READ

Surah Aal Imraan

اٰلِ عِمْرَان
200 Ayaat    مدنیۃ


3:0
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِیْمِ
اللہ کے نام سے شروع جو بہت مہربان رحمت والا

سورة الفاتحة هي السورة الوحيدة التي أمر الإسلام أتباعه أن يقرءوها في كل صلاة. وفي جميع الركعات، وفي كل الأوقات، ولهذا أصبح حفظها ميسورا لكل مؤمن.وهذه السورة على صغر حجمها، وقلة آياتها، قد اشتملت بوجه إجمالي على مقاصد الدين من توحيد، وتعبد، وأحكام، ووعد ووعيد.ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسيرها بالتفصيل، أن نمهد لذلك بالكلام عما يأتي:أولا: متى نزلت سورة الفاتحة؟للإجابة على هذا السؤال نقول: إن الرأي الراجح بين المحققين من العلماء أنها نزلت بمكة، بل هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة.وقيل: إنها مدنية. وقيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة.قال القرطبي: الأول أصح لقوله- تعالى- في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وسورة الحجر مكية بالإجماع. ولا خلاف في أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه لم يكن في الإسلام قط صلاة بغير الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «يدل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» . وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء» .ثانيا: عدد آياتها: وهي سبع آيات لقوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. قال العلماء: السبع المثاني هي الفاتحة.وقال ابن كثير: هي سبع آيات بلا خلاف. وقال عمرو بن عبيد: هي ثماني آيات لأنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية. وقال حسين الجعفي: هي ست آيات وهذان القولان شاذان» .ثالثا: أسماؤها: لسورة الفاتحة أسماء كثيرة من أشهرها:1- «الفاتحة أو فاتحة الكتاب، وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا. وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا، وتفتتح بها الصلوات، وإن لم تكن هي أول ما نزل من القرآن. وقد اشتهرت بهذا الاسم في أيام النبوة.وقد أصبح هذا الاسم علما بالغلبة لتلك الطائفة من الآيات التي مبدؤها الْحَمْدُ لِلَّهِ..ونهايتها.. وَلَا الضَّالِّينَ.2- «أم القرآن أو الكتاب» وسميت بذلك لاشتمالها إجمالا على المقاصد التي ذكرت فيه تفصيلا، أو لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله بما هو أهله، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء.قال ابن جرير: «والعرب تسمى كل أمر جامع أمّا، وكل مقدم له توابع تتبعه «أما» فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ: «أم الرأس» . وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها «أما» .3- «السبع المثاني» جمع مثنى كفعلي اسم مكان. أو مثنى- بالتشديد- من التثنية على غير قياس. وسميت بذلك لأنها سبع آيات في الصلاة، أى تكرر فيها أخرج الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم» .4- وتسمى- أيضا- سورة «الحمد» . 5- و «الكنز» . 6- و «الواقية» .7- و «الشفاء» ، لحديث. هي الشفاء من كل داء.8- و «الكافية» لأنها تكفي عن سواها ولا يكفى سواها عنها.9- و «الأساس» . 10- و «الرقية» .هذا، وقد ذكر القرطبي للفاتحة اثنى عشر اسما، كما ذكر السيوطي لها في كتابه «الإتقان» خمسة وعشرين اسما.رابعا: فضلها: ورد في فضل سورة الفاتحة أحاديث كثيرة منها:ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى- رضي الله عنه- قال:كنت أصلي في المسجد، فدعاني النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلّي.فقال: ألم يقل الله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ.ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد» . ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت: يا رسول الله. ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» .وروى مسلّم والنسائي، عن ابن عباس، قال:بينما جبريل قاعد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه- أي: صوتا- فرفع رأسه فقال:هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، ولم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته» .وروى مسلّم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:«من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا) : غير تمام» فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: قال الله- تعالى-: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل» ، فإذا قال العبد:الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال:إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال:اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.قال الله: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» .وأخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن جابر، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: اقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى تختمها .تلك هي بعض الأحاديث التي وردت في فضل هذه السورة الكريمة.وقد ذكر العلماء أنه يسن للمسلّم قبل القراءة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، استجابة لقوله- تعالى- فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ .ومعنى «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» : ألتجئ إلى الله وأتحصن به، واستجير بجنابه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي.قال ابن كثير: «والشيطان في لغة العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء.وهو مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع الشر، وبعيد بفسقه عن كل خير.وقيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار. والأول أصح إذ عليه يدل كلام العرب، فهم:يقولون تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشيطان، ولو كان من شاط. لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح» .والرجيم: فعيل بمعنى مفعول أي أنه مرجوم مطرود من رحمة الله ومن كل خير، وقيل:رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والشكوك.