بقاء النوع الإِنساني ، ومن صيانة المرء نفسه عن الوقوع في فاحشة الزنا .وقوله - تعالى - ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) معطوف على باشروهن .والمقصود من الخيط الأبيض : أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره .والمقصود من الخيط الأسود : ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل .والمعنى : لقد أبحنا لكم مباشرة النساء في ليالي الصوم ، وأبحنا لكم كذلك أن تأكلوا وأن تشربوا في هذه الليالي حتى يتبين لكم بياض الفجر من سواد الليل .قال الإِمام الرازي : ( الفجر ) مصدر قولك : فجرت الماء أفجره فجراً ، وفجرته تفجيراً قال الأزهري : الفجر أصله الشق ، فعلى هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح .وقد وردت روايات صحيحة تفيد أن قوله : ( مِنَ الفجر ) قد تأخر نزوله عن الجمل السابقة له . ففي الصحيحين عن سهل به سعد قال أنزلت ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ويأكل حتى يتبين له رؤيتها ، فأنزل الله بعده ( مِنَ الفجر ) فعلموا أنه يعني الليل والنهار .ورويا أيضاً عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) عمدت إلى عقالين لي أسود وأبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر في الليل إليهما فلا يتبين لي ، فعمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال : " إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " ونزل قوله - تعالى - : ( مِنَ الفجر ) .وشبه بياض النهار وسواد الليل بالخيطين : الأبيض والأسود لأن أول ما يبدوا من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل يكون كالخيط الممدود .وفي الإتيان بلفظ التفعل في قوله : ( حتى يَتَبَيَّنَ . . . ) إشعار بأنه لا يكفي إلا التبين الوضاح لا مجرد التوهم ، فقد روى الإِمام مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر - أو قال - حتى ينفجر الفجر " .وقوله : ( مِنَ الفجر ) بيان للخيط الأبيض . واكتفى به عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحدهما بيان للثاني ، ويجوز أن تكون " من " للتبعيض ، أي : من بعض الفجر .وقوله - تعالى - : ( ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ) بيان لانتهاء وقت الصيام بعد أن بينت الجملة السابقة بدايته . أي : ابدءوا صومكم من طلوع الفجر وانتهوا منه بدخول الليل عند غروب الشمس ، إذ الليل لبس بوقت الصيام .قال الإِمام الرازي : كلمة ( إِلَى ) لإنتهاء الغاية ، فظاهر الآية : أن الصوم ينتهي عند دخول الليل ، وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه وإنما يكون مقطعاً ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك وقد تجيء هذه الكلمة لا للانتهاء كما في قوله - تعالى - : ( إِلَى المرافق ) إلا أن ذلك على خلاف الدليل ، والفرقب بين الصورتين أن الليل من جنس النهار فيكون الليل خارجاً عن حكم النهار ، والمرافق من جنس اليد فيكون داخلا فيه " .وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقبل الليل من هنا وأدبر النهار من هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .وكان من عادته صلى الله عليه وسلم تعجيل الفطر ، فقد روى الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " .وقد أخذ العلماء من هذه الآية ومن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله ، أن من واصل الإِمساك عن المفطرات في الليل فلا ثواب له على هذا الإِمساك ، لأنه لم يقع في الوقت الذي رسمه الشارع لعبادة الصوم ، بل يعد هذا المواصل فاعلا لمحظور ، فلا بد للصائم من تناول شي من المفطرات بعد غروب الشمس ولو قليلا من الماء . فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء ، والوصال - بمعى أن يصوم الشخص اليوم وما بعده من غير أن يتناول مفطراً في الليل الفاصل بينهما - وردت في النهي عنه أحاديث كثيرة ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تواصلوا ، قالوا : إنك تواصل يا رسول الله . قال : لست كأحد منكم إني أطعم وأسقى . أو قال : إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " .وروى الإِمام أحمد عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعنى بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : " يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا " .وقوله : ( وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ ) كان هذا الإِطلاق مظنة لأن يؤخذ منه أن المعتكف كالصائم في أنه يجوز له أن يباشر زوجته ليلا لا نهاراً ، فبين - سبحانه - بهذه الجملة أن المعتكف يحرم عليه أن يباشر النساء فيي الليل والنهار .قال القرطبي : والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه .قال الشاعر :وظل بنات الليل حولي عكفا ... عكوف البواكي بينهن صريعولما كان المعتكف ملازماً للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص .وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .وأجمع العلماء على أنه لا يكون إلا في المسجد واختلفوا في المراد بالمساجد في قوله - تعالى - ( فِي المساجد ) فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس ، وقال آخرون لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة ، وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجد جائز .والمشار إليه في قوله - تعالى - : ( تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) الأحكام التي سبق تقريرها من إيجاب وتحريم وإباحة .والحدود جمع حد ، وهو في اللغة الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر . ومنه سمي الحديد حديداً لأنه يمنع وصول السلاح إلى البدن .و سميت الأحكام التي شرعها الله حدوداً لأنها تحجز بين الحق والباطل .أي : تلك الأحكام التي شرعناها لكم من إيجاب الصوم ، وتحريم الأكل والشرب والجماع في نهاره ، وإباحة ذلك في ليله ، هي حدود الله التي لا يحل لكم مخالفتها أو مجازتها .وعبر - سبحانه - عن النهي عن مخالفة تلك الأحكام بقوله : ( فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) مبالغة في التحذير من مخالفتها ، لأن النهي عن القرب من الشيء نهى عن إتيانه بالأولى والآية ترشد بقولها ( فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) إلى اجتناب ما فيه شبهة كما ترشد إلى ترك الأشياء التي تقضى في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قيل ( فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) مع قوله : ( فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله ) قلت : من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه . لأن من تعداه وقع في حيز الباطل ، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف فضلا عن أن يتخطاه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد . ويجوز أن يريد بحدود الله محارزه ومناهيه خصوصاً لقوله - تعالى - : ( وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ ) وهي حدود لا تقرب " .ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة بقوله : ( كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .أي : مثل ذلك البيان الجامع الذي بين الله به حدوده التي أمركم بالتزامها ونهاكم عن مخالفتها ، يبين لكم آياته ، أي : أدلته وحججه لكي تصونوا أنفسكم عما يؤدي بكم إلى العقوبة ، وتكونوا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه .وبذلك تكون الآية الكريمة قد ختمت الحديث عن الصوم ، ببيان مظاهر رفق الله بعباده ، ورعايته لمصالحهم ومنافعهم بأسلوب بليغ جمع بين الترغيب والترهيب ، والإِباحة والتحريم ، وغير ذلك من أنواع الهداية والإِرشاد إلى ما يسعد الناس في دينهم ودنياهم .وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام ، وما يتعلق به من أحكام ، أردف ذلك بالنهي عن أكل الحرام ، لأنه يؤدي إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال - تعالى - :( وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام . . . )
2:188
وَ لَا تَاْكُلُوْۤا اَمْوَالَكُمْ بَیْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُوْا بِهَاۤ اِلَى الْحُكَّامِ لِتَاْكُلُوْا فَرِیْقًا مِّنْ اَمْوَالِ النَّاسِ بِالْاِثْمِ وَ اَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ۠(۱۸۸)
اور آپس میں ایک دوسرے کا مال ناحق نہ کھاؤ اور نہ حاکموں کے پاس ان کا مقدمہ اس لئے پہنچاؤ کہ لوگوں کا کچھ مال ناجائز طور پر کھاؤ (ف۳۴۳) جان بوجھ کر،

الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة في كل زمان ومكان .والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق ، وعبر عنه بالأكل ، لأن الأكل أهم وسائل الحياة ، وفيه تصرف الأموال غالباً .والباطل في اللغة : الزائل الذاهب ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا . أي ذهب ضياً وخسراً . وجمع الباطل أباطيل . ويقال : بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو .والمراد هنا : كل ما لم يبح الشرع فأخذه من المال وإن طابت به النفس ، كالربا والميسر وثمن الخمر ، والرشوة ، وشهاد الزور ، والسرقة ، والغصب ، ونحو ذلك مما حرمه الله - تعالى - .والباء للسببية ، والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله ، وكذلك قوله : ( بَيْنَكُمْ ) .والمعنى : لا يأخذ بعضكم مال بعض ، ويستولي عليه بغير حق ، متعذر بالأسباب الباطلة ، والحيل الزائفة ، وما إلى ذلك من وجوه التعدي والظلم .وفي قوله - تعالى - : ( أَمْوَالَكُمْ ) - مع أن أكل المال يتناول مال الإِنسان ومال غيره - في هذا القول إشعار بوحدة الأمة وتكافلها ، وتنبيه إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لما لك أنت ، ففيه هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي ، وبيان لحكمة الحكم ، إذا استحلال الإِنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإِنسان المتعدي ، وإذا فشا هذا السلوك في أمة من الأمم أدى بها إلى الضعف والتعادي والتباغض .فيما أحكم هذا التعبير ، وما أجمل هذا التصوير .وقوله : ( وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام ) معطوف على ( وَلاَ تأكلوا ) .والإِدلاء في الأصل : إرسال الدول في البئر للاستقاء . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه أدلى فلان بحجته ، أي : أرسلها ليصل إلى مراده .والمراد بالإِدلاء هنا : الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين .والحكام : جمع حاكم ، وهو الذي يتصدى للفصل بين الناس في خصوماتهم وقضاياهم .والفرق : القطعة المعزولة من جملة الشيء ، ومنه قيل للقطعة من الغنم تشذ عن معظمها فريق .والإِثم : الفعل الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب . وجمعه آثام .والمعنى : لا يأخذ بعضكم أموال بعض - أيها المسلمون - ولا يستولي عليها بغير حق ، ولا تدلوا بها الحكام ، أي ولا تلقوا أمرها والتحاكم فيها إلى القضاة ، لا من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما من أجل أن تأخذوا عن طريق التحاكم قطعة من أموال غيركم متلبسين بالإِثم الذي يؤدي إلى عقابكم ، حال كونكم تعلمون أنكم على باطل ، ولا شك أن إتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به .فعل هذا الوجه يكون المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام طرحها أمامهم ليقضوا فيها ، وليتوسل بعض الخصوم عن طريق هذا القضاء إلى أكل الأموال بالباطل حين عجزوا عن أكلها بالمغالبة .وهناك وجه آخر تحتمله الآية احتمالا قريباً ، وبه قال كثير من العلماء وهو أن المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام ، إلقاءؤها إليهم على سبيل الرشوة ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يحكموا لصالحهم بالباطل ، وعليه يكون المعنى .لا يأخذ بعضكم أموال بعض أيها المسلمون ، ولا تلقوا ببعضها إلى حكام السوء على سبيل الرشوة ، لتتوصلوا بأحكامهم الجائرة إلى أكل فريق من أموال الناس بغير حق . ولا غربة في أن يعني القرآن في سياسته الرشيدة بالتحذير من جريمة الرشوة ، فإنها المعول الذي يهدم صرح العدل من أساسه وبها تفقد مجالس القضاء حرمتها وكرامتها ، وتصير تلك المجالس موطنا للظلم لا للعدل .وخص القرآن الكريم هذه الصورة بالنهي - وهي صورة الإِدلاء بالأموال إلى الحكام - مع أنه قد ذكر ما يشملها بقوله : ( وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل ) لأنها على وجهي تفسيرها شديدة الشناعة ، جامعة لمنكرات كثيرة ، كالظلم ، والتباغض والرشوة ، والغصب وغير ذلك . والحق ، أن هذه الآية الكريمة أصل من الأصول التي يقوم عليها إصلاح المعاملات ، وقد أخذ العلماء منها حرمة أكل أموال الناس بالباطل ، وحرمة إرشاء الحكام ليقضي لراشي بمال غيره وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الجميع في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي والمرتشي والراءش " وهو الواسطة الذي يمشي بينهما .كما أخذوا منها أن حكم الحاكم على ما يقتضيه الظاهر من أمر القضية لا يحل في الواقع حراماً ، ولا يحرم حلالاً ، والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومه بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " إنما أنا بشر وإنه ليأتيني الخصم . فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه قد صدق ، فأقضى له بذلك . فمن قضيت له بحق بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " .قال الإِمام ابن كثير : فدلت هذه الآية الكريمة هذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يحل في نفس الأمر حراماً ولا يحرم حلالا ، وإنم اهو ملزم في الظاهرة فإن طبق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره . ولهذا قال - تعالى - في آخر الآية ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) . أي تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم .وبذلك تكون الآية الكريمة قد رسمت طريق الحق لمن يريد أن يسير فيه ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن الأهلة لما لها من صلة بالصيام وبالقتال في الأشهر الحرام وبمواقيت الحج فقال - تعالى - :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر . . . )
2:189
یَسْــٴَـلُوْنَكَ عَنِ الْاَهِلَّةِؕ-قُلْ هِیَ مَوَاقِیْتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّؕ-وَ لَیْسَ الْبِرُّ بِاَنْ تَاْتُوا الْبُیُوْتَ مِنْ ظُهُوْرِهَا وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقٰىۚ-وَ اْتُوا الْبُیُوْتَ مِنْ اَبْوَابِهَا۪-وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ(۱۸۹)
تم سے نئے چاند کو پوچھتے ہیں (ف۳۴۴) تم فرمادو وہ وقت کی علامتیں ہیں لوگوں اور حج کے لئے (ف۳۴۵) اور یہ کچھ بھلائی نہیں کہ (ف۳۴۶) گھروں میں پچھیت (پچھلی دیوار) توڑ کر آ ؤ ہاں بھلائی تو پرہیزگاری ہے، اور گھروں میں دروازوں سے آ ؤ (ف۳۴۷) اور اللہ سے ڈرتے رہو اس امید پر کہ فلاح پاؤ

