READ
Surah al-Baqarah
اَلْبَقَرَة
286 Ayaat مدنیۃ
بَلٰى مَنْ كَسَبَ سَیِّئَةً وَّ اَحَاطَتْ بِهٖ خَطِیْٓــٴَـتُهٗ فَاُولٰٓىٕكَ اَصْحٰبُ النَّارِۚ-هُمْ فِیْهَا خٰلِدُوْنَ(۸۱)
ہاں کیوں نہیں جو گناہ کمائے اور اس کی خطا اسے گھیر لے (ف۱۳۳) وہ دوزخ والوں میں ہے انہیں ہمیشہ اس میں رہنا -
ثم ساق- سبحانه- آية أبطلت مدعاهم عن طريق إثبات ما نفوه فقال تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.بلى حرف جواب يجيء لإثبات فعل ورد قبلها منفيا، والفعل المنفي هنا هو قول اليهود «لن تمسنا النار إلا أياما معدودة» فجاءت «بلى» لإثبات أن النار تمسهم أكثر مما زعموا فهم فيها خالدون جزاء كفرهم وكذبهم.ومعنى الآية الكريمة: ليس الأمر كما تدعون أيها اليهود، من أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، بل الحق أنكم ستخلدون فيها. فكل من كسب شركا مثلكم، واستولت عليه خطاياه، وأحاطت به كما يحيط السرادق بمن في داخله، ومات على ذلك دون أن يدخل الإيمان قلبه ويتوب إلى ربه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.فالآية الكريمة فيها إبطال لمدعاهم، وإثبات لما نفوه، على وجه يشملهم ويشمل جميع من يقول قولهم، ويكفر كفرهم.هذا والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله كما قال جمهور المفسرين لورود الآثار عن السلف بذلك، وفائدة الإتيان بقوله تعالى وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ بعد ذلك، الإشعار بأن الخطيئة إذا أحاطت بصاحبها أخذت بمجامع قلبه فحرمته الإيمان، وأخذت بلسانه فمنعته عن أن ينطق به.وقوله تعالى فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ بيان لما أعد لهم من عقوبات جزاء كفرهم وكذبهم على الله، فهم يوم القيامة سيكونون أصحابا للنار ملازمين لها على التأييد لإيثارهم في الحياة الدنيا ما يوردهم سعيرها، وهو الكفر وسوء الأفعال على ما يدخلهم الجنة وهو الإيمان وصالح الأعمال.
وَ الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا وَ عَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ اُولٰٓىٕكَ اَصْحٰبُ الْجَنَّةِۚ-هُمْ فِیْهَا خٰلِدُوْنَ۠(۸۲)
اور جو ایمان لائے اور اچھے کام کیے وہ جنت والے ہیں انہیں ہمیشہ اس میں رہنا -
وبعد أن ذكر- سبحانه- ما أعد لهؤلاء اليهود وأمثالهم من الكافرين الذين يفترون على الله الكذب، عقب ذلك ببيان ما أعده- سبحانه- لأهل الإيمان والتقوى فقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أى: والذين آمنوا بالله ورسوله، وأطاعوا الله فأقاموا حدوده، وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه، فأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون خلودا أبديا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ردت على اليهود أبلغ رد. حيث كذبتهم في دعواهم أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة، وأخبرتهم بخلودهم وخلود كل كافر في النار، وأما الجنة فهي لمن آمن وعمل صالحا واتبع سبيل المرسلين فهؤلاء أصحابها وهم فيها خالدون.
وَ اِذْ اَخَذْنَا مِیْثَاقَ بَنِیْۤ اِسْرَآءِیْلَ لَا تَعْبُدُوْنَ اِلَّا اللّٰهَ- وَ بِالْوَالِدَیْنِ اِحْسَانًا وَّ ذِی الْقُرْبٰى وَ الْیَتٰمٰى وَ الْمَسٰكِیْنِ وَ قُوْلُوْا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَّ اَقِیْمُوا الصَّلٰوةَ وَ اٰتُوا الزَّكٰوةَؕ-ثُمَّ تَوَلَّیْتُمْ اِلَّا قَلِیْلًا مِّنْكُمْ وَ اَنْتُمْ مُّعْرِضُوْنَ(۸۳)
اور جب ہم نے بنی اسرائیل سے عہد لیا کہ اللہ کے سوا کسی کو نہ پوجو اور ماں باپ کے ساتھ بھلائی کرو، (ف۱۳۴) اور رشتہ داروں اور یتیموں اور مسکینوں سے اور لوگوں سے اچھی بات کہو (ف۱۳۵) اور نماز قائم رکھو اور زکوٰة دو پھر تم پھِر گئے (ف۱۳۶) مگر تم میں کے تھوڑے (ف۱۳۷) اور تم رد گردان ہو-(ف۱۳۸)
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن رذيلة من أبرز الرذائل التي طبع عليها بنو إسرائيل ، وهي رذيلة نقضهم للعهود والمواثيق فقال تعالى :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين . . . )ومعنى الآية إجمالا: واذكروا يا بنى إسرائيل لتعتبروا وتستجيبوا للحق- وليذكر معكم كل من ينتفع بالذكرى- وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأمرناكم بالعمل به على لسان رسلنا- عليهم السلام- وأمرناكم فيه بألا تعبدوا سوى الله، وأمرناكم فيه كذلك، بأن تحسنوا إلى آبائكم وتقوموا بأداء ما أوجبه الله لهما من حقوق، وأن تصلوا أقرباءكم وتعطفوا على اليتامى الذين فقدوا آباءهم، وعلى المساكين الذين لا يملكون ما يكفيهم في حياتهم، وأمرناكم فيه- أيضا- بأن تقولوا للناس قولا حسنا فيه صلاحهم ونفعهم، وأن تحافظوا على فريضة الصلاة، وتؤدوا بإخلاص ما أوجبه الله عليكم من زكاة، ولكنكم نقضتم أنتم وأسلافكم الميثاق، وأعرضتم عنه، إلا قليلا منكم استمروا على رعايته والعمل بموجبه.والمراد ببني إسرائيل في الآية الكريمة، سلفهم وخلفهم، لأن هذه الأوامر والنواهي التي تناولتها الآية الكريمة، والتي هي مضمون العهد المأخوذ عليهم، قد أخذت عليهم جميعا على لسان أنبيائهم ورسلهم.والدليل على أن المقصود ببني إسرائيل ما يتناول الخلف المعاصرين منهم للعهد النبوي، قوله تعالى في ختام هذه الآية ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ فإنه قد أسند إليهم فيه أنهم تولوا عن الميثاق معرضين، والاعراض عنه لا يكون إلا بعد أخذه عليهم كما سيأتى.وقوله تعالى لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ... إلى قوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ...بيان للميثاق وتفصيل له. وجاء التعبير بقوله تعالى لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ في صورة الخبر المنفي والمراد منه النهى عن عبادة غير الله، لإفادة المبالغة والتأكيد، فكأن الأمر والنهى قد امتثلا فيخبر بوقوعها، أو أنهما لأهمّيّتهما يخبر عنهما بأنهما سيتلقيان بحسن الطاعة حتما، فينزل ما يجب وقوعه منزلة الواقع، ويخبر عن المأمور بأنه فاعل لما أمر به ومجتنب لما نهى عنه في الحال، وفي ذلك ما فيه من إفادة المبالغة في وجوب امتثال الأمر والنهى.وقد تضمنت الآية الكريمة لونا فريدا من التوجيه المحكم الذي لو اتبعوه لحسنت صلتهم مع الخالق والمخلوق، لأنها ابتدأت بأمرهم بأعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله- تعالى- عليهم، بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم ثنت ببيان حقوق الناس فبدأت بأحقهم بالإحسان وهما الوالدان لما لهما من فضل الولادة والعطف والتربية، ثم الأقارب الذين تجمع الناس بهم صلة قرابة من جهة الأب والأم، ورعايتهم تكون بالقيام بما يحتاجون إليه على قدر الاستطاعة، ثم باليتامى لأنهم في حاجة إلى العون بعد أن فقدوا الأب الحانى، ثم بالمساكين لعجزهم عن كسب ما يكفيهم، ثم بالإحسان إلى سائر الناس عن طريق الكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة، لأن الناس إن لم يكونوا في حاجة إلى المال، فهم في حاجة إلى حسن المقال، ثم أرشدتهم إلى العبادات التي تعينهم على إحسان صلتهم بالخالق والمخلوق فأمرتهم بالمداومة على الصلاة بخشوع وإخلاص، وبالمحافظة على أداء الزكاة بسخاء وطيب خاطر، ولعظم شأن هاتين العبادتين البدنية والمالية ذكرتا على وجه خاص بعد الأمر بعبادة الله، تفخيما لشأنهما وتوكيدا لأمرهما، وكان من الواجب على بنى إسرائيل أن ينتفعوا بهذه الأوامر الحكيمة، لكنهم عموا وصموا عنها فوبخهم القرآن الكريم بقوله: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.أى: ثم توليتم- أيها اليهود- عن جميع ما أخذ عليكم من مواثيق فأشركتم بالله وعققتم الوالدين، وأسأتم إلى الأقارب واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش الأقوال، وتركتم الصلاة، ومنعتم الزكاة، وقطعتم ما أمر الله به أن يوصل.وقوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ إنصاف لمن حافظ على العهد منهم، حيث إنه لا تخلو أمة من المخلصين الذين يرعون العهود، ويتبعون الحق، وإرشاد للناس إلى أن وجود عدد قليل من المخلصين في الأمة، لا يمنع نزول العقاب بها متى فشا المنكر في الأكثرين منها.وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ جملة حالية تفيد أن الأعراض عن الطاعة، وعدم التقيد بالمواثيق التي أقروا بها، عادة متأصلة فيهم ووصف ثابت لهم، وسجية معروفة منهم.قال صاحب المنار: «قد يتولى الإنسان منصرفا عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويوفيه حقه، فليس كل متول عن شيء معرضا عنه ومهملا له على طول الدوام، لذلك كان ذكر هذا القيد «وأنتم معرضون لازما لا بد منه، وليس تكرارا كما يتوهم، ثم قال: وقد كان سبب ذلك التولي مع الإعراض أن الله أمرهم ألا يأخذوا الدين إلا من كتابه فاتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله، يحلون برأيهم ويحرمون، ويبيحون باجتهادهم ويحظرون ويزيدون في الشرائع والأحكام ويضعون ما شاءوا من الشعائر فصدق عليهم أنهم اتخذوا من دونه شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فإن الله هو الذي يضع الدين وحده وإنما العلماء أدلاء يستعان بهم على فهم كتابه، وما شرع على ألسنة رسله ... »وخلاصة الفرق بين التفسير الذي بدأنا به وبين تفسير صاحب المنار، لقوله تعالى: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أن هذه الجملة على التفسير الأول تبين عادة في القوم تأصلت فيهم حتى كأنها سجية، والمعنى: «ثم توليتم، أى أعرضتم وأنتم قوم عادتكم الإعراض. وعلى تفسير صاحب المنار تكون هذه الجملة مبينة. لنوع التولي ومتممة لمعناه: والتفسير الأول- الذي سقناه- أدخل في باب الذم، وأوفى ببيان ما عليه حال اليهود.
وَ اِذْ اَخَذْنَا مِیْثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُوْنَ دِمَآءَكُمْ وَ لَا تُخْرِجُوْنَ اَنْفُسَكُمْ مِّنْ دِیَارِكُمْ ثُمَّ اَقْرَرْتُمْ وَ اَنْتُمْ تَشْهَدُوْنَ(۸۴)
اور جب ہم نے تم سے عہد لیا کہ اپنوں کا خون نہ کرنا اور اپنوں کو اپنی بستیوں سے نہ نکالنا پھر تم نے اس کا اقرار کیا اور تم گواہ ہو-
بعد أن بين- سبحانه- في الآية السابقة أن الله- تعالى- قد أخذ على بنى إسرائيل عهدا بأن يعبدوه ويؤدوا فرائض الله، إلا أنهم نقضوا هذا العهد وتولوا عنه سوى قليل منهم بعد ذلك بين في هذه الآيات الكريمة أنه- سبحانه- أخذ عليهم عهدا آخر ولكنهم نقضوه كما هو دأبهم.وملخص هذا العهد الذي ذكرته الآيات الكريمة، أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق ألا يقتل بعضهم بعضا، وألا يخرج بعضهم بعضا من داره، وأنهم إذا وجدوا أسيرا منهم في يد غيرهم فإن عليهم أن يبذلوا أموالهم لفدائه من الأسر، وتخليصه من أيدى أعدائهم، ثم لما نشبت الحرب بين قبيلتي الأوس والخزرج، انضمت قبيلة بنى قريظة إلى الأوس، وانضمت قبيلة بنى قينقاع وبنى النضير إلى الخزرج، وصارت كل طائفة من طوائف اليهود تقاتل بجانب أبناء ملتهم المنضمين إلى حلفائهم الآخرين فإذا وضعت الحرب أوزارها، بذل جميع اليهود أموالهم لتخليص الأسرى من أعدائهم كما أمرهم- تعالى- وبهذا يكونون قد آمنوا ببعض الكتاب وهو بذل الفداء لتخليص الأسرى، وكفروا ببعضه وهو تحريم سفك دماء إخوانهم وإخراجهم من ديارهم، ويحكى التاريخ أن العرب كانوا يعيرونهم فيقولون لهم: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم؟ فكان اليهود يقولون: قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفتدى أسرانا.وقد توعدهم- سبحانه- بالخزي في الدنيا والآخرة، جزاء نقضهم لعهوده، وتفريقهم بين أحكامه.والمعنى الإجمالى للآيات الكريمة: واذكروا- أيضا- يا بنى إسرائيل وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأوصيناكم فيه بألا يتعرض بعضكم لبعض بالقتل، وبألا يخرج بعضكم بعضا من مساكنهم، ثم أقررتم وأنتم تشهدون على الوفاء بهذا العهد، والالتزام بما جاء فيه، ثم أنتم هؤلاء- يا معشر اليهود- بعد إقراركم بالميثاق، وبعد شهادتكم المؤكدة على أنفسكم بأنكم قد قبلتموه، خرجتم على تعاليم التوراة، فنقضتم عهودكم، وأراق بعضكم دماء بعض، وأخرجتم إخوانكم في الملة والدم من ديارهم ظلما وعدوانا، وتعاونتم على قتلهم وإخراجهم مع من ليسوا من ملتكم أو قرابتكم، ومع ذلك فإذا وقع إخوانكم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم في الأسر فاديتموهم، فلم لم تتبعوا حكم التوراة في النهى عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم؟ وكيف تستبيحون القتل والإخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدى عدوهم؟ إن هذا التفريق بين أحكام الله جزاء فاعله الهوان في الدنيا.والعذاب الدائم في الأخرى، وما الله بغافل عما تعملون. ولا شك أن أولئك اليهود الذين نقضوا عهودهم، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، قد باعوا دينهم بدنياهم، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ معناه: اذكروا حين أخذنا العهد عليكم يا بنى إسرائيل ألا يسفك أحد منكم دم غيره، وألا يخرجه من دياره. على حد قوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أى فليسلّم بعضكم على بعض.وفائدة هذا التعبير، التنبيه إلى أن الأمة المتواصلة بالدين، يجب أن يكون شعورها بالوحدة قويا وعميقا، بحيث يكون قتل الرجل لغيره قتلا لنفسه، وإخراجه له من داره إخراجا لها.قال صاحب المنار: (وقد أورد- سبحانه- النهى عن سفك بعضهم دم بعض، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم، بعبارة تؤكد وحدة الأمة، وتحدث في النفس أثرا شريفا، يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر، ووجدان يتأثر فقال تعالى:لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده، وقال تعالى: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على هذا النسق، وهذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن الكريم».وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ تسجيل عليهم بأنهم قد قبلوا العمل بالميثاق والتزموا به، إذ المعنى: ثم اعترفتم بهذا الميثاق- أيها اليهود- ولم تنكروه، فكان من الواجب عليكم أن تفوا به، فماذا كان موقفهم بعد هذا الإقرار والإشهاد؟.
ثُمَّ اَنْتُمْ هٰۤؤُلَآءِ تَقْتُلُوْنَ اَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُوْنَ فَرِیْقًا مِّنْكُمْ مِّنْ دِیَارِهِمْ٘-تَظٰهَرُوْنَ عَلَیْهِمْ بِالْاِثْمِ وَ الْعُدْوَانِؕ-وَ اِنْ یَّاْتُوْكُمْ اُسٰرٰى تُفٰدُوْهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَیْكُمْ اِخْرَاجُهُمْؕ-اَفَتُؤْمِنُوْنَ بِبَعْضِ الْكِتٰبِ وَ تَكْفُرُوْنَ بِبَعْضٍۚ-فَمَا جَزَآءُ مَنْ یَّفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ اِلَّا خِزْیٌ فِی الْحَیٰوةِ الدُّنْیَاۚ-وَ یَوْمَ الْقِیٰمَةِ یُرَدُّوْنَ اِلٰۤى اَشَدِّ الْعَذَابِؕ-وَ مَا اللّٰهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ(۸۵)
پھر یہ جو تم ہو اپنوں کو قتل کرنے لگے اور اپنے میں سے ایک گروہ کو ان کے وطن سے نکالتے ہو ان پر مدد دیتے ہو (ان کے مخالف کو) گناہ اور زیادتی میں اور اگر وہ قیدی ہو کر تمہارے پاس آئیں تو بدلا دے کر چھڑا لیتے ہو اور ان کا نکالنا تم پر حرام ہے (ف۱۳۹) تو کیا خدا کے کچھ حکموں پر ایمان لاتے ہو اور کچھ سے انکار کرتے ہو تو جو تم میں ایسا کرے اس کا بدلہ کیا ہے مگر یہ کہ دنیا میں رسوا ہو (ف۱۴۰) اور قیامت میں سخت تر عذاب کی طرف پھیرے جائیں گے اور اللہ تمہارے کوتکوں سے بے خبر نہیں -(ف۱۴۱)
لقد بين القرآن الكريم بعد ذلك أنهم نقضوا عهودهم، وارتكبوا ما نهوا عن ارتكابه، فقال تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ.. أى: ثم أنتم- يا معشر اليهود- بعد اعترافكم بالميثاق، والتزامكم به، نقضتم عهودكم، وارتكبتم في حق إخوانكم ما نهيتم عنه، من القتل والإخراج، وفعلتم ما لا يليق بالعقلاء، ومن يحترم المواثيق.ولما كان قتل بعضهم لبعض، وإخراجهم من أماكنهم يحتاج إلى قوة وغلبة، بين- سبحانه- أنهم يرتكبون ذلك وهم متعاونون عليه بالشرور ومجاوزة الحدود، فقال تعالى: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ تظاهرون: من التظاهر وهو التعاون، وأصله من الظهر، كأن المتعاونين يسند كل واحد منهم ظهره إلى الآخر. والمعنى: تتعاونون على قتل إخوانكم وإخراجهم من ديارهم مع من ليسوا من أقاربكم وليسوا من دينكم، وأنتم مرتكبون ذلك الإثم والعدوان.وقوله تعالى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ بيان لتناقضهم وتفريقهم لأحكام الله تعالى.وأسارى: جمع أسير بمعنى مأسور، وهو من يؤخذ على سبيل القهر فيشد بالإسار وهو القد- بكسر القاف-، والقد: سير يقد من جلد غير مدبوغ. وتفادوهم: تنقذوهم من الأسر بالفداء، يقال: فاداه وفداه: أعطى فداءه فأنقذه.أى: أنتم- يا معشر اليهود- إن وجدتم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم أسرى تسعون في فكاكهم، وتبذلون عرضا لإطلاقهم، والشأن أن قتلهم وإخراجهم محرم عليكم كتركهم أسرى في أيدى أعدائكم، فلماذا لم تتبعوا حكم التوراة في النهى عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم؟وصدرت الجملة الكريمة «وهو محرم عليكم إخراجهم» بضمير الشأن للاهتمام بها. والعناية بشأنها، وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم، وليس خافيا عليهم.وقوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ توبيخ وتقريع لهم على تفريقهم بين أحكام الله.والمعنى: أفتتبعون أحكام كتابكم في فداء الأسرى، ولا تتبعونها في نهيكم عن قتال إخوانكم وإخراجهم من ديارهم؟ فالاستفهام للإنكار والتوبيخ على التفريق بين أحكامه- تعالى- بالإيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر.وبعض الكتاب الذي آمنوا به هو ما حرم عليهم من ترك الأسرى في أيدى عدوهم، وبعضه الذي كفروا به ما حرم عليهم من القتل والإخراج من الديار، فالإنكار منصب على جمعهم بين الكفر والإيمان.قال فضيلة المرحوم للشيخ محمد الخضر حسين: «وإنما سمى- سبحانه- عصيانهم بالقتل والإخراج من الديار كفرا لأن من عصى أمر الله- تعالى- بحكم عملي معتقدا أن الحكمة والصلاح فيما فعله، بحيث يتعاطاه دون أن يكون في قلبه أثر من التحرج، ودون أن يأخذه ندم وحزن من أجل ما ارتكب. فقد خرج بهذه الحالة النفسية عن سبيل المؤمنين، وفي الآية الكريمة دليل واضح على أن الذي يؤمن ببعض ما تقرر في الدين بالدليل القاطع ويكفر ببعضه، يدخل في زمرة الكافرين لأن الإيمان كل لا يتجزأ» .ثم بين- سبحانه- العقاب الدنيوي والأخروى الذي استحقه أولئك المفرقون لأحكامه فقال تعالى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ اسم الإشارة (ذلك) مشار به إلى القتل والإخراج من الديار، اللذين نقضوا بهما عهد الله بغيا وكفرا والخزي في الدنيا هو الهوان والمقت والعقوبة ومن مظاهره: ما لحق اليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء بنى قينقاع والنضير عن ديارهم، وقتل بنى قريظة وفتح خيبر، وما لحقهم بعد ذلك من هوان وصغار، وتلك سنة الله في كل أمة لا تتمسك بدينها ولا تربط شئونها بأحكام شريعتها وآدابها.ولما كان البعض قد يتوهم أن خزيهم في الدنيا قد يكون سببا في تخفيف العذاب عنهم في الأخرى، نفى- سبحانه- هذا التوهم، وبين أنهم يوم القيامة سيصيرون إلى ما هو أشد منه.لأن الله- تعالى- ليس ساهيا عن أعمالهم حتى يترك مجازاتهم عليها.فالمراد من نفى الغفلة نفى ما يتسبب عنها من ترك المجازاة لهم على شرورهم.وفي ذلك دليل على أن الله- تعالى- يعاقب الحائدين عن طريقه المستقيم، بعقوبات في الدنيا، وفي الآخرة، جزاء طغيانهم، وإصرارهم على السيئات.