قال بعض العلماء: «وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة مع أنه قد أمر بها على وجه العموم في جميع الشئون، لأن القرآن مصدر الهداية والشيطان مصدر الضلال، فهو يقف للإنسان بالمرصاد في هذا الشأن على وجه خاص، فيثير أمامه ألوانا من الشكوك فيما يقرأ، وفيما يفيد من قراءته، وفيما يقصد بها، فيفوت عليه الانتفاع بهدى الله وآياته، فعلمنا الله أن نتقي ذلك كله بهذه الاستعاذة التي هي في الواقع عنوان صدق، وتعبير حق، عن امتلاء قلب المؤمن بمعنى اللجوء إلى الله، وقوة عزيمته في طرد الوساوس والشكوك، واستقبال الهداية بقلب طاهر،وعقل واع، وإيمان ثابت» .قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .والآن وبعد هذا التمهيد الموجز الذي تكلمنا فيه عن نزول سورة الفاتحة، وعن عدد آياتها، وعن أشهر أسمائها، وعن بعض الأحاديث التي وردت في فضلها نحب أن نبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول- وبالله التوفيق-: بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الاسم: اللفظ الذى يدل على ذات أو معنى. وقد اختلف النحويون في اشتقاقه على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو، وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به.وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، فأصل اسم على هذا " وسم ".ويرى المحققون أن رأي البصريين أرجح، لأنه يقال في تصغير " اسم " سُمىَ، وفي جمعه أسماء، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. ولو كان أصله وسم - كما قال الكوفيون - لقيل في جمعه: أوسام، وفي تصغيره وسيم.ولفظ الجلالة وهو " الله " علم على ذات الخالق - عز وجل - تفرد به - سبحانه - ولا يطلق على غيره، ولا يشاركه فيه أحد.قال القرطبي: قوله " الله " هذا الاسم أكبر أسمائه - سبحانه - وأجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن ولم يجمع: فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإِلهية، المنعوت بنعوت الربوبيه، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو - سبحانه -و ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيمِ صفتان مشتقتان من الرحمة. والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإِحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفاً لله - تعالى-، ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإِحسان. وفسرها آخرون بالإِحسان نفسه.والموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته - تعالى - لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان.وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين، فبعضهم يرى أن ٱلرَّحْمٰنِ هو المنعم على جميع الخلق. وأن ٱلرَّحِيمِ هو المنعم على المؤمنين خاصه. ويرى آخرون أن ٱلرَّحْمٰنِ هو المنعم بجلائل النعم، وأن ٱلرَّحِيمِ هو المنعم بدقائقها.ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثاني منهما تأكيد للأول. والذى يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد، بل روعي فب كل منهما معنى لم يراع في الآخر، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران. والرحيم بمعنى دائم الرحمة، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف. فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمة.أو أن ٱلرَّحْمٰنِ صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإِحسان. و ٱلرَّحِيمِ صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإِحسان وتعديهما إلى المنعم عليه.ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأنِ في أسماء الذات. قال - تعالى-: ٱلرَّحْمَٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ و ٱلرَّحْمَٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَٰنَ وهكذا...أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفاً فعلياً، وجاء في الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه. قال - تعالى - إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً إلخ.قال بعض العلماء " وهذا الرأي في نظرنا هو أقوى الآراء، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه، كما أنه ليس مستساغاً أن يقال في القرآن: إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها ".والجار والمجرور " بسم " متعلق بمحذوف تقديره ابتدئ.والمعنى: ابتدئ قراءتي متبركاً ومتيمناً باسم الله الذى هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، والذى رحمته وسعت كل شيء، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة.هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل فى قوله - تعالى - إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة، أو هى آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة ألخ.فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه، ولذا لم يكتبوا " آمين ". فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة.وبهذا الرأي قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعي، وأحمد في أحد قوليه.ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقالوا: إنها آية فذة. من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة، لما اختلف الناس في ذلك، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط.وكما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة، فقد وقع الخلاف بينهم - أيضاً - في وجوب قراءتها فى الصلاة، وفي الجهر بها أو الإِسرار إذا قرئت.وتحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه، وإلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام.
3:1
الٓمَّٓۙ(۱)
الم،