ورد في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : " بلغنا أن بعض الناس قالوا : يا رسول الله ، لم خلقت الأهلة فنزلت " .والأهلة : جمع الهلال ، وهو الكوكب الذي يبزغ في أول كل شهر ، ويسمى هلالا لثلثا ليال أو لسبع ليلا من ظهوره ، ثم يسمى بعد ذلك قمرا إلى أن يعود من الشهر الثاني .قال بعضهم : وهو مشتق من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ، ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، وسمى بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره أو بالتكبير ، ولهذا يقال أهل الهلال واستهل .والمواقيت : جمع ميقات بمعنى الوقت ، وهو ما يقدر لعمل من الأعمال وقيل : الميقات منتهى الوقت .والمعنى : يسألك بعض الناس عن الحكمة من خلق الأهلة ، قل لهم - يا محمد إن الله - تعالى - قد خلقها لتكون معالم يوقت ويحدد بها الناس صومهم ، وزكاتهم ، وحجهم ، وعدة نسائهم ، ومدد حملهن ، ومدة الرضاع ، وغير ذلك مما يتعلق بأمور معاشهم .قال - تعالى - : ( هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) وخص الجح بالكر مع أن الأهلة مواقيت لعبادات أخرى كالصوم والزكاة للتنبيه على أن الحج مقصور وقت أدائه على الزمن الذي عينه الله - تعالى - وأنه لا يجوز نقله إلى وقت آخر كما كانت العرب تفعل ، إذ كانوا ينقلون ما شاؤوا من الأشهر الحرام الأربعة التي من جملتها ذو الحجدة إلى شهر آخر غير حرام ، وهو النسيء المشار إليه بقوله - تعالى - : ( إِنَّمَا النسيء زِيَادَةٌ فِي الكفر ) وخص الشارع المواقيت بالأهلة وأشهرها دون الشمس وأشهرها ، لأن الأشهر الهلالية تعرف برؤية الهلال ومحاقه ، وذلك ما لا يخفى على أحد من الخاصة أو العامة أينما كانوا بخلاف الأشهر الشمسية ، فإن معرفتها تنبني على النظر في حركات الفلك وهي لا تتيسر إلا للعارفين بدقائق علم الفلك .هذا ، ومن الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال : نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا : يا رسول الله . ما بال الهلال يبدو - أو يطلع - دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ، لا يكون على حال واحد؟ فنزلت .وعلى هذه الرواية يكون الجواب بقوله - تعالى - : ( قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ) من قبيل أسلوب الحكيم ، وهو إجابة السائل بغير ما يتطلبه سؤاله ، بتنزيل سؤاله منزلة غيره ، تنبيها له على أن ذلك الغير هو الأولى بالسؤال لأنه هو المهم بالنسبة له .فأنت ترى هنا أن السائلين قد سألوا عن سبب اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان ، فأجيبوا ببيان الحكمة من خلقها ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة من خلق الأهلة لأن هذا هو الأليق بحالكم وهو ما أجبتكم عليه ، لا أن تسألوا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره ، لأن هذا من اختصاص علماء الهيئة ، وأنتم لستم في حاجة إلى معرفة ذلك في هذا الوقت .ولعلماء البلاغة كلام جيد في مزايا ما يسمونه بأسلوب الحكيم ، فقد قال السكاكي ما ملخصه : " ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفننة ، ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها ، ولا كأسلوب الحكيم فيها . وهو تلقى المخاطب بغير ما يترقب ، أو السائل بغير ما يتطلب ، كما قال - تعالى - ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة ) الآية . قالوا في السؤال ما بال الهلال يبدوا دقيقاً . . ألخ فأجيبوا بما ترى . وإن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور ، وأبرزه في معرض المسحور ، وهل ألان شكيمة " الحجاج الثقفي " لذلك الرجل الخارجي ، وسل سخيمته ، حتى آثر أن يحسن على أن يسيء غير أن سحره بهذا الأسلوب؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله " لأحملنك على الأدهم " فقال الخارجي متغابيا : مثل الأمير بحمل على الأدهم الأشهب . مبرزاً وعيده في معرض الوعد ، متوصلا أن يريه بألطف وجه : أن رجلا مثله جدير بأن يعد لا أن يوعد " .وقوله - تعالى - : ( وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا ) هذا القول الكريم نهى لجماعة المسلمين عن عادة كونا يفعلونها في الجاهلية ، وهي أنهم كانوا إذا عادوا من حجهم أو أحرموا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ، بل كانوا يدخلون من نقب ينقبونه في ظهور بيوتهم .أخرج البخاري عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء - رضي الله عنه - يقول : نزلت هذه الآية فينا . كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت : ( وَلَيْسَ البر ) إلخ .والمعنى : وليس من البر ما كنتم تفعلونهن في الجاهلية من دخولكم البيوت من ظهورها عند إحرامكم أو عودتكم من حجكم ، ولكن البر الحق الجامع لخصال الخير يكون في تقوى الله بأن تمتثلوا أوامره وتجتنبوا نواهيه ، وإذا ثبت ذلك فعليكم أن تأتوا البيوت من أبوابها عند إحرامكم أو رجوعكم من حجكم .وفي الأمر بإتيان البيوت من أبوابها إشعار بأن إيتيانها من ظهورها بسم الدين غير مأذون فيه ، وكل ما يفعل باسم الدين وليس له في الدين من شاهد فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة .وفي الآية الكريمة تعريض بمن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة ، ولا تتوقف معرفته على الوحي ، فهذا السائل في سؤاله مثله كمثل من يدخل البيت من ظهره لا من بابه .قال بعضهم : وذلك لأن العلم على ضربين : علم دنيوي يتعلق بأمر المعاش - كمعرفة الصنائع ومعرفة حركات ومعرفة المعادن والنبات ، وقد جعل الله لنا سبيلا إلى معرفة ذلك غير لسان بينه صلى الله عليه وسلم .وعلم شرعي يتعلق بالعبادات والمعاملات والعقيدة ولا سبيل إلى أخذه إلا من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .فلما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما أمكنهم معرفته من غير جهته أجابهم . ثم بين لهم أن البر في التقوى وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين " .قا صاحب الكشاف : فإن قلت . ما وجه اتصال قوله - تعالى - ( وَلَيْسَ البر ) إلخ بما قبله؟ قلت : كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها : إن كل ما يفعله الله - تعالى - لا يكون إلا عن حكمة ومصلحة لعباده فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تعفلونهها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برا . ويجوز أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج ، لأنه كان من أفعالهم في الحج . ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم في سؤالهم وأن مثلهم كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره . والمعنى : ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله ثم قال : ( وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا ) أي : باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب .وقوله - تعالى - ( واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أمر بالتقوى التي تتضمن القيام بجميع الواجبات واجتناب البدع والمنكرات . أي : افعلوا ما أمركم الله به ، واجتنبوا ما نهاكم عنه ، لتكونوا من المفلحين ، وهم الفائزون بالحياة المطمئنة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة . وبذلك تكون الآية الكريمة قد رددت عقول الناس إلى النظر والتأمل في سنن الله وفي خلفه على النحو الذي ينشئ التقوى في النفوس ، ويوجه إلى العمل الصالح الذي يرضى الله - تعالى - .وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بطاعته وتقواه ، وحضهم على الجهاد في سبيله إذ هو من أجل مظاهرها ، وبصرهم بحكمته وآدابه فقال - تعالى - :( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ . . . )
2:190
وَ قَاتِلُوْا فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِ الَّذِیْنَ یُقَاتِلُوْنَكُمْ وَ لَا تَعْتَدُوْاؕ-اِنَّ اللّٰهَ لَا یُحِبُّ الْمُعْتَدِیْنَ(۱۹۰)
اور اللہ کی راہ میں لڑو (ف۳۴۸) ان سے جو تم سے لڑتے ہیں (ف۳۴۹) اور حد سے نہ بڑھو (ف۳۵۰) اللہ پسند نہیں رکھتا حد سے بڑھنے والوں کو،