اُولٰٓىٕكَ الَّذِیْنَ اشْتَرَوُا الْحَیٰوةَ الدُّنْیَا بِالْاٰخِرَةِ٘-فَلَا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ یُنْصَرُوْنَ۠(۸۶)
یہ ہیں وہ لوگ جنہوں نے آخرت کے بدلے دنیا کی زندگی مول لی تو نہ ان پر سے عذاب ہلکا ہو اور نہ ان کی مدد کی جائے -
ثم أكد- سبحانه- هذا الوعيد الشديد وبين علته فقال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.والمعنى: أولئك اليهود الذين فرقوا أحكام الله، وباعوا دينهم بدنياهم، وآثروا متاع الدنيا على نعيم الآخرة قد استحقوا غضب الله فلا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة، ولا يجدون من دون الله وليا ولا نصيرا.وبذلك تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود بنقضهم للعهد، وإيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين.ثم ذكرهم- سبحانه- بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم، فقال تعالى:
وَ لَقَدْ اٰتَیْنَا مُوْسَى الْكِتٰبَ وَ قَفَّیْنَا مِنْۢ بَعْدِهٖ بِالرُّسُلِ٘-وَ اٰتَیْنَا عِیْسَى ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّنٰتِ وَ اَیَّدْنٰهُ بِرُوْحِ الْقُدُسِؕ-اَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُوْلٌۢ بِمَا لَا تَهْوٰۤى اَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْۚ-فَفَرِیْقًا كَذَّبْتُمْ٘-وَ فَرِیْقًا تَقْتُلُوْنَ(۸۷)
اور بے شک ہم نے موسیٰ کو کتاب عطا کی (ف۱۴۶) اور اس کے بعد پے در پے رسول بھیجے (ف ۱۴۳) اور ہم نے عیسیٰ بن مریم کو کھیلی نشانیاں عطا فرمائیں (ف۱۴۴) اور پاک روح سے (ف۱۴۵) اس کی مدد کی (ف۱۴۶) تو کیا جب تمہارے پاس کوئی رسول وہ لے کر آئے جو تمہارے نفس کی خواہش نہیں تکبر کرتے ہو تو ان (انبیاء) میں ایک گروہ کو تم جھٹلاتے ہو اور ایک گروہ کو شہید کرتے ہو -(ف۱۴۷)
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم ، فقال تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب وَقَفَّيْنَا . . . )ففي هاتين الآيتين تذكير لبنى إسرائيل بضرب من النعم التي أمدهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإجرام.والمراد بالكتاب الذي أعطاه الله لموسى التوراة، فقد أنزلها عليه لهدايتهم ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوامره وأولوها تأويلا سقيما.ومعنى وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أردفنا وأرسلنا من بعد موسى رسلا كثيرين متتابعين، لإرشاد بنى إسرائيل، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.يقال: قفا أثره يقفوه قفوا وقفوا، إذا تبعه. وقفى على أثره بفلان إذا أتبعه إياه. وقفيته زيدا وبه: أتبعته إياه. واشتقاقه من: قفوته إذا أتبعت قفاه، والقفا مؤخر العنق، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه.والرسل: جمع رسول بمعنى مرسل، وقد أرسل الله- تعالى- رسلا بعد موسى- عليه السلام-: منهم: داود، وسليمان، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى- عليهم الصلاة والسلام-.فمن مظاهر نعم الله على بنى إسرائيل، أنه لم يكتف بإنزال الكتب لهدايتهم، وإنما أرسل فيهم بجانب ذلك رسلا متعددين، لكي يبشروهم وينذروهم، ولكن بنى إسرائيل قابلوا نعم الله بالجحود والكفران، فقد حرفوا كتب الله، وقتلوا بعض أنبيائه.والمراد بالبينات في قوله: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار ببعض المغيبات، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها عيسى- عليه السلام-.وخص القرآن عيسى بالذكر لكونه صاحب كتاب هو الإنجيل، ولأن شرعه نسخ أحكاما من شريعة موسى- عليه السلام-.وفي إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أبا من البشر.وقوله: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أى: قويناه مأخوذ من الأيد وهو القوة.وروح القدس هو جبريل- عليه السلام-، قال- تعالى-:قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، أى: الروح المقدس. ووصف بالقدس لطهارته وبركته. وسمى روحا لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة لحياة البشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب. والروح تحيا به الأجسام.أى: أننا أعطينا عيسى بن مريم الحجج الدالة على صدقه في نبوته وقويناه على ذلك كله بوحينا الذي أوحيناه إليه عن طريق جبريل- عليه- السلام-.ثم وبخ الله اليهود على أفعالهم القبيحة فقال: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ.أى: أفكلما جاءكم يا بنى إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقا منهم كذبتم، وفريقا آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب:وتهوى: من هوى إذا أحب «والهوى يكون في الحق ويكون في الباطل كما في هذه الآية.واستكبرتم: تكبرتم، والتكبر ينشأ عن الاعجاب بالنفس الذي هو أثر الجهل بها. وهو من الصفات التي متى تمكنت في النفس أوردتها المهالك، وساقتها إلى سوء المصير.وقدم تكذيبهم للرسل على قتلهم إياهم، لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر.وعبر في جانب القتل بالفعل المضارع فقال: تَقْتُلُونَ ولم يقل قتلتم كما قال كذبتم، لأن الفعل المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة. يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغا عظيما. ووجهه أن المتكلم يعمد بذلك الفعل القبيح كقتل الأنبياء، ويعبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل بحسب وضعه على الفعل الواقع في الحال. فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع، وجعله ينظر إليها بعينه، فيكون إنكاره لها أبلغ، واستفظاعه لها أعظم.
وَ قَالُوْا قُلُوْبُنَا غُلْفٌؕ-بَلْ لَّعَنَهُمُ اللّٰهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِیْلًا مَّا یُؤْمِنُوْنَ(۸۸)
اور یہودی بولے ہمارے دلوں پر پردے پڑے ہیں (ف۱۴۸) بلکہ اللہ نے ان پر لعنت کی ان کے کفر کے سبب تو ان میں تھوڑے ایمان لاتے ہیں- (ف۱۴۹)
ثم حكى القرآن بعض الدعاوى الباطلة التي كان يدعيها اليهود في العصر النبوي ورد عليها بما يدحضها فقال:وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أى: قال اليهود الذين كانوا في العهد النبوي: قلوبنا يا محمد مغطاة بأغطية حسية مانعة من نفوذ ما جئت به فيها. ومقصدهم من ذلك، إقناطه صلّى الله عليه وسلّم من إجابتهم لدعوته حتى لا يعيد عليهم الدعوة من بعد.والغلف: جمع أغلف، وهو الذي جعل له غلاف، ومنه قيل للقلب الذي لا يعي ولا يفهم، قلب أغلف، كأنه حجب عن الفهم بالغلاف.قال ابن كثير: وقرأ ابن عباس- بضم اللام- وهو جمع غلاف. أى: قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك.وقد رد الله- تعالى- على كذبهم هذا بما يدحضه ويفضحه فقال:بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أى: أن قلوبهم ليست غلفا بحيث لا تصل إليها دعوة الحق بل هي متمكنة بأصل فطرتها من قبول الحق، ولكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء واستحبابهم العمى على الهدى.والفاء في قوله: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ للدلالة على أن ما بعدها متسبب عما قبلها وما في قوله فَقَلِيلًا ما لتأكيد معنى القلة.والمعنى أن الله لعنهم وكان هذا اللعن سببا لقلة إيمانهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، وقلة الإيمان ترجع إلى معنى أنهم لا يؤمنون إلا بقليل مما يجب عليهم الإيمان به. وقد وصفهم الله- تعالى- فيما سبق بأنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.ثم نبه القرآن المؤمنين إلى نوع آخر من رذائل اليهود، ويتجلى هذا النوع في جحودهم الحق عن معرفة وعناد، وكراهتهم الخير لغيرهم يدافع الأنانية والحسد، وتحولهم إلى أناس يتميزون من الغيظ إذا ما رأوا نعمة تساق لغير أبناء ملتهم.
وَ لَمَّا جَآءَهُمْ كِتٰبٌ مِّنْ عِنْدِ اللّٰهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْۙ-وَ كَانُوْا مِنْ قَبْلُ یَسْتَفْتِحُوْنَ عَلَى الَّذِیْنَ كَفَرُوْاۚ-فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُوْا كَفَرُوْا بِهٖ٘-فَلَعْنَةُ اللّٰهِ عَلَى الْكٰفِرِیْنَ(۸۹)
اور جب ان کے پاس اللہ کی وہ کتاب (قرآن) آئی جو ان کے ساتھ والی کتاب (توریت) کی تصدیق فرماتی ہے (ف۱۵۰) اور اس سے پہلے وہ اسی نبی کے وسیلہ سے کافروں پر فتح مانگتے تھے (ف۱۵۱) تو جب تشریف لایا انکے پاس وہ جانا پہچانا اس سے منکر ہو بیٹھے (ف۱۵۲) تو اللہ کی لعنت منکروں پر -
استمع إلى القرآن وهو يصور كل ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول :( وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ . . . )روى المفسرون في سبب نزول الآية الأولى من هاتين الآيتين آثارا متعددة، من ذلك ما جاء عن عاصم بن عمرو بن قتادة الأنصارى عن رجال من قومه قالوا: مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه، أنا كنا نسمع من رجال يهود حين كنا أهل شرك وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فكنا إذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا من عند الله أجبنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزل قوله- تعالى- وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... إلخ الآية» «1» .ومعنى الآيتين الكريمتين: ولما جاء إلى اليهود محمد صلّى الله عليه وسلّم ومعه القرآن الكريم وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه، مصدقا لما معهم من التوراة فيما يختص ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونعته، وكانوا قبل ذلك يستنصرون به على أعدائهم، لما جاءهم النبي المرتقب ومعه القرآن الكريم جحدوا نبوته، وكذبوا كتابه فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم. الكفر بما أنزل الله على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكفرهم هذا كان من أجل البغي الذي استولى على نفوسهم، والحسد الذي خالط قلوبهم، وكراهية لأن ينزل الله وحيه على محمد العربي صلّى الله عليه وسلّم فباءوا بسبب هذا الخلق الذميم، بغضب مترادف متكاثر من الله «2» - تعالى- وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ جزاء كفرهم وحسدهم.والمراد بالكتاب في قوله تعالى وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ القرآن الكريم، وفي تنكيره زيادة تعظيم وتشريف له، وفي الأخبار عنه بأنه من عند الله، إشارة إلى أن ما يوحى به- سبحانه- جدير بأن يتلقى بالقبول وحسن الطاعة لأنه صادر من الحكيم الخبير، والذي مع اليهود هو التوراة، ومعنى كون القرآن مصدقا لها، أنه يؤيدها ويوافقها في أصول الدين، وفيما يختص ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصفته.وفي وصف القرآن الكريم بأنه مصدق لما معهم، زيادة تسجيل عليهم بالمذمة لأنهم لم يكفروا بشيء يخالف أصول كتابهم وإنما كفروا بالكتاب الذي يصدق كتابهم.وقوله تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا.بيان لحالتهم قبل البعثة المحمدية، فإن اليهود كانوا عند ما يحصل بينهم وبين أعدائهم نزاع،يستنصرون عليهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثته فيقولون اللهم انصرنا عليهم بالنبي الذي نجد نعته في التوراة، والاستفتاح معناه: طلب الفتح وهو الفصل في الشيء والحكم فيه، كما في قوله تعالى:رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ. ويستعمل بمعنى النصر لأن فيه فصلا بين الناس قال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، فالمراد به في الآية الاستنصار.ثم بين- سبحانه- حقيقة حالهم بعد أن جاءهم الكتاب والرسول فقال تعالى:فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ أى: فلما جاءهم ما كانوا يستفتحون به على أعدائهم ويرتقبونه جحدوه وكفروا به.وقال- سبحانه- فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا ولم يقل فلما جاءهم الكتاب أو الرسول، ليكون اللفظ أشمل، فيتناول الكتاب والرسول الذي جاء به لأنه لا يجيء الكتاب إلا عن طريق رسول.ومعرفتهم بصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل عليه حاصلة بانطباق العلامات والصفات الواردة في التوراة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان من الواجب عليهم أن يؤيدوا هذه المعرفة بالإيمان به، ولكن خوفهم على زوال رئاستهم وأموالهم، وفوات ما كانوا يحرصون عليه من أن يكون النبي المبعوث منهم لا من العرب، ملأ قلوبهم غيظا وحسدا، وأخذ هذا الغيظ والحسد يغالب تلك المعرفة حتى غلبها، وحال بينها وبين أن يكون لها أثر نافع لهم لعدم اقترانها بالقبول والتصديق.ولقد حاول رئيسهم (عبد الله بن سلام) - رضي الله عنه- أن يصرفهم عن العناد وأقسم لهم بأن ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الحق المصدق لما معهم أن يتبعوه ولكنهم عموا وصموا وتنقصوه ولذا لعنهم الله تعالى، وأبعدهم عن رحمته كما قال تعالى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.وقال- سبحانه- عَلَى الْكافِرِينَ ولم يقل عليهم، للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم كان بسبب كفرهم.
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهٖۤ اَنْفُسَهُمْ اَنْ یَّكْفُرُوْا بِمَاۤ اَنْزَلَ اللّٰهُ بَغْیًا اَنْ یُّنَزِّلَ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهٖ عَلٰى مَنْ یَّشَآءُ مِنْ عِبَادِهٖۚ-فَبَآءُوْ بِغَضَبٍ عَلٰى غَضَبٍؕ-وَ لِلْكٰفِرِیْنَ عَذَابٌ مُّهِیْنٌ(۹۰)
کس برے مولوں انہوں نے اپنی جانوں کو خریدا کہ اللہ کے اتارے سے منکر ہوں (ف۱۵۳) اس کی جلن سے کہ اللہ اپنے فضل سے اپنے جس بندے پر چاہے وحی اتارلے (ف۱۵۴) تو غضب پر غضب کے سزاوار ہوئے (ف۱۵۵) اور کافروں کے لیے ذلت کا عذاب ہے -(ف۱۵۶)
ثم ذكر- سبحانه- أنهم بكفرهم قد باعوا أنفسهم بثمن بخس. فقال تعالى: «بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله» أى: بئس الشيء الذي باع به اليهود أنفسهم كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.وجمهور المفسرين على أن اشْتَرَوْا هنا بمعنى باعوا، لأن أولئك اليهود، لما كانوا متمكنين من الإيمان الذي يفضى بهم إلى السعادة الأبدية بعد أن جاءهم ما عرفوا من الحق فتركوه،واستمروا على كفرهم بغيا وحسدا وحبا في الرياسة وتعصبا لجنسيتهم لما كانوا كذلك، صار اختيارهم للكفر على الإيمان، بمنزلة اختيار صاحب السلعة ثمنها على سلعته، فكأنهم بذلوا أنفسهم التي كان باستطاعتهم الانتفاع بإيمانها، وقبضوا الكفر عوضا عنها فأنفسهم بمنزلة السلعة المبيعة وكفرهم بمنزلة ثمنها المقبوض، فبئس هذا الثمن الذي أوردهم العذاب الأليم.وعبر- سبحانه- عن كفرهم بصيغة المضارع أَنْ يَكْفُرُوا وعن بيعهم لأنفسهم بالماضي، اشْتَرَوْا للدلالة على أنهم صرحوا بكفرهم بالقرآن الكريم من قبل نزول الآية، وإن بيعهم أنفسهم بالكفر طبيعة فيهم مستقرة منذ وقت بعيد، وأنهم ما زالوا مستمرين على تلك الطبيعة المنحرفة.وقوله تعالى: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، تعليل لكفرهم وبيان للباعث عليه، أى كفروا بما أنزل الله على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم بدافع من البغي والحقد، وكراهة أن ينزل الله الوحى من فضله على من يشاء من عباده، فالبغي هنا مصدر بغى يبغى إذا ظلم. والمراد به ظلم خاص هو الحسد، وإنما عد الحسد ظلما، لأن الظلم معناه المعاملة التي تبعد عن الحق وتجافيه. والحسد معناه تمنى زوال النعمة عن الغير والظالم والحاسد قد جانب كل منهما الحق فيما صنع، والحاسد لن يناله نفع من زوال نعمة المحسود، كما أنه لن يناله ضر من بقائها، وما دام الأمر كذلك فالحاسد ظالم للمحسود بتمني زوال النعمة وصدق الشاعر في قوله.وأظلم خلق الله من بات حاسدا- لمن بات في نعمائه يتقلب-.فاليهود قد كفروا بما أنزل الله، من أجل حسدهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم على النبوة ولأنه لم يكن منهم وكان من العرب، وكراهية لأن ينزل الله الوحى على من يصطفيه للرسالة من غيرهم، فعدم إيمانهم بما عرفوه وارتقبوه سببه أنانيتهم البغيضة، وأثرتهم الذميمة التي حملتهم على أن يحسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، وأن يتوهموا أن النبوة مقصورة عليهم، فليس لله- تعالى- في زعمهم- أن ينزعها من ذرية إسحاق ليجعلها في ذرية إسماعيل عليهما السلام-.ولم يصرح- سبحانه- بأن المحسود هو النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلم ذلك من سياق الآيات الكريمة وللتنبيه على أن الحسد في ذاته مذموم كيفما كان حال المحسود.ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما آل إليه أمرهم من خسران مبين فقال تعالى:فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ: باء بإثمه يبوء أى: رجع أى:فرجعوا من أجل كفرهم وحسدهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم بغضب مضموم إلى غضب آخر كانوا قد استحقوه بسبب كفرهم بعيسى- عليه السلام- وبسبب تحريفهم للكلم عن مواضعه،وتضييعهم لأحكام التوراة. فهم بسبب كفرهم المستمر الذي تعددت أسبابه، يصيبهم غضب كثير متعاقب من الله- تعالى-.ويصح أن يكون معنى قوله: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أنهم رجعوا بغضب شديد مؤكد، لصدوره من الله- تعالى-.والمراد بالكافرين، اليهود الذين تحدث عنهم فيما سبق، فهم الذين عرفوا صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم في نبوته بما نطقت به التوراة، ومع ذلك كفروا به فاستحبوا العمى على الهدى.وعبر عنهم بهذا العنوان للتنبيه على أن ما أصابهم من عذاب مذل لهم كان بسبب كفرهم، ويصح أن يراد بالكافرين: كل كافر وهم يدخلون فيه دخولا أوليا وإنما كان لهم العذاب المهين لأن كفرهم لما كان سببه البغي والحسد والتكبر والأنانية، قوبلوا بالإهانة والصغار.وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد كشفتا عن لون من صفات اليهود الذميمة وهو إعراضهم عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كانوا يستنصرون به على أعدائهم قبل بعثته، وبيعهم الإيمان الذي كان في مكنتهم الظفر به بالكفر بما أنزل الله من دين قويم، وكتاب كريم إرضاء لغريزة الحقد الذي استحوذ على قلوبهم، وتمشيا مع أثرتهم التي أبت عليهم أن يؤمنوا بنبي ليس من نسل إسرائيل ولو جاءهم بالحق المبين، فحق عليهم قول الله- تعالى-: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.ثم حكى القرآن بعد ذلك بعض المعاذير الكاذبة التي كان اليهود يعتذرون بها عند ما يدعون إلى الدخول في الإسلام، فقد كانوا يقولون إننا مكلفون ألا نؤمن إلا بكتابنا التوراة، فنحن نكتفي بالإيمان به دون غيره. استمع إلى القرآن- وهو يعرض دعاواهم الكاذبة ثم يقذفها بالحق فيدمغها- حيث يقول:
وَ اِذَا قِیْلَ لَهُمْ اٰمِنُوْا بِمَاۤ اَنْزَلَ اللّٰهُ قَالُوْا نُؤْمِنُ بِمَاۤ اُنْزِلَ عَلَیْنَا وَ یَكْفُرُوْنَ بِمَا وَرَآءَهٗۗ-وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْؕ-قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُوْنَ اَنْۢبِیَآءَ اللّٰهِ مِنْ قَبْلُ اِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِیْنَ(۹۱)
اور جب ان سے کہا جائے کہ اللہ کے اتارے پر ایمان لاؤ (ف۱۵۷) تو کہتے ہیں وہ جو ہم پر اترا اس پر ایمان لاتے ہیں (ف۱۵۸) اور باقی سے منکر ہوتے ہیں حالانکہ وہ حق ہے ان کے پاس والے کی تصدیق فرماتا ہوا (ف۱۵۹) تم فرماؤ کہ پھر اگلے انبیاء کو کیوں شہید کیا اگر تمہیں اپنی کتاب پر ایمان تھا -(ف۱۶۰)
ومعنى الآيات الكريمة. أن اليهود المعاصرين للعهد النبوي كانوا إذا عرض عليهم الإيمان بما أنزل الله من القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم أجابوا بقولهم: نؤمن بما أنزل علينا وهو التوراة التي أنزلها الله- تعالى- على موسى، ويجحدون غيرها وهو القرآن الكريم المصدق لها في الأمر باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يكذبهم في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم فقال: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالتوراة فإنها تنهاكم عن قتلهم ثم كذبهم القرآن الكريم مرة أخرى فقال: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أى: بالآيات الواضحات الدالة على صدقه، ولكنكم اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ أى: من بعد ذهابه لميقات ربه وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ لعبادتكم غير الله تعالى.ثم كذبهم القرآن الكريم- في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم- بصورة أخرى سوى ما سبقها فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ وقلنا لكم: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ- من التوراة- بِقُوَّةٍ أى بجد وحزم وَاسْمَعُوا ما أمرتم به فيها سماع تدبر وطاعة. ولكن أسلافكم الذين أنتم على شاكلتهم قالوا لنبيهم: «سمعنا» قولك «وعصينا» أمرك. وخالط حب العجل قلوبهم كما يخالط الماء أعماق البدن، وكل هذه الأفاعيل منكم لا تناسب دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، وإذا فبئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون، فالواقع أن التوراة بريئة من أعمالكم، وأنتم بعيدون عن الإيمان بها.وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا تصوير لنوع آخر من قبائح اليهود، وإخبار عن إعراضهم عن الحق بدعوى أنهم مكلفون بعدم الإيمان إلا بما أنزل الله على موسى وهو التوراة.والمقصود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن الكريم. ولم يذكر المنزل عليه وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم للعلم به أو للتنبيه على أن وجوب الإيمان بالكتاب، يكفى فيه العلم بأنه منزل من عند الله- تعالى- ومتى استقر في النفس أن القرآن الكريم من عند الله، استتبع ذلك استحضار أنه أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم.وقولهم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا معناه: نؤمن بالتوراة التي أنزلها الله على نبينا موسى دون غيرها مما أنزله الله عليك- يا محمد-، وجوابهم هذا يدل على غبائهم وعنادهم. لأن الداعي لهم إلى الإيمان، يطلب منهم أن يؤمنوا بكل ما أنزل الله من الكتب السماوية، ولكنهم قيدوا أنفسهم بالإيمان ببعض ما أنزل الله وهو ما أنزل عليهم، فلم يكن إيمانهم مطابقا لما أمر الله به وهو التصديق بجميع الكتب السماوية، ولا شك أن من آمن ببعض الكتب السماوية وكفر ببعضها يكون كافرا بجميعها.وقوله تعالى: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ قصد به بيان التصريح بكفرهم بالقرآن الكريم بعد أن لمحوا بذلك في قولهم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. والضمير في وَراءَهُ يعود على بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا المكنى به عن التوراة، أى: قالوا نؤمن بما أنزل علينا والحال أنهم يكفرون بما سوى التوراة أو بما بعدها وهو القرآن الكريم.قال ابن جرير- رحمه الله-: «وتأويل وراء في هذا الموضع: سوى، كما يقال للرجل المتكلم بالحسن، ما وراء هذا الكلام الحسن شيء. يراد به: ليس من عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام، فكذلك معنى قوله تعالى: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أى بما سوى التوراة، وبما بعده من كتب الله التي أنزلها على رسله» .والضمير «هو» في قوله تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ يعود إلى القرآن الكريم المكنى عنه بقوله «بما وراءه» . والحق: الحكم المطابق للواقع. ووصف به القرآن الكريم لاشتماله على الأحكام المطابقة للواقع.ومعنى كون القرآن مصدقا لما مع اليهود وهو التوراة، أنه يدل على نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وبهذا كان مؤيدا للتوراة التي بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وذكرت له نعوتا لا تنطبق إلا عليه، وبذلك يكون اليهود الذين يدعون الإيمان بما أنزل عليهم كاذبين في دعواهم، لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي بشرت به توراتهم وأمرتهم بالإيمان به وأيدها القرآن الكريم في ذلك.قال صاحب الكشاف: وفي قوله تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ رد لمقالتهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا لأنهم إذ كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها» .ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يوبخهم ويبطل دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم بدليل إلزامى فقال تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين إذا دعوتهم إلى الإيمان بك قالوا. نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا قل لهم: إن كنتم حقا مؤمنين بما أنزل عليكم وهو التوراة، فلأى شيء تقتلون أنبياء الله مع أن التوراة تحرم عليكم قتلهم، بل هي تأمركم باتباعهم وتصديقهم وطاعتهم لأنه أرسلهم لهدايتكم وسعادتكم.إن قتلكم لهم أكبر دليل على أنكم لم تؤمنوا لا بما أنزل عليكم ولا بغيره وأنكم كاذبون في مدعاكم لأن جميع ما أنزل الله من وحى يحرم قتل الأنبياء، ويأمر الناس باتباعهم وطاعتهم.ويرجع معنى الآية إلى نفى فعل الشرط وهو كونهم مؤمنين، إذ لا وجه لقتلهم الأنبياء إلا عدم إيمانهم بالتوراة، وهذا كما تريد أن تنفى عن رجل العقل لفعله ما ليس من شأنه أن يصدر من عاقل، فتقول له: إن كنت عاقلا فلم فعلت كذا؟ أى أنت لست بعاقل.والفاء في قوله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ واقعة في جواب محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم فلم تقتلون أنبياء الله- تعالى- والإتيان بالمضارع في قوله- تعالى-: تَقْتُلُونَ مع أن القتل للأنبياء وقع من أسلافهم بقرينة قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ لقصد استحضار تلك الجناية الشنيعة، وللتنبيه على أن ارتكابهم لتلك الجريمة البشعة يتجدد ويقع منهم المرة تلو الأخرى، وللإشعار بأن الخلف يمشون على عماية السلف، في التعدي والعصيان، فلقد حاول اليهود المعاصرون للعهد النبوي قتل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولكن الله- تعالى- عصمه منهم، ونجاه من مكرهم.وأضاف سبحانه- الأنبياء إليه فقال: أَنْبِياءَ اللَّهِ للتنبيه على شرفهم العظيم، وللدلالة على فظاعة عصيان اليهود واجتراحهم المنكر، إذ قابلوا بالقتل من يجب عليهم أن يقابلوهم بالتصديق والتوقير والطاعة.