مقدّمةالحمد الله رب العالمين، والصلاة والسّلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.وبعد: فهذا تفسير مفصل لسورة آل عمران، حاولت فيه أن أكشف عن بعض ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات قويمة، وهدايات جامعة. وإرشادات حكيمة. ووصايا جليلة، وآداب عالية، وحجج باهرة، تقذف حقها على باطل الضالين فتدمغه فإذا هو زاهق.وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها أن أسوق كلمة بين يديها تكون بمثابة التعريف بها، وبيان فضلها ومقاصدها الإجمالية، والموضوعات التي اهتمت بالحديث عنها.والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..تعريف بسورة آل عمرانسورة آل عمران هي السورة الثالثة في ترتيب المصحف إذ تسبقها في الترتيب سورتا الفاتحة والبقرة.وتبلغ آياتها مائتي آية. وهي مدنية باتفاق العلماء.وسميت بسورة آل عمران، لورود قصة آل عمران بها بصورة فيها شيء من التفصيل الذي لا يوجد في غيرها.والمراد بآل عمران عيسى، ويحيى ومريم، وأمها. والمراد بعمران والد مريم أم عيسى- عليه السّلام-.وقد ذكر العلماء أسماء أخرى لهذه السورة منها:أنها تسمى بسورة الزهراء، لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتاب من شأن عيسى- عليه السّلام-.وتسمى بسورة الأمان، من تمسك بها أمن الغلط في شأنه.وتسمى بسورة الكنز لتضمنها الأسرار التي تتعلق بعيسى عليه السّلام.وتسمى بسورة المجادلة، لنزول أكثر من ثمانين آية منها في شأن مجادلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لوفدى نصارى نجران.وتسمى بسورة طيبة، لجمعها الكثير من أصناف الطيبين في قوله- تعالى- الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.قال القرطبي ما ملخصه: وهذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار. فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وبأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران- وضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق- أى ضوء، أو كأنهما فرقان- أى قطعتان من طير صواف- تحاجان عن صاحبهما» .ثم قال: وصدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران، وكانوا قد وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إثر صلاة العصر، عليهم ثياب الحبرات .فقال بعض الصحابة: ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة.وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في المسجد إلى المشرق. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: دعوهم. ثم أقاموا بها أياما يناظرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن عيسى ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرد عليهم بالبراهين الساطعة ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية، إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المباهلة .أما النصف الثاني من سورة آل عمران فقد كان نزول ما يقرب من ستين آية منه «3» في أعقاب غزوة أحد.هذا ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة بالتفصيل أن نذكر على سبيل الإجمال ما اشتملت عليه من توجيهات سامية، وآداب عالية، وأحكام جليلة، وتشريعات قويمة.إنك عند ما تفتح كتاب الله- تعالى- وتطالع سورة آل عمران تراها في مفتتحها تثبت أن المستحق للعبادة إنما هو الله وحده، وتقيم البراهين الساطعة على ذلك.الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.ثم بعد أن مدحت أصحاب العقول السليمة لقوة إيمانهم، وشدة إخلاصهم وكثرة تضرعهم إلى خالقهم- سبحانه- وبشرتهم بحسن العاقبة.. بعد أن فعلت ذلك ذمت الكافرين وتوعدتهم بسوء المصير فقالت: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ.قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ.ثم تحدثت عن الشهوات التي زينت للناس، وبينت ما هو خير منها، وصرحت بأن الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده هو دين الإسلام، وأن أهل الكتاب ما تركوا الحق الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا بسبب ما استولى على قلوبهم من بغى وجحود، وأنهم بسبب ما ارتكبوه من كفروجرائم في الدنيا، سيكون حالهم يوم القيامة أسوأ حال وسيكون مصيرهم أشنع مصير، فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.ثم نهت السورة الكريمة المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء يلقون إليهم بالمودة، وذكرتهم بأن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء، وأنه- سبحانه- سيحاسب كل نفس بما كسبت يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.فإذا ما طالعت- أيها القارئ الكريم- الربعين: الثالث والرابع منها، وجدت فيهما حديثا حكيما عن آل عمران.قد تحدثت السورة الكريمة عما قالته امرأة عمران- أم مريم- عند ما أحست بالحمل في بطنها، وعما قالته عند ما وضعت حملها.قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى، وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ.وتحدثت عن الدعوات الخاشعات التي تضرع بها زكريا إلى ربه، سائلا إياه الذرية الطيبة، وكيف أن الله- تعالى- أجاب له دعاءه فبشره بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.وتحدثت عن اصطفاء الله- تعالى- لمريم وتبشيرها بعيسى- عليه السّلام- وتعجبها من أن يكون لها ولد دون أن يمسها بشر وكيف أن الله- تعالى- قد رد عليها بما يزيل عجبها.قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.وتحدثت عن الصفات الكريمة، والمعجزات الباهرة التي منحها الله- تعالى- لعيسى- عليه السّلام- وعن دعوته للناس إلى عبادة الله وحده وعن موقف أعدائه منه وعن صيانة الله له من مكرهم وعن تشابه عيسى وآدم في شأن خلقهما بدون أب.. وكيف أن الله- تعالى- أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يتحدى كل من يجادله بالباطل في شأن عيسى فقال:ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.ثم وجهت السورة الكريمة أربع نداءات إلى أهل الكتاب، دعتهم فيها إلى عبادة الله وحده، وإلى ترك الجدال بالباطل في شأن أنبيائه، ووبختهم على كفرهم وعلى خلطهم الحق بالباطل.قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.ثم واصلت السورة الكريمة في الربعين: الخامس والسادس منها حديثها عن أهل الكتاب، فمدحت القلة المؤمنة منهم، وذمت من يستحق الذم منهم- وهم الأكثرون- وحكت بعض الرذائل التي عرفت عن أشرارهم وفريق من علمائهم.وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.ثم بينت أن الله- تعالى- قد أخذ الميثاق على أنبيائه بأن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأنهم قد أقروا بذلك وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يجابه مخالفيه بكلمة الحق التي جاء بها من عند الله، وأن يخبرهم بأن من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.