قال ابن كثير : قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أسن عن أبي العالية في قوله - تعالى - ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ) قال : هذا أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قالته وكيف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة .ويرى بعض العلماء أن هذه الآيات قد وردت في الأذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرام إذا فوجئوا بالقتال بغياً وعدواناً . فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال ، لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتال فيها محرماً في الجاهلية . فقد أخرج الواحدي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلة في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صده المشركون عن البيت الحرام - ثم صالحوه فرضى على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ألا تفى لهم قريش ، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام فأنزل الله - تعالى الآيات .والقتال والمقاتلة : محاولة الرجل قتل من يحاول قتله ، والتقاتل محاولة كل واحد من المتعاديين قتل الآخر .قال أبو حيان : وقوله : ( فِي سَبِيلِ الله ) السبيل هو الطريق . واستعير لدين الله وشرائعه لأن المتبع لذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية ، فشبه بالطريق الموصل الإِنسان إلى ما يقصده ، وهذا من استعارة الأجرام للمعاني ويتعلق ( فِي سَبِيلِ الله ) بقوله : ( وَقَاتِلُواْ ) وهو ظرف مجازي ، لأنه لما وقع القتال بسبب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه ، و على حذف مضاف والتقدير في نصرة دين الله .والمراد بالقتال في سبيل الله : الجهاد من أجل إعلاء كلمته حتى يكون أهل دينه الحق أعزاء لا يسومهم أعداؤه ضيماً ، وأحراراً في الدعوة إليه وإقامة شرائعه العادلة في ظل سلطان مهيب .أي : قاتلوا أيها المؤمنون لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه أعداءكم الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم ومناجزتكم وتحققتم منهم سوء النية ، وفساد الطوية .فالآية الكريمة تهييج للمؤمنين وإغراء لهم على قتال أعدائهم بدون تردد أو تهيب ، وإرشاد لهم إلى أن يجعلوا جهادهم من أجل نصرة الحق ، لا من أجل المطامع أو الشهوات .فقد روى الشيخان أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي موسى - رضي الله عنه - " أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل ليذكر ، والرجل يقاتل ليرى مكانه - أي : ليتحدث الناس بشجاعته وليظهر بينهم - أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .والأحاديث في الدعوة إلى أن يكون الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمته كثيرة متعددة . وقوله ( وَلاَ تعتدوا ) نهى عن الاعتداء بشتى صورة ويدخل فيه دخولا أولياء الاعتداء في القتال .والاعتداء : مجازة الحد فيما أمر الله به أو نهى عنه .أي : قاتلوا في سبيل الله من يناصبكم القتال من المخالفين ، ولا تتجاوزوا في قتالهم إلى من ليس شأنهم قتالكم ، كنسائهم ، وصبيانهم ورهبانهم ، وشيوخهم الطاعنين في السن إلى حد الهرم ، ويلحق بهؤلاء المريض والمقعد والأعمى والمجنون . وقد وردت في النهي عن قتل هؤلاء الأحاديث النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين لقواد جيوشهم ، فهؤلاء يتجنب قتالهم إلا من قامت الشواهد على أن له أثراً من رأى أو عمل في الحرب ، يؤازر به المحارين لينتصروا على المجاهدين .قال ابن كثير : ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، أغزوا ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع " وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وُجِدَتْ امرأة في بعض المغازي مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان .وقوله : ( إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ) كالتعليل لما قبله في النهي عن مجاوزة ما حده الله - تعالى - في قتال المخالفين .ومحبة الله لعباده : صفة من صفاته - تعالى - من أثرها الرعاية والإِنعام . وإذا نفى الله - تعالى - محبته لطائفة من الناس فهو كناية عن بغضه لهم ، واستحقاقهم لعقوبته .
2:191
وَ اقْتُلُوْهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوْهُمْ وَ اَخْرِجُوْهُمْ مِّنْ حَیْثُ اَخْرَجُوْكُمْ وَ الْفِتْنَةُ اَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِۚ-وَ لَا تُقٰتِلُوْهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّٰى یُقٰتِلُوْكُمْ فِیْهِۚ-فَاِنْ قٰتَلُوْكُمْ فَاقْتُلُوْهُمْؕ-كَذٰلِكَ جَزَآءُ الْكٰفِرِیْنَ(۱۹۱)
اور کافروں کو جہاں پاؤ مارو (ف۳۵۱) اور انہیں نکال دو (ف۳۵۲) جہاں سے انہوں نے تمہیں نکا لا تھا (ف۳۵۳) اور ان کا فساد تو قتل سے بھی سخت ہے (ف۳۵۴) اور مسجد حرام کے پاس ان سے نہ لڑو جب تک وہ تم سے وہاں نہ لڑیں (ف۳۵۵) اور اگر تم سے لڑیں تو انہیں قتل کرو (ف۳۵۶) کافروں کی یہی سزا ہے،

وقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ الضمير المنصوب فيه يعود على قوله: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ في الآية السابقة.وثَقِفْتُمُوهُمْ: أدركتموهم وظفرتم بهم. يقال: ثقف الشيء إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة ومنه رجل ثقف إذا كان سريع الأخذ لأقرانه. قال الشاعر:فإما تثقفونى فاقتلوني ... فمن أثقف فليس إلى خلود.ويقال- أيضا- رجل ثقف: إذا كأن محكما لما يتناوله من الأمور.والمعنى: عليكم أيها المسلمون أن تقتلوا هؤلاء الذين إذنا لكم بقتالهم حيث وجدتموهم وظفرتم بهم، فأنهم قد بادءوكم بالعدوان، وتمنوا لكم كل شر وسوء.وقوله: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ معطوف على ما قبله.وحيث ظرف مكان. والمكان الذي أخرجوهم منه هو مكة، فإن المشركين من قريش قد أنزلوا بالمسلمين الأولين من صنوف الأذى ما جعلهم يتركون مكة ويهاجرون إلى بلاد الحبشة أولا. ثم إلى المدينة المنورة ثانيا.أى: اقتلوا هؤلاء الذين قاتلوكم في أى مكان لقيتموهم فيه، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة.وفي هذا تهديد للمشركين، وإغراء للمسلمين بهم، ووعد بفتح مكة وقد أنجز الله- تعالى- وعده ففتح المسلمون مكة في السنة الثامنة من الهجرة.وقوله- تعالى-: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. دفع لما قد يقع من بعض المسلمين من استعظام قتل المشركين في مكة.والفتنة في الأصل: مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزائف منهم ثم استعملت في الابتلاء والامتحان والصرف عن الشيء، وأكثر استعمالها في التضليل والصد عن الدين، ثم على الكفر.ويبدو أن المراد منها هنا ما كان يفعله المشركون مع المسلمين من التعذيب والصد عن الدين، والإخراج من الوطن، وغير ذلك من صنوف الأذى.والمعنى: لا تقصروا في قتل المشركين الذين يقاتلونكم، والذين أخرجوكم من دياركم، فإن فتنتهم لكم بالإيذاء والتعذيب والصد عن الدين، أشد ضررا من قتلكم لهم في أى مكان وجدوا به.وبعضهم فسر الفتنة هنا بالشرك، أو بالرجوع إلى الكفر، أو بعذاب الآخرة، وقد بين ذلك صاحب الكشاف بقوله. وقوله: «والفتنة أشد من القتل» أى: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل وقيل لبعض الحكماء: ما أشد من الموت: قال: الذي يتمنى فيه الموت، جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت، ومنه قول القاتل:القتل بحد السيف أهون موقعا ... على النفس من قتل بحد فراقوقيل: الْفِتْنَةُ عذاب الآخرة قال- تعالى- ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ وقيل: الشرك أعظم من القتل في الحرم، وذلك أنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون به المسلمين. فقيل:والشرك الذي هم عليه أشد وأعظم مما يستعظمونه ويجوز أن يراد: وفتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم».وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد أذنت للمؤمنين في قتل الذين يناجزونهم القتال دفعا لشرهم أينما وجدوا.ثم ساقت الآية جملة أخرى نهت فيها المؤمنين عن قتال المشركين عند المسجد الحرام مراعاة لحرمته. ما دام المشركون لم يفاتحوهم بالقتال عنده، أما إذا فاتحوهم بالقتال فيه، فقد أصبح من حق المؤمنين أن يدافعوا عن أنفسهم، وأن يقاتلوا أعداءهم. وهذه الجملة هي قوله- تعالى-: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.أى: لا تقاتلوا أيها المؤمنون أعداءكم عند المسجد الحرام احتراما له حتى يبدأ المشركون قتالكم عنده فإن بدءوكم بالقتال فيه فلا حرج عليكم في قتلهم عنده، لأن المنتهك لحرمة المسجد الحرام إنما هو البادئ بالقتال فيه وهم المشركون، ولستم أنتم أيها المؤمنون لأن موقفكم إنما هو موقف المدافع عن نفسه.فأنت ترى أن الآية الكريمة قد حفظت للمسجد الحرام حرمته وهيبته ومكانته السامية لأن حرمته لذاته، وحرمة سائر الحرم من أجله، إلا أنها أذنت للمسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم إذا ما هاجمهم المشركون عنده أو فيه.قال ابن كثير ما ملخصه: وقد دلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم إذا بدءوا بالقتال فيه دفعا لصولتهم، كما بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ .وقال صلّى الله عليه وسلّم لخالد بن الوليد ومن معه يوم الفتح: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا حتى توافونى على الصفا.. فما عرض لهم أحد إلا أناموه وأصيب من المشركين نحو اثنى عشر رجلا» .ولم يقل- سبحانه- فإن قاتلوكم فقاتلوهم، وإنما قال فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ تبشيرا للمؤمنين بالغلبة عليهم، وإشعارا بأن هؤلاء المشركين من الخذلان والضعف بحالة أمر الله المؤمنين معها بقتلهم لا بقتالهم فهم لضعفهم لا يحتاجون من المؤمنين إلا إلى القتل.وقوله: كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ تذييل لما قبله. واسم الإشارة ذلك يعود إلى قتل المقاتلين أينما وجدوا.والجزاء: ما يقع في مقابلة الإحسان أو الإساءة، فيطلق على ما يثاب به المحسن، وعلى ما يعاقب به المسيء. والمراد به في الآية العقاب.أى: مثل هذا الجزاء العادل من القتل والردع يجازى الله الكافرين الذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من ديارهم.
2:192
فَاِنِ انْتَهَوْا فَاِنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ(۱۹۲)
پھر اگر وہ باز رہیں (ف۳۵۷) تو بیشک اللہ بخشنے والا مہربان ہے،