وَ لَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوْسٰى بِالْبَیِّنٰتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْۢ بَعْدِهٖ وَ اَنْتُمْ ظٰلِمُوْنَ(۹۲)
اور بیشک تمہارے پاس موسیٰ کھلی نشانیاں لے کر تشریف لایا پھر تم نے اس کے بعد (ف۱۶۱) بچھڑے کو معبود بنالیا اور تم ظالم تھے-(ف۱۶۲)
ثم ذكر القرآن الكريم لهم جنايات أخرى تدل على أنهم لم يؤمنوا بما أنزل عليهم كما يدعون. ومن تلك الجنايات عبادتهم العجل، فقال تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ.البينات: جمع بينة وهي الآيات والمعجزات الدالة على صدقه وحقية نبوته، كانقلاب العصا ثعبانا، وفلق البحر، وانفجار العيون من الحجر ... إلخ.وإنما سماها الله بينات، لأنها لما كانت لا يقدر على أن يأتى بها بشر إلا بتسخير الله ذلك له دلت على صدق موسى- عليه السلام- في نبوته ورسالته.والمعنى: ولقد جاءكم- يا بنى إسرائيل- نبينا موسى بالآيات الواضحات الدالة على صدقه، وحقية نبوته، وكان من الواجب عليكم أن تتبعوه وتطيعوه ولكنكم لم تفعلوا فقد اتخذتم العجل إلها من بعد مفارقة نبيكم موسى لكم لمناجاة ربه، ومن بعد مشاهدتكم لتلك المعجزات، التي استبان بها صدقه فيما يبلغكم عن ربه فأنتم ظالمون بذلك، لأنكم تركتم عبادة من يستحق العبادة وهو الله- تعالى- وعبدتم العجل الذي لا يملك ضرا ولا نفعا.فالآية الكريمة فيها أبطال لدعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، لأنهم لو كانوا مؤمنين حقا بنبيهم الذي جاءهم بالبينات، لما تركوا ما أمرهم به وهو عبادة الله، وفعلوا ما نهاهم عنه وهو عبادة العجل.
وَ اِذْ اَخَذْنَا مِیْثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّوْرَؕ-خُذُوْا مَاۤ اٰتَیْنٰكُمْ بِقُوَّةٍ وَّ اسْمَعُوْاؕ-قَالُوْا سَمِعْنَا وَ عَصَیْنَاۗ-وَ اُشْرِبُوْا فِیْ قُلُوْبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْؕ-قُلْ بِئْسَمَا یَاْمُرُكُمْ بِهٖۤ اِیْمَانُكُمْ اِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِیْنَ(۹۳)
اور (یاد کرو) جب ہم نے تم سے پیمان لیا (ف۱۶۳) او ر کوہ ِ طور کو تمہارے سروں پر بلند کیا، لو جو ہم تمہیں دیتے ہیں زور سے اور سنو بولے ہم نے سنا اور نہ مانا اور ان کے دلوں میں بچھڑا رچ رہا تھا ان کے کفر کے سبب تم فرمادو کیا برا حکم دیتا ہے تم کو تمہارا ایمان اگر ایمان رکھتے ہو-(ف۱۶۴)
ثم ذكر القرآن الكريم جناية أخرى تكذبهم في دعواهم: أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم- وهي إباؤهم التوراة عنادا واستكبارا فقال تعالى:وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ، قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.ومعنى الآية الكريمة: واذكروا- يا بنى إسرائيل- وقت أن أخذنا الميثاق عليكم بأن تعملوا بما في التوراة، وتتلقوا أحكامها بالتقبل والطاعة ورفعنا فوقكم الطور لنريكم آية من آياتنا العظمى التي تقوى قلوبكم، وتجعلكم تقبلون على تعاليم التوراة برغبة واستجابة، وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم بجد وحزم، واسمعوا ما أمرناكم به سماع تدبر وطاعة، ولكنكم- يا بنى إسرائيل- يا من تدعون الإيمان بما أنزل عليكم- أعرضتم عما أمرتم به من قبول التوراة وقلتم لنبيكم سمعنا قولك وعصينا أمرك، وخالط حب عبادة العجل قلوبكم كما يخالط الماء أعماق البدن ولم تأبهوا بما جاءكم في التوراة من الهدى والنور وبما صحب عرضها عليكم من الآية البينة وهي رفع الجبل فوقكم حتى ظننتم أنه واقع بكم فكفرتم بذلك كله ولا زالت نفوسكم تحن إلى عبادة العجل ولقد سرتم على منهج أسلافكم في العناد والجحود والإعراض عما ينزله الله من الحق، وإذا كان هذا شأنكم فكيف تدعون الإيمان بما أنزل عليكم؟ثم أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يوبخهم على تخرصاتهم فقال تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.وقوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ معناه: أننا حركناه ونقلناه معلقا فوقكم في الهواء، لتروا بأعينكم آية كونية من شأنها أنها تحملكم على الإيمان والطاعة إن كانت لكم عقول تعقل.ومعنى قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا: قلنا لكم خذوا ما أمرناكم به في التوراة بجد واجتهاد في تأديته، واسمعوا ما تؤمرون به سماع طاعة وتفهم. فقوله تعالى وَاسْمَعُوا ليس المراد به مجرد السماع للقول فقط، بل المقصود منه السماع الذي يصحبه التدبر والاستجابة للأمر: فهو مؤكد ومقرر لقوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ.ثم حكى- سبحانه- جوابهم الذي يدل على عنادهم فقال: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف طابق قوله جوابهم؟ قلت طابقه من حيث إنه قال لهم اسمعوا: وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة .وقد اختلف المفسرون هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا أو أنهم فعلوا فعلا مقام القول فيكون مجازا؟قال الفخر الرازي: الأكثرون من المفسرين على أنهم قالوا هذا القول حقيقة. وقال أبو مسلّم: وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول ولم يقولوه، كقوله تعالى فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. قال: والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل لا يجوز .وقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ عطف على قولهم سمعنا وعصينا والإشراب السقي وجعل الشيء شاربا، واستعمل على وجه التجوز في خلط لون بآخر كأن أحد اللونين سقى الآخر، يقال: بياض مشرب بحمرة أى مختلط، وفلان أشرب قلبه حب كذا بمعنى خالط حبه قلبه.قال الإمام الرازي: قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ في وجه هذه الاستعارة وجهان: الأول: معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب، وقوله في قلوبهم بيان لمكان الإشراب كقوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، الثاني: كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .وفي الجملة الكريمة وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ مضاف محذوف وهو لفظ (حب) لدلالة المعنى عليه.والمعنى: إن هؤلاء اليهود الذين مردوا على العصيان قد خالط حب العجل نفوسهم حتى استقر في قلوبهم كما يخالط الماء أعماق الجسد. وحذف لفظ الحب من الجملة الكريمة، يشعر بشدة تعلق قلوبهم بالعجل حتى لكأنهم أشربوا ذاته.والتعبير بقوله: أُشْرِبُوا يشير إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه.وقوله تعالى: بِكُفْرِهِمْ دليل على أن محبتهم للعجل ناشئة عن كفر سابق، وجحود متأصل فكفرهم الذي ترتب على عبادتهم للعجل، قد سبقه كفر آخر، فهو كفر على كفر.ثم أمر الله- تعالى- نبيه في ختام الآية الكريمة بتوبيخهم فقال تعالى:قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى: قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين يدعون الإيمان بما أنزل عليهم- قل لهم- بئس الشيء الذي يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء وعبادة العجل والعصيان إن كنتم مصدقين- كما زعمتم- بالتوراة، والحق أن التوراة ما أمرتكم بشيء من ذلك فما أنتم بمؤمنين بها ولا بغيرها من كتب الله، لأنها لا تأمر بالفحشاء.فالجملة الكريمة خلاصة لإبطال قولهم «نؤمن بما أنزل علينا» بعد أن أبطله الله- تعالى- فيما سبق بشواهد متعددة، لأنهم لما زعموا ذلك، وكانوا مع هذا يفعلون أفعالا قبيحة تناقض الإيمان بأى كتاب سماوي، أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يذمهم على هذه الأفعال التي تناقض الإيمان بما أنزل عليهم لكي يعلم الناس جميعا أن دعواهم لا أساس لها من الصحة.وأضاف- سبحانه- الإيمان إليهم فقال إِيمانُكُمْ ولم يقل الإيمان، لأنه ليس إيمانا صحيحا وإنما هو إيمان مزعوم، فإضافة الإيمان إليهم من باب التهكم بهم والاستهزاء بعقولهم.وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم بالتوراة، وقدح في صحة دعواهم فإن الإيمان الحق إنما يأمر بعبادة الله وحده، وينهى عن عبادة سواه وعن ارتكاب السوء والفحشاء.فالجملة الكريمة في معنى النفي لادعائهم الإيمان بالتوراة لأنها ما أمرت بشيء يبغضه الله تعالى.قال الإمام ابن جرير: وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم. وإنما كذبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله، وتأمر بخلافه، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك، فبئس الأمر تأمر به. وإنما ذلك نفى من الله تعالى- عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله، وإعلام منه- جل ثناؤه- أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان» «1» .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة، والبراهين القاطعة على كذب اليهود في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، ووبختهم على مزاعمهم الباطلة، وأقوالهم الفاسدة.هذا، ولفضيلة أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز كلام رصين عند حديثه عن هذه الآيات، فقد قال- رحمه الله-:يقول الله تعالى في ذكر حجاج اليهود: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ، قُلْ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ....هذا قطعة من فصل من قصة بنى إسرائيل، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي:1- مقالة ينصح بها الناصح لليهود: إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن.2- إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوى على مقصدين.3- الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه.وأقسم لو أن محاميا بليغا وكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية، ثم هدى إلى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو لما وسعه في أدائها أضعاف أضعاف هذه الكلمات، ولعله بعد ذلك لا يفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق.قال الناصح لليهود: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة، ألستم قد أمنتم بالتوراة التي جاء بها.موسى لأنها أنزلها الله؟ فالقرآن الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم أنزله الله، فآمنوا به كما آمنتم بها.فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته. فجعل دعاءهم إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد.ثم انظر كيف طوى ذكر المنزل عليه فلم يقل: آمنوا بما أنزل الله (على محمد) ، مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة.أتدري لم ذلك؟ لأنه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائدا، وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسدا. أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام، فأدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل.وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الاسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدى إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح ...كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا. والقرآن لم ينزله علينا، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج.هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهذا هو المقصد الأول، وقد زاد إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة، لأنه تقدم ذكره في نظيرتها.ومن البين أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني، ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يبرزه، أنظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهبا له، ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم، بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم فقال:وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل؟ .. ثم جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه.فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتا كأنها مسلمة ليس عليهم وجوب الإيمان بغيره من الكتب فيقول: كيف يكون الإيمان بكتابهم باعثا على الكفر بما هو حق مثله؟ لا بل هو الحق كله، وهل يعارض الحق الحق حتى يكون الإيمان بأحدهما موجبا للكفر بالآخر؟ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السالفة عليه كالأمر بين كل حق وحق، فقد يكون الشيء حقا وغيره حقا فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين، فلا يشهد بعضها لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهدا ومصدقا لما بين يديه من الكتب، فكيف يكذب به من يؤمن بها.فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان: إنما هي كلمة رفعت وأخرى وضعت في مكانها عند الحاجة إليها، فكانت هذه الكلمة حسما لكل عذر، وسدا لكل باب من أبواب الهرب، بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم تمت خطوة واحدة، وفي غير ما جلبة ولا طنطنة.ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوى الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الرد على المقصد الأصلى الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، فأوسعهم إكذابا وتفنيدا. وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضا مزمنا وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم، وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة، إذ يفهم السامع من تكذيبهم لما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين لكتابهم نفسه، وهل الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقا لك؟؟ ...ثم انظر بعد أن سجل القرآن على بنى إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة. بعد كل ذلك تراه لا يزيد على أن يقول في أول الأمر: إن هذا «ظلم» ، وفي الثانية (بئسما) صنعتم، أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما، ولكن أين حدة الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟بل أين الإقذاع والتشنيع؟ وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس، إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم.تالله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجناب، وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا الكلام لا يصدر عن نفس بشر» .
قُلْ اِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْاٰخِرَةُ عِنْدَ اللّٰهِ خَالِصَةً مِّنْ دُوْنِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ اِنْ كُنْتُمْ صٰدِقِیْنَ(۹۴)
تم فرماؤ اگر پچھلا گھر اللہ کے نزدیک خالص تمہارے لئے ہو، نہ اوروں کے لئے تو بھلا موت کی آرزو تو کرو اگر سچے ہو-(ف۱۶۵)
ثم أمر الله- تعالى- نبيه «صلّى الله عليه وسلّم» أن يرد على اليهود في دعواهم أن الجنة لن يدخلها إلا من كان على ملتهم فقال- تعالى-:( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة . . . )ومعنى الآيات الكريمة إجمالا:قل- يا محمد- لأولئك اليهود الذين ادعوا أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا: إن كانت الجنة مختصة بكم، وسالمة لكم دون غيركم، وليس لأحد سواكم فيها حق. فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في دعواكم، لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وأحب الوصول إليها.ثم أخبر الله أن هذا التمني لن يحصل منهم فقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً أى الموت بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أى بسبب ما ارتكبوه من كفر ومعصية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين وضعوا الأمور في غير موضعها، فادعوا ما ليس لهم، ونفوه عمن هو لهم.ثم أخبر القرآن بأن حرصهم على الحياة لا نظير له ولا مثيل فقال: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ متطاولة وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أى: وأحرص عليها- أيضا- من الذين أشركوا الذين لا يعرفون إلا الحياة الدنيا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ أى يتمنى الواحد من هؤلاء اليهود أن يعيش السنين الكثيرة ولو تجاوزت الحدود المعقولة لعمر الإنسان والحال أنه ما أحد منهم بمزحزحه ومنجيه تعميره من العذاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أى: لا يخفى عليه أعمالهم، فهو محاسبهم عليها، ومجازيهم بما يستحقونه من عقاب.وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ رد على زعمهم الباطل أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، والمراد بالدار الآخرة: الجنة ونعيمها، ومعنى «خالصة» سالمة لكم مختصة بكم، لا يشارككم فيها أحد من الناس.قال الإمام ابن جرير: «يقال: خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصفا لي، ويقال منه خلص هذا الشيء، فهو يخلص خلوصا وخالصة، والخالصة مصدر مثل العافية..»وقوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ التمني هو ارتياح النفس ورغبتها القوية في الشيء. بحيث توده وتحب المصير إليه، وهو يستعمل في المعنى القائم بالقلب كما بينا، ويستعمل في اللفظ الدال على هذا المعنى، كأن يقول الإنسان بلسانه، ليتني أحصل على كذا.والاستعمال الثاني هو المراد بقوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أى اذكروا بألسنتكم لفظا يدل على أنكم تحبون الموت وترغبون فيه. وإنما قلنا إن ذلك هو المراد من الآية لأن المعنى الكائن بالقلب لا يعرفه أحد سوى الله- تعالى- والتحدي لا يقع بتحصيل المعاني القائمة بالضمائر والقلوب.ومعنى الآية الكريمة. قل يا محمد لليهود: إن كانت الجنة خاصة بكم، ولا منازع لكم فيها ولا مزاحم كما تزعمون، فتمنوا الموت بألسنتكم لكي تظفروا بنعيمها الدائم، إن كنتم صادقين في دعواكم أنها خالصة لكم، وإلا فإنكم لا تكونون صادقين في دعواكم، إذ لا يعقل أن يرغب الإنسان عن السعادة المحضة الدائمة المضمونة له في الآخرة، إلى سعادة ممزوجة بالشقاء في الدنيا.قال الإمام الرازي: (وبيان هذه الملازمة أن نعم الدنيا قليلة حقيرة بالقياس إلى نعم الآخرة. ثم إن نعم الدنيا على قلتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد صلّى الله عليه وسلّم ومنازعته معهم، بالجدال والقتال، ومن كان في النعم القليلة المنغصة. ثم تيقن أنه بعد الموت لا بد أن ينتقل إلى تلك النعم العظيمة، فإنه لا بد أن يكون راغبا في الموت، لأن تلك النعم العظيمة مطلوبة ولا سبيل إليها إلا بالموت وحيث كان الموت يتوقف عليه المطلوب وجب أن يكون هذا الإنسان راضيا بالموت متمنيا له، فثبت أن الدار الآخرة لو كانت خالصة لهم، لوجب أن يتمنوا الموت. ثم إن الله- تعالى- أخبر أنهم ما تمنوا الموت، بل لن يتمنوه أبدا، وحينئذ يلزم قطعا بطلان ادعائها في قولهم: «إن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس» .وتحديهم بتمني الموت يكون بأن يقولوا بألسنتهم ليتنا نموت، أو يقولوا ما في معنى هذه الكلمة كما أشرنا إلى ذلك سابقا، وهذا رأى جمهور المفسرين.وروى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن ذلك يكون عن طريق المباهلة، بأن يحضروا مع المؤمنين في صعيد واحد، ثم يدعو الفريقان بالموت على الكاذب منهما.ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ الذي نطقت به الآية وأقرب أيضا إلى معناها. إذ ليس في الآية إشارة ما إلى طلب المباهلة، والقرآن حينما دعا إليها نصارى نجران، جاء اللفظ بها صريحا في قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ .
وَ لَنْ یَّتَمَنَّوْهُ اَبَدًۢا بِمَا قَدَّمَتْ اَیْدِیْهِمْؕ-وَ اللّٰهُ عَلِیْمٌۢ بِالظّٰلِمِیْنَ(۹۵)
اور ہرگز کبھی اس کی آرزو نہ کریں گے (ف۱۶۶) ان بداعمالیوں کے سبب جو آگے کرچکے (ف۱۶۷) اور اللہ خوب جانتا ہے ظالموں کو-
ثم أخبر- سبحانه- بأن هؤلاء اليهود لن يتمنوا الموت أبدا بسبب ما فعلوا من شرور فقال تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.أى: لا يتمنى اليهود الموت أبدا بسبب ما قدمت أيديهم من آثام، والله- عز وجل- لا تخفى عليه خافية من سيئاتهم واعتداءاتهم بل هو سيسجلها عليهم، ويجازيهم عليها الجزاء الذي يستحقونه، والآية الكريمة خبر من الله- تعالى- عن اليهود بأنهم يكرهون الموت، ويمتنعون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمنيه، لعلمهم بأنهم إن فعلوا فالموت نازل بهم، وذلك لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفا من أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب.وقد صح من عدة طرق عن ابن عباس أنه قال: «لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه» .وقال ابن جرير في تفسيره: «وبلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» قال حدثنا بذلك أبو كريب، حدثنا زكريا بن عدى، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .وقال الإمام ابن كثير: ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقى حدثنا فرات عن عبد الكريم به».وقال صاحب الكشاف: قوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به، كقوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا فإن قلت: ما أدراك أنهم لم يتمنوا الموت: قلت لو تمنوا لنقل ذلك عنهم كما نقلت سائر الحوادث، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام أكثر من الذر وليس أحد منهم نقل عنه ذلك».ويكفى في تحقيق هذه المعجزة، ألا يصدر تمنى الموت عن اليهود الذين تحداهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وهم الذين كانوا يضعون العراقيل في طريق دعوته، ويصرون على جحود نبوته فلا يقدح في هذه المعجزة أن ينطق يهودي بعد العهد النبوي بتمني الموت وهو حريص على الحياة، لأن المعنيين بالتحدي هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي.وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وارد مورد التهديد والوعيد لهم وكان اليهود ظالمين بسبب ما قدمت أيديهم وبسبب كونهم قد كذبوا على الله في دعواهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان منهم.