ثم ساقت السورة الكريمة بعض الشبهات التي أثارها اليهود حول ما أحله الله وحرمه عليهم من الأطعمة، وردت عليهم بما يفضحهم ويثبت كذبهم، ووبختهم على كفرهم وعلى صدهم الناس عن طريق الحق. وحذرت المؤمنين من مسالكهم الخبيثة التي يريدون من ورائها تفريق كلمتهم وفصم عرى أخوتهم واعتصامهم بحبل الله. وذكرتهم بنعمة الإيمان التي بسببها نالوا ما نالوا من الخير وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها.ثم بشرت السورة الكريمة المؤمنين بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وإنهم هم الغالبون ماداموا معتصمين بدينهم.. وذكرت بعض العقوبات التي عاقب الله- تعالى- بها اليهود بسبب كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه، وعصيانهم أوامره.. وأثنت على من يستحق الثناء من أهلالكتاب فقالت: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. لَيْسُوا سَواءً.وبعد أن أقامت السورة الكريمة- في عشرات الآيات منها- الأدلة الواضحة، وساقت الحجج الساطعة على صحة دين الإسلام.. انتقلت إلى الحديث عن معارك السيف والسنان التي دارت بين أهل الحق وأهل الباطل.فتحدثت في الربع السابع والثامن والتاسع والعاشر منها عن غزوة أحد.وكان حديثها عن هذه الغزوة زاخرا بالتوجيهات الحكيمة والتربية القويمة، والوصايا الحميدة، والعظات الجليلة والتشريعات السامية، والآداب العالية.كان حديثها عنها هاديا للمسلمين في كل زمان ومكان إلى الطريق الذي يوصلهم إلى النصر ليسلكوه، موضحا لهم طريق الفشل ليجتنبوه. كان حديثها عنها يدعو المسلمين كافة إلى الاعتبار بأحداث الحياة «وكيف أنها تسير على سنن وقوانين علينا أن نطلبها ونسلك السبيل إلى تعلمها، وأن أحداث الحياة ليست مجموعة من المصادفات المتوالية، أو التدفق العشوائى، وإنما للنصر قوانين، وللهزيمة قوانين. ومن الممكن أن ينهزم المسلمون في حرب ولو كان فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ما خالفوا عن أمره، وسلكوا غير سبيل النصر، وأن لهم النصر على عدوهم وإن فاقهم عددا وعدة إذا ما استطاعوا أن يرتفعوا إلى ما فوق فاعلية عدوهم إيمانا وعلما وتنظيما».لقد بدأت سورة آل عمران حديثها عن غزوة أحد بتذكير المؤمنين بما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل بدء المعركة من إعداد وتنظيم للصفوف، وبما هم به بعضهم من فشل، وبما تم لهم من نصر على أعدائهم في غزوة بدر.. استمع إلى القرآن وهو يحكى كل ذلك فيقول: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.وفي هذا الربط بين الغزوتين تذكير للمؤمنين بأسباب انتصارهم في بدر وأسباب هزيمتهم في أحد: حتى يسلكوا في مستقبل حياتهم السبيل التي توصلهم إلى الظفر، ويهجروا الطريق التي تقودهم إلى الفشل.ثم وجهت السورة نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن التعامل بالربا، وحثتهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضوان الله، لأنه إذا كان أعداؤهم يجمعون المال من كل طريق لحربهم، فعليهم هم أن يتحروا الحلال في جمعهم للمال، وأن يتبعوا الوسائل الشريفة التي تبلغهم إلى غايتهم النبيلة، ثم حضتهم على الاعتبار بسنن الله في خلقه، وأمرتهم بالتجلد والصبر، ونهتهم عن الوهن والضعف، وبشرتهم بأنهم هم الأعلون، وشجعتهم على مواصلة الجهاد في سبيل الله فإن العاقبة لهم، وأخبرتهم بأن ما أصابهم من آلام وجراح في أحد، قد أصيب أعداؤهم بمثلها، وأن الأيام دول، وأن هزيمتهم في أحد من ثمارها أنها ميزت قوى الإيمان من ضعيفه، لأن المصائب كثيرا ما تكشف عن معادن النفوس، وخفايا الصدور.قال- تعالى- قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ.ثم بينت السورة الكريمة أن الآجال بيد الله وحده، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول قد خلت من قبله الرسل، وسيدركه الموت كما أدركهم. وأن الأخيار من أتباع الرسل السابقين كانوا يقاتلون معهم بثبات وصبر من أجل إعلاء كلمة الله.. فعلى المؤمنين في كل زمان ومكان أن يقدموا على الجهاد في سبيل الله بعزيمة صادقة، وبنفوس مخلصة لأن الإقدام لا ينقص شيئا من الحياة، كما أن الإحجام لا يؤخرها، وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا.ثم حذرت السورة الكريمة المؤمنين من طاعة الكافرين لأن طاعتهم تفضى بهم إلى الخسران، وبشرتهم بأن الله- تعالى- سيلقى الرعب في قلوب أعدائهم، وأخبرتهم بأنه- سبحانه- قد صدق وعده معهم، حيث مكنهم في أول معركة أحد من الانتصار على خصومهم وأنهم- أى المؤمنين- ما أصيبوا بما أصيبوا به في أحد إلا بسبب فشلهم وتنازعهم وتطلعهم إلى الغنائم، ومخالفتهم لوصايا رسولهم صلّى الله عليه وسلّم.قال- تعالى- وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.ولقد ذكرت السورة الكريمة المؤمنين بما حدث من بعضهم من فرار عن المعركة حتى لا يعودوا إلى ذلك مرة أخرى فقالت:إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ وبينت لهم كيف أن الله- تعالى- قد شملهم برحمته، حيث أنزل عليهم النعاس في أعقاب المعركة ليكون أمانا لهم من الخوف، وراحة لهم من الآلام التي أصابتهم ... وكيف أنه- سبحانه- قد فضح المنافقين، ورد على أقوالهم وأراجيفهم بما يدحضها ويبطلها.قال- تعالى- ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ. يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ثم وجهت السورة الكريمة حديثها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فوصفته بأكرم الصفات وأفضلها، ونزهته عن كل قول أو فعل يتنافى مع منزلته الرفيعة.. وأمرته باللين مع أتباعه وبالعفو عنهم وبالاستغفار لهم، وبمشاورتهم في الأمر.ثم عادت السورة الكريمة فأكدت للمؤمنين أن ما أصابهم في أحد كان سببه من عند أنفسهم، فهم الذين خالفوا ما أمرهم به نبيهم صلّى الله عليه وسلّم.قال- تعالى- أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ.ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن غزوة أحد ببيان فضل الشهداء، وما أعده الله لهم من ثواب جزيل، وبالثناء على المؤمنين الصادقين الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ والذين لم يرهبهم قول المرجفين: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ بل إن هذا القول زادهم إيمانا على إيمانهم، وجعلهم يفوضون أمورهم إلى الله ويقولون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.