ثم فتح القرآن للكافرين الذين قاتلوا المسلمين التوبة فقال: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.الانتهاء: أصله مطاوع نهى. يقال: نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن الشيء، لأن النهى هو طلب ترك الشيء.أى: فإن انتهوا عن الكفر وعن مقاتلتكم فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم فإن الله غفور رحيم. وكل من تاب من كفر أو معصية فشأن الله معه أن يغفر له ويرحمه.ونظير هذه الآية قوله- تعالى-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وإنما قلنا فإن انتهوا عن الكفر وعن القتال لأن سياق الحديث عن الكافرين المقاتلين للمؤمنين،فيكون حمل الانتهاء على الأمرين معا أولى من حمله على القتال فحسب.
2:193
وَ قٰتِلُوْهُمْ حَتّٰى لَا تَكُوْنَ فِتْنَةٌ وَّ یَكُوْنَ الدِّیْنُ لِلّٰهِؕ-فَاِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ اِلَّا عَلَى الظّٰلِمِیْنَ(۱۹۳)
اور ان سے لڑو یہاں تک کہ کوئی فتنہ نہ رہے اور ایک اللہ کی پوجا ہو پھر اگر وہ باز آئیں (ف۳۵۸) تو زیادتی نہیں مگر ظالموں پر،

وقوله- تعالى-: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ معطوف على جملة وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ والضمير «هم» يعود على الذين يقاتلون المسلمين وهم من سبق الحديث عنهم.والمراد من الْفِتْنَةُ الشرك وما يتبعه من أذى المشركين للمسلمين واضطهادهم وتعذيبهم.قال الآلوسى: ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف. لقوله- سبحانه-: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ.وفي الصحيحين عن ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» .والدين في اللغة: العادة والطاعة ثم استعمل فيما يتعبد به الله- تعالى- سواء أكان ما تعبد به صحيحا أم باطلا.والمراد هنا: الدين الصحيح الذي شرعه الله لعباده على لسان نبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم ليتوصلوا به إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل.والمعنى: قاتلوا أولئك المشركين حتى تزيلوا الشرك، وحتى تكسروا شوكتهم ولا يستطيعوا أن يفتنوا طائفة من أهل الدين الحق، وحتى يكون الدين الظاهر في الأرض هو الدين الذي شرعه الله- تعالى- على لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم.وقد تحقق ذلك بالقتال الذي دار بين المسلمين والمشركين في أكثر من عشرين غزوة قادها النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وفي أكثر من أربعين سرية بعث فيها أصحابه، وكانت ثمار هذه المعارك أن انتصر الحق وزهق الباطل. وقبل أن يلتحق النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى كان الدين الظاهر في جزيرة العرب هو دين الإسلام الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ والعدوان في أصل اللغة: الاعتداء والظلم الذي هو من الأفعال المحرمة والمراد به في الآية القتل حيث يرتكب جزاء للظالمين.والفاء في قوله فَإِنِ انْتَهَوْا للتعقيب. وقوله: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قائم مقام جواب الشرط، لأنه علة الجواب المحذوف.والمعنى: فإن امتنعوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه، وأذعنوا لتعاليم الإسلام، فكفوا عن قتالهم، لأنهم قد انتفى عنهم وصف الظلم، وما دام قد انتفى عنهم هذا الوصف فلا يصح أن تقاتلوهم، إذ القتال إنما يكون للظالمين تأديبا لهم ليرجعوا عن ظلمهم.ففي الجملة الكريمة إيجاز بالحذف، واستغناء عن المحذوف بالتعليل الدال عليه.قال الإمام الرازي: أما قوله- تعالى-: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ففيه وجهان:الأول: فإن انتهوا فلا عدوان أى: فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر، فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم قال- تعالى-: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.فإن قيل: لم سمى ذلك القتل عدوانا مع أنه في نفسه صواب؟ قلنا: لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه، كقوله- تعالى-: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها.الثاني: إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين، فتسلط عليكم من يعتدى عليكم
2:194
اَلشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَ الْحُرُمٰتُ قِصَاصٌؕ-فَمَنِ اعْتَدٰى عَلَیْكُمْ فَاعْتَدُوْا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدٰى عَلَیْكُمْ۪-وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِیْنَ(۱۹۴)
ماہ حرام کے بدلے ماہ حرام اور ادب کے بدلے ادب ہے (ف۳۵۹) جو تم پر زیادتی کرے اس پر زیادتی کرو اتنی ہی جتنی اس نے کی اور اللہ سے ڈرتے رہو اور جان رکھو کہ اللہ ڈر والوں کے ساتھ ہے،

وقوله- تعالى-: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ بيان للحكمة في إباحة القتال في الأشهر الحرم، وإيذان بأن مراعاة حرمة الشهر الحرام إنما هي واجبة في حق من يصون حرمته، أما من هتكها فقد صار بسبب انتهاكه لحرمة الشهر الحرام محلا للقصاص والمعاقبة في الشهر وفي غيره.وسمى الشهر الحرام لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه، والتعريف فيه- على الراجح- للجنس فهو يشمل الأشهر الحرم جميعها وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.قال- تعالى-: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ .قال القرطبي: نزلت في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية في ذي القعدة سنة ست، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف ووعده- سبحانه- أنه سيدخله فدخله في ذي القعدة سنة سبع وقضى نسكه ونزلت هذه الآية والمعنى: هذا الشهر الحرام الذي تؤدون فيه عمرة القضاء، بذلك الشهر الحرام الذي صدكم المشركون فيه عن دخول المسجد الحرام، فإذا بدءوا بانتهاك حرمته بقتالكم فيه، فلا تبالوا أن تقاتلوهم فيه دفاعا عن أنفسكم، إذ هم البادئون بهتك حرمته.وقوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق والحرمات: جمع حرمة، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك.والقصاص: المساواة. أى، وكل حرمة يجرى فيها القصاص. فمن هتك أية حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة.والمراد: أن المشركين إذا أقدموا على مقاتلتكم- أيها المؤمنون- في الحرم أو في الشهر الحرام، فقاتلوهم أنتم أيضا على سبيل القصاص والمجازاة بالمثل، حتى لا يتخذوا الأشهر الحرم ذريعة للغدر والإضرار بكم.ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى بقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ.أى: فمن اعتدى عليكم وظلمكم فجازوه باعتدائه وقابلوه بمثل ما اعتدى عليكم بدون حيف أو تجاوز للحد الذي أباحه الله لكم.وسمى جزاء الاعتداء اعتداء على سبيل المشاكلة.قال الآلوسى: واستدل الشافعى بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق. حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح. واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه لزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة- كما في ذوات الأمثال- وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له .ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالأمر بالتقوى والخشية منه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.أى: اتقوا الله وراقبوه في الانتصار لأنفسكم، وترك الاعتداء فيما لم يرخص لكم فيه، واعلموا أن الله مع الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه بالنصر والرعاية والتأييد.
2:195
وَ اَنْفِقُوْا فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِ وَ لَا تُلْقُوْا بِاَیْدِیْكُمْ اِلَى التَّهْلُكَةِ ﳝ- وَ اَحْسِنُوْاۚۛ-اِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ الْمُحْسِنِیْنَ(۱۹۵)
اور اللہ کی راہ میں خرچ کرو (ف۳۶۰) اور اپنے ہاتھوں، ہلاکت میں نہ پڑو (ف۳۶۱) اور بھلائی والے ہو جاؤ بیشک بھلائی والے اللہ کے محبوب ہیں،

ثم أمر الله- تعالى- المؤمنين ببذل المال من أجل إعلاء كلمته، ونصرة دينه، فقال:وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.قال الإمام الرازي: الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح فلذلك لا يقال في المضيع:إنه منفق. فإذا قيد الإنفاق بذكر سبيل الله، فالمراد به طريق الدين، لأن السبيل هو الطريق، وسبيل الله هو دينه، فكل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق فهو داخل في الآية سواء أكان إنفاقا في حج أو في صلة رحم أو غير ذلك، إلا أن الأقرب في هذه الآية- وقد تقدم ذكر الجهاد- أنه يراد به الإنفاق في الجهاد، وقوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ كالتنبيه على العلة في وجوب هذا الإنفاق، وذلك لأن المال مال الله فيجب إنفاقه في سبيله، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز ونشط فيسهل عليه إنفاق المال .وتُلْقُوا من الإلقاء وهو طرح الشيء من اليد.قال الجمل: والباء في قوله: بِأَيْدِيكُمْ تحتمل وجهين:أحدهما: أنها زائدة في المفعول به لأن ألقى يتعدى بنفسه، قال- تعالى-: فَأَلْقى عَصاهُ.والثاني: أن يضمن ألقى معنى فعل يتعدى بالباء فيتعدى تعديته فيكون المفعول به في الحقيقة هو المجرور بالباء تقديره، ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة كقوله: أفضيت بجنبي إلى الأرض أى: طرحته على الأرض» .والمراد بالأيدى: الأنفس، من باب ذكر الجزء وإرادة الكل، لأن أكثر ظهور أفعال النفس تكون عن طريق اليد.والتهلكة: الهلاك والموت. أو كل شيء تصير عاقبته إليه. مصدر هلك يهلك هلكا وهلاكا وتهلكة.والجملة الكريمة معطوفة على جملة وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ.. ألخ، لأنهم لما أمروا بقتال عدوهم، وكان أوفر منهم عدة وعددا، كلفهم بالاستعداد له عن طريق إنفاق الكثير من أموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله لأن هذا الإنفاق من أقوى الوسائل التي توصل إلى النصر.والمعنى: عليكم، أيها المؤمنون- أن تقاتلوا في سبيل الله من قاتلكم، وأن تنفقوا من أجل إعلاء كلمة الله أموالكم، ولا تلقوا أنفسكم فيما فيه هلاككم في دين أو دنيا، بسبب ترككم الجهاد وبخلكم عن الإنفاق فيه مع القدرة على ذلك.ويشهد لهذا المعنى ما أخرجه الترمذي وغيره عن أبى عمران قال: كنا بمدينة الروم القسطنطينية- فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم. فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل وبعد هذا الحديث المحكم عن القتال في سبيل الله، وبيان أحكامه بالنسبة للأشهر الحرم وللبيت الحرام، ساق القرآن في بضع آيات جملة من الأحكام والآداب التي تتعلق بفريضة الحج، إذ القتال جهاد لحماية الأمة الإسلامية من الخارج، والحج جهاد لتهذيب النفس وحماية الأمة من الداخل عن طريق تجميع أبنائها على اختلاف ديارهم في مكان واحد ليشهدوا منافع لهم، وليتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. استمع إلى سورة البقرة وهي تحدثك عن بعض أحكام الحج وآدابه فتقول:
2:196
وَ اَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّٰهِؕ-فَاِنْ اُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَیْسَرَ مِنَ الْهَدْیِۚ-وَ لَا تَحْلِقُوْا رُءُوْسَكُمْ حَتّٰى یَبْلُغَ الْهَدْیُ مَحِلَّهٗؕ-فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَّرِیْضًا اَوْ بِهٖۤ اَذًى مِّنْ رَّاْسِهٖ فَفِدْیَةٌ مِّنْ صِیَامٍ اَوْ صَدَقَةٍ اَوْ نُسُكٍۚ-فَاِذَاۤ اَمِنْتُمْٙ-فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ اِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَیْسَرَ مِنَ الْهَدْیِۚ-فَمَنْ لَّمْ یَجِدْ فَصِیَامُ ثَلٰثَةِ اَیَّامٍ فِی الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ اِذَا رَجَعْتُمْؕ-تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌؕ-ذٰلِكَ لِمَنْ لَّمْ یَكُنْ اَهْلُهٗ حَاضِرِی الْمَسْجِدِ الْحَرَامِؕ-وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ شَدِیْدُ الْعِقَابِ۠(۱۹۶)
اور حج اور عمرہ اللہ کے لئے پورا کرو (ف۳۶۲) پھر اگر تم روکے جاؤ (ف۳۶۳) تو قربانی بھیجو جو میسر آئے (ف۳۶۴) اور اپنے سر نہ منڈاؤ جب تک قربانی اپنے ٹھکانے نہ پہنچ جائے (ف۳۶۵) پھر جو تم میں بیمار ہو یا اس کے سر میں کچھ تکلیف ہے (ف۳۶۶) تو بدلے دے روزے (ف۳۶۷) یا خیرات (ف۳۶۸) یا قربانی، پھر جب تم اطمینان سے ہو تو جو حج سے عمرہ ملانے کا فائدہ اٹھائے (ف۳۶۹) اس پر قربانی ہے جیسی میسر آئے (ف۳۷۰) پھر جسے مقدور نہ ہو تو تین روزے حج کے دنوں میں رکھے (ف۳۷۱) اور سات جب اپنے گھر پلٹ کر جاؤ یہ پورے دس ہوئے یہ حکم اس کے لئے ہے جو مکہ کا رہنے والا نہ ہو (ف۳۷۲) اور اللہ سے ڈرتے رہو اور جان رکھو کہ اللہ کا عذاب سخت ہے،

تعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التي وردت في القرآن الكريم مبينة ما يتعلق بأحكام الحج وآدابه، وسنحاول- بعون الله- أن نبين ما اشتملت عليه من آداب سامية، وتوجيهات حكيمة، بأسلوب هو إلى الإيجاز أقرب منه إلى الإسهاب والإطناب، قاصدين عدم التعرض لتفريعات الفقهاء واختلافاتهم إلا بالقدر الذي يقتضيه المقام.والحج في اللغة: القصد يقال حج فلان الشيء: إذا قصده مرة بعد أخرى.وفي الشرع: القصد لزيارة بيت الله الحرام في وقت مخصوص بأفعال مخصوصة، وبكيفية مخصوصة، بينتها الشريعة الإسلامية.والعمرة في اللغة: الزيارة، مأخوذة من العمارة التي هي ضد الخراب ثم أطلقت على الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان.وفي الشرع: زيارة بيت الله الحرام للتقرب إليه، وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم أركانها وشروطها وكيفيتها.وقد كانت شعيرة الحج والعمرة معروفتين عند العرب قبل الإسلام، ولكن بأفعال وبكيفية فيها الكثير من الأباطيل والأوهام، فجاءت شريعة الإسلام فوضعت لهما أفضل الأحكام، وأسمى الآداب، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين أن يسيروا في أدائهما على الطريقة التي سار عليها فقال: «خذوا عنى مناسككم» .قال ابن كثير: «وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة عشر. وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته» .وقد اختلف العلماء في المقصود من الإتمام في قوله- تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فبعضهم يرى أن المراد بإتمامهما: إقامتهما وإيجادهما وإنشاؤهما فيكون المعنى: أقيموا الحج والعمرة لله: أى أدوهما وائتوا بهما. فالأمر في «أتموا» منصب على الإنشاء والأداء. فهو كقوله- تعالى-: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وأصحاب هذا الرأى يرون أن العمرة واجبه كالحج، لأن الله- تعالى- أمر بهما معا، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة..» .وإلى هذا الرأى اتجه سعيد بن جبير، وعطاء، وسفيان الثوري، والشافعية.ويرى كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء كالأحناف والمالكية- أن المراد بإتمامهما: الإتيان بهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله- تعالى- وأن على المسلّم إذا شرع فيهما أو في أحدهما أن يتمه ويأتى به كاملا، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عمرة القضاء.فيكون المعنى: ائتوا بالحج والعمرة كاملى الأركان والشروط والآداب خالصين لوجه الله- تعالى-.فالأمر على هذا الرأى منصب على الإتمام لا على أصل الأداء.وأصحابه يرون أن العمرة ليست واجبة كالحج لعدم قيام الدليل على وجوبها، وليس في الآية ما يفيد الوجوب، بل فيها ما يفيد وجوب الإتمام إن شرع فيهما أو في أحدهما. وفرضية الحج إنما ثبتت بقوله- تعالى-: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.وأيضا، فإن أركان العمرة وأفعالها تدخل في ثنايا أفعال الحج وأركانه، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» إلى غير ذلك من الأدلة التي ساقها كل فريق لتدعيم رأيه.ومجمل القول أن فرضية الحج مجمع عليها بين العلماء، وأما فرضية العمرة ففيها خلاف، انتصر كثير من العلماء فيه للرأى القائل بأنها ليست فرضا كالحج، بل هي سنة.وقد كانت فرضية الحج في السنة التاسعة من الهجرة على أرجح الروايات. ويرى بعض العلماء أن الحج قد فرض قبل ذلك، إلا أن تنفيذه لم يتم إلا في السنة التاسعة عند ما أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أميرا على الحج، وكان ذلك تمهيدا لحجه صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر.وقد أمر- سبحانه- بإتمام الحج والعمرة لله دون غيره لأن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر، والتفاخر، وقضاء الحوائج، وحضور الأسواق، دون أن يكون لله- تعالى- فيه حظ يقصد، ولا قربة تعتقد، فأمر- سبحانه- المسلمين أن ينزهوا عباداتهم- وخصوصا الحج- عن الأقوال السيئة، والأفعال القبيحة، وأن يقصدوا بأداء ما كلفهم الله به الإخلاص والطاعة له- سبحانه-.وبعد أن أمر الله- تعالى- عباده بأن يتموا الحج والعمرة له، أردف ذلك ببيان ما يجب عليهم عمله فيما لو حال حائل بينهم وبين إتمامهما فقال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ والإحصار والحصر في اللغة: بمعنى الحبس والمنع والتضييق سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو جور سلطان أو ما يشبه ذلك. قال- تعالى- في شأن قتال المشركين: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ أى: ضيقوا عليهم المنافذ. ويقال للذي لا يبوح بسره: حصر لأنه حبس نفسه عن البوح بسره.ويرى بعض علماء اللغة أن الإحصار يكون الحبس والمنع فيه من ذات الشخص كالمرض وذهاب النفقة، وأما الحصر فيكون الحبس والمنع فيه لا من ذات الشخص، بل بسبب أمر خارجى كالعدو ونحوه.الْهَدْيِ: - بتخفيف الياء وتشديدها- مصدر بمعنى المفعول، أى: المهدى والمراد به ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الإبل والبقرة والشاة ليذبح تقربا إلى الله- تعالى-.واسْتَيْسَرَ هنا بمعنى يسر وتيسر أى: ما أمكن تحصيله من الهدى بدون مشقة أو تعب.والمعنى: أتموا- أيها المؤمنون- الحج والعمرة لله متى قدرتم على ذلك، فإن أُحْصِرْتُمْ أى، منعتم بعد الإحرام من الوصول إلى البيت الحرام بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، فعليكم إذا أردتم التحلل من الإحرام أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى.وبعض العلماء- كالشافعية والمالكية- يرون أن المراد بالإحصار في الآية ما كان بسبب عدو، كما حدث للمسلمين في صلح الحديبية، أما إذا كان الإحصار بسبب مرض، فإن الحاج أو المعتمر يبقى على إحرامه حتى يبرأ من مرضه ثم يذهب إلى البيت فيطوف به سبعا، ويسعى بين الصفا والمروة، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه، ولا يتحلل بالذبح، إذ التحلل بالذبح عندهم لا يكون إلا في حالة الإحصار بسبب العدو. أما الأحناف فيرون أن الإحصار سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو ما يشبههما فإنه يسيغ التحلل بالذبح، إذ الآية عندهم تعم كل منع، وعلى من أحصر أن يقضى الحج أو العمرة فيما بعد.وفي هذه الجملة الكريمة تقرير للمبادئ التي جاءت بها شريعة الإسلام تلك المبادئ التي تتوخى في كل شئونها التيسير لا التعسير، والرفق لا التشديد قال- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال- تعالى-: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .ثم قال- تعالى-: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.حلق الرأس أو تقصيرها علامة على الانتهاء من الإحرام، كما أن التسليم علامة الانتهاء من الصلاة، أو علامة قطعهما عند الاضطرار إلى ذلك. والحلق بالنسبة للرجال أفضل من التقصير، فقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: يا رسول الله وللمقصرين. قال: اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: يا رسول الله وللمقصرين. قال: وللمقصرين» . أما بالنسبة للنساء فيكفى التقصير.والمحل: اسم لزمان الحلول أو مكانه. يقال: بلغ الدين محله إذا حل وقت أدائه، كما يقال: بلغ الشخص محله إذا وصل إلى المكان الذي ينزل به.قال الآلوسى: وكون المراد بالمحل هنا المكان هو الظاهر في الآية.والمعنى: أتموا الحج والعمرة لله، فإن منعتم من إتمامهما وأنتم محرمون فعليكم إذا أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى، ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تعلموا أن الهدى المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه، وهو الحرم.وهذا رأى الأحناف، فقد قرروا أن المراد بالمحل البيت الحرام، فهو اسم مكان، لأن الله- تعالى- قد قال في آية أخرى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، وعليه فلا يجوز للمحصر أن يحلق ويتحلل إلا بعد أن يصل الهدى الذي يرسله إلى البيت الحرام ويذبح.أما جمهور الفقهاء فيرون أن محل الهدى للمحصر هو المكان الذي حدث فيه الإحصار، ودليلهم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد نحر هو وأصحابه هديهم بالحديبية وهي ليست من الحرم، وذلك عند ما منعه المشركون من دخول مكة.وقد أجاب الأحناف على ذلك بأن محصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما يقول الآلوسى- كان في طريق الحديبية بأسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم.وعلى رأى جمهور الفقهاء يكون المعنى: ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تذبحوا الهدى في الموضع الذي أحصرتم فيه، فإذا تم الذبح فاحلقوا وتحللوا. والخطاب على كلا المعنيين يكون للمحصرين، لأنه أقرب مذكور.ويرى المحققون من العلماء أن رأى جمهور الفقهاء أكثر اتفاقا مع السنة النبوية، وفيه تسهيل على المحصرين، والمناسب لهم هو التيسير لا التعسير، ولا شك أن ذبحهم لهديهم في مكان إحصارهم أيسر لهم، وحملوا قوله- تعالى-: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ على أنه خطاب عام لجميع المكلفين لا فرق بين محصر وغير محصر، وأن المقصود من الجملة الكريمة هو البيان العام لمكان التحلل وزمانه، أما مكان الذبح عند الإحصار فقد بينه النبي صلّى الله عليه وسلّم بذبحه لهديه في الحديبية وهي ليست من الحرم عند المحققين.قال الإمام الرازي: ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقد قال الشافعى وغيره:المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل وقال أبو حنيفة: إنه اسم للمكان .وبعد أن بين- سبحانه- أن الحلق لا يجوز للمحرم ما دام مستمرا على إحرامه، أردف ذلك ببيان بعض الحالات التي يجوز فيها للمحرم أن يحلق رأسه مع استمراره على إحرامه فقال- تعالى-: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.أى: فمن كان منكم- أيها المحرمون- مريضا بمرض يضطر معه إلى الحلق، أو كان به أذى من رأسه كجراحة وحشرات مؤذية، فعليه إن حلق فدية من صيام أو صدقة أو نسك.وقوله: فَفِدْيَةٌ مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى: فعليه فدية، وأيضا ففيه إضمار آخر والتقدير: فحلق فعليه فدية.والفدية: هي العوض عن الشيء الجليل النفيس. ولا ريب أن محرمات الحج والعمرة أمور لها جلالها وعظمها.وعبر- سبحانه- هنا بالفدية دون الكفارة، لأن الذي به مرض أو أذى من رأسه لم يرتكب ذنبا أو إثما حتى يكفر عنه.قال القرطبي: والنسك: جمع نسيكه، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله- تعالى- وتكون من الإبل والبقر والغنم- ويجمع- أيضا- على نسائك. والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله- تعالى-: وَأَرِنا مَناسِكَنا أى: متعبداتنا. وقيل: أصل النسك في اللغة الغسل ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النسك سبائك الفضة التي خلصت من الخبث، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام» .وقوله- تعالى-: مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بيان لجنس الفدية.وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدار هذه الفدية، فقد روى الشيخان عن كعب بن عجرة الأنصارى قال: حملت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والقمل يتناثر على وجهى فقال: ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا ... أما تجد شاة؟ قلت: لا!! قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك. فنزلت فىّ خاصة وهي لكم عامة.فقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدار الفدية في هذا الحديث، وعامة العلماء يرون أن المحرم لعذر كهذا يخير في هذا المقام، إن شاء صام وإن شاء تصدق وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على المساكين.قال ابن كثير: ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل، ولما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم كعب بن عجرة بذلك أرشده أولا إلى الأفضل فقال: أما تجد شاه؟ فكل حسن في مقامه» .وبعد أن بين- سبحانه كيفية التحلل عند الإحصار، وكيفية التحلل الجزئى من بعض المحرمات عند المرض، عقب ذلك ببيان كيفية التحلل في حالة الأمن فقال: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ.وقوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ الأمن ضد الخوف. أى: فإذا زال خوفكم وثبت أمنكم والجملة معطوفة على قوله أُحْصِرْتُمْ وجيء بإذا لأن فعل الشرط وهو أَمِنْتُمْ مرغوب فيه.وقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ جواب إذا. والتمتع في اللغة- كما قال الإمام الرازي- التلذذ.يقال: تمتع بالشيء إذا تلذذ به. والمتاع كل شيء يتمتع به، وأصله من قولهم: حبل ماتع، أى: طويل. وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به .والمراد بالتمتع في الآية المعنى الشرعي بأن يجمع المسلم بين العمرة والحج في عام واحد في أشهر لحج، بأن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج.وسمى هذا النوع من الإحرام تمتعا، لأن المحرم به يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد.لأنه يحرم بالعمرة أولا ويقوم بمناسكها وتلك متعة روحية وبعد الانتهاء من أدائها يتحلل فيجوز له أن يقرب النساء ويمس الطيب حتى يحرم بالحج وتلك متعة بدنية.وهناك نوعان آخران من الإحرام.أحدهما: الإفراد ومعناه: أن يحرم بالحج فقط ولا يجمع معه العمرة، وإنما يأتى بها في وقت آخر.وثانيهما: القران ومعناه: أن يجمع بين العمرة والحج في إحرام واحد، بأن يبقى على إحرامه ويأتى بمناسك الحج والعمرة بالإحرام نفسه.والمعنى: فإذا ثبت أمنكم- أيها المسلمون- عند أدائكم للحج والعمرة، فمن تمتع منكم بالعمرة إلى الحج، بأن أحرم بها في أشهر الحج، ثم بعد الانتهاء من أعمالها تحلل بأن حلق رأسه، وباشر أهله إن كانوا معه، وانتظر متحللا وصار من حقه أن يفعل كل ما يفعله من ليس محرما إلى وقت الإحرام بالحج، فعليه في هذه الحالة أن يذبح ما تيسر له من الهدى من غنم أو بقر أو إبل ليكون هذا الذبح شكرا لله حيث وفقه- سبحانه- للجمع بين النسكين مع التمتع بينهما بأفعال المتحلل، فمن لم يجد ما يذبحه فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في وقت الحج وأن يصوم سبعة أيام بعد فراغه منه.وقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ... معطوف على فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ... لأن فَمَنْ تَمَتَّعَ مع جوابه وهو فَمَا اسْتَيْسَرَ ... مقدر فيه معنى فمن تمتع واجدا الهدى، فعطف عليه فمن لم يجد أى الهدى.وقد جعل- سبحانه- الصيام بدلا عن الهدى زيادة في الرخصة والرحمة وزيادة في الرفق والتيسير فقد جعله على مرحلتين:إحداهما: - وهي الأقل- تكون في وقت الحج، ويفضل كثير من الفقهاء أن يصوم سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه.وثانيتهما: - وهي الأكثر- تكون بعد الرجوع إلى أهله حيث يطمئن ويستقر وتذهب مشقة السفر فيصوم سبعة أيام.وبعض الفقهاء يرى جواز الصيام عند الأخذ في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج، ويرجح الوجه الأول ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر وفيه: «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» .والإشارة في قوله- تعالى-: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ إلى الثلاثة والسبعة. ومميز العدد محذوف أى: أيام. والجملة مؤكدة لما أفاده قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ وفائدة هذا التأكيد دفع توهم أن الواو بمعنى أو، أو أن السبعة كناية عن مطلق كثرة العدد، وبذلك يتقرر الحكم نصا، ويتبين أن الذي يحل محل النسك إنما هو العشرة الكاملة وليس بعضها.ووصف العشرة بأنها كاملة، للتنويه بأن هذا الصوم طريق الكمال لأعمال الحج، وأن الحاج إذا نسى بعضها لا يكون حجه تاما حتى يصوم ما أمره الله- تعالى- به.وقوله: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الإشارة فيه تعود إلى التمتع المفهوم من قوله- تعالى-: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ.. إلخ.أى: ذلك التمتع الذي يتمتع فيه المحرم بين النسكين، إنما هو للشخص الذي ليس أهله من المقيمين في مكة وما حولها، لأن المقيمين في مكة وما حولها يفردون ولا يجمعون، إذ العمرة في إمكانهم أن يؤدوها طول أيام السنة.وقد شرع- سبحانه- التمتع ليكون تيسيرا ورفقا للمقيمين بعيدا عن مكة هذا رأى الأحناف.ويرى الشافعية: أن أهل مكة وما حولها يقرنون ويتمتعون كغيرهم من أهل الآفاق، وأن اسم الإشارة في الجملة الكريمة يعود إلى النسك وما يقوم مقامه من الصوم لأنه أقرب مذكور.وعلى رأيهم يكون المعنى: ذلك الذبح لما تيسر من الهدى والصيام لمن لم يتيسر له الهدى إنما هو على سكان الآفاق، لا على سكان مكة وما حولها، لأن سكان مكة وما حولها قد أحرموا لتمتعهم من الميقات فلا يجب عليهم شيء.والمراد بحاضرى المسجد الحرام: أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل الميقات عند الحنفية. وقال المالكية: هم أهل مكة خاصة. وقال الشافعية: هم أهل مكة ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة. ولكل أدلته المفصلة في كتب الفقه.ثم ختم- سبحانه- الآية بالأمر بتقواه وبالتحذير من عقابه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.أى: واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن لم يخشه ولم يلتزم حدوده.وفي هذا الأمر بالتقوى في ختام هذه الآية التي تحدثت عن الحج إشعار بأن هذه الفريضة ليست العبرة فيها بما تعمله الجوارح وإنما العبرة بما تتركه في القلوب من توبة صادقة، وصيانة للنفس عن اقتراف المحارم.وفي قوله: وَاعْلَمُوا اهتمام بالخبر، وتحقيق لمضمونه، وترهيب من العقاب مع الترغيب بالثواب، فقد جرت عادة الناس أنهم يصلحون بالثواب والعقاب.هذا، وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على بعض الأحكام التي تتعلق بالحج والعمرة، والمتدبر في هذه الأحكام يراها قد امتازت بأحكم ضروب التوجيه، وأيسر أنواع التكليف.ثم بين- سبحانه- وقت الحج وما يجب على المسلّم عند أدائه لهذه الفريضة من آداب فقال- تعالى-:
2:197
اَلْحَجُّ اَشْهُرٌ مَّعْلُوْمٰتٌۚ-فَمَنْ فَرَضَ فِیْهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَ لَا فُسُوْقَۙ-وَ لَا جِدَالَ فِی الْحَجِّؕ-وَ مَا تَفْعَلُوْا مِنْ خَیْرٍ یَّعْلَمْهُ اللّٰهُ ﳳ-وَ تَزَوَّدُوْا فَاِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوٰى٘-وَ اتَّقُوْنِ یٰۤاُولِی الْاَلْبَابِ(۱۹۷)
حج کے کئی مہینہ ہیں جانے ہوئے (ف۳۷۳) تو جو ان میں حج کی نیت کرے (ف۳۷۴) تو نہ عورتوں کے سامنے صحبت کا تذکرہ ہو نہ کوئی گناہ، نہ کسی سے جھگڑا (ف۳۷۵) حج کے وقت تک اور تم جو بھلائی کرو اللہ اسے جانتا ہے (ف۳۷۶) اور توشہ ساتھ لو کہ سب سے بہتر توشہ پرہیزگاری ہے (ف۳۷۷) اور مجھ سے ڈرتے رہو اے عقل والو، ف۳۷۸)

وقوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ.أى: وقت الحج أشهر معلومات أو أشهر الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.وجعلت النسبة إلى الحج نفسه لا إلى وقته، للإشعار بأن هذه الأشهر لكونها تؤدى فيها هذه الفريضة قد اكتسبت تقديسا وبركة منها، حتى لكأن هذه الأشهر هي الفريضة نفسها.قال القرطبي ما ملخصه: وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة. وقيل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله وفائدة الفرق تعلق الدم فمن قال:إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم يوجب دما على من أخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة لأنه وقع في أشهر الحج، ومن قال بأن وقت الحج ينقضي بالعشرة الأولى من ذي الحجة يوجب الدم عليه لتأخيره عن وقته. ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث، لأن بعض الشهر ينزل منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا ولعله إنما رآه في ساعة منها» .وعبر- سبحانه- عن هذه الأشهر بأنها معلومات، لأن العرب كانوا يعرفون أشهر الحج من كل عام منذ عهد إبراهيم- عليه السلام- وقد جاء الإسلام مقررا لما عرفوه. أو المراد بكونها معلومات أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها عنها، وهو يتضمن بطلان النسيء الذي كان يفعله الجاهليون تبعا لأهوائهم.وقوله: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ بيان لما يحب أن يتحلى به المسلّم من فضائل عند أدائه لهذه الفريضة.قال الإمام الرازي: ومعنى فَرَضَ في اللغة ألزم وأوجب. يقال: فرضت عليك كذا، أى أوجبته. وأصل معنى الفرض في اللغة الحز الذي يقع فيه الوتر، ومنه فرض الصلاة وغيرها لأنها لازمة للعبد كلزوم الحز للقدح ففرض هنا بمعنى أوجب وألزم ... » .والرفث في الأصل: الفحش من القول. والمراد به هنا الجماع. أو الكلام المتضمن لما يستقبح ذكره من الجماع ودواعيه.قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج وعليه حج قابل والهدى.والفسوق: الخروج عن طاعة الله بارتكاب المعاصي، ومن ذلك السباب وفعل محظورات الإحرام، وغير ذلك مما نهى الله عنه، والجدال على وزن فعال من المجادلة وهي مشتقة من الجدل وهو الفتل ومنه: زمام مجدول.وقيل: هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض. فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب به الجدالة.والمراد النهى عن المماراة والمنازعة التي تؤدى إلى البغضاء وتغير القلوب.والمعنى: أوقات الحج أشهر معلومات فمن نوى وأوجب على نفسه فيهن الحج وأحرم به فعليه أن يجتنب الجماع للنساء ودواعيه وأن يبتعد عن كل قول أو فعل يكون خارجا عن آداب الإسلام، ومؤديا إلى التنازع بين الرفقاء والإخوان، فإن الجميع قد اجتمعوا على مائدة الرحمن، فعليهم أن يجتمعوا على طاعته، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.روى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» .قال الآلوسى: وقال- سبحانه- فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ بالإظهار ولم يقل فيه مع أن المقام يقتضى الإضمار، لإظهار كمال الاعتناء بشأنه، وللإشعار بعلة الحكم، فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها إلى الله- تعالى- من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك. وإيثار النفي للمبالغة في النهى، والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه منهيا عنه مطلقا فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح » .والضمير في قوله: فِيهِنَّ للأشهر، لأنه جمع لغير العاقل فيجري على التأنيث.وجملة فَلا رَفَثَ.. إلخ في محل جزم جواب من الشرطية والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى فَلا رَفَثَ من ضمير يعود على «من» ، لأن التقدير فلا يرفث.ويجوز أن تكون جملة فَلا رَفَثَ.. وما عطف عليها في محل رفع خبر لمن على أنها موصولة.وقد أخذ الشافعية من هذه الآية أنه لا يجوز الإحرام بالحج في غير أشهر الحج لأن الإحرام به في غير أشهره يكون شروعا في العبادة في غير وقتها فلا تصح ويرى الأحناف والحنابلة، أنه يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره ولكنه مع الكراهة: والإمام مالك لا يرى كراهة في ذلك.ويبدو أن رأى الشافعية هنا أرجح، لأن قوله- تعالى-: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ..يشهد لهم، فقد جعل- سبحانه- هذه الأشهر وعاء لهذه الفريضة وظرفا لها.وقوله: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ حض على فعل الخير عقيب النهى عن فعل الشر.أى: اتركوا الأقوال والأفعال القبيحة، وسارعوا إلى الأعمال الصالحة خصوصا في تلك الأزمنة والأمكنة المفضلة، والله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهو- سبحانه- سيجازيكم على فعل الخير بما تستحقون من جزاء.ثم قال- تعالى-: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.قال الإمام الرازي: في هذه الجملة الكريمة قولان:أحدهما: أن المراد وتزودوا من التقوى- أى الأعمال الصالحة- والدليل عليه قوله بعد ذلك فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران: سفر في الدنيا وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد وهو الطعام والشراب والمال.. إلخ. والسفر من الدنيا لا بد له أيضا من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لأن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم.. قال الأعشى مقررا هذا المعنى:إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزوداندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد بما كان أرصداوالقول الثاني: أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون إنا متوكلون، ثم كانوا يسألون الناس، وربما ظلموا الناس وغصبوهم فأمرهم الله- تعالى- أن يتزودوا بالمال والطعام الذي يغنيهم عن سؤال الناس .والذي نراه أن الجملة الكريمة تسع القولين. فهي تدعو الناس إلى أن يتزودوا بالزاد المعنوي النفسي الذي يسعدهم ألا وهو تقوى الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والإكثار من العمل الصالح وفي الوقت نفسه هي تأمرهم- أيضا- بأن يتزودوا بالزاد المادي الحقيقي الذي يغنيهم عن سؤال الناس، ويصون لهم ماء وجوههم.وبذلك نكون قد استعملنا اللفظ في حقيقته ومجازه، وهو استعمال شائع مستساغ عند كثير من العلماء.ثم ختم- سبحانه- الآية بتأكيد أمر التقوى ووجوب الإخلاص فقال: وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ والألباب: جمع لب وهو العقل واللب من كل شيء: هو الخالص منه. وسمى به العقل، لأنه أشرف ما في الإنسان.أى: أخلصوا لي يا أصحاب العقول السليمة، والمدارك الواعية، لأنكم لما كنتم كذلك كان وجوبها عليكم أثبت، وإعراضكم عنها أقبح. ورحم الله القائل:ولم أر في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التماموالجملة الكريمة ليست تكرارا لسابقتها، لأن الأولى حث على التقوى وهذه حث على الإخلاص فيها.
2:198
لَیْسَ عَلَیْكُمْ جُنَاحٌ اَنْ تَبْتَغُوْا فَضْلًا مِّنْ رَّبِّكُمْؕ-فَاِذَاۤ اَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفٰتٍ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ۪-وَ اذْكُرُوْهُ كَمَا هَدٰىكُمْۚ-وَ اِنْ كُنْتُمْ مِّنْ قَبْلِهٖ لَمِنَ الضَّآلِّیْنَ(۱۹۸)
تم پر کچھ گناہ نہیں (ف۳۷۹) کہ اپنے رب کا فضل تلاش کرو، تو جب عرفات سے پلٹو (ف۳۸۰) تو اللہ کی یاد کرو (ف۳۸۱) مشعر حرام کے پاس (ف۳۸۲) اور اس کا ذکر کرو جیسے اس نے تمہیں ہدایت فرمائی اور بیشک اس سے پہلے تم بہکے ہوئے تھے، ف۳۸۳)