وَ لَتَجِدَنَّهُمْ اَحْرَصَ النَّاسِ عَلٰى حَیٰوةٍۚۛ-وَ مِنَ الَّذِیْنَ اَشْرَكُوْاۚۛ-یَوَدُّ اَحَدُهُمْ لَوْ یُعَمَّرُ اَلْفَ سَنَةٍۚ-وَ مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهٖ مِنَ الْعَذَابِ اَنْ یُّعَمَّرَؕ-وَ اللّٰهُ بَصِیْرٌۢ بِمَا یَعْمَلُوْنَ۠(۹۶)
اور بیشک تم ضرور انہیں پاؤ گے کہ سب لوگوں سے زیادہ جینے کی ہوس رکھتے ہیں اور مشرکوں سے ایک کو تمنا ہے کہ کہیں ہزار برس جئے (ف۱۶۸) اور وہ اسے عذاب سے دور نہ کرے گا اتنی عمر دیا جانا اور اللہ ان کے کوتک دیکھ رہا ہے،
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بأن هؤلاء اليهود الذين يزعمون أن الجنة خالصة لهم في غاية الحرص على الحياة فقال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.ومعنى الآية الكريمة: ولتجدن- يا محمد- أولئك اليهود- الذين يزعمون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس- لتجدنهم أحب الناس للحياة، وأحرصهم عليها، وأشدهم كراهية للموت «وليس ذلك عند ما يكونون متمتعين بالطمأنينة والعافية فقط بل هم كذلك حتى ولو زالت عنها كل معاني الراحة والطمأنينة، فهم أحرص عليها حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث، والذين يعتبرون نعيمهم الأكبر هو ما يتمتعون به من اللذائذ في هذه الدنيا، وهم في حرصهم على الحياة يتمنون أن تطول أعمارهم دهورا طويلة، لا يصل إليها خيال أحد ممن يحرصون عليها كما قال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. وبذلك تكون الآية الكريمة قد كذبتهم في دعواهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس لأن الأمر لو كان كما يزعمون لرحبوا بالانتقال إليها، ولكنهم لا يحبون الموت ولا يكاد يخطر ببالهم، ويحرصون كل الحرص على اللقاء حتى مع سوء الحالة ورذالة العيش، كما يشعر بذلك التنكير في قوله تعالى عَلى حَياةٍ.والمراد بالناس جميعهم، وأفعل التفضيل في «أحرص» على بابه، لأن الحرص على الحياة غريزة في البشر إلا أنهم متفاوتون فيه قوة وكيفية وأسبابا، كما قال الشاعر:أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه ... حريصا عليها مستهاما بها صبافحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربافالناس جميعا وإن كانوا يشتركون مع اليهود في الحرص على الحياة، إلا أن اليهود يزيدون على سائر الناس أنهم أحرصهم، وأنهم من أجل حرصهم عليها يضحون بدينهم وبكرامتهم وبكل شيء.ونكر- سبحانه- الحياة التي يحرصون عليها، زيادة في تحقيرهم، فكأنه- سبحانه- يقول: إنهم شديد والحرص على الحياة، ولو كانت حياة بؤس وشقاء، وللإشعار بأن ما يهمهم هو مطلق حياة كيفما كانت، بصرف النظر عن العزة والكرامة، فمن أمثال اليهود المشهورة «الحياة وكفى» .ولا شك أن شدة التهالك على الحياة، تؤدى إلى الجبن، واحتمال الضيم، وتجعل الأمة التي تنتشر فيها هذه الرذيلة لا تفرق بين الحياة الكريمة والحياة الذليلة.وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عطف على الناس، لأنه لما كان قوله تعالى: أَحْرَصَ النَّاسِ في معنى: أحرص من جميع الناس صح أن يراعى المعنى، فيكون قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا معطوف عليه، فيكون المعنى: أحرص من جميع الناس، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة.والذين أشركوا، هم الذين جعلوا لله شركاء وإنما أفردوا بالذكر مع أنهم من الناس، مبالغة في توبيخ اليهود وذمهم، لأنهم إذا زاد حرصهم على الحياة- وهم أهل كتاب- على المشركين الذين لا كتاب لهم ولا يدينون ببعث أو نشور كان ذلك دليلا على هوان نفوسهم، وابتذال كرامتهم وعدم اعتدادهم بوصايا كتبهم التي تنهاهم عن الحرص على الحياة الذليلة.قال صاحب الكشاف: «وفيه توبيخ عظيم، لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليها في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء، كان حقيقا بأعظم التوبيخ، فإن قلت: لم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلت: لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك» .ثم بين- سبحانه- مظهرا من مظاهر حرصهم على الحياة فقال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ أى يتمنى الواحد منهم أن يعيش دهورا كثيرة، ليس من عادة الناس أن يحبوا بلوغها، لأنها تؤدى بهم إلى أرذل العمر، وعدم طيب العيش.فالجملة الكريمة مستأنفة لإظهار مغالاتهم في التهالك على الدنيا ولتحقيق عموم النوعية في الحياة المنكرة، ولدفع ما يظنه بعض الناس من أن حرصهم على الحياة مهما اشتد فلن يصل بهم إلى تمنى أن يعيش الواحد منهم ألف عام، أو أكثر، فجيء بهذه الجملة الكريمة. لتحقيق أن تعلقهم بالدنيا يشمل حتى هذه السن المتطاولة، التي لا هناء فيها ولا راحة، والتي استعاذ من بلوغها المؤمنون.ثم بين- سبحانه- أن تعميرهم الطويل لن ينجيهم من العقوبة، لأن الموت لا يتركهم مهما طال عمرهم، فقال تعالى: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ أى: وما أحد منهم بمبعده تعميره عن العذاب المعد له، ولا بمنجيه منه.والجملة الكريمة فيها بيان مصيرهم المحتوم، وقطع لحبال مطامعهم، لأن الموت سيلحقهم مهما بلغ عمرهم، وسيلقون جزاءهم على سوء صنيعهم.وفي التعبير بِمُزَحْزِحِهِ إشارة إلى أن طول عمرهم، ليس له أى أثر في تخفيف العذاب عنهم، وقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ تهديد ووعيد لهم لأنه- سبحانه- عليم بأعمالهم، محيط بما يخفون وما يعلنون، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون.ومن هذا العرض للآيات الكريمة نرى أنها قد ردت على اليهود في دعواهم أن الجنة خالصة لهم، ردا يبطل حجتهم، ويفضح مزاعمهم، ويكبت نفوسهم، ويخرس ألسنتهم، ويعلن أن الجنة إنما هي لمن أسلّم وجهه لله وهو محسن، وهم ليسوا من هذا النوع من الناس ولذا حرصوا على الحياة وفزعوا من الموت، لأنهم يعلمون أن من ورائهم النار وبئس القرار بسبب ما ارتكبوا من سيئات، واقترفوا من أكاذيب.
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِیْلَ فَاِنَّهٗ نَزَّلَهٗ عَلٰى قَلْبِكَ بِاِذْنِ اللّٰهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَیْنَ یَدَیْهِ وَ هُدًى وَّ بُشْرٰى لِلْمُؤْمِنِیْنَ(۹۷)
تم فرمادو جو کوئی جبریل کا دشمن ہو (ف۱۶۹) تو اس (جبریل) نے تو تمہارے دل پر اللہ کے حکم سے یہ قرآن اتارا اگلی کتابوں کی تصدیق فرماتا اور ہدایت و بشارت مسلمانوں کو-(ف۱۷۰)
ثم ساق القرآن بعد ذلك لوناً عجيباً من ألوان اليهود وهو مجاهرتهم بالعداوة لأمين الوحي جبريل - عليه السلام - فقال - تعالى - :( قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ . . . )فهاتان الآيتان تكشفان عن رذيلة غريبة حقا من رذائل اليهود وهي عداوتهم لملك من ملائكة الله، لا يأكل مما يأكلون، ولا يشرب مما يشربون وإنما هو من الملائكة المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإذا فليس هناك مقتض لعداوته، فلماذا هذا التصريح منهم ببغضه وكراهيته؟لقد سمعوا أن جبريل- عليه السلام- ينزل بالوحي من عند الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم يحسدونه على النبوة، فلج بهم الحقد والغيظ إلى أن أعلنوا عن عدائهم لجبريل- أيضا- وهذه حماقة وجهالة منهم، لأن جبريل- عليه السلام- نزل بالخير لهم في دينهم وفي دنياهم. ولكن الحقد والحسد إذا استوليا على النفوس جعلاها لا تفرق بين الخير والشر.ومعنى الآيتين الكريمتين، قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين أعلنوا عداءهم لجبريل أنه لا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وإنما نزل على قلبك بأمر الله ليكون مؤيدا لما نزل قبله من الكتب السماوية وليكون هداية إلى طريق السعادة وبشارة للمؤمنين بالجنة، وقل لهم كذلك من كان معاديا لله أو لملك من ملائكته أو لرسول من رسله، فقد كفر وباء بغضب من الله، ومن غضب الله عليه، فجزاؤه الخزي وسوء المصير.قال الإمام ابن جرير: (أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا، على أن هذه نزلت جوابا ليهود من بنى إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وميكائيل ولى لهم) .وروى البخاري في صحيحه- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في أرض يخترف- أى يجنى ثمارها- فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له:إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرنى بهن جبريل آنفا قال: جبريل؟ قال: نعم قال ذلك عدو اليهود من الملائكة- فقرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ... الآية ثم قال: أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب! وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.يا رسول الله: إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامى قبل أن تسألهم يبهتونى، فجاءت اليهود فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أى رجل فيكم عبد الله؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا، وسيدنا وابن سيدنا: قال «أرأيتم إن أسلّم عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك؟ فخرج عبد الله فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله «2» .وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس: «أن اليهود بعد أن سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أسئلة أجابهم عنها، قالوا صدقت فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك. قال: وليي جبريل، لم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك سواه منالملائكة لتابعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله- تعالى- قوله: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ... الآيات.وفي حديث للإمام أحمد والترمذي والنسائي «قال اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن سألوه عن أشياء أجابهم عنها إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال جبريل- عليه السلام- قالوا: جبريل ذلك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان. فأنزل الله- تعالى-: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية.فيؤخذ من هذه الأحاديث وما في معناها أن اليهود في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يجاهرون بعداوتهم لجبريل- عليه السلام- وأن هذه المجاهرة بالعداوة، قد تكررت منهم في مواقف متعددة بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن الذي حملهم على ذلك هو حسدهم له، وغيظهم من جبريل، لأنه ينزل بالوحي عليه.قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من عند الله، ومع ذلك يبغضونه، وهذا أحط درجات الانحطاط في العقل والعقيدة، ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تضافر آرائهم على الخطأ والأوهام».وفي أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بلفظ (قل) كي يرد على اليهود، تثبيت له، وتطمين لنفسه وتوبيخ لهم على معاداتهم لأمين الوحى، وهو جبريل- عليه السلام-.وقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، شرط عام قصد الإتيان به ليعلموا أن الله- تعالى- لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادى جبريل، إن وجد معاد آخر له سواهم.وقوله تعالى: عَلى قَلْبِكَ زيادة تقرير للتنزيل، ببيان محل الوحى، وإشارة إلى أن السبب في تمكنه صلّى الله عليه وسلّم من تلاوة القرآن الكريم، وإبلاغه للناس، ثباته في قلبه.وقوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ معناه: فلا موجب لعداوته. لأنه نزل القرآن على قلبك يا محمد بإذن الله وأمره. وإذا فعداوته عداوة لله في الحقيقة والواقع، ومن هنا يتبين أن هذه الجملة تعليل لجواب الشرط وقائمة مقامه.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف استقام قوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ جزاء للشرط؟ قلت: فيه وجهان:أحدهما: إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته، حيث نزل كتابا مصدقا للكتب التي بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم.والثاني: إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقا لكتابهم، وموافقا له، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك يحرفونه ويجحدون موافقته له. كقولك:«إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه» .وقوله- تعالى-: بِإِذْنِ اللَّهِ أى بأمره، وهو توبيخ لهم على عداوتهم لجبريل، الذي أنزل بالقرآن بإذن الله، لا من تلقاء نفسه، وهذه حجة أولى عليهم.وقوله تعالى: مُصَدِّقاً حال من الضمير العائد على القرآن الكريم، في قوله نَزَّلَهُ أى أنزله حالة كونه مؤيدا للكتب السماوية التي قبله ومن بينها التوراة، وهذه حجة ثانية عليهم.ثم عززهما بثالثة ورابعة- فقال تعالى: وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أى هذا القرآن الذي نزل مصدقا لكتبكم، هو هاد إلى طريق الفلاح والنجاح، والعاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه وتنقذه مما هو فيه من ضلالات ولو كان الواسطة في مجيئها عدوا له، وهو- أيضا- مبشر للمؤمنين برضا الله تعالى- عنهم في الدنيا والآخرة، أما الضالون فقد أنذرهم بسوء العقبى فعليكم أن تتبعوا طريق الإيمان لتكونوا من المفلحين وبذلك يكون القرآن قد أقام حججا متعددة على حماقتهم وعنادهم وجحودهم للحق بعد ما تبين. وتكون الآية الكريمة قد مدحت القرآن بخمس صفات.أولها: أنه منزل من عند الله وبإذنه.وثانيها: أنه منزل على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم.وثالثها: أنه مصدق لما نزل قبله من الكتب السماوية.ورابعها: أنه هاد إلى الخير أبلغ هدى وأقواه.وخامسها: أنه بشارة سارة للمؤمنين.
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِّلّٰهِ وَ مَلٰٓىٕكَتِهٖ وَ رُسُلِهٖ وَ جِبْرِیْلَ وَ مِیْكٰىلَ فَاِنَّ اللّٰهَ عَدُوٌّ لِّلْكٰفِرِیْنَ(۹۸)
جو کوئی دشمن ہو اللہ اور اس کے فرشتوں اور اس کے رسولوں اور جبریل اور میکائیل کا تو اللہ دشمن ہے کافروں کا (ف۱۷۱)
ثم بين- تعالى- حقيقة الأمر فيمن يعادى جبريل وأن عداوته عداوة لله- تعالى- فإنه أمين وحيه إلى رسله ليس له في ذلك شيء إلا أن يبلغ ما أمر به فقال تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ.والمعنى: أن عداوة جبريل عداوة لله، وأن عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم عداوة لله- أيضا- فالإيمان بالله وملائكته ورسله وحدة لا تتجزأ فمن كفر بواحد منهم فهو كافر بالجميع.ومعنى عداوة العبد لله: كفره به ومخالفته لأوامره ونواهيه ومعنى عداوته لملائكته: إنكار فضلهم ووصفهم بما ينافي عصمتهم ورفعة منزلتهم. ومعنى عداوته لرسله: تكذيبه لهم وتعمده إلحاق الأذى بهم ومعنى عداوة الله لعبده: غضبه سبحانه- عليه، ومجازاته له على كفره.وصدر- سبحانه- الكلام باسمه الجليل تفخيما لشأن ملائكته ورسله وإشعارا بأن عداوتهم إنما هي عداوة له- تعالى-.وأفرد- سبحانه- جبريل وميكال بالذكر، مع اندراجهما تحت عموم ملائكته، لتصريح اليهود بعداوة جبريل وتعظيم ميكائيل، فأفردهما بالذكر للتنبيه على أن المعاداة لأحدهما معاداة للجميع، وأن الكفر بأحدهما كفر بالآخر.قال ابن جرير: «فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟ قيل بلى، فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟ قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أن اليهود لما قالت جبريل عدونا وميكائيل ولينا، وزعمت أنها كفرت بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من أجل أن جبريل صاحبه، أعلمهم الله- تعالى- أن من كان لجبريل عدوا فإن الله عدو له وأنه من الكافرين، فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله:من كان عدوا لله وملائكته ورسله، ولسنا لله ولا لملائكته ولا لرسله أعداء، لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه، وكذلك قوله ورسله فلست يا محمد داخلا فيهم، فنص الله- تعالى- على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ليقلع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويههم أمورهم على ضعاف الإيمان» .وقال- سبحانه- في ختام الآية الكريمة فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ولم يقل فإن الله عدو له أو لهم، ليدل على أن عداوة كل واحد ممن اشتملت الآية الكريمة على ذكرهم كفر وجحود، وليكون اندراجهم تحت هذا الحكم العام من باب إثبات الحكم بالدليل، وللإشعار بأن عداوة الله- تعالى- لهم سببها كفرهم فإن الله لن يعادى قوما لذواتهم ولا لأنسابهم، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه معاقبة العدو للعدو.قال صاحب المنار: «فهذه الآية الكريمة وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاءوا بها، فهم لم يدعوا عداوة هؤلاء كلهم، لكنهم كذلك في نفس الأمر، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في الواقع، وهي أنهم أعداء الحق وأعداء كل من يمثله ويدعو إليه، فالتصريح بعداوة جبريل كالتصريح بعداوة ميكائيل الذي يزعمون أنهم يحبونه. وأنهم كانوا يؤمنون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لو كان هو الذي ينزل بالوحي عليه، ومعاداة القرآن الكريم كمعاداة سائر الكتب الإلهية لأن المقصود من الجميع واحد فقولهم السابق وحالهم يدلان على معاداة كل من ذكر، وهذا من ضروب إيجاز القرآن الكريم التي انفرد بها» .وبهذا تكون الآيتان الكريمتان قد دمغتا اليهود بالكفر والجهالة، لمعاداتهم لجبريل وتكذيبهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبينتا ما عليه أمرهم من خزي وهوان بسبب هذه العداوة التي لا باعث عليها إلا الحسد، وكراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
وَ لَقَدْ اَنْزَلْنَاۤ اِلَیْكَ اٰیٰتٍۭ بَیِّنٰتٍۚ-وَ مَا یَكْفُرُ بِهَاۤ اِلَّا الْفٰسِقُوْنَ(۹۹)
اور بیشک ہم نے تمہاری طرف روشن آیتیں اتاریں (ف۱۷۶) اور ان کے منکر نہ ہوں گے مگر فاسق لوگ -
ثم أخذ القرآن في تثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم وتسليته عما يفعله معه اليهود فقال تعالى:( وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ . . . )أى: لقد أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالة على معانيها وعلى كونها من عند الله، وبينا لك فيها علوم اليهود، ومكنونات سرائرهم وأخبارهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم من كتبهم، وما بدلوه من أحكامهم قال تعالى:إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.وإن هذه الآيات التي أنزلها الله إليك يا محمد، ما يكفر بها، ويجحد صدقها إلا المتمردون من الكفرة، الخارجون على حدود الله المنتهكون لحرماته.
اَوَ كُلَّمَا عٰهَدُوْا عَهْدًا نَّبَذَهٗ فَرِیْقٌ مِّنْهُمْؕ-بَلْ اَكْثَرُهُمْ لَا یُؤْمِنُوْنَ(۱۰۰)
اور کیا جب کبھی کوئی عہد کرتے ہیں ان میں کا ایک فریق اسے پھینک دیتا ہے بلکہ ان میں بہتیروں کو ایمان نہیں -(ف۱۷۳)
والهمزة في قوله ( أَوَكُلَّمَا ) للإِنكار ، والواو للعطف على محذوف يقتضيه المقام : أي أكفروا بالآيات البينات ، وكلما عاهدوا عهداً نبذه فرق منهم ، أي : طرحوه وانقضوه من النبذ وهو إلقاء الشئ وطرحه لقلة الاعتداد به ومنه سمي النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء وهو حقيقة في الأجرام وإسناده إلى العهد مجاز .والضمير في قوله: مِنْهُمْ يعود لليهود الذين اشتهروا بنقض العهود وقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يفيد الترقي إلى الأغلظ فالأغلظ، أى أن فريقا منهم عرف بنقضه للعهد، وأكثرهم عرف بكفره وجحده للحق.قال صاحب الكشاف، واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدوا رسول الله فلم يفوا الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ.وقال الرازي: «والمقصود من هذا الاستفهام الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه لأن مثل ذلك إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التوبيخ والتبكيت. ودل بقوله: أَوَكُلَّما عاهَدُوا على عهد بعد عهد نبذوه ونقضوه، بل يدل على أن ذلك كالعادة منهم، فكأنه- تعالى- أراد تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات، بأن بين له أن ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم ... »ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن نبذ اليهود لكتاب الله، واتباعهم للسحر والأوهام، فقال- تعالى-:
وَ لَمَّا جَآءَهُمْ رَسُوْلٌ مِّنْ عِنْدِ اللّٰهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِیْقٌ مِّنَ الَّذِیْنَ اُوْتُوا الْكِتٰبَۗۙ-كِتٰبَ اللّٰهِ وَرَآءَ ظُهُوْرِهِمْ كَاَنَّهُمْ لَا یَعْلَمُوْنَ٘(۱۰۱)
اور جب ان کے پاس تشریف لایا اللہ کے یہاں سے ایک رسول (ف۱۷۴) ان کی کتابوں کی تصدیق فرماتا (ف۱۷۵) تو کتاب والوں سے ایک گروہ نے اللہ کی کتاب پیٹھ پیچھے پھینک دی (ف۱۷۶) گویا وہ کچھ علم ہی نہیں رکھتے -(ف۱۷۷)
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن نبذ اليهود لكتاب الله ، واتباعهم للسحر والأوهام ، فقال - تعالى - :( وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ . . . )والمعنى: وحين جاء اليهود وأحبارهم رسول من عند الله، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، طرح فريق كبير منهم تعاليم التوراة التي تشهد بصدقه، وراء ظهورهم، حتى لكأنهم يجهلون أنها من عند الله، واتبعوا ما قصته واختلقته الشياطين من السحر والأوهام والمفتريات على عهد سليمان- عليه السلام- ومن هذه المفتريات والأكاذيب زعمهم أن سليمان- عليه السلام- كان ساحرا، وما تم له ملكه العريض، ولا ظهرت على يديه المعجزات الباهرة من تسخير الجن والريح إلا بهذا.وقد أكذبهم الله- تعالى- في هذا الزعم بقوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أى: بتعلم السحر والعمل به، كما يزعم هؤلاء «ولكن الشياطين» هم الذين «كفروا» بتعلم السحر وتعليمه للناس، وتعليمهم- أيضا- ضربا آخر منه وهو ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ من وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال به، ولقد كان الملكان لا يعلمان أحدا من الناس السحر حتى ينصحاه بقولهما: إن السحر الذي نعلمك إياه. القصد منه التمييز بين المطيع والعاصي، وبين السحر والمعجزة، فحذار أن تستعمله فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين، بخلاف الشياطين فإنهم تعلموه وعلموه لغيرهم لاستعماله في الشرور والآثام، ولإحداث التفرقة بين الزوجين، ولكن هذا السحر الذي يتعاطاه الشياطين وأتباعهم لن يضر أحدا بذاته، وإنما ضرره يتأتى إذا أراد الله تعالى- ذلك وشاءه، ولقد علم أولئك النابذون لكتاب الله المؤثرون عليه اتباع السحر، أن من استبدل السحر بكتاب الله، فليس له نصيب من نعيم الجنة، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ علما نافعا. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم كما أرشدتهم إليه التوراة، وَاتَّقَوْا المعاصي والآثام لأثيبوا مثوبة من عند الله هي خير لهم مما آثروه واختاروه على كتاب الله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ.. إلخ الآية.بيان لما صدر عن اليهود من تكذيب للرسول صلّى الله عليه وسلّم وطرح لتعاليم كتابهم التي أمرتهم باتباعه.أخرج ابن جرير عن السدى قال في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. أى لما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها.فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة والقرآن وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت، فذلك قول الله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ أى كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود، فنقضوا عهد الله، لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه .وفي وصف الرسول بأنه آت من عند الله تعظيم له، ومبالغة في انكار عدم إيمانهم به، وإغراء للناس جميعا بالدخول في دعوته، لأنه ليس رسولا من تلقاء نفسه، وإنما هو رسول من عند الله- تعالى-:والمراد «بما معهم» التوراة. وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لها، معناه أن ما جاء به من تعاليم موافق لها في أصول الدين، وأن ما جاءت به من صفات للرسول المنتظر بعد عيسى- عليه السلام- لا تنطبق إلا عليه صلّى الله عليه وسلّم.وعبر- سبحانه- عن تركهم العمل بالكتاب الذي نزل لهدايتهم بالنبذ، مبالغة في عدم اعتدادهم، وتناسيهم إياه، لأن أصل النبذ طرح وإلقاء ما لا يعتد به.وفي إسناد النبذ إلى فريق من الذين أوتوا الكتاب، سخرية بهم، واستجهال لهم، لأن الذين أوتوه هم الذين نبذوه، ولو كان النابذون من المشركين لكان لهم بعض العذر لجهلهم، ولكن أن يكون التاركون للنور هم الذين أوتوه وأكرموا به، فذلك هو الضلال المبين.والمراد من كِتابَ اللَّهِ الذي نبذوه لما جاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التوراة، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها حقا، لاتبعوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي ذكرت صفاته فيها، والذي وجب عليهم بمقتضى كتابهم التوراة الإيمان به، فهم بجحودهم لنبوته، يكونون جاحدين لتوراتهم التي شهدت له بالصدق.وقيل المراد بكتاب الله الذي نبذوه القرآن، لأنهم لم يؤمنوا به، بل تركوه بعد سماعه، وتناسوا ما اشتمل عليه من هداية وإرشاد، مع أنه كان من المتحتم عليهم أن يتلقوه بالقبول.والذي نراه أن الرأى الأول أرجح، لأن النبذ يقتضى سابقة الأخذ، في الجملة. وهو متحقق بالنسبة للتوراة، بخلاف القرآن الكريم فإنهم لم يسبق لهم أن تمسكوا به، ولأن مذمتهم تكون أشد وجحودهم أكثر، إذا كان المراد بالكتاب الذي نبذوه، هو عين الكتاب الذي نزل لهدايتهم وآمنوا به وهو التوراة.وقوله تعالى: وَراءَ ظُهُورِهِمْ كناية عن إعراضهم الشديد عنه، وتوليهم عن تعاليمه.تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره، أى تولى عنه معرضا، لأن ما يجعل وراء الظهر لا ينظر إليه، ففي هذه الجملة الكريمة تصوير صادق لإعراضهم عن كتاب الله- تعالى- حيث شبه- سبحانه- تركهم لكتابه، بحالة شيء يرمى به وراء الظهر استهانة به. وفي إضافة الوراء إلى الظهر، تأكيد لنبذ ما ترك بحيث لا يؤخذ بعد ذلك.قال الأستاذ الإمام: ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله. وإنما المراد أنهم طرحوا أجزاء منه وهو ما يبشر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويبين صفاته ويأمرهم بالإيمان به واتباعه. فهو تشبيه لتركهم إياه وإنكاره، بمن يلقى الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره، وترك الجزء منه كتركه كله، لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحى من النفس، ويجزئ على ترك الباقي «1» ...وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ جملة حالية، أى طرحوه وراء ظهورهم مشبهين بحال من لا يعلم منه شيئا، ومن لا يعرف أنه كتاب الله.وشبههم بمن لا يعلمون مع أنهم في الواقع يعلمون أنه من عند الله- حق العلم- لأنهم نبذوه مكابرة وعنادا، ولأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم ومن كان هذا شأنه فهو والجاهل سواء، في جحود الحق والانغماس في الآثام.وقال- سبحانه-: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ بنفي الحال والاستقبال للإشعار بأنهم قوم لا أمل في توبتهم وإنابتهم، بل هم تمر بهم الأيام، وتتوالى عليهم العظات، ومع ذلك لا يتوبون ولا يرجعون إلى الحق، فهم مستمرون على طرح كتاب الله في كل وقت وآن، ومصممون على ذلك.