ولقد ذكر- سبحانه- أن حكمته قد اقتضت أن يحدث ما حدث في أحد حتى يتميز الخبيث من الطيب فقال- تعالى:ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.وبعد هذا الحديث الحكيم المستفيض عن غزوة أحد، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن أهل الكتاب فذكرت جانبا من رذائل اليهود، الذين حكى الله- تعالى- عنهم أنهم قالوا:إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وأنهم قالوا: أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ.وأنهم قد نقضوا عهودهم مع الله وباعوا دينهم بدنياهم الفانية.وقد توعدهم الله- تعالى- على ارتكابهم لهذه الرذائل والمنكرات بالعذاب المهين ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.ثم تحدثت السورة الكريمة في أواخرها عن صفات أولى الألباب، وحكت عنهم ما كانوا يتضرعون به إلى الله من دعوات خاشعات، وابتهالات طيبات، وكيف أنه- سبحانه- قد أجاب لهم دعاءهم ببركة قوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، وطهارة قلوبهم.وكانت الآية الخاتمة فيها تدعو المؤمنين إلى الصبر والمصابرة والمرابطة وتقوى الله، لأن المؤمن الذي تتوفر فيه هذه الصفات يكون أهلا للفلاح في الدنيا والآخرة. قال- تعالى:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.هذا ونستطيع بعد هذا العرض الإجمالى لأهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة آل عمران أن نستخلص ما يأتى:أولا: أن السورة الكريمة قد اهتمت بإثبات وحدانية الله- تعالى- وإقامة الأدلة الساطعة على ذلك، وإثبات أن الدين الحق الذي ارتضاه الله تعالى- لعباده هو دين الإسلام، الذي أرسل به نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم.وقد ساقت السورة الكريمة لإثبات هذه الحقائق آيات كثيرة منها قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.وقوله- تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.وقوله- تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.ثانيا: أن السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن أحوال أهل الكتاب، بأسلوب مقنع حكيم يحق الحق ويبطل الباطل.فأنت إذا طالعتها بتدبر تراها تارة تتحدث عن الكفر الذي ارتكسوا فيه بسبب اختلافهم وبغيهم. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.وتارة تتحدث عن نبذهم لكتاب الله وتحاكمهم إلى غيره. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ.وتارة توبخهم على كفرهم بآيات الله. وعلى مجادلتهم بالباطل، وعلى سوء أدبهم مع الله- تعالى- وعلى نقضهم لعهودهم ومواثيقهم، وعلى كتمانهم لما أمرهم الله بإظهاره من حقائق.وقد توعدتهم السورة الكريمة بسوء العذاب بسبب هذه الرذائل والمنكرات وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ.وتارة تحذر المؤمنين من شرورهم فتقول: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.ولا تغفل السورة الكريمة عن مدح من يستحق المدح منهم، لأن القرآن الكريم لا يذم إلا من يستحق الذم، فقد قال- تعالى- لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.وقال- تعالى- وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً.وقال- تعالى-: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ.هذا جانب من حديث سورة آل عمران عن أهل الكتاب، وهو حديث يكشف عن حقيقتهم حتى يكون المؤمنون على بينة من أمرهم.وقد تحدثت السورة. أيضا عن المشركين وعن المنافقين إلا أن حديثها عن أهل الكتاب كان أكثر وأشمل.ثالثا: أن السورة الكريمة قد اهتمت اهتماما بارزا بتربية المؤمنين بتربية ينالون باتباعها النصر والسعادة في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة.فقد وجهت إليهم سبعة نداءات أمرتهم فيها بتقوى الله، وبالصبر والمصابرة والمرابطة، ونهتهم عن طاعة الكافرين، وعن التشبه بهم، وعن اتخاذهم أولياء كما نهتم عن تعاطى الربا وعن كل ما يتنافى مع آداب دينهم وتعاليمه.وهذه النداءات السبعة تراها في قوله تعالى:1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ 2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ 3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا 4- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.6- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا 7- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا.وبجانب هذه النداءات التي اشتملت على أسمى ألوان التربية الفاضلة، والتوجيه القويم.. نرى السورة الكريمة تسوق للمؤمنين في آيات كثيرة منها ما يهدى بهم إلى الخير والرشاد ويبعدهم عن الشر والفساد. فهي تحكى لهم ألوانا من الدعوات التي يتضرع بها الأخيار من الناس لكي يتأسوا بهم. وتبين لهم أن حب الشهوات طبيعة في الناس إلا أن العقلاء منهم يجعلون حبهم لما يرضى الله فوق أى شيء آخر. وتحرضهم على الاعتصام بحبل الله وتحثهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضا الله.إلى غير ذلك من التوجيهات الحكيمة التي زخرت بها سورة آل عمران والتي من شأنها أن تزيد المؤمنين إيمانا مع إيمانهم، وأن تهديهم إلى الصراط المستقيم.رابعا: أن السورة الكريمة عرضت أحداث غزوة أحد عرضا حكيما زاخرا بالعظات والعبر وفصلت الحديث عنها تفصيلا لا يوجد في غيرها من السور، وساقت ما دار فيها بأسلوب بليغ مؤثر يخاطب العقول والعواطف، ويكشف عن خفايا القلوب ونوازعها، وطوايا النفوس وخواطرها، ويعالج الأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين حتى لا يعودوا لمثلها ويشجعهم على المضي في طريق الجهاد حتى لا يؤثر في عزيمتهم ما حدث لهم في أحد، ويبشرهم بأن الله- تعالى- قد عفا عمن فر منهم، ويذكرهم بمظاهر فضل الله عليهم خلال المعركة وبعدها، ويبصرهم بسنن الله التي لا تتخلف، وبقوانينه التي لا تتبدل، وبتعاليمه التي من سار عليها أفلح وانتصر، ومن أعرض عنها خاب وخسر فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.أما بعد، فهذا عرض إجمالى لسورة آل عمران رأينا أن نسوقه قبل البدء في التفسير المفصل لآياتها، ولعلنا بذلك نكون قد قدمنا تعريفا موجزا نافعا عن هذه السورة الكريمة يعين على فهم بعض أسرارها ومقاصدها وتوجيهاتها.