ثم بين- سبحانه- أن التزود بالزاد الروحي لا يتنافى مع التزود يا لزاد المادي متى توافرت التقوى، فقال- تعالى-: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.الجناح: أصله من جنح الشيء إذا مال: يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها.والمراد بالجناح هنا الإثم والذنب، لأنه لما كان الإثم يميل بالإنسان عن الحق إلى الباطل سمى جناحا.والابتغاء: الطلب بشدة، وجملة أَنْ تَبْتَغُوا في موضع جر بتقدير في.والفضل: الزيادة وتكون في الخير والشر إلا أنه جرى العرف أن يعبر عن الزيادة الحسنة بالفضل وعن الزيادة القبيحة بالفضول.والمراد به هنا: المال الحلال المكتسب عن طريق التجارة المشروعة أو غيرها من وجوه الرزق الحلال.أى: لا إثم ولا حرج عليكم في أن تطلبوا رزقا حلالا ومالا طيبا عن طريق التجارة أو غيرها من وسائل الكسب المشروعة في موسم الحج.وقد ذكر المفسرون أن الناس كانوا يتحاشون من التجارة في الحج، حتى إنهم كانوا يتجنبون البيع والشراء في العشر الأوائل من ذي الحجة، فنزلت هذه الآية لتخبرهم أنه لا حرج عليهم في ذلك.روى البخاري عن ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.وقال ابن كثير: وروى الإمام أحمد عن أبى أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم وتقضون المناسك قال: قلت بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الذي سألتنى فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له «أنتم حجاج» .فالآية الكريمة صريحة في إباحة طلب الرزق لمن هو في حاجة إلى ذلك في موسم الحج، بشرط ألا يشغله عن أداء فرائض الله.ثم قال- تعالى-: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ.الفاء في قوله: فإذا لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ..وأفضتم. اندفعتم بكثرة متزاحمين. وذلك تشبيه لهم بالماء إذا كثر ودفع بعضه بعضا فانتشر وسال من حافتي الوادي والإناء والإفاضة في الحديث الاندفاع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه ومنه قوله- تعالى- إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ. فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء بكثرة حتى يتفرق.والتقدير: أفضتم أنفسكم فحذف المفعول للعلم به.والمراد: خروجهم من عرفات بشيء من السرعة في تكاثر وازدحام متجهين إلى المزدلفة.وعرفات: اسم للجبل المعروف، قيل سمى بذلك لأن الناس يتعارفون به فهم يجتمعون عليه في وقت واحد فيجري التعارف بينهم.وقد اتفق العلماء على أن الوقوف بعرفات هو ركن الحج الأكبر ففي الحديث الشريف «الحج عرفة» ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة.قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال. وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل إلا مالك بن أنس فإنه قال: لا بد أن يأخذ من الليل شيئا، وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه. والحجة للجمهور مطلق قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ: فإنه لم يختص ليلا من نهار. وحديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الموقف من جمع- أى من المزدلفة- فقلت: يا رسول الله، جئتك من جبل طيئ أكللت مطيتي وأتعبت نفسي.. فهل لي من حج يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من صلّى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه » .ومن في قوله: مِنْ عَرَفاتٍ ابتدائية. أى، فإذا أفضتم خارجين من عرفات إلى المشعر الحرام.والمشعر الحرام: هو المزدلفة وقيل هو موضع بها. والمشعر: اسم مشتق من الشعور أى:العلم، أو من الشعار أى: العلامة.ووصف المشعر بوصف الحرام لأنه من أرض الحرم، وهو منسك له حرمة وتقديس.والمزدلفة من الازدلاف وهو القرب وسميت بذلك لأن الحجاج يزدلفون إليها من عرفات ليبيتوا بها قاصدين الاقتراب من منى.وتسمى المزدلفة- أيضا- «جمع» لاجتماع الناس في هذا المكان أو جمعهم فيه بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير. وتسمى كذلك «قزح» .ويرى الحنفية والشافعية أن الوقوف بالمزدلفة واجب وليس بركن، ومن فاته لا يبطل حجه ويجب عليه دم.ويرى أكثر المالكية أن الوقوف بها سنة مؤكدة.ويرى بعض التابعين وبعض الشافعية أن الوقوف بها ركن كالوقوف بعرفات والمعنى: فإذا سرتم- يا معشر الحجاج- من عرفات متدافعين متزاحمين متجهين إلى المزدلفة فأكثروا من ذكر الله- تعالى- بالتلبية والتهليل والدعاء بقلوب مخبتة، ونفوس صافية، لأن ذكر الله- تعالى- في تلك المواطن المقدسة والأوقات الفاضلة من شأنه أن يرفع الدرجات، ويوصل إلى أعلا المقامات.ثم قال- تعالى-: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ الكاف للتشبيه. ومعنى التشبيه في مثل هذا التركيب المشابهة في التساوي في الحسن والكمال. كما تقول: اخدمه كما أكرمك تعنى:لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه.والمعنى: اذكروا الله- تعالى- ذكرا حسنا مماثلا لهدايته لكم، وأنتم تعلمون أن هذه الهداية شأنها عظيم فبسببها خرجتم من الظلمات إلى النور، فيجب عليكم أن تكثروا من ذكر الله ومن الثناء عليه.قال الآلوسى: و «ما» تحتمل أن تكون مصدرية فمحل كَما هَداكُمْ النصب على المصدرية، بحذف الموصوف. أى: ذكرا مماثلا لهداكم.. وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب. والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، لذا لا تطلب عاملا تفضى بمعناه إلى مدخولها. وقيل: إن الكاف للتعليل، وما مصدرية. أى، اذكروه وعظموه لأجل هدايته السابقة منه- تعالى- لكم.وأَنْ في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ هي المخففة من الثقيلة والضمير في مِنْ قَبْلِهِ يعود إلى الهدى المأخوذ من ما المصدرية وما دخلت عليه والمراد بالضلال هنا: الجهل بالإيمان وبالتكاليف التي كلف الله بها عباده.أى: اذكروا الله- تعالى- ذكرا مشابها لهدايته لكم، وإنكم لولا هذه الهداية لبقيتم على ضلالكم وجهلكم بالدين الحق، ولكن الله- تعالى- من عليكم بهذه الهداية فأكثروا من ذكره وشكره عليها.
2:199
ثُمَّ اَفِیْضُوْا مِنْ حَیْثُ اَفَاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللّٰهَؕ-اِنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ(۱۹۹)
پھر بات یہ ہے کہ اے قریشیو! تم بھی وہیں سے پلٹو جہاں سے لوگ پلٹتے ہیں (ف۳۸۴) اور اللہ سے معافی مانگو، بیشک اللہ بخشنے والا مہربان ہے،