وَ اتَّبَعُوْا مَا تَتْلُوا الشَّیٰطِیْنُ عَلٰى مُلْكِ سُلَیْمٰنَۚ-وَ مَا كَفَرَ سُلَیْمٰنُ وَ لٰكِنَّ الشَّیٰطِیْنَ كَفَرُوْا یُعَلِّمُوْنَ النَّاسَ السِّحْرَۗ-وَ مَاۤ اُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَیْنِ بِبَابِلَ هَارُوْتَ وَ مَارُوْتَؕ-وَ مَا یُعَلِّمٰنِ مِنْ اَحَدٍ حَتّٰى یَقُوْلَاۤ اِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْؕ-فَیَتَعَلَّمُوْنَ مِنْهُمَا مَا یُفَرِّقُوْنَ بِهٖ بَیْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهٖؕ-وَ مَا هُمْ بِضَآرِّیْنَ بِهٖ مِنْ اَحَدٍ اِلَّا بِاِذْنِ اللّٰهِؕ-وَ یَتَعَلَّمُوْنَ مَا یَضُرُّهُمْ وَ لَا یَنْفَعُهُمْؕ-وَ لَقَدْ عَلِمُوْا لَمَنِ اشْتَرٰىهُ مَا لَهٗ فِی الْاٰخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﳴ وَ لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهٖۤ اَنْفُسَهُمْؕ-لَوْ كَانُوْا یَعْلَمُوْنَ(۱۰۲)
اور اس کے پیرو ہوئے جو شیطان پڑھا کرتے تھے سلطنت سلیمان کے زمانہ میں (ف۱۷۸) اور سلیمان نے کفر نہ کیا (ف۱۷۹) ہاں شیطان کافر ہوئے (ف۱۸۰) لوگوں کو جادو سکھاتے ہیں اور وہ (جادو) جو بابل میں دو فرشتوں ہاروت و ماروت پر اترا اور وہ دونوں کسی کو کچھ نہ سکھاتے جب تک یہ نہ کہہ لیتے کہ ہم تو نری آزمائش ہیں تو اپنا ایمان نہ کھو (ف۱۸۱) تو ان سے سیکھتے وہ جس سے جدائی ڈالیں مرد اور اس کی عورت میں اور اس سے ضرر نہیں پہنچا سکتے کسی کو مگر خدا کے حکم سے (ف۱۸۲) اور وہ سیکھتے ہیں جو انہیں نقصان دے گا نفع نہ دے گا اور بیشک ضرور انہیں معلوم ہے کہ جس نے یہ سودا لیا آخرت میں اس کا کچھ حصہ نہیں اور بیشک کیا بری چیز ہے وہ جس کے بدلے انہوں نے اپنی جانیں بیچیں کسی طرح انہیں علم ہوتا- (ف۱۸۳)
ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من زيغهم وضلالهم واتباعهم للأباطيل بعد أن وبخهم علىنبذهم لكتابه فقال تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ.اتبعوا: من الاتباع وهو الاقتداء، والضمير فيه يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم.وتتلو: من التلاوة بمعنى الاتباع أو القراءة، وقال الراغب: تلا عليه كذب عليه.والشياطين: جمع شيطان، وهو كائن حي خلق من النار، ويطلق على الممتلئ شرا من الأنس.والمعنى: إن هؤلاء اليهود نبذوا كتاب الله، واتبعوا الذي كانت تتلوه وتقصه الشياطين على عهد ملك سليمان، وفي زمانه، من الأكاذيب والكفر ومن ذلك زعمهم أن ملكه قام على أساس السحر، وأنه ارتد في أواخر حياته، وعبد الأصنام إرضاء لنسائه الوثنيات إلى غير ذلك من الأكاذيب التي ألصقوها به- عليه السلام- وهو برىء منها.قال صاحب الكشاف: وقوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أى على عهد ملكه وفي زمانه، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها للناس، وفشا ذلك في زمان سليمان- عليه السلام- حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون: ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الإنس والجن والريح التي تجرى بأمره «1» .وقوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا معناه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين هم الذين كفروا إذ تعلموا السحر وعلموه لغيرهم بقصد إضلالهم، وصرفهم عن عبادة- الله- تعالى- إلى عبادة غيره من المخلوقات.ففي الجملة الكريمة تنزيه لسليمان- عليه السلام- عن الردة والشرك وتبرئة له من عمل السحر الذي كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زورا وبهتانا، ودلالة على أن ذلك السحر الذي نسبوه إليه وباشرته الشياطين نوع من الكفر.وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان، وأنه ارتد في آخر عمره، وعبد الأصنام وبنى لها المعابد، وكانوا عند ما يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم سليمان بين الأنبياء يقولون: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح.فإن قال قائل: ما الحكمة في نفى الكفر عن سليمان مع أن صدر الآية لا يفيد أن أحدا نسب إليه ذلك.فالجواب: أن اليهود الذين نبذوا كتاب الله، واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر أضافوا هذا السحر إلى سليمان، وقالوا إنه كان يسخر به الجن والإنس والريح، فأكذبهم الله- تعالى- بقوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا كما بينا.والضمير في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يعود على الشياطين الذين افتروا الأكاذيب على سليمان- عليه السلام-.ويجوز أن يعود على اليهود الذين نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تلته الشياطين على سليمان.قال الأستاذ الإمام: في قوله تعالى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: وجهان:أحدهما: أنه متصل بقوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أى: أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر.والثاني: وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وأن الكلام في الشياطين قد انتهى عند قوله تعالى كَفَرُوا وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم، أى أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وهاهنا يقول القائل: بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكفر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.ونفى الكفر عن سليمان والصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض، فعلم- أيضا- أنهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية، وإنما كان القصد إلى وصف اليهود بتعلم السحر، لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها، ويضرون بها الناس خداعا وتمويها وتلبسا .وإنما أضاف الله- تعالى- إلى اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان خاصة مع أنه كان معروفا قبل سليمان- عليه السلام- كما أخبر به القرآن عن سحرة فرعون، وإنما أضاف ذلك إليهم، لأن هذا كان هو الواقع منهم، ولأن سحر هؤلاء الشياطين الذين كانوا على عهد سليمان، كان مدونا في صحف اليهود من قديم، وتوارثه خلفهم عن سلفهم إلى أن وصل إلى من عاصر النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم ولأن سليمان- عليه السلام- أعطاه الله تعالى ملكا واسعا، وسخر له الإنس والجن والريح، فعزت الشياطين ذلك كله إلى تعلمه السحر.وما في قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ موصولة، وهي معطوفة على السحر في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ أى يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين.والذي أنزل عليهما هو وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال به. ليعرفاه الناس فيجتنبوه، على حد قول الشاعر:عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ... ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه.فالشياطين عرفوه فعملوا به، وعلموه للناس ليستعملوه في الشرور والمآثم بينما المؤمنون عرفوه واستفادوا من الاطلاع عليه فتجنبوه .هذا، واختصت بابل بالإنزال، لأنها كانت أكثر البلاد عملا بالسحر، وكان سحرتها قد اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم، ثم جروهم إلى عبادة الأصنام والكواكب فحدث فساد عظيم، وعمت الأباطيل فألهم الله- تعالى- هاروت وماروت أن يكشفا للناس حقيقة السحر ودقائقه، حتى يعلموا أن السحرة الذين صرفوهم عن عبادة الله إلى عبادة الكواكب وغيرها قد خدعوهم وأضلوهم، وبذلك يعودون إلى الصراط المستقيم.واللام في الْمَلَكَيْنِ مفتوحة في القراءات العشر المتواترة، وقرئ شاذا الْمَلَكَيْنِ بكسر اللام.قال بعض المفسرين: المراد بالملكين- بفتح اللام- رجلان صالحان اطلعا على أسرار السحر التي كانت تفعلها السحرة، فعلماها للناس ليحذراهم من الانقياد لتلبيسات الشياطين، وسميا ملكين مع أنهما من البشر لصلاحهما وتقواهما، ويؤيد هذا الرأى قراءة الملكين- بكسر اللام- وإن كانت شاذة:وقال جمهور المفسرين: إنهما ملكان على الحقيقة أنزلهما الله- تعالى- ليعلما الناس السحر ابتلاء لهم، ليفضحا مزاعم السحرة الذين كانوا يدعون النبوة كذبا، ويسخرون العامة لهم ويخرجونهم إلى عبادة غير الله، (وهاروت وماروت) اسمان للملكين الذين أنزل عليهما السحر، وهما بدل أو عطف بيان للملكين.وقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ بيان لما كان ينصح به الملكان من يريد تعلم السحر منهما. والجملة حالية من هاروت وماروت.والفتنة، المراد بها هنا الابتلاء والاختبار، تقول: فتنت الذهب في النار، أى: اختبرته لتعرف جودته ورداءته.والمعنى: أن الملكين لا يعلمان أحدا من الناس السحر إلا وينصحانه بقولهما إن ما نعلمك إياه من فنون السحر الغرض منه الايتلاء والاختبار لتمييز المطيع من المعاصي. فمن عمل به ضل وغوى، ومن تركه فهو على هدى ونور من الله، ولإظهار الفرق بين المعجزة والسحر.فحذار أن تستعمل ما تعلمته فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين. كما كفر السحرة بنسبتهم التأثيرات إلى الكواكب وغيرها من المخلوقات.فالمقصود من تعليم الملكين للناس السحر، فضح أمر السحرة الذين كثروا في تلك الأيام، وادعوا ما لم يأذن به الله، وإظهار الفرق بين المعجزة والسحر حتى يعلم الناس أن هؤلاء السحرة الذين قد يزعمون بمرور الأيام أنهم أنبياء ليسوا كذلك، وإنما هم أفاكون، وأخبروا على أنفسهم بطريق القصر بأنهم فتنة للمبالغة في الإقرار بأنهما لا يملكان نفعا ولا ضرا لأحد، وإنما هما فتنة محضة، وابتلاء من الله لعباده لتمييز المطيع من العاصي.ثم بين- سبحانه- لونا من السحر البغيض الذي استعمله أولئك السحرة في الأذى فقال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أى فيتعلم بعض الناس من الملكين ما يحصل به الفراق بين المرء وزوجه.فالجملة الكريمة تفريع عما دل عليه قوله تعالى قبل ذلك: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ لأنه يقتضى أن التعليم حاصل، وأن بعض المتعلمين قد استعملوه في التفريق بين الزوجين.وخصص سبحانه هذا اللون من السحر بالنص عليه للتنبيه على شدة فساده. وعلى شناعة ذنب من يقوم به. لأنه تسبب عنه التفريق بين الزوجين اللذين جمعت بينهما أواصر المودة والرحمة.والضمير في قوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ راجع لأحد، وصح عود ضمير الجمع عليه مع أنه مفرد، لوقوعه في سياق النفي، والنكرة إذا وردت بعد نفى كانت في معنى أفراد كثيرة، فصح أن يعود ضمير الجمع إليه كذلك.ثم نفى- سبحانه- أن يكون السحر مؤثرا بذاته فقال تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِأى: أن أولئك السحرة لن يضروا أو ينفعوا أحدا بسحرهم إلا بإذن الله وقدرته، فالسحر سبب عادى لما ينشأ عنه من الاضرار ويجوز أن يتخلف عنه مسببه إذا أذن الله بذلك.والجملة الكريمة معترضة لدفع توهم أن يكون السحر مضرا بذاته، بحيث لا يتخلف عنه الضرر متى تعاطاه الساحر.والمراد بِإِذْنِ اللَّهِ هنا. تخليته- سبحانه- بين المسحور وضرر السحر، أى: إن شاء حصل الضرر بسبب السحر، وإن شاء منعه فلا يصيب المسحور منه شيء من الأذى.وعبر- سبحانه- عن هذا المعنى بطريق القصر، مبالغة في نفى أى تأثير للسحر بذاته، وإغراء للناس بتكذيب ما يزعمه السحرة من أن لهم قوى غيبية سوى الأسباب التي ربط الله بها المسببات، وإرشادا لهم إلى حسن الاعتقاد، وسلامة اليقين.ثم بين- سبحانه- أن أولئك المتعلمين السحر للأذى وللتفرقة بين المتحابين يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، فقال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ أى: أن أولئك الذين تعلموا السحر ليضروا به غيرهم، ولم يتعلموه ليفرقوا به بين الحق والباطل، أو ليدفعوا به الشر عن أنفسهم، قد سلكوا بهذا التعليم الطريق الذي يضرهم ولا ينفعهم، وأصبحوا بذلك عاصين لما نصحهم به الملكان عند تعليم السحر.وفي هذه الجملة الكريمة زيادة تنبيه على تفاهة عقول المشتغلين بالسحر للأذى ومبالغة في تجهيل المصدقين لهم، لأن الساحر- مهما بلغت براعته- فلن يستطيع أن يمنع شيئا أراده الله، ولا أن يأتى بشيء منعه الله مادام الأمر كذلك فالمشتغل به، والمصدق له كلاهما وقع في ضلال مبين.وقد أفادت الجملة الكريمة بجمعها بين إثبات الضر ونفى النفع مفاد الحصر فكأنه- سبحانه- يقول: ويتعلمون ما ليس إلا ضررا بحتا.ثم بين- سبحانه- مآل أولئك اليهود التاركين للحق، والمتبعين للباطل فقال تعالى:وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أى: ولقد علم أولئك اليهود الذين نبذوا تعاليم كتابهم واتبعوا السحر، أن من استبدل السحر بكتاب الله ليس له من حظ في الجنة، لأنه قد اختار الضلال وترك الهدى، وعلمهم مرجعه إلى أن التوراة قد حرمت عليهم تعلم السحر أو تعليمه للأذى والضرر، وشددت العقوبة على مرتكبه، وعلى متبع الجن والشياطين والكهان.فالضمير في عَلِمُوا يعود إلى أولئك اليهود الذي تركوا كتاب الله واستبدلوا به السحر.والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره، والمراد أنهم اكتسبوا السحر الذي تتلوه الشياطين بعد أن بذلوا في سبيل ذلك إيمانهم ونصيبهم من الجنة، وغدوا مفلسين من حظوظ الآخرة، لإقبالهم على التمويه والكذب، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير.وأكد- سبحانه- علمهم بضرر السحر بقوله وَلَقَدْ عَلِمُوا للإشارة إلى أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره، وإنما هم الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة.ثم قال تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.شروا: بمعنى باعوا، وبيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة. ونعيمها.والمعنى: ولبئس شيئا باع به أولئك السحرة حظوظ أنفسهم تعلم ما يضر من السحر والعمل به، ولو كانوا ممن ينتفعون بعلمهم لما فعلوا ذلك.وأثبت لهم العلم في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ثم نفاه عنهم في قوله تعالى:لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ جريا على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة من أن العالم بالشيء إذا لم يعمل بموجب علمه نزل منزلة الجاهل ونفى عنه العلم كما ينفى عن الجاهلين.وإلى هذا المعنى الذي قررناه أشار صاحب الكشاف بقوله.فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ؟قلت: معناه لو كانوا يعملون بعلمهم. جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه .
وَ لَوْ اَنَّهُمْ اٰمَنُوْا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوْبَةٌ مِّنْ عِنْدِ اللّٰهِ خَیْرٌؕ-لَوْ كَانُوْا یَعْلَمُوْنَ۠(۱۰۳)
اور اگر وہ ایمان لاتے (ف۱۸۴) اور پرہیزگاری کرتے تو اللہ کے یہاں کا ثواب بہت اچھا ہے کسی طرح انہیں علم ہوتا -
ثم بين- سبحانه- المنافع التي تعود عليهم لو اتبعوا الحق، بعد أن بين الاضرار التي ترتبت على اتباعهم للباطل فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أى: لو أن أولئك اليهود النابذين لكتاب الله المتبعين للأوهام والأباطيل، آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو بالتوراة إيمانا حقا، واتقوا الله، فاجتنبوا ما يؤثمهم ومنه السحر والتمويه، لكانت لهم مثوبة «2» من عند الله، هي خير لهم من السحر وغيره، ولو كانوا من اولى العلم النافع لفهموا ذلك، واستبدلوا بالسحر الإيمان والتقوى، ولكنهم قوم لا يعقلون.فقوله تعالى: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب للو الشرطية، وأصل التركيب، لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم، فحذف الفعل، وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم، للدلالة على ثبوت المثوبة لهم والجزم بخيريتها.وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف «1» بقوله: (فإن قلت: كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو؟ قلت: لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في سلام عليكم لذلك.وقال الإمام الآلوسى: (المثوبة: اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب، والثواب الجزاء الذي يعطى للغير. ولم يقل- سبحانه- لمثوبة الله مع أنه أخصر، ليشعر التنكير بالتقليل فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب الله- تعالى- في الآخرة الدائمة، خير من متاع كثير في الدنيا الفانية، فكيف وثواب الله- تعالى- كثير دائم، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى «2» .وقوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شرط آخر محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه، وحذف مفعول يُعَلِّمُونَ لدلالة لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ عليه. أى: لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر بالإيمان.وبذلك تكون الآيات الكريمة التي سقناها في هذا المبحث قد دمغت بنى إسرائيل بجحود الحق، ونبذهم لتعاليم كتابهم وإيثارهم عليها الأكاذيب والأباطيل، وسيرهم في طريق الشر عن تعمد وإصرار، وعدم عملهم بما يعلمون لانحراف طباعهم، وحماقة تفكيرهم وسوء تدبيرهم.واستحواذ الشيطان عليهم.. فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ.هذا، ويحسن بنا قبل أن نختم هذا البحث، أن نذكر كلمة موجزة عن السحر فنقول:السحر: في أصل اللغة معناه: الصرف، ومنه قوله تعالى فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أى: فكيف تصرفون عن الحق إلى الباطل.وقد ذكر السحر في القرآن والسنة، واتفق علماء المسلمين على أن هناك شيئا يسمى سحرا، إلا أنهم اختلفوا في تصويره.فجمهور أهل السنة ذهب إلى أن للسحر آثارا حقيقية، وأن الساحر قد يأتى بأشياء غير عادية، إلا أن الفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله- تعالى- واستدلوا على ذلك بأدلة منهاأولا: أن الله- تعالى- قد أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم، أن يستعيذ به مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وهم السحرة- على أرجح الأقوال.قال الإمام ابن كثير: قوله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك، يعنى السواحر قال مجاهد «إذا رقين ونفثن في العقد».فالآية الكريمة تدل على أن للسحر آثارا حقيقة، وإلا لما أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستعيذ من شرور السحرة.ثانيا: قال الإمام البخاري: - في باب هل يستخرج السحر-: حدثني عبد الله بن محمد، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: أول من حدثنا به ابن جريج يقول: حدثني آل عروة عن عروة، فسألت هشاما عنه فحدثنا عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سحر حتى كان يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك. فقال: «يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتانى فيما استفتيته فيه؟ أتانى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسى للآخر، ما بال الرجل: مطبوب، قال ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم- رجل من بنى زريق حليف اليهود كان منافقا- قال.وفيم: قال: في مشط ومشاطه، قال: وأين؟ قال في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان. قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: «هذه البئر التي أريتها وكأن نخلها رءوس الشياطين» قال فاستخرج- أى السحر- قالت: فقلت أفلا- أى- تنشرت؟ فقال: «إن الله قد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا» .فهذا الحديث الصحيح يفيد أن السحر قد أثر في جسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بنوع من المرض أو الثقل، دون أن يكون لذلك أدنى تأثير في عقله.قال الإمام ابن القيم: هذا هو الحديث الذي رواه البخاري، وهو ثابت عند أهل العلم بالحديث لا يختلفون في صحته، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقه، وهؤلاء أعلم بأحوال الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأيامه .وقال الإمام القرطبي «الأدلة متوفرة على أن للسحر حقيقة، فهو مقطوع به بإخبار الله- تعالى- ورسوله على وجوده ووقوعه، وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق، ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان، وتكلم الناس فيه، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله.وقال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. قال المازري: «مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة. خلافا لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها. وقد ذكره الله- تعالى- في كتابه وذكر أنه مما يتعلم. وذكر فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به. وأنه يفرق بين المرء وزوجه. وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضا مصرح بإثباته. وأنه أشياء دفنت وأخرجت ولا يستنكر في العقل أن الله- سبحانه- يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام، أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر. قال: وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث لسبب آخر. فزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع وهذا الذي ادعاه بعض المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك. قال القاضي عياض: وقد جاءت روايات مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على قوله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله في الحديث: «حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن» أن يظهر من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور «3» .