والله نسأل أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم، وأن يجنبنا فتنة القول والعمل، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه ونافعة لعباده.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..افتتحت سورة آل عمران ببعض حروف التهجى وهو قوله - تعالى - : الم . .ويبلغ عدد السور القرآنية التى افتتحت بالحروف المقطعة تسعا عشرين سورة .وقد وقع خلاف بين العلماء فى المعنى المقصود من حروف التهجى التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ويمكن إجمال اختلافهم فى رأيين رئيسيين :الرأى الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهى من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه .وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - فى إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبى ، وسفيان الثورى وغيرهما من العلماء ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال : " إن لكل كتاب سراً ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور " وروى عن ابن عباس أنه قال : " عجزت العلماء عن إدراكها " .وعن على بن أبى طالب أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى " وفى رواية أخرى للشعبى أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس؛ لأنه من المتشابه فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثله كمثل التكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس . فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد بها ، وكذلك بعض الصحابة المقربين ، ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور . وهناك مناقشات للعلماء حول هذا الرأى لا مجال لذكرها هنا .أما الرأى الثانى فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم . وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه . وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها :1- أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السورة بالتسمية بها ، كسورة " ص " وسورة " يس " وسورة " ق " . . الخ .ولا يخلو هذا القول من ضعف لأنه لا يلزم من التسمية ببعضها أن تكون جميع الحروف المقطعة أسماء للسور التى بدئت بها ، ولأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، فلو كانت أسماء للسور لم تتكرر لمعان مختلفة؛ لأن الغرض من التسمية رفع الاشتباه .2- وقيل : إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .3- وقيل : إنها حروف مقطعة بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته ، فمثلا : الم أصلها أنا الله أعلم .4- وقيل : إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلو من مقال ، والتى أوصلها السيوطى فى كتابه " الإِتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .5- ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك .ومما يشهد لصحة هذا الرأى : أن الآيات التى تلى هذه الحروف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل ، وعن كونه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم فى أغلب المواضع .وأنت ترى هذه الآيات كثيرا ما تتصدر صراحة باسم الإِشارة الذى يعود إلى القرآن كما فى قوله - تعالى - : (الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ ) أو ضمنا كما فى قوله - تعالى - : (المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ) وأيضا فإن هذه السور التى افتتحت بالحروف المقطعة إذا ما تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الأساسية إثبات صحة الرسالة المحمدية عن طريق هذا الكتاب الذى جعله الله - تعالى - معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم .هذه خلاصة موجزة لآراء العلماء فى المراد بالحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع إلى ما كتبه العلماء فى هذا الموضوع .
3:2
اللّٰهُ لَاۤ اِلٰهَ اِلَّا هُوَۙ-الْحَیُّ الْقَیُّوْمُؕ(۲)
اللہ ہے جس کے سوا کسی کی پوجا نہیں (ف۲) آپ زندہ اور ونکا قائم رکھنے والا،

ثم وصف- سبحانه- ذاته بما يليق به من جلال وكمال فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.ولفظ الجلالة اللَّهُ يقول بعض العلماء: إن أصله إله، دخلت عليه أداة التعريف «ال» وحذفت الهمزة فصارت الكلمة الله.قال القرطبي: قوله اللَّهُ هذا الاسم أكبر أسمائه- تعالى- وأجمعها حتى قال بعضهم:إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن ولم يجمع، فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الألوهية، المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه-.ولفظ «إله» قالوا: إنه من أله أى عبد، فالإله على هذا المعنى هو المعبود وقيل هو أله أى تحير.. وذلك لأن العبد إذا تفكر في صفاته- تعالى- تحير فيها، ولذا قيل: تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله .والْحَيُّ أى: المتصف بالحياة التي لا بدء ولا فناء لها.والْقَيُّومُ الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم، والمعطى لهم ما به قوام حياتهم، وهو مبالغة في القيام وأصله قيووم- بوزن فيعول- من قام بالأمر إذا حفظه ودبره.والمعنى: الله- تعالى- هو الإله الحق المتفرد بالألوهية التي لا يشاركه فيها سواه. وهو المعبود الحق وكل معبود سواه فهو باطل، وهو ذو الحياة الكاملة. وهو الدائم القيام بتدبير شئون الخلق وحياطتهم ورعايتهم وإحيائهم وإماتتهم.قال الآلوسى: ولفظ الجلالة اللَّهِ مبتدأ وما بعده خبر. والجملة مستأنفة، أى: هو المستحق للعبودية لا غيره. والْحَيُّ الْقَيُّومُ خبر بعد خبر، أو خبر لمبتدأ محذوف أى: هو الحي القيوم.. وأيا ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق المعبودية به- سبحانه- وقد أخرج الطبراني وابن مردويه من حديث أبى أمامة مرفوعا أن اسم الله الأعظم في ثلاث سور، في سورة البقرة، وآل عمران، وطه.وقال أبو أمامة: فالتمستها فوجدت في البقرة اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.وفي آل عمران اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وفي طه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ .
3:3
نَزَّلَ عَلَیْكَ الْكِتٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَیْنَ یَدَیْهِ وَ اَنْزَلَ التَّوْرٰىةَ وَ الْاِنْجِیْلَۙ(۳)
اس نے تم پر یہ سچی کتاب اتاری اگلی کتابوں کی تصدیق فرماتی اور اس نے اس سے پہلے توریت اور انجیل اتاری،

وبعد أن بين- سبحانه- أنه هو وحده المستحق للعبودية، أتبع ذلك ببيان بعض مظاهر فضله ورحمته فقال: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ والكتاب- كما يقول الراغب- في الأصل مصدر، ثم سمى المكتوب فيه كتابا. والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه. والكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط .والمراد بالكتاب المنزل: القرآن الكريم. وفي التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية أفراد الكتب المنزلة، فكأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريح باسمي التوراة والإنجيل.وعبر بنزل- بصيغة التضعيف- للإشارة إلى أن نزول القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم كان منجما ولم يكن دفعة واحدة ومن المعروف أن القرآن قد نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم على حسب الوقائع والحوادث وغيرها في مدة تزيد على عشرين سنة.وقد ذكر العلماء حكما كثيرة لنزول القرآن منجما منها: تثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية قلبه، ومنها: التدرج في تربية قويمة سليمة، ومنها: مسايرة الحوادث في تجددها وتفرقها. ومنها تيسير حفظه وتسهيل فهمه، ومنها: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين ومنها:الإجابة على أسئلة السائلين، وبيان حكم الله- تعالى- فيها يحصل من قضايا، ولفت أنظار المخلصين إلى ما وقعوا فيه من أخطاء، وكشف حال الكافرين والمنافقين. ومنه: الإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه من عند الله- تعالى- وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. فأنت تقرأ ما نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قرآن في مكة. وما نزل عليه في المدينة، فترى الجميع محكم السرد. دقيق السبك، رصين الأسلوب، بليغ التراكيب، فصيح الألفاظ.. بينما ترى كلام الأدباء والبلغاء يختلف في جودته من وقت إلى وقت «ومن موضوع إلى موضوع» .وقد بين- سبحانه- أن هذا القرآن قد نزل مقترنا بأمرين متصلا بهما:أما أولهما فهو قوله: بِالْحَقِّ.وأما ثانيهما فهو قوله: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أى: أن الله- عز وجل- الذي لا إله إلا هو، والذي هو الحي القيوم، هو الذي نزل عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلا ملتبسا بالحق، ومصاحبا له، ومقترنا به، ومشتملا عليه، فكل ما فيه من أوامر، ونواه، وقصص، وأحكام، وعقائد، وآداب، وشرائع وأخبار.. حق لا يحوم حوله باطل، وصدق لا يتطرق إليه كذب.وهو الذي جعل هذا الكتاب المنزل عليك موافقا ومؤيدا لما اشتملت عليه الكتب السابقة من الدعوة إلى وحدانية الله، وإلى مكارم الأخلاق، وإلى الوصايا والشرائع التي تسعد الناس في كل زمان ومكان. وهذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في جوهرها وأصولها. قال- تعالى-: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.وقوله بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف فيكون في محل نصب على الحال من الكتاب. وقوله مُصَدِّقاً حال مؤكدة من الكتاب. أى نزله في حال تصديقه الكتب.وفائدة تقييد التنزيل بهذه الحال حث أهل الكتاب على الإيمان بالمنزل، وتنبيههم على وجوبه فإن الإيمان بالمصدق يوجب الإيمان بما يصدقه حتما.قال الجمل: وقوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، فيه نوع مجاز لأن ما بين يديه هو ما أمامه.فسمى ما مضى بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره. واللام في لِما لتقوية العامل. نحو قوله- تعالى-: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وهذه العبارة أحسن من تعبير بعضهم بالزائدة»ثم أخبر- سبحانه- عن بعض الكتب الأخرى التي أنزلها فقال: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.والتوراة: اسم عبراني للكتاب الذي أنزله الله- تعالى- على موسى- عليه السّلام- ليكون شريعة له ولقومه.قال القرطبي ما ملخصه: والتوراة معناها الضياء والنور مشتقة من ورى الزند وورى لغتان إذا خرجت ناره.. وقيل مأخوذة من التورية، وهي التعريض بالشيء والكتمان لغيره، فكان أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح.والجمهور على القول الأول لقوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ يعنى التوراة .والإنجيل: كلمة يونانية معناها البشارة وهي اسم للكتاب الذي أنزله الله على عيسى.قالوا: والإنجيل افعيل من النجل وهو الأصل: يقال: رحم الله ناجليه أى والديه. وقال قوم: الإنجيل مأخوذ من نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته، ويقال للماء الذي يخرج من البئر: نجل وقيل: هو من النجل الذي هو سعة في العين. ومنه طعنة نجلاء أى واسعة.وسمى الإنجيل بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه الله- تعالى- لبنى إسرائيل على يد عيسى عليه السّلام .وهذا الكلام الذي نقلناه عن القرطبي والفخر الرازي هو قول لبعض العلماء الذين يرون أن لفظي التوراة والإنجيل يدخلهما الاشتقاق والتصريف.وهناك فريق آخر من العلماء يرى أن هذين اللفظين لا يدخلهما الاشتقاق والتصريف لأنهما اسمان أعجميان لهذين الكتابين الشريفين.قال الفخر الرازي بعد أن أورد كلاما طويلا يدل على عدم ارتضائه للمذهب الذي يرى أصحابه أن هذين اللفظين يدخلهما الاشتقاق والتصريف: «فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان:أحدهما بالعبرية، والآخر بالسريانية، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقهما على أوزان لغة العرب، فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث»