وبعد أن تحدث- سبحانه- عن الإفاضة من عرفة إلى المزدلفة وأمر بالإكثار من ذكره، عقب ذلك ببيان الطريقة المثلى للإفاضة فقال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ:أى: أفيضوا من عرفة لا من المزدلفة. وهناك قولان في المخاطب بهذه الآية.أحدهما: أن الخطاب فيها لقريش وحلفائها، وذلك لأنهم كانوا يترفعون على الناس، فلا يقفون معهم على عرفات، وإنما يقفون وحدهم بالمزدلفة، وكانوا يقولون: نحن قطين الله- أى سكان حرمه فينبغي لنا أن نعظم الحرم- وهو المزدلفة- ولا نعظم شيئا من الحل- وهو عرفات-.روى البخاري عن عائشة- رضي الله عنها- قالت، كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يأتى عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ.والمعنى: أفيضوا يا معشر قريش من المكان الذي يفيض منه الناس وهو عرفة، واتركوا ما تفعلونه من الإفاضة من المزدلفة، فالمقصود إبطال ما كانت تفعله قريش.والثاني: أن الخطاب في الآية لجميع الناس، أمرهم الله- تعالى- فيه أن يفيضوا من حيث أفاض الناس.والمراد بالناس في الآية إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفة لا من المزدلفة.قال بعضهم: وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيسا يقتدى به كما في قوله- تعالى-: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعنى «نعيم بن مسعود» .والذي نراه أن القول الثاني أولى بالقبول، لأن المغزى الذي تهدف إليه الآية في معناها الخاص والعام هو دعوة الناس جميعا إلى التجمع في مكان واحد ليشعروا بالإخاء والمساواة عند أدائهم لفريضة الحج بدون تفرقة بين كبير وصغير، وغنى وفقير، وقرشي وغير قرشي، ويدخل في النهى دخولا أوليا تلك الحالة التي كانت عليها قريش. وقد قال العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.و «ثم» للتفاوت المعنوي بين الإفاضتين- أى الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة- لبيان البعد بينهما، إذ أن إحداهما صواب والأخرى خطأ.أى: لا تفيضوا من المزدلفة لأنه خطأ جسيم، واجعلوا إفاضتكم من عرفات لأن هذا العمل هو الصواب الذي يحبه الله ويرضاه.وقوله: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ معطوف على أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أى: استغفروا الله من ذنوبكم ومما سلف منكم من أخطاء فإن المؤمن كلما قويت روحه، وصفت نفسه أحس بأنه مقصر أمام نعم خالقه التي لا تحصى. ومن أكثر من التوبة والاستغفار غفر الله له ما فرط منه، لأنه- سبحانه- كثير الغفران، واسع الرحمة.
2:200
فَاِذَا قَضَیْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ كَذِكْرِكُمْ اٰبَآءَكُمْ اَوْ اَشَدَّ ذِكْرًاؕ-فَمِنَ النَّاسِ مَنْ یَّقُوْلُ رَبَّنَاۤ اٰتِنَا فِی الدُّنْیَا وَ مَا لَهٗ فِی الْاٰخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ(۲۰۰)
پھر جب اپنے حج کے کام پورے کرچکو (ف۳۸۵) تو اللہ کا ذکر کرو جیسے اپنے باپ دادا کا ذکر کرتے تھے (ف۳۸۶) بلکہ اس سے زیادہ اور کوئی آدمی یوں کہتا ہے کہ اے رب ہمارے ہمیں دنیا میں دے اور آخرت میں اس کا کچھ حصہ نہیں،

ثم بين- سبحانه- ما يجب عليهم عمله بعد فراغهم من أعمال الحج فقال- تعالى-:فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً.المناسك: جمع منسك مشتق من نسك نسكا من باب نصر إذا تعبد. والمراد هنا العبادات التي تتعلق بالحج.قال ابن كثير: عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم- بين مسجد منى وبين الجبل بعد فراغهم من الحج يذكرون فضائل آبائهم- فيقول الرجل منهم. كان أبى يطعم الطعام ويحمل الديات ... ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله- تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية» .والمعنى: فإذا فرغتم من عباداتكم، وأديتم أعمال حجكم، فتوفروا على ذكر الله وطاعته كما كنتم تتوفرون على ذكر مفاخر آبائكم، بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله- تعالى- أشد وأكثر من ذكركم لمآثر آبائكم، لأن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبا أدى إلى الخزي في الدنيا والعقوبةفي الآخرة. وإن كان صدقا فإنه في الغالب يؤدى إلى العجب وكثرة الغرور، أما ذكر الله بإخلاص وخشوع فثوابه عظيم، وأجره كبير. وفضلا عن ذلك فإن المرء إذا كان لا ينسى أباه لأنه سبب وجوده فأولى به ثم أولى ألا ينسى الذي خلق أباه وهو الله رب العالمين.فالمقصود من الآية الكريمة الحث على ذكر الله- تعالى- والنهى عن التفاخر بالأحساب والأنساب.و «أو» هنا في معنى الإضراب والترقي إلى أعلى، لأنه.. سبحانه أمرهم أولا بأن يذكروه ذكرا يماثل ذكرهم لآبائهم ثم ترقى بهم إلى ما هو أعلى من ذلك وأسمى فطالبهم بأن يكون ذكرهم له- سبحانه- أكثر وأعظم من ذكرهم لآبائهم.قال صاحب الكشاف: وقوله: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: «كذكركم» كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا. أو في موضع نصب عطف على آباءَكُمْ بمعنى، أو أشد ذكرا من آبائكم.وبعد أن أمر- سبحانه- الناس بذكره، بين أنهم بالنسبة لدعائه وسؤاله فريقان، أما الفريق الأول فقد عبر عنه بقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.أى: من الناس نوع يقول في دعائه يا ربنا آتنا ما نرغبه في الدنيا فنحن لا نطلب غيرها، وهذا النوع ليس له في الآخرة من خَلاقٍ أى: نصيب وحظ من الخير.وهذا النوع من الناس هو الذي استولى عليه حب الدنيا وشهواتها ومتعها فأصبح لا يفكر إلا فيها، ولا يهتم إلا بها، صارفا نظره عن الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب.والفاء في قوله: فَمِنَ النَّاسِ للتفصيل، لأن ما بعدها تقسيم للناس إلى فريقين.وحذف مفعول آتِنا للدلالة على تعميم المطلوب فهم يطلبون كل ما يمكن أن تصل إليه أيديهم من متاع الدنيا بدون تمييز بين حلال أو حرام.
  FONT
  THEME
  TRANSLATION
  • English | Ahmed Ali
  • Urdu | Ahmed Raza Khan
  • Turkish | Ali-Bulaç
  • German | Bubenheim Elyas
  • Chinese | Chineese
  • Spanish | Cortes
  • Dutch | Dutch
  • Portuguese | El-Hayek
  • English | English
  • Urdu | Fateh Muhammad Jalandhry
  • French | French
  • Hausa | Hausa
  • Indonesian | Indonesian-Bahasa
  • Italian | Italian
  • Korean | Korean
  • Malay | Malay
  • Russian | Russian
  • Tamil | Tamil
  • Thai | Thai
  • Farsi | مکارم شیرازی
  TAFSEER
  • العربية | التفسير الميسر
  • العربية | تفسير الجلالين
  • العربية | تفسير السعدي
  • العربية | تفسير ابن كثير
  • العربية | تفسير الوسيط لطنطاوي
  • العربية | تفسير البغوي
  • العربية | تفسير القرطبي
  • العربية | تفسير الطبري
  • English | Arberry
  • English | Yusuf Ali
  • Dutch | Keyzer
  • Dutch | Leemhuis
  • Dutch | Siregar
  • Urdu | Sirat ul Jinan
  HELP

اَلْبَقَرَة
اَلْبَقَرَة
  00:00



Download

اَلْبَقَرَة
اَلْبَقَرَة
  00:00



Download