أما المعتزلة فقد ذهبوا إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تخييل وتمويه كما قال تعالى في سحرة فرعون فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فأخبر- سبحانه-أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا على الحقيقة إنما كان تخييلا وتمويها. وقال تعالى في سحرة فرعون أيضا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أى فلما ألقوا عصيهم موهوا على الناس حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى، وأرهبوهم بما فعلوه، وجاءوا بسحر عظيم في فنه.والذي نراه أن السحر على أضرب منها:أولا: ضرب يترتب على مزاولته قلب الحقائق كقلب الإنسان حيوانا وعكسه، وهذا قد منعه المعتزلة بحجة أن الساحر لو أمكنه ذلك لا لتلبس فعله هذا بمعجزات الأنبياء. وأهل السنة أجازوا وقوعه وإن كان لم يقع فعلا. ويفرقون بينه وبين المعجزة إن وقع، بأن المعجزة خارق يظهر على يد من يدعى النبوة على سبيل التحدي والمعارضة، والسحر ليس فيه دعوى نبوة ولا معارضة.هذا، مع ملاحظة أن السحر يمكن تعلمه وتعليمه، ولا يظهر إلا على يد شرير بخلاف المعجزة.قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين: وهذا النوع لم يقع لنا دليل في الشريعة على وقوعه، وربما كانت الحاجة إلى الفرق بين المعجزة والسحر فرقا واضحا تقتضي عدم وقوعه، فالساحر لا يبلغ أن يقلب العصا ثعبانا، ولا أن يفلق البحر فتمر بين فرقيه الجيوش ولا أن يجعل الماء ينبع بين الأصابع فتروى منه العطاش، أعنى أنه لا يجرى على يده من خوارق العادات، مثل ما يجرى على أيدى الأنبياء للإعجاز «1» .ثانيا: أن يزاول بعض أرباب النفوس الخبيثة أفعالا يترتب عليها الضرر بدون مماسة ولا ملابسة لمن وقع عليه الضرر، وهذا الضرب قد جوز وقوعه أهل السنة ومنعه المعتزلة، ومن أمثلته ما يفعله السحرة للتفريق بين المرء وزوجه والظاهر في هذا الضرب قول أهل السنة لأن القرآن الكريم قد حكى عن السحرة انهم يتعلمون من السحر ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وقد صح الحديث أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنه حينما استخرج السحر خف جسمه صلّى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال.ثالثا: مزاولة أسباب يترتب عليها آثار ظاهرية لا حقيقية وهذا الضرب واقع باتفاق بين أهل السنه والمعتزلة، وقد حكاه القرآن الكريم عن سحرة فرعون في قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وفي قوله تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى.هذا، وقد حذر الإسلام من تعاطى السحر للاذى، وجاءت تعاليمه بذمه وتحريمه، وتوعدت مرتكبه بالعقوبات الأليمة، ففي الحديث الشريف «حد الساحر ضربه بالسيف» .وقد أفتى بعض الفقهاء بقتل الساحر لأنه زنديق، وبعضهم أفتى بأن الساحر إذا كان قد أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه، وإن كان قد أحدث به ما لا قصاص فيه، حكم عليه بدية مناسبة.وبعد، فهذه كلمة ذكرناها عن السحر، لم نقصد بها الخوض في تفصيلاته. وإنما قصدنا بها إعطاء القارئ فكرة مختصرة عنه بمناسبة حديثنا عن رذائل اليهود التي منها نبذهم لكتاب الله واتباعهم للأوهام والأباطيل والأكاذيب.ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بألفاظ معينة حتى لا يتخذها اليهود ذريعة للإساءة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال تعالى:
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا لَا تَقُوْلُوْا رَاعِنَا وَ قُوْلُوا انْظُرْنَا وَ اسْمَعُوْاؕ-وَ لِلْكٰفِرِیْنَ عَذَابٌ اَلِیْمٌ(۱۰۴)
اے ایمان والو! (ف۱۸۵) راعنا نہ کہو اور یوں عرض کرو کہ حضور ہم پر نظر رکھیں اور پہلے ہی سے بغور سنو (ف۱۸۶) اور کافروں کے لئے دردناک عذاب ہے- (ف۱۸۷)
ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ معينة حتى لا يتخذها اليهود ذريعة للإِساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :( يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ . . . )راعِنا من المراعاة، وهي المبالغة في الرعي بمعنى حفظ الغير، وإمهاله، وتدبير أموره، وتدارك مصالحه، وكان المؤمنون يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حدثهم بحديث راعنا يا رسول الله، أى: راقبنا وانظرنا حتى نفهم كلامك ونحفظه، فتلقف اليهود هذه الكلمة لموافقتها كلمة سيئة عندهم، وأخذوا يلوون بها ألسنتهم، ويقولون «راعنا» يا أبا القاسم، يظهرون أنهم يريدون طلب المراعاة والانتظار، وهم يريدون في الحقيقة الإساءة إليه صلّى الله عليه وسلّم إذ أن هذه الكلمة عبرية كانوا يتسابون بها يقصدون جعله راعيا من رعاة الغنم أو من الرعونة التي هي الحمق والخفة، فنهى الله- تعالى- المسلمين عن استعمال هذه الكلمة حتى لا يتخذها اليهود وسيلة إلى إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والتنقيص من شأنه.قال قتادة: «كانت اليهود تقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم راعنا سمعك، يستهزئون بذلك وكانت- هذه الكلمة- في اليهود قبيحة» .وقال الإمام ابن كثير: «نهى الله- تعالى- عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم،وذلك أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص فإذا أرادوا أن يقولوا:اسمع لنا، يقولوا راعنا يورون بالرعونة كما قال تعالى:مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا، إنما يقولون السام عليكم والسام هو الموت ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بقولنا وعليكم، وأنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا».وقال الإمام ابن تيمية: «كان المسلمون يقولون راعنا يا رسول الله وأرعنا سمعك، يعنون المراعاة، وكانت هذه اللفظة سبا قبيحا بلغة اليهود فلما سمعتها اليهود اغتنموها وقالوا فيما بينهم: كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا له الآن بالشتم، وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم، فسمعها «سعد بن معاذ» ففطن لهم، - وكان يعرف لغتهم- فقال لليهود: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأضر بن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها، فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا لكي لا يتخذ اليهود ذلك سبيلا إلى شتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم.ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين إلى ما يقولونه بدل هذه الكلمة فقال تعالى: وَقُولُوا انْظُرْنا أى: لا تقولوا تلك الكلمة- وهي راعِنا أيها المؤمنون لئلا يتخذها اليهود ذريعة لسب نبيكم صلّى الله عليه وسلّم وقولوا مكانها «انظرنا» أى: انتظرنا وتأن معنا حتى نفهم عنك، من نظر بمعنى انتظر تقول نظرت الرجل انظره إذا انتظرته وارتقبته، وبهذا المعنى ورد قوله تعالى انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أى: انتظرونا نقتبس من نوركم.فالآية الكريمة تنبيه وإرشاد إلى الأدب الجميل، وهو أن يتجنب الإنسان في مخاطباته الألفاظ التي توهم جفاء أو تنقيصا في مقام يقتضى إظهار مودة أو تعظيم.ثم بين- سبحانه- مصير اليهود المؤلم جزاء تعديهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ، أى: لهؤلاء اليهود الذين اتخذوا كلمة راعِنا وسيلة إلى سب الرسول صلّى الله عليه وسلّم عذاب أليم جزاء كفرهم وتطاولهم وسفاهتهم.هذا، وقد وردت أحاديث صحيحة صرحت بأن اليهود كانوا يحيون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكلام محرف لا يفطن له أكثر الناس يقصدون به الدعاء عليه بالموت، فكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يرد عليهم بما يكبتهم ويخزيهم ومن هذه الأحاديث ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك قال:1- مر يهودي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال السام عليك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (وعليك) ، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه- أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال يقول (السام عليك) قالوا يا رسول الله ألا نقتله. قال: (لا، إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم) .2- وأخرج الشيخان عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا:السام عليك قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: عليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله» فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟قال «لقد قلت وعليكم» .3- وروى مسلّم عن جابر بن عبد الله قال: «سلّم ناس من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال: «وعليكم» فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا: قال بلى قد سمعت فرددت عليهم، وإنما نجاب ولا يجابون علينا» «3» .وإذن فالآية الكريمة وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا إلخ، وهذه الأحاديث الشريفة تثبت أن اليهود كانوا يستعملون من بين مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية القول الملتوى القبيح، والخطاب المحرف السيئ، ولكن الله- تعالى- أحبط خطتهم، ونهى المؤمنين عن استعمال الألفاظ التي كان يتخذها اليهود ذريعة لبلوغ مآربهم، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يرد عليهم بما يغيظهم ويخزيهم، وبذلك ذهبت مكايد اليهود أدراج الرياح وأيد الله- تعالى- رسوله والمؤمنين بقوته ونصره.ثم نبه القرآن المؤمنين إلى ما يضمره لهم المشركون وأهل الكتاب وعلى رأسهم اليهود- من شرور وأحقاد فقال- تعالى:
مَا یَوَدُّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا مِنْ اَهْلِ الْكِتٰبِ وَ لَا الْمُشْرِكِیْنَ اَنْ یُّنَزَّلَ عَلَیْكُمْ مِّنْ خَیْرٍ مِّنْ رَّبِّكُمْؕ-وَ اللّٰهُ یَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهٖ مَنْ یَّشَآءُؕ-وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیْمِ(۱۰۵)
وہ جو کافر ہیں کتابی یا مشرک (ف۱۸۸) وہ نہیں چاہتے کہ تم پر کوئی بھلائی اترے تمہارے رب کے پاس سے (ف۱۸۹) اور اللہ اپنی رحمت سے خاص کرتا ہے جسے چاہے اور اللہ بڑے فضل والا ہے -
ما يَوَدُّ أى: ما يجب، إذ الود محبة الشيء مع تمنيه، يقال: ود فلان كذا يوده ودا ومودة بمعنى أحبه وتمناه.قال صاحب الكشاف: «ومن الأولى في الآية للبيان، لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان، أهل الكتاب والمشركون، والثانية مزيدة لاستغراق الخير والثالثة لابتداء الغاية» .وقوله- تعالى-: ما يَوَدُّ.. إلخ الآية بيان لما يبيته الكافرون- خصوصا اليهود- للمسلمين من حقد وكراهية وتحذير لهم من الاطمئنان إليهم، والثقة بهم.وفي التعبير بقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ دون ما يود أهل الكتاب تنبيه إلى أنهم قد كفروا بكتبهم، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها لصدقوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم الذي أمرتهم كتبهم بتصديقه واتباعه.وعطف عليهم المشركين ليدل على أن عبدة الأصنام- أيضا- يضاهون كفرة أهل الكتاب، في كراهة نزول أى خير على المؤمنين، وأن الجميع يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله عن طريق نبيه صلّى الله عليه وسلّم من دين قويم، وقرآن كريم، وهداية عظمى، وأخوة شاملة، وأمن بعد خوف، وقوة بعد ضعف.والخير: النعمة والفضل، والمراد به في الآية الكريمة النبوة وما تبعها من الوحى الصادق، والقرآن العظيم المشتمل على الحكمة الرائعة والحجة البالغة والبلاغة الباهرة والتوجيه النافع.وأهل الكتاب قد كرهوا ذلك للمؤمنين لعنادهم وحسدهم، وكراهتهم أن تكون النبوة في رجل عربي ليس منهم.والمشركون كرهوا ذلك- أيضا- لأن في انتشار الإسلام، وفي تنزيل الوحى على النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يخيب آمالهم في إبطال الدعوة الإسلامية، وإضعاف شوكتها والنصر على أتباعها.وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.رد عليهم بما يكشف عن جهلهم وجهل جميع الحاسدين، لأن الحاسد لغباوته يسخط على قدر الله، ويعترض عليه لإنعامه- سبحانه- على المحسود والله- تعالى- هو صاحب التصرف المطلق في الإعطاء والمنع فكان من الواجب على هؤلاء الذين لا يودون أن ينزل أى خير على المؤمنين أن يريحوا أنفسهم من هذا العناء، وأن يتحولوا عن ذلك الغباء، لأن الله- تعالى- يهب خيره لمن يشاء.والاختصاص بالشيء: الانفراد به، تقول: اختص فلان بكذا أى انفرد به، ويستعمل متعديا إلى المفعول به، فتقول: اخصصت فلانا بكذا أى أفردته به وجعلته مقصورا عليه.وعلى هذا الوجه ورد الاختصاص في الآية الكريمة.وقيد- سبحانه- اختصاص رحمته بمن يشاء ليعلم الناس جميعا، أن إفراد بعض عباده بالرحمة منوط بمشيئته وحدها، وليس لأحد كائنا من كان أى تأثير في ذلك.ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه. أى: يختص برحمته من يشاء اختصاصه بها، وهي تتناول النبوة. والقرآن، والنصر، وكل ذلك مما لا يود الكافرون إنزاله على المؤمنين.وقوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تذييل لما سبق أى كل خير يناله العباد في دينهم أو دنياهم إنما هو من عنده- تعالى- يتفضل به عليهم، وفي ذلك إشعار للحاسدين بأن يقلعوا عن حسدهم، وتعريض باليهود وغيرهم ممن حسدوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم على أن آتاه الله النبوة، فكأنه- سبحانه- يقول لهم: إنى أصطفى للنبوة من أشاء من عبادي وهي لا تدرك بالأمانى، ولكني أهبها لمن هو أهل لها.وبذلك تكون الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين مما يبيته لهم الكافرون من حقد وبغضاء وبشرتهم بأن ما يبيتونه لن يضرهم ما داموا معتصمين بكتاب ربهم، وسنة نبيهم.ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن موضع النسخ الذي أثار اليهود حوله الشبهات، وجادلوا فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم.لقد استنكر اليهود أن يبدل الله آية بآية، أو حكما بحكم، وقالوا: ألا ترون إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا من شأن الأنبياء وما هذا القرآن إلا من كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا.ولم يترك القرآن الكريم تلك الشبهات التي أثارها اليهود حول شريعة الإسلام بدون جواب، بل أنزل الله- تعالى- آيات كريمة لدحضها وإزالتها من الصدور، ليزداد المؤمنون إيمانا، وهذه الآيات هي قوله تعالى:
مَا نَنْسَخْ مِنْ اٰیَةٍ اَوْ نُنْسِهَا نَاْتِ بِخَیْرٍ مِّنْهَاۤ اَوْ مِثْلِهَاؕ-اَلَمْ تَعْلَمْ اَنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَیْءٍ قَدِیْرٌ(۱۰۶)
جب کوئی آیت منسوخ فرمائیں یا بھلا دیں (ف۱۹۰) تو اس سے بہتر یا اس جیسی لے آئیں گے کیا تجھے خبر نہیں کہ اللہ سب کچھ کرسکتا ہے-
والنسخ في اللغة الإبطال والإزالة، يقال. نسخت الشمس الظل تنسخه، إذا أذهبته وأبطلته.وفي عرف الشرع: بيان انتهاء مدة الحكم بخطاب لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته، بمقتضى النص الذي تقرر به أولا.وننسها من أنسى الشيء جعله منسيا.فمعنى نسخ الآية في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ رفع حكمها مع بقائها.ومعنى إنسائها في قوله- تعالى-: نُنْسِها رفع الآية من نظم القرآن جملة.وسمى رفع الآية من نظم القرآن جملة إنساء، لأن من شأن ما لا يبقى في النظم أن ينساه الناس لقلة جريانه على الألسنة بالتلاوة والاحتجاج به.ويصح إبقاء الإنساء على حقيقته، وهو إذهاب الآية من القلوب وإزالتها من الحافظة، بعد أن يقضى الله بنسخها.وإنما قلنا بعد أن يقضى الله بنسخها، لأن إنساء الناس آية لم تنسخ إضاعة لشيء من القرآن، والله يقول إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ .ومما يدل على نسخ الآية المنساة، أى: انتهاء مدة التكليف بها قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أى نأت بخير من المنسية المنسوخة أو مثلها، فيكون قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها معبرا عن حالة تعرض في بعض ما سيرفع من القرآن وهي أن ينساه الناس لذهابه من قلوبهم، بعد أن يقضى الله بنسخه- كما ذكرنا-.ووجه ذكر هذه الحال بوجه خاص، أن ما ينسى لعدم حضوره في الذهن لا تعرف الآيات التي تقوم مقامه، فربما يقع في الوهم أنه ذهب من غير أن ينزل من الآيات ما يغنى غناءه.وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ننسأها بالهمزة، من النساء وهو التأخير وعلى هذه القراءة يحمل النسخ في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ على النوعين السابقين وهما: نسخ الآية حكما فقط، ونسخها حكما وتلاوة.ومعنى ننسأها تؤخر إنزالها إلى وقت ثان فلا ننزلها، وننزل ما يقوم مقامها في القيام بالمصلحة.والخيرية والمماثلة في قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ترجع إلى ثواب العمل بها.فقد يكون ثواب العمل بالناسخة أوفر من ثواب العمل بالمنسوخة قبل نسخها، وقد يكون مماثلا له، وإن كانت كل واحدة من الآيتين الناسخة والمنسوخة بالنظر إلى الوقت المقدر للعمل بها، أقوم على المصلحة من الأخرى.وبعد أن أثبت- سبحانه- أن النسخ جائز وواقع بقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ساق جملة كريمة في صورة الاستفهام التقريرى، مخاطبا بها الأمة الإسلامية في شخص نبيها صلّى الله عليه وسلّم لتكون دليلا على هذا الثبوت، وهذه الجملة هي قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والمعنى أن الله- تعالى- متمكن من أن يفعل ما يشاء على الوجه الذي تقتضيه حكمته وإرادته، ومن كان هذا شأنه فله أن يأمر في وقت بأمر، ثم ينسخه أو يستبدل به آخر لمقتضيات الظروف والأحوال.ثم أقام- سبحانه- الدليل على كمال قدرته وشمولها لكل شيء فقال:أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.والمعنى: أنه- سبحانه- مالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية، وأنه هو المتصرف كما يشاء في ذواتها وأحوالها، وأنه يتصرف في أمورهم ويجريها على حسب ما يصلحهم، وهو أعلم بما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ وليس للناس من أحد يتولى أمورهم، ويعينهم على أعدائهم سواه، ومن كان الله وليه ونصيره علم يقينا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له في دنياه وأخراه.وإذن فأنتم- أيها اليهود- ما قدرتم الله حق قدره، لزعمكم أن النسخ محال على الله لأن المالك لكل شيء، من حقه أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يريد على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته.فالآية واقعة موقع الدليل على ما تضمنته الجملة السابقة من إحاطة قدرته- سبحانه- بكل شيء.ثم حذر القرآن الكريم المؤمنين من الاستماع إلى وساوس اليهود، تثبيتا لقلوبهم، وتقوية لإيمانهم، فقال تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ، وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ والمعنى: لا يصح لكم أيها المؤمنون أن تقترحوا على رسولكم محمد صلّى الله عليه وسلّم مقترحات تتنافى مع الإيمان الحق كأن تسألوه أسئلة لا خير من ورائها لأنكم لو فعلتم ذلك لصرتم كبني إسرائيل الذين طلبوا من نبيهم موسى- عليه السلام- بعد أن جاءهم بالبينات- مطالب تدل على تعنتهم وجهلهم فقالوا له: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَة وقالوا له: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ولو صرتم مثلهم لكنتم ممن يختار الكفر على الإيمان، ولخرجتم عن الصراط المستقيم الذي يدعوكم إليه نبيكم صلّى الله عليه وسلّم.والاستفهام في الآية الكريمة للإنكار، وفي أسلوبها مبالغة في التحذير من الوقوع فيما وقع فيه اليهود من تعنت مع رسولهم، إذ جعل محط الإنكار إرادتهم للسؤال، وفي النهى عن إرادة الشيء، نهى عن فعله بأبلغ عبارة.ثم نبه الله تعالى عباده المؤمنين إلى ما يضمره لهم اليهود من أحقاد وشرور فقال- تعالى-:
اَلَمْ تَعْلَمْ اَنَّ اللّٰهَ لَهٗ مُلْكُ السَّمٰوٰتِ وَ الْاَرْضِؕ-وَ مَا لَكُمْ مِّنْ دُوْنِ اللّٰهِ مِنْ وَّلِیٍّ وَّ لَا نَصِیْرٍ(۱۰۷)
کیا تجھے خبر نہیں کہ اللہ ہی کے لئے ہے آسمانوں اور زمین کی بادشاہی اور اللہ کے سوا تمہارا نہ کوئی حمایتی نہ مددگار،
ثم أقام - سبحانه - الدليل على كمال قدرته وشمولها لكل شيء فقال :( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) .والمعنى : أنه - سبحانه - مالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية ، وأنه هو المتصرف كما يشاء في ذواتها وأحوالها ، وأنه يتصرف في أمورهم ويجريها على حسب ما يصلحهم ، وهو أعلم بما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ وليس للناس من أحد يتولى أمورهم ، ويعينهم على أعدائهم سواه ، ومن كان الله وليه ونصيره علم يقينا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له في دنياه وأخراه .وإذن فأنتم - أيها اليهود - ما قدرتم الله حق قدره ، لزعمكم أن النسخ محال على الله لأن المالك لكل شيء ، من حقه أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يريد على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته .فالآية واقعة موقع الدليل على ما تضمنته الجملة السابقة من إحاطة قدرته - سبحانه - بكل شيء .