3:4
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَ اَنْزَلَ الْفُرْقَانَ۬ؕ-اِنَّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا بِاٰیٰتِ اللّٰهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِیْدٌؕ-وَ اللّٰهُ عَزِیْزٌ ذُو انْتِقَامٍ(۴)
لوگوں کو راہ دکھاتی اور فیصلہ اتارا، بیشک وہ جو اللہ کی آیتوں سے منکر ہوئے (ف۳)ان کے لئے سخت عذاب ہے اور اللہ غالب بدلہ لینے والا ہے،

وقوله مِنْ قَبْلُ متعلق «بأنزل» و «هدى» حال من التوراة والإنجيل، ولم يثن لأنه مصدر. ويجوز أن يكون مفعولا لأجله والعامل فيه أنزل.أى: وأنزل التوراة والإنجيل من قبل تنزيل القرآن لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم واتباعه حين يبعث، لأنهما قد اشتملتا على البشارة به والحض على طاعته.قالوا: فالمراد بالناس من عمل بالتوراة والإنجيل وهم بنو إسرائيل. ويحتمل أنه عام بحيث يشمل هذه الأمة وإن لم نكن متعبدين أى مكلفين ومأمورين بشرع من قبلنا، لأن فيهما ما يفيد التوحيد وصفات الباري والبشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم .قال الآلوسى: وعبر في جانب التوراة والإنجيل بقوله «أنزل» للإشارة إلى أنهما لم يكن لهما سوى نزول واحد، بخلاف القرآن فإن له نزولين: نزولا من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة، ونزولا من ذلك إليه صلّى الله عليه وسلّم منجما في ثلاث وعشرين سنة على المشهور، ولهذا يقال فيه نزل وأنزل ... » .هذا، وليست التوراة التي بين أيدى اليهود اليوم هي التوراة التي أنزلها الله على موسى، فقد بين القرآن في أكثر من آية أن بعض أهل الكتاب قد امتدت أيديهم الأثيمة إلى التوراة فحرفوا منها ما حرفوا، ومن ذلك قوله- تعالى- يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.وقوله: - تعالى- فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.ومن الأدلة على أن التوراة التي بين أيدى اليهود اليوم ليست هي التي أنزلها الله على موسى:انقطاع سندها، واشتمالها على كثير من القصص والعبارات والمتناقضات التي تتنزه الكتب السماوية عن ذكرها وكذلك الحال بالنسبة للإنجيل إذ ليست هذه الأناجيل التي يقرؤها المسيحيون اليوم هي الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى وإنما هي مؤلفات ألفت بعد عيسى- عليه السّلام- ونسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه.أما الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى والذي وصفه الله بأنه هداية للناس فهو غير هذه الأناجيل .والْفُرْقانَ كل ما فرق به بين الحق والباطل، والحلال والحرام. وهو مصدر فرق يفرق بين الشيئين فرقا وفرقانا.1- والمراد به عند أكثر المفسرين: الكتب السماوية التي سبق ذكرها وهي التوراة والإنجيل والقرآن. أى: أنزل بهذه الكتب ما يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال. والخير والشر، وبذلك لا يكون لأحد عذر في جحودها والكفر بها.وأعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإنزال، تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي.2- وقال بعضهم المراد بالفرقان هنا القرآن. وإنما أعاده بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه، ورفعا لمكانه، ومدحا له بكونه فارقا بين الحق والباطل، للإشارة إلى الاتصال الكامل بين شرائع الله- تعالى- وأنه تتميم لما سبقه، وأنه كمال الشرائع كلها.3- وقال بعضهم: المراد به جنس الكتب السماوية التي أنزلها الله- تعالى- على رسله لهداية الناس وسعادتهم. وقد عبر عنها بالفرقان ليشمل هذا الوصف ما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم، إثر تخصيص مشاهيرها بالذكر.وقد ذكر صاحب الكشاف هذه الأقوال وغيرها فقال: «فإن قلت: ما المراد بالفرقان؟قلت: جنس الكتب السماوية لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل من كتبه، أو من هذه الكتب. أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور. أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له من كونه فارقا بين الحق والباطل» .أما الفخر الرازي فإنه لم يرتض كل هذه الأقوال، بل أتى برأى جديد فقال- ما ملخصه:4- «والمختار عندي أن المراد من هذا الفرقان: المعجزات التي قرنها الله- تعالى- بإنزال هذه الكتب، وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب، وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله، افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين، فلما أظهر الله على وفق دعواهم تلك المعجزات، حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب. فالمعجزة هي الفرقان. فلما ذكر الله أنه أنزل الكتاب بالحق، وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك، بين أنه- تعالى- أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة» .والذي نراه أقرب إلى القبول أن المراد بالفرقان هنا جنس الكتب السماوية لأنها جميعها فارقة بين الحق والباطل فيندرج تحتها القرآن وغيره من الكتب السماوية.ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة المنحرفين عن طريق الحق، الكافرين بآيات الله، فقال:إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أى: إن الذين كفروا بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته، وصدق رسله فيما يبلغون عنه، لهم عذاب شديد