اَمْ تُرِیْدُوْنَ اَنْ تَسْــٴَـلُوْا رَسُوْلَكُمْ كَمَا سُىٕلَ مُوْسٰى مِنْ قَبْلُؕ-وَ مَنْ یَّتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْاِیْمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِیْلِ(۱۰۸)
کیا یہ چاہتے ہو کہ اپنے رسول سے ویسا سوال کرو جو موسیٰ سے پہلے ہوا تھا (ف۱۹۱) اور جو ایمان کے بدلے کفر لے (ف۱۹۲) وہ ٹھیک راستہ بہک گیا -
ثم حذر القرآن الكريم المؤمنين من الاستماع إلى وساوس اليهود، تثبيتا لقلوبهم، وتقوية لإيمانهم، فقال تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ، وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ والمعنى: لا يصح لكم أيها المؤمنون أن تقترحوا على رسولكم محمد صلّى الله عليه وسلّم مقترحات تتنافى مع الإيمان الحق كأن تسألوه أسئلة لا خير من ورائها لأنكم لو فعلتم ذلك لصرتم كبني إسرائيل الذين طلبوا من نبيهم موسى- عليه السلام- بعد أن جاءهم بالبينات- مطالب تدل على تعنتهم وجهلهم فقالوا له: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» وقالوا له: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «2» ولو صرتم مثلهم لكنتم ممن يختار الكفر على الإيمان، ولخرجتم عن الصراط المستقيم الذي يدعوكم إليه نبيكم صلّى الله عليه وسلّم.والاستفهام في الآية الكريمة للإنكار، وفي أسلوبها مبالغة في التحذير من الوقوع فيما وقع فيه اليهود من تعنت مع رسولهم، إذ جعل محط الإنكار إرادتهم للسؤال، وفي النهى عن إرادة الشيء، نهى عن فعله بأبلغ عبارة.ثم نبه الله تعالى عباده المؤمنين إلى ما يضمره لهم اليهود من أحقاد وشرور فقال- تعالى-:
وَدَّ كَثِیْرٌ مِّنْ اَهْلِ الْكِتٰبِ لَوْ یَرُدُّوْنَكُمْ مِّنْۢ بَعْدِ اِیْمَانِكُمْ كُفَّارًا ۚۖ-حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ اَنْفُسِهِمْ مِّنْۢ بَعْدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ الْحَقُّۚ-فَاعْفُوْا وَ اصْفَحُوْا حَتّٰى یَاْتِیَ اللّٰهُ بِاَمْرِهٖؕ-اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَیْءٍ قَدِیْرٌ(۱۰۹)
بہت کتابیوں نے چاہا (ف۱۹۳) کاش تمہیں ایمان کے بعد کفر کی طرف پھیردیں اپنے دلوں کی جلن سے (ف۱۹۴) بعد اس کے کہ حق ان پر خوب ظاہر ہوچکا ہے تو تم چھوڑو اور درگزر کرو یہاں تک کہ اللہ اپنا حکم لائے بیشک اللہ ہر چیز پر قادر ہے -
ومعنى الآية الكريمة: أحب وتمنى عدد كثير من اليهود الذين هم أهل كتاب، أن ينقلوكم أيها المؤمنون من الإيمان إلى الكفر، حسدا لكم وبغضا لدينكم، من بعد ما ظهر لهم أنكم على الحق باتباعكم محمدا صلّى الله عليه وسلّم فلا تهتموا بهم، بل قابلوا أحقادهم وشرورهم بترك عقابهم، والإعراض عن أذاهم، حتى يأذن الله لكم فيهم بما فيه خيركم ونصركم، فإنه- سبحانه- على كل شيء قدير» .وقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً بيان للون من ألوان الشرور التي يضمرها أهل الكتاب وعلى رأسهم اليهود، وهو تمنيهم ارتداد المسلمين عن دينهم الحق، إلى الكفر الذي أنقذهم الله- تعالى- منه.وإنما أسند- سبحانه- هذا التمني الذميم إلى الكثرة منهم، إنصافا للقلة المؤمنة التي لم ترتض أن ينتقل المسلمون إلى الكفر بعد أن هداهم الله إلى الإسلام.وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ مبالغة في ذمهم بسبب ما تمنوه وأحبوه إذ ودوا- وهم أهل كتاب- أن يحل الكفر محل الإيمان، وفيه إشعار بأن ما تمنوه بعيد الحصول لأن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب، منع صاحبه من الانتقال إلى الكفر.ثم بين- سبحانه- أن الذي حملهم على هذا التمني الذميم هو الحقد والحسد، فقال تعالى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ أى: أن هذا التمني لم يكن له من سبب أو علة سوى الحسد الذي استولى على نفوسهم، واستحوذ على قلوبهم فجعلهم يحسدون المؤمنين على نعمة الإيمان ويتمنون التحول عنه إلى الكفر، فالجملة الكريمة علة لما تضمنته الجملة السابقة من محبتهم نقل المؤمنين إلى الكفر.قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين: «والحسد: قلق النفس من رؤية نعمة يصيبها إنسان، وينشأ عن هذا القلق تمنى زوال تلك النعمة عن الغير وتمنى زوال النعم مذموم بكل لسان، إلا نعمة أصابها فاجر أو جائر يستعين بها على الشر والفساد، فإن تمنى زوالها كراهية للجور والفساد لا يدخل في قبيل الحسد المذموم فإن لم تتمن زوال النعمة عن شخص وإنما تمنيت لنفسك مثلها فيه الغبطة والمنافسة، وهي محمودة لأنها قد تنتهي بالشخص إلى اكتساب محامد لولا المنافسة لظل في غفلة عنها، والحسد قد يهجم على الإنسان ولا يكون في وسعه دفعه لشدة النفرة بينه وبين المحسود، وإنما يؤاخذ الإنسان على رضاه به، وإظهار ما يستدعيه من القدح في المحسود، والقصد إلى إزالة النعمة عنه» .وقوله تعالى: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إعلام للمؤمنين، بأن هؤلاء اليهود لم يؤمروا بذلك في كتابهم، بل إن كتابهم لينهاهم عن هذا الخلق الذميم ولكنهم لخبث نفوسهم وسوء طباعهم، رسخ الحسد في قلوبهم لدرجة يعسر معها صرفه عنهم، أو صرفهم عنه.والجملة الكريمة حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ تدل على أن أولئك اليهود يعتقدون صحة دين الإسلام، إذ الإنسان لا يحسد غيره على دين إلا إذا عرف في نفسه صحته، وأنه طريق الفوز والفلاح.وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ يدل على أن محبة اليهود لتحويل المؤمنين من الكفر إلى الإيمان وقعت، بعد أن ظهر لهم صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعد أن تبين لهم أن الصفات التي وردت في التوراة بشأن المبشر به، لا تنطبق إلا عليه، وإذا فكفرهم به لم يكن عن جهل وإنما كان عن عناد وجمود على الباطل، وذلك هو شأن أحبارهم الذين كانوا على علم بالتوراة، وبتبشيرها بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.ثم أمر الله تعالى المؤمنين في ختام الآية أن يقابلوا شرور اليهود بالعفو والصفح، وأن يوادعوهم إلى حين فقال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.العفو: ترك العقاب على الذنب. والصفح: ترك المؤاخذة عليه، فكل صفح عفو ولا عكس.والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تتركوا معاقبة أولئك اليهود الحاسدين وأن تعرضوا عن رفع السيف في وجوههم حتى يأذن الله لكم في أن تشفوا صدوركم منهم، ويبيح قتالهم الذي يترتب عليه نصركم، إذ أن كل شيء داخل تحت سلطان قدرته- تعالى-.فالمراد بالأمر في قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الإذن للمسلمين بقتالهم في الوقت الذي يختاره الله- تعالى- لهم، عند ما تكون لهم القوة التي يتمكنون بها من جهاد أعدائهم.قال صاحب المنار: قال الأستاذ الإمام: «وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة لأن الصفح إنما يطلب من القادر على خلافه كأنه يقول: لا يغرنكم أيها المؤمنون كثرة أهل الكتاب مع باطلهم، فإنكم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، فعاملوهم معاملة القوى العادل، للضعيف الجاهل وفي إنزال المؤمنين على قلتهم منزلة الأقوياء، ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء، إيذان بأن أهل الحق هم المؤيدون بالعناية الإلهية، وأن العزة لهم ما ثبتوا على حقهم، ومهما يتصارع الحقوالباطل فإن الحق هو الذي يصرع الباطل كما قلنا غير مرة، وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه» .وقد أكد الله- تعالى- وعده بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى أن كل شيء داخل تحت قدرته النافذة التي لا يعجزها شيء.وقد أنجز الله- تعالى- وعده، فأذن للمؤمنين في الوقت المناسب بقتال اليهود وتأديبهم، وقد ترتب على ذلك النصر للمؤمنين، والطرد والقتل لليهود الحاقدين.وبعد أن أمر القرآن المؤمنين في الآية السابقة بالعفو والصفح عن أعدائهم لأن الحكمة تجعل العفو والصفح خيرا من العقوبة والتأنيب، انتقل بعد ذلك إلى أمرهم بالمحافظة على الشعائر التي تطهر قلوبهم، وتزكى نفوسهم فقال- تعالى-:
وَ اَقِیْمُوا الصَّلٰوةَ وَ اٰتُوا الزَّكٰوةَؕ-وَ مَا تُقَدِّمُوْا لِاَنْفُسِكُمْ مِّنْ خَیْرٍ تَجِدُوْهُ عِنْدَ اللّٰهِؕ-اِنَّ اللّٰهَ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِیْرٌ(۱۱۰)
اور نماز قائم رکھو اور زکوٰة دو (ف۱۹۵) اور اپنی جانوں کے لئے جو بھلائی آگے بھیجو گے اسے اللہ کے یہاں پاؤ گے بیشک اللہ تمہارے کام دیکھ رہا ہے-
فقد أمرهم- سبحانه- في هذه الآية بالمواظبة على عمودي الإسلام وهما العبادة البدنية التي تؤكد حسن صلة العبد يخالقه وهي الصلاة والعبادة المالية التي تؤلف بين قلوب الموسرين والمعسرين وهي الزكاة.وجاءت جملة وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ بعد ذلك، لترغبهم في فعل الخير على وجه عام، ولتحثهم على التزود من الأعمال الصالحة سواء أكانت فرضا أم نفلا.وقال لِأَنْفُسِكُمْ للإشعار بأن ما يقدمه المؤمن من خير إنما يعود نفعه إليه، وأنه سيجد عند الله نظير ذلك الثواب الجزيل، والأجر العظيم، وفي قوله، عند الله، إشارة إلى ضخامة الثواب، لأنه صادر من الغنى الحميد.وجاءت جملة «إن الله بما تعلمون بصير» لتأكيد ذلك الوعد، فقد دلت على أن الله- تعالى- لا يخفى عليه عمل عامل قليلا كان أو كثيرا. وإذا كان عالما محيطا بكل عمل يصدر من الإنسان، كانت الأعمال محفوظة عنده- تعالى-، فلا يضيع منها عمل دون أن يلقى العامل جزاء يوم الدين.وفي إعادة ذكر اسم الجلالة في هذه الجملة مع تقدم ذكره في قوله: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إشعار باستقلال هذه الجملة، وبشدة الاهتمام بالمعنى الذي تضمنته.كذلك من فوائد إظهار اسم الجلالة في مقام يجوز فيه الإضمار، أن تكون الجملة كحكمة تقال عند كل مناسبة، بخلاف ما لو أتى بدل الاسم الظاهر بالضمير فإن إلقاءه عند المناسبة يستدعى أن تذكر الجملة السابقة معها حتى يعرف المراد من الضمير.ثم حكى القرآن لونا من ألوان المزاعم الباطلة التي درج عليها أهل الكتاب، ورد عليها بما يبطلها فقال:
وَ قَالُوْا لَنْ یَّدْخُلَ الْجَنَّةَ اِلَّا مَنْ كَانَ هُوْدًا اَوْ نَصٰرٰىؕ-تِلْكَ اَمَانِیُّهُمْؕ-قُلْ هَاتُوْا بُرْهَانَكُمْ اِنْ كُنْتُمْ صٰدِقِیْنَ(۱۱۱)
اور اہل کتاب بولے، ہرگز جنت میں نہ جائے گا مگر وہ جو یہودی یا نصرانی ہو (ف۱۹۶) یہ ان کی خیال بندیاں ہیں تم فرماؤ لا ؤ اپنی دلیل (ف۱۹۷) اگر سچے ہو-
الضمير في «قالوا» يعود على أهل الكتاب من الفريقين.والهود: جمع هائد أى متبع اليهودية وقدمهم القرآن الكريم على النصارى لتقدمهم في الزمان.والمعنى: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى لن يدخلها إلا من كان نصرانيا، إلا أن الآية الكريمة سلكت في طريق الإخبار عما زعموه مسلك الإيجاز، فحكت القولين في جملة واحدة، وعطفت أحد الفريقين على الآخر بحرف «أو» ثقة بفهم السامع، وأمنا من اللبس، لما عرف من التعادي بين الفريقين، وتضليل كل واحد منهما لصاحبه، ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عنهم وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا أى:قالت اليهود: كونوا هودا تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا.ولذا قال الإمام ابن جرير: «فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين، واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه، وإنما عنى به وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى، ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به جمع الفريقان في الخبر عنهما فقيل: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى .وقوله تعالى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ جملة معترضة قصد بها بيان أن ما يدعونه من أن الجنة خاصة بهم، ما هو إلا أمانى منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا برهان. سولتها لهم أنفسهم التي استحوذ عليها الشيطان فخدعها بالأباطيل والأكاذيب.واسم الإشارة «تلك» مشار به إلى ما تضمنه قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وهو يتضمن أمانى كثيرة: منها، أن اليهود أمنيتهم أنه لن يدخل الجنة غيرهم، والنصارى كذلك أمنيتهم أنهم هم وحدهم أصحاب الجنة، وكلا الفريقين يعتقد أن المسلمين ليسوا أهلا لها، ولهذا جاء خبر اسم الإشارة جمعا فقال تعالى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ.ويرى صاحب الكشاف أن المشار إليه أمور قد تعددت لفظا وحكاها القرآن عنهم في قوله ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وفي قوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وفي قوله: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، وعبارته:فإن قلت: لم قيل تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ وقولهم لن يدخل الجنة أمنية واحدة؟ قلت: أشير بها إلى الأمانى المذكورة وهو أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا، وأمنيتهم ألا يدخل الجنة غيرهم. أى تلك الأمانى الباطلة أمانيهم.ويرى صاحب الانتصاف: أن المشار إليه واحد وهو قولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وجمع لإفادة أن تلك الأمنية قد تمكنت من نفوسهم وأشربتها قلوبهم. فقال:والجواب القريب أنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية، ومعاودتهم لها، وتأكدها في نفوسهم جمعت ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم بالغة منهم كل مبلغ، والجمع يفيد ذلك، وإن كان مؤداه واحدا ونظيره قولهم: معى جياع، فجمعوا الصفة ومؤداها واحد، لأن موصوفها واحد، تأكيدا لثبوتها وتمكنها، وهذا المعنى أحد ما روى في قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ فإنه جمع «قليلا» وقد كان الأصل إفراده فيقال «لشرذمة قليلة» كقوله تعالى كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ لولا ما قصد إليه من تأكيد القلة بجمعها، ووجه إفادة الجمع في مثل هذا التأكيد، أن الجمعيفيد بوضعه الزيادة في الآحاد فنقل إلى تأكيد الواحد، وإبانته زيادة على نظرائه، نقلا مجازيا بديعا فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان والله المرفق».ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يطالبهم بالدليل على صحة ما يدعون، فقال تعالى «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» .أى قل- يا محمد- لهؤلاء الزاعمين أن الجنة لهم خاصة من دون الناس، هاتوا حجتكم على خلوص الجنة لكم، إن كنتم صادقين في دعواكم، لأنه لما كانت دعواهم الاختصاص بدخول الجنة لا تثبت إلا بوحي من الله وليس لمجرد التمني، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يطالبهم بالدليل من كتبهم على صحة دعواهم، وهذه المطالبة من قبيل التعجيز لأن كتبهم خالية مما يدل على صحتها.قال الإمام ابن جرير: «وهذا الكلام وإن كان ظاهره دعاء القائلين لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى إلى إحضار حجة على دعواهم، فإنه بمعنى التكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم، لأنهم ليسوا بقادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا» «2» .هذا، ويؤخذ من الآية الكريمة بطلان التقليد في أمور الدين، وهو قبول قول الغير مجردا من الدليل، فلا ينبغي للإنسان أن يقرر رأيا في الدين إلا أن يسنده إلى دليل، كما أنه لا يقبل من غيره قولا إلا أن يكون مؤيدا بدليل.أما عدم صحة التقليد في أصول الدين: أى فيما يرجع إلى حقيقة الإيمان فالأمر فيه جلى، لأنه يكتفى في إيمان الشخص بأى دليل ينشرح به صدره للإسلام، وتحصل له به الطمأنينة، كأن يستمد إيمانه بالله من التنبيه لحكمة الله في إتقان المخلوقات، أو في رعاية اللطف والرفق بالإنسان، ويستمد إيمانه بصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الاستماع إلى القران الكريم، أو من سيرته التي لم يظهر بمثلها أو بما يقرب منها بشر غير رسول، والقصد أن لا يكون إسلامه لمجرد أنه في بيئة إسلامية أو ولد من أب وأم مسلمين.وأما التقليد في الفروع أى في الأحكام العملية، فالناس بالنظر إلى القدرة على تمييز الخطأ من الصواب درجات، فمن له قدرة على فهم الأدلة ومعرفة الراجح من الأحكام، لا يجوز أن يتلقى الحكم من غيره إلا مقرونا بدليل، وإن كان قاصرا عن هذه الدرجة أخذ بما يفتيه به العالمالمشهود له بالرسوخ في علم الشريعة، والمعروف بالمحافظة على لباس التقوى ما استطاع».ثم أبطل القرآن الكريم مدعاهم بطريق آخر وهو إيراد قاعدة كلية رتبت دخول الجنة على الإيمان والعمل الصالح بلا محاباة لأمة أو لجنس أو لطائفة فقال تعالى:
بَلٰىۗ-مَنْ اَسْلَمَ وَجْهَهٗ لِلّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهٗۤ اَجْرُهٗ عِنْدَ رَبِّهٖ ۪-وَ لَا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لَا هُمْ یَحْزَنُوْنَ۠(۱۱۲)
ہاں کیوں نہیں جس نے اپنا منہ جھکایا اللہ کے لئے اور وہ نیکو کار ہے (ف۱۹۸) تو اس کا نیگ اس کے رب کے پاس ہے اور انہیں کچھ اندیشہ ہو اور نہ کچھ غم-(ف۱۹۹)
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.بَلى حرف يذكر في الجواب لإثبات المنفي في كلام سابق، وقد صدرت الآية التي معنا بحرف «بلى» لإثبات ما نفوه وهو دخول غيرهم الجنة ممن لم يكن لا من اليهود ولا من النصارى، مادام قد أسلّم وجهه لله وهو محسن.وقوله تعالى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ المراد به اتجه إليه، وأذعن لأمره، وأخلص له العبادة، وأصل معناه الاستسلام والخضوع.وخص الله- تعالى- الوجه دون سائر الجوارح بذلك، لأنه أكرم الأعضاء وأعظمها حرمة، فإذا خضع الوجه الذي هو أكرم أعضاء الجسد فغيره من أجزاء الجسد أكثر خضوعا.وقوله تعالى: وَهُوَ مُحْسِنٌ من الإحسان، وهو أداء العمل على وجه حسن أى: مطابق للصواب وهو ما جاء به الشرع الشريف.والمعنى: ليس الحق فيما زعمه كل فريق منكم يا معشر اليهود والنصارى من أن الجنة لكم دون غيركم، وإنما الحق أن كل من أخلص نفسه لله، وأتى بالعمل الصالح على وجه حسن، فإنه يدخل الجنة، كما قال تعالى: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.وقد أفادت الآية الكريمة ما يأتى:(أ) إثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة.(ب) بيان أنهم ليسوا من أهل الجنة، إلا إذا أسلموا وجوههم لله، وأحسنوا له العمل فيكون ذلك ترغيبا لهم في الإسلام، وبيانا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة، لكي يقلعوا عما هم عليه، ويعدلوا عن طريقتهم المعوجة.(ج) بيان أن العمل المقبول عند الله- تعالى- يجب أن يتوفر فيه أمران:أولهما: أن يكون خالصا لله وحده.ثانيهما: أن يكون مطابقا للشريعة التي ارتضاها الله تعالى وهي شريعة الإسلام.قال الإمام ابن كثير: «فمتى كان العمل خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل، ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعا للرسول صلّى الله عليه وسلّم المبعوث فيهم وإلى الناس كافة، وفي أمثالهم قال الله- تعالى- وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله، فهو أيضا مردود على فاعله، وهذا حال المرائين والمنافقين ولهذا قال تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «1» .وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد أبطلتا دعوى اليهود أن الجنة لهم دون غيرهم، وأثبتتا أن مزاعمهم هذه ما هي إلا من قبيل الأمانى والأوهام وكذبتهم في أن يكون عندهم أى برهان أو دليل على ما يدعون ثم أصدرتا حكما عاما وهو أن الجنة ليست خاصة لطائفة دون أخرى، وإنما هي لكل من أسلّم وجهه لله وهو محسن.ثم بين القرآن بعد ذلك أن أهل الكتاب قد دأبوا على تضليل بعضهم البعض، وأن الخلاف بينهم قد أدى إلى التنازع والتخاصم فقال:
وَ قَالَتِ الْیَهُوْدُ لَیْسَتِ النَّصٰرٰى عَلٰى شَیْءٍ ۪-وَّ قَالَتِ النَّصٰرٰى لَیْسَتِ الْیَهُوْدُ عَلٰى شَیْءٍۙ-وَّ هُمْ یَتْلُوْنَ الْكِتٰبَؕ-كَذٰلِكَ قَالَ الَّذِیْنَ لَا یَعْلَمُوْنَ مِثْلَ قَوْلِهِمْۚ-فَاللّٰهُ یَحْكُمُ بَیْنَهُمْ یَوْمَ الْقِیٰمَةِ فِیْمَا كَانُوْا فِیْهِ یَخْتَلِفُوْنَ(۱۱۳)
اور یہودی بولے نصرانی کچھ نہیں اور نصرانی بولے یہودی کچھ نہیں (ف۲۰۰) حالانکہ وہ کتاب پڑھتے ہیں، (ف۲۰۱) اسی طرح جاہلوں نے ان کی سی بات کہی (ف۲۰۲) تو اللہ قیامت کے دن ان میں فیصلہ کردے گا جس بات میں جھگڑ رہے ہیں-
فالآية الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى.. إلخ، لزيادة بيان طبيعة أهل الكتاب، المعوجة، وأن رمى المخالف لهم بأنه ضال شنشنة فيهم.والشيء: يطلق على الموجود، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وقد ينفى مبالغة في عدم الاعتداد به واليهود كفرت عيسى- عليه السلام- وما زالوا يزعمون أن المسيح المبشر به في التوراة لم يأت، وسيأتى بعد، فهم يعتقدون أن النصارى باتباعهم له ليسوا على أمر حقيقى منالتدين، والنصارى تكفر اليهود لعدم إيمانهم بالمسيح الذي جاء لإتمام شريعتهم، ونشأ عن هذا النزاع عداوة اشتدت بها الأهواء والتعصب حتى صار كل فريق منهم يطعن في دين الآخر، وينفى عنه أن يكون له أصل من الحق.وجملة وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ حالية، والكتاب للجنس. أى: قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، إذ اليهود يقرءون التوراة والنصارى يقرءون الإنجيل، وحق من حمل التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله وآمن به ألا يكفر بالباقي، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني، شاهد بصحته وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها البعض.وقوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ معناه: كما أن أهل الكتاب قد قال كل فريق منهم فيمن خالفه إنه ليس على شيء من الدين الحق. فكذلك قال الذين لا يعلمون، وهم مشركو العرب، في شأن المسلمين: إنهم ليسوا على شيء من الدين الحق، فتشابهت قلوب هؤلاء وقلوب أولئك في الزيغ والضلال.والهدف الذي ترمى إليه هذه الجملة، هو أن إنكار اليهود والنصارى لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لا ينبغي أن يثير شبهة على عدم صحتها، حيث يسبق إلى أذهان الضعفاء من الناس أن تلاوتهم للكتاب تجعلهم أعرف بالنبوة الصادقة من غيرها. فكأن القرآن يقول: إن تلاوتهم للكتاب وحدها لا ينبغي أن تكون شبهه.ألا ترون اليهود والنصارى وهم يتلون الكتاب كيف أنكر كل فريق منهما أن يكون الآخر على شيء حقيقى من التدين، فسبيلهم في إنكار دين الإسلام كسبيل المشركين الذين أنكروه عن جهالة به.وفي هذه الجملة توبيخ شديد لأهل الكتاب، حيث نظموا أنفسهم- مع علمهم- في سلك من لا يعلم.وقوله: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. صدر بالفاء، لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة، وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والضلال، متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها، وهو خبر المقصود منه التوبيخ والوعيد.والضمير المجرور بإضافة بين إليه راجع إلى الفرق الثلاث، وما كانوا فيه يختلفون يعم ما ذكر وغيره وقيل الضمير يعود على اليهود والنصارى.والاختلاف: تقابل رأيين فيما ينبغي انفراد الرأى فيه.ولم تصرح الآية الكريمة بماذا يحكم الله بينهم، لأنه من المعلوم أن من مظاهر حكم الله يوم القيامة إثابة من كان على حق، وعقاب من كان على باطل.وبذلك تكون الآية الكريمة قد فضحت أهل الكتاب، حيث بينت كيف أن كل فريق منهم قد رمى صاحبه بالضلال، وفي هذا تثبيت للمؤمنين ونهى لهم عن أن ينهجوا نهجهم.ثم تحدث القرآن عن سوء عاقبة من يسعى في خراب بيوت الله، فقال:
وَ مَنْ اَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسٰجِدَ اللّٰهِ اَنْ یُّذْكَرَ فِیْهَا اسْمُهٗ وَ سَعٰى فِیْ خَرَابِهَاؕ-اُولٰٓىٕكَ مَا كَانَ لَهُمْ اَنْ یَّدْخُلُوْهَاۤ اِلَّا خَآىٕفِیْنَ۬ؕ-لَهُمْ فِی الدُّنْیَا خِزْیٌ وَّ لَهُمْ فِی الْاٰخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیْمٌ(۱۱۴)
اور اس سے بڑھ کر ظالم کون (ف۲۰۳) جو اللہ کی مسجدوں کو روکے ان میں نامِ خدا لئے جانے سے (ف۲۰۴) اور ان کی ویرانی میں کوشش کرے (ف۲۰۵) ان کو نہ پہنچتا تھا کہ مسجدوں میں جائیں مگر ڈرتے ہوئے ان کے لئے دنیا میں رسوائی ہے (ف۲۰۶) اور ان کے لئے آخرت میں بڑا عذاب - (ف۲۰۷)
ويرى بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن الرومانيين الذين غزوا بيت المقدس وخربوه. ويرى آخرون أنها نزلت في كفار قريش حين منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية.وكيفما كان سبب النزول، فالآية تشمل بذمها ووعيدها، كل من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها.ومن اسم استفهام يراد منه النفي، أى: لا أظلم. والمساجد: جمع مسجد، وهو المكان الخاص للعبادة، مأخوذ من السجود، وهو وضع الجبهة على الأرض خضوعا لله وتعظيما.والظلم: الاعتداء على حق الغير، بالتصرف فيه بما لا يرضى به، ويطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه، والمعنيان واضحان هنا.وذكر اسم الله كناية عما يؤدى فيها من العبادات، إذ لا تكاد عبادة تخلو من ذكر اسمه- تعالى-:والسعى في الأصل: المشي بسرعة في معنى الطلب والعمل.والخراب: ضد التعمير، ويستعمل لمعنى تعطيل المكان وخلوه مما وضع له.قال القرطبي: «وخراب المساجد قد يكون حقيقيا، كتخريب بختنصر والرومان لبيت المقدس حيث قذفوا فيه القاذورات وهدموه. ويكون مجازا كمنع المشركين حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المسجد الحرام، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها».والمعنى: لا أحد أظلم ممن حال بين المساجد وبين أن يعبد فيها الله، وعمل في خرابها بالهدم كما فعل الرومان وغيرهم ببيت المقدس. أو بتعطيلها عن العبادة كما فعل كفار قريش، فهو مفرط في الظلم بالغ فيه أقصى غاية.قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: فكيف قيل مساجد الله، وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد هو بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت لا بأس أن يجيء الحكم عاما، وإن كان السبب خاصا، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا: ومن أظلم ممن آذى الصالحين، كما قال- عز وجل-: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ والمنزول فيه هو الأخنس بن شريق».وقوله- تعالى-: أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ معناه: ما ينبغي لأولئك الذين يحولون بين المساجد وذكر الله ويسعون في خرابها أن يدخلوها إلا خائفين من الله- تعالى- لمكانها من الشرف والكرامة بإضافتها إليه- تعالى- أو إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلا عن أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها.قال ابن كثير: «وفي هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام، ويذل لهم المشركين حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب، أو يقتل إن لم يسلّم، وقد أنجز الله هذا الوعد فمنع المشركين من دخول المسجد الحرام، وذلك أنه بعد أن تم فتح مكة للمسلمين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من العام القابل مناديا ينادى برحاب منى «ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته» .وعند ما حج النبي صلّى الله عليه وسلّم عام حجة الوداع لم يجترئ. أحد من المشركين أن يحج أو أن يدخل المسجد الحرام. وهذا هو الخزي في الدنيا لهم، المشار إليه بقوله- تعالى-: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ لأن الجزاء من جنس العمل .ثم ختمت الآية الكريمة ببيان عاقبة هؤلاء الساعين في خراب مساجد الله فقال- تعالى-:لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. أى: لهم في الدنيا هوان وذلة بسبب ظلمهم وبغيهم، ولهم في الآخرة عذاب عظيم يخلدون معه في النار. وليس هناك أشقى ممن يعيش دنياه في هوان وذلة، ثم ينتقل إلى أخراه فيجد مصيره العذاب الأليم الذي لا يموت فيه ولا يحيا.ثم أخذ القرآن في تسلية المسلمين الذين أخرجوا من مكة وفارقوا المسجد الحرام، مبينا لهم أن الجهات كلها لله- تعالى- فقال:
وَ لِلّٰهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُۗ-فَاَیْنَمَا تُوَلُّوْا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِؕ-اِنَّ اللّٰهَ وَاسِعٌ عَلِیْمٌ(۱۱۵)
اور پورب و پچھم سب اللہ ہی کا ہے تو تم جدھر منہ کرو ادھر وجہ اللہ (خدا کی رحمت تمہاری طرف متوجہ) ہے بیشک اللہ وسعت والا علم والا ہے،
المشرق والمغرب: مكان شروق الشمس وغروبها، والمراد بهما هنا جميع جهات الأرض.واللام في قوله: «ولله» تفيد معنى الملك.والتولية: التوجه من جهة إلى أخرى. و (ثم) اسم إشارة للمكان.والوجه: الجهة، فوجه الله الجهة التي ارتضاها وأمر بالتوجه إليها وهي القبلة.والمعنى: أن جميع الأرض ملك لله وحده، ففي أى مكان من المشرق والمغرب توليتم شطر القبلة التي أمركم الله بها ورضيها لكم، فهناك جهته- سبحانه- التي أمرتم بها، والتي تبرأ ذممكم باستقبالها.ومعنى هذا: الإذن بإقامة الصلاة في أى مكان من الأرض دون أن تختص بها المساجد، ففي الحديث الشريف: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» .وكأن الآية تومي، إلى أن سعى أولئك الظالمين في منع المساجد من ذكره- تعالى- وتخريبها، لا يمنع من أداء العبادة لله- تعالى-: لأن له المشرق والمغرب وما بينهما، فأينما حل الإنسان وتحرى القبلة المأمور بالتوجه إليها فهناك جهة الله المطلوب منه استقبالها.وذيلت الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ لإفادة سعة ملكه أو سعة تيسيره على عباده في أمر الدين. أى: إن الله يسع خلقه جميعا برحمته وتيسيره وجوده وهو عليم بأعمالهم لا يخفى عليه عمل عامل أينما كان وكيفما كان.ثم حكى القرآن بعض الأقاويل الباطلة التي افتراها أصحاب القلوب المريضة فقال-- تعالى-:
وَ قَالُوا اتَّخَذَ اللّٰهُ وَلَدًاۙ-سُبْحٰنَهٗؕ-بَلْ لَّهٗ مَا فِی السَّمٰوٰتِ وَ الْاَرْضِؕ-كُلٌّ لَّهٗ قٰنِتُوْنَ(۱۱۶)
اور بولے خدا نے اپنے لیے اولاد رکھی پاکی ہے اسے (ف۲۰۸) بلکہ اسی کی مِلک ہے جو کچھ آسمانوں اور زمین میں ہے (ف۲۰۹) سب اس کے حضور گردن ڈالے ہیں،
قوله- تعالى-: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك وقالت اليهود ليست النصارى على شيء إلخ» .واتخذ: من الاتخاذ وهو الصنع والجعل والعمل. والولد: يطلق على الذكر والأنثى، والواحد والجمع.والذين قالوا اتخذ الله ولدا هم اليهود والنصارى والمشركون، فقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وحكى عن النصارى أنهم قالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وحكى عن المشركين أنهم قالوا «الملائكة بنات الله» فيصح أن يكون الضمير في قالوا عائدا على الفرق الثلاث أو على بعضهم. فمن المعروف أن القرآن يجرى على الأسلوب المعروف في المخاطبات حيث يسند إلى القوم ما صدر من بعضهم فحين قال: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ أصبح من السائغ في صحة المعنى أن يكون هذا القول قد صدر من طائفة منهم:وقوله: سُبْحانَهُ تنزيه له عما هو نقص في حقه ومحال عليه من اتخاذ الولد، لاقتضاء الوالدية: النوعية والجنسية والتناسل والافتقار، والتشبيه والحدوث وفي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:«لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم» .وسبحان: مصدر لسبح بمعنى نزه، وهو منصوب بفعل لم يسمع من العرب التصريح به معه، والأصل: أسبحه سبحانه، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وأضيف إلى ضمير المنزه.وقوله: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إضراب عن مقالاتهم التي نسبوا بها إلى الله اتخاذ الولد، وشروع في الاستدلال على بطلانها.واللام في قوله: لَهُ للاختصاص الكامل وهو الملك الحقيقي، و (ما) اسم موصول يراد منه الكائنات: ما يعقل وما لا يعقل ومن جملة هذه الكائنات من ادعوا أنه ولد لله.والمقصود إثبات أن قولهم اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً زعم باطل، فإن جميع ما احتوت عليه السموات والأرض مملوك لله يتصرف فيه كيف يشاء، فلا حاجة إلى اتخاذ الولد، إذ الولد إنما يسعى إليه الوالد، أو يرغب فيه ليعتز به أو ليحيى ذكره، أو ليستعين به على القيام بأعباء الحياة. والله- تعالى- منزه عن أمثال هذه الأغراض التي لا تليق إلا بمن خلق ضعيفا كالإنسان ثم إن الحكمة من التوالد بقاء النوع محفوظا بتوارد أمثال الوالد حيث لا سبيل إلى بقائه بعينه، أما الخالق- تعالى- فهو الواحد في ذاته وصفاته، الباقي على الدوام، كما قال تعالى:كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ. وقوله- تعالى-: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ.معناه: كل له مطيعون طاعة تسخير وانقياد، خاضعون لا يستعصى منهم شيء على مشيئته وإرادته: شاهدون بلسان الحال والمقال على وحدانيته من القنوت وهو لزوم الطاعة مع الخضوع، وإنما جاء قانِتُونَ بجمع المذكر المختص بالعقلاء، مع أن الخضوع لله يكون من العقلاء وغيرهم تغليبا للعقلاء على غيرهم، لأنهم أهل القنوت عن إرادة وبصيرة، ولأن ظهوره فيهم أكمل من ظهوره في غيرهم.وفصلت جملة كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ عن سابقتها، لقصد استقلالها بالاستدلال على نفى أن يكون لله ولد، حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله- تعالى-: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
بَدِیْعُ السَّمٰوٰتِ وَ الْاَرْضِؕ-وَ اِذَا قَضٰۤى اَمْرًا فَاِنَّمَا یَقُوْلُ لَهٗ كُنْ فَیَكُوْنُ(۱۱۷)
نیا پیدا کرنے والا آسمانوں اور زمین کا (ف۲۱۰) اور جب کسی بات کا حکم فرمائے تو اس سے یہی فرماتا ہے کہ ہو جا وہ فورا ً ہوجاتی ہے-(ف۲۱۱)
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر قدرته فقال: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: مبدعهما ومنشئهما بلا احتذاء ولا اقتداء. وبلا آلة ولا مادة، وبديع صفة مشبهة من أبدع، والذي ابتدعهما من غير أصل ولا مثال هو الله- تعالى-. وخص السموات والأرض بالإبداع، لأنهما أعظم ما يشاهد من المخلوقات.قال القرطبي: «قوله- تعالى-: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فعيل للمبالغة. وارتفع على أنه خبر ابتداء محذوف، واسم الفاعل مبدع كبصير من مبصر. أبدعت الشيء لا عن مثال، فالله- تعالى- بديع السموات والأرض، أى منشئهما وموجدهما، ومخترعهما، على غير حد ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع، ومنه أصحاب البدع وسميت البدعة بدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام ... » .وقوله: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ معناه: وإذا أراد- سبحانه- إحداث أمر من الأمور حدث فورا. «وكن فيكون، فعلان من الكون بمعنى الحدوث. ويرى كثير من أهل السنة أن الجملة واردة على وجه التمثيل، لحدوث ما تتعلق به إرادته- سبحانه- بلا مهلة وبلا توقف. وليس المراد أنه إذا أراد إحداث أمر أتى بالكاف والنون، ففي الكلام استعارة تمثيلية.ويرى آخرون أن الأمر يكن محمول على حقيقته، وأنه- تعالى- أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بكلمة كن أزلا.وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد حكتا بعض الشبهات الباطلة التي أوردها الضالون حول وحدانية الله وردت عليها بما يدحضها ويثبت كذبها.ثم أورد القرآن بعد ذلك الشبهات التي أثاروها حول نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأجاب عنها بما يبطلها فقال تعالى:
وَ قَالَ الَّذِیْنَ لَا یَعْلَمُوْنَ لَوْ لَا یُكَلِّمُنَا اللّٰهُ اَوْ تَاْتِیْنَاۤ اٰیَةٌؕ-كَذٰلِكَ قَالَ الَّذِیْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْؕ-تَشَابَهَتْ قُلُوْبُهُمْؕ-قَدْ بَیَّنَّا الْاٰیٰتِ لِقَوْمٍ یُّوْقِنُوْنَ(۱۱۸)
اور جاہل بولے (ف۲۱۲) اللہ ہم سے کیوں نہیں کلام کرتا (ف۲۱۳) یا ہمیں کوئی نشانی ملے (ف۲۱۴) ان سے اگلوں نے بھی ایسی ہی کہی ان کی سی بات اِن کے اُن کے دل ایک سے ہیں (ف۲۱۵) بیشک ہم نے نشانیاں کھول دیں یقین والوں کے لئے -(ف۲۱۶)
عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة اليهودي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله هذه الآية.فالآية الكريمة معطوفة على قوله: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ...ومعنى الآية الكريمة. وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ علما نافعا أمثال هؤلاء اليهود الذين طالبوك بالمطالب المتعنتة- يا محمد- لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ إما مشافهة، أو بواسطة الوحى إلينا لا إليك، أو يرينا حجة تقوم على صدق رسالتك، قالوا هذا على وجه العناد والجحود أن تكون الآيات التي أقامها الله على صدق رسالته آيات حقا.وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أى: مثل هذا القول المتعنت، قال الجاحدون من أسلافهم الذين أرسل الله إليهم الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور وفي هذه الجملة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن ما لاقاه من قومه مثل ما لقيه الرسل من قبله.تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أى تشابهت قلوب هؤلاء وأولئك في العناد والضلال.قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أى: جعلناها بينة واضحة في ذاتها لمن شأنهم الإخلاص في طلب الحق أينما كان، فيتجهون إليه عن طريق الأدلة الصحيحة بقلوب نقية من الأهواء موقنة بجلال الحق ووجوب الطاعة.قال الإمام الرازي: وتقرير شبهتهم أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء، اختار أقرب الطرق إليه، وبما أن الله قد كلم موسى وكلمك يا محمد فلم لا يكلمنا مشافهة، أو يخصك بمعجزة يتجلى من ورائها صدق نبوتك، وهذا منهم طعن في أن القرآن معجزة، لأنهم لو أقروا بذلك لاستحال أن يقولوا ما قالوه.فأجابهم الله عن هذه الشبهة بقوله كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ وحاصل هذا الجواب: أنا قد أيدنا قول محمد بالمعجزات، وبينا صحة قوله بالقرآن وسائر الحجج، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت. وعليه فلن تجاب مطالبكم لوجوه منها:1- لو كان في معلوم الله أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآيات لفعلها ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لازدادوا لجاجا.2- أن حصول الدلالة الواحدة تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فإذا لم يكتف بها، كان طلبه من باب المعاندة.3- ربما كانت كثرة المعجزات وتعاقبها تقدح في كونها معجزة لأن الخوارق متى توالت كان انخراق العادة عادة. فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة .هذا، وبعض المفسرين يرى أن المراد «بالذين لا يعلمون» اليهود، وبعضهم يرى أن المراد بهم مشركو العرب وبعضهم يرى أن المراد بهم النصارى، ونحن نرى أن اللفظ صالح لأن يندرج تحته جميع هذه الطوائف قضاء لحق الموصول المفيد للتعميم، ولكنا نختار أن اليهود هم المقصودون قصدا أوليا من هذه الآية للأسباب الآتية:1- الآية ضمن سلسلة طويلة من الآيات السابقة عليها واللاحقة لها، وكلها تتحدث عن بنى إسرائيل وأحوالهم وأخلاقهم.2- جملة كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قرينة على أن المقصود بالذين لا يعلمون هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي، حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى مثل هذه المطالب، لقد قالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وطلبوا منه كثيرا من المطالب المتعنتة.3- الآية مدنية ومن سورة البقرة التي هي من أوائل ما نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، ومن المعروف أن حديث القرآن المدني عن أهل الكتاب بصفة عامة، وعن اليهود بصفة خاصة، أكثر من حديثه عن مشركي العرب، لأن البيئة المدنية صلتها بأهل الكتاب أشد وألصق.4- سبب نزول الآية الذي ذكرناه يؤيد أن اليهود مقصودون قصدا أوليا في هذه الآية.5- القائلون بأن المراد بالذين لا يعلمون مشركو العرب، دعموا قولهم بأن آيات القرآن التي تحكى عنهم أمثال هذه المقترحات مستفيضة. وكأنهم يستبعدون أن تصدر مثل هذه الأسئلة عن اليهود.وردنا عليهم أن القرآن الكريم قد حكى عن اليهود أمثال هذه الأسئلة بدليل قوله تعالى:يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً.6- الإمام ابن جرير رجح أن المراد ب الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ النصارى، مستدلا بأن ذلك في سياق خبر الله عنهم، فالآية السابقة على هذه الآية تقول.وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ، بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ والنصارى هم الذين قالوا ذلك.وهذا الاستدلال لا نوافقه عليه لما يأتى:(أ) لأن الآية ليست في سياق خبر الله عن النصارى، وإنما هي في سياق خبر الله عن اليهود، الذين زخرت سورة البقرة ببيان مواقفهم وحجاجهم وأخلاقهم في أكثر من مائة آية سابقة ولاحقة من هذه السورة.(ب) ليس النصارى وحدهم هم الذين قالوا اتخذ الله ولدا وإنما اليهود أيضا قالوا ذلك، قال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ .(ج) لم يأت الإمام ابن جرير بدليل واحد ينقض به رأى القائلين بأن المراد بالذين لا يعلمون اليهود، ولم يتعرض للنص الذي أورده ابن عباس في سبب نزول الآية بالتضعيف أو الإعلال، مع أنه انتقد رأى القائلين بأن المراد بهم مشركو العرب (بأنه قول لا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب) .هذا وبعد تلك الأدلة على ما ذهبنا إليه نعود فنقول مرة أخرى: إننا لا نمانع في أن يكون المراد بالذين لا يعلمون جميع الطوائف المشركة ولكنا نرجح أن اليهود هم المقصودون قصدا أوليا مهما دخل غيرهم معهم في السياق، وإن الآية قد نزلت للرد على مطالبهم المتعنتة واقتراحاتهم التي لا خير من ورائها، ومحاولاتهم الطعن في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
اِنَّاۤ اَرْسَلْنٰكَ بِالْحَقِّ بَشِیْرًا وَّ نَذِیْرًاۙ-وَّ لَا تُسْــٴَـلُ عَنْ اَصْحٰبِ الْجَحِیْمِ(۱۱۹)
بیشک ہم نے تمہیں حق کے ساتھ بھیجا خوشخبری دیتا اور ڈر سناتا اور تم سے دوزخ والوں کا سوال نہ ہوگا -(ف۲۱۷)
وقوله: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً معناه: إنا أرسلناك يا محمد بالدين الصحيح المشتمل على الأحكام الصادقة، لتبشر بالثواب من آمن وعمل صالحا، وتنذر بالعقاب من كفر وعصى.وصدرت الآية الكريمة بحرف التأكيد، لمزيد الاهتمام بهذا الخبر، وللتنويه بشأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم.وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة، تشريفا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فكأن الله- تعالى- يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة، ولذا لم يقل له إن الله أرسلك.وقوله: بِالْحَقِّ متعلق بأرسلناك. والحق: مأخوذ من حق الشيء، أى: وجب وثبت، ويطلق الحق على الحكم الصادق المطابق للواقع، ويسمى الدين الصحيح حقا لاشتماله على الأحكام الصادقة.وقوله: بَشِيراً وَنَذِيراً حالان، والبشير: المبشر، وهو المخبر بالأمر السار للمخبر به الذي لم يسبق له علم به. والنذير: المنذر، وهو المخبر بالأمر المخوف ليحذر منه.وجملة وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ معطوف على جملة إِنَّا أَرْسَلْناكَ.والجحيم: المتأجج من النار. وأصحابها: الملازمون لها. والسؤال: كناية عن المؤاخذة واللوم.والمعنى: لا تذهب نفسك عليهم حسرات يا محمد، فإن وظيفتك أن تبشر وتنذر ولست بعد ذلك مؤاخذا ببقاء الكافرين على كفرهم، ولست مسئولا عن عدم اهتدائهم فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ.وفي وصفهم بأنهم أصحاب الجحيم، إشعار بأنهم قد طبع على قلوبهم، فصاروا لا يرجى منها الرجوع عن الكفر.وفي هذه الجملة مع قوله: «بشيرا ونذيرا» تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث لم يؤمن به أولئك الجاحدون المتعنتون.
وَ لَنْ تَرْضٰى عَنْكَ الْیَهُوْدُ وَ لَا النَّصٰرٰى حَتّٰى تَتَّبِـعَ مِلَّتَهُمْؕ-قُلْ اِنَّ هُدَى اللّٰهِ هُوَ الْهُدٰىؕ-وَ لَىٕنِ اتَّبَعْتَ اَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الَّذِیْ جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِۙ-مَا لَكَ مِنَ اللّٰهِ مِنْ وَّلِیٍّ وَّ لَا نَصِیْرٍؔ(۱۲۰)
اور ہرگز تم سے یہود اور نصاری ٰ راضی نہ ہوں گے جب تک تم ان کے دین کی پیروی نہ کرو (ف۲۱۸) تم فرمادو اللہ ہی کی ہدایت ہدایت ہے (ف۲۱۹) اور (اے سننے والے کسے باشد) اگر تو ان کی خواہشوں کا پیرو ہوا بعد اس کے کہ تجھے علم آچکا تو اللہ سے تیرا کوئی بچانے والا نہ ہوگا او ر نہ مددگار (ف۲۲۰)
ثم بين القرآن موقف أهل الكتاب من الدعوة الإسلامية فقال: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ.الملة: الطريقة المسلوكة، ثم جعلت اسما لما شرعه الله لعباده على لسان نبيه ليتوصلوا إلى السعادة الدائمة، وقد تطلق على ما ليس حقا من الأديان المنحرفة أو الباطلة، كما حكى القرآن عن يوسف عليه السلام- أنه قال:إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.وأفرد القرآن الملة فقال- تعالى- ملتهم- «مع أن لكل من اليهود والنصارى ملة خاصة، لأن الملتين بالنظر إلى مخالفتهما لدين الإسلام وما طرأ عليهما من التحريف بمنزلة واحدة، فاتباع إحداهما كاتباع الأخرى في قلة الانتفاع به.ومعنى الغاية في قوله: «حتى تتبع ملتهم الكناية عن اليأس من اتباع أهل الكتاب لشريعة الإسلام، لأنهم لما كانوا لا يرضون إلا باتباعه صلّى الله عليه وسلّم ملتهم وكان اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم لملتهم مستحيلا، فقد صار رضاهم عنه كذلك مستحيلا، فالجملة الكريمة مبالغة في الإقناط من إسلامهم، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منه.ثم لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم الجواب فقال: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى.وهدى الله: دينه والهدى، بمعنى الهادي إلى طريق الفلاح في الدنيا والآخرة. أى: ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي لا ما يدعيه هؤلاء من الأهواء.وإيراد الهدى معرفا بأل مع اقترانه بضمير الفصل «هو» يفيد قصر الهداية على دين الله، وينفى أن يكون في دين غير دين الله هدى. وإذا كانت الهداية مقصورة على الدين الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فكيف يطمع أهل الكتاب في أن يتبع ملتهم؟ثم حذر القرآن من اتباع أهل الكتاب فقال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.اللام في قوله: وَلَئِنِ تشعر بأن في الجملة قسما مقدرا روعي في صدرها ليفيد تأكيد ما تضمنته من أن متبع أهواء أهل الكتاب لا يجد من الله وليا ولا نصيرا.والأهواء: جمع هوى، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق الصادرة من شهوات في أنفسهم. والعلم: الدين: وسمى علما لأنه يعلم بالأدلة القاطعة.والولي: القريب والحليف. والنصير: كل من يعين غيره على من يناوئه ويبسط إليه يده بسوء.والمعنى: ولئن اتبعت- يا محمد- آراءهم الزائفة، بعد الذي جاءك من العلم بأن دين الله هو الإسلام، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة، مالك من الله من ولى يلي أمرك ولا نصير يدفع عنك عقابه.وإنما أوثر خطابه صلّى الله عليه وسلّم بذلك ليدخل دخولا أوليا من اتبع أهواءهم بعد الإسلام من المنافقين تمسكا بولايتهم، وطمعا في نصرتهم.
- English | Ahmed Ali
- Urdu | Ahmed Raza Khan
- Turkish | Ali-Bulaç
- German | Bubenheim Elyas
- Chinese | Chineese
- Spanish | Cortes
- Dutch | Dutch
- Portuguese | El-Hayek
- English | English
- Urdu | Fateh Muhammad Jalandhry
- French | French
- Hausa | Hausa
- Indonesian | Indonesian-Bahasa
- Italian | Italian
- Korean | Korean
- Malay | Malay
- Russian | Russian
- Tamil | Tamil
- Thai | Thai
- Farsi | مکارم شیرازی
- العربية | التفسير الميسر
- العربية | تفسير الجلالين
- العربية | تفسير السعدي
- العربية | تفسير ابن كثير
- العربية | تفسير الوسيط لطنطاوي
- العربية | تفسير البغوي
- العربية | تفسير القرطبي
- العربية | تفسير الطبري
- English | Arberry
- English | Yusuf Ali
- Dutch | Keyzer
- Dutch | Leemhuis
- Dutch | Siregar
- Urdu | Sirat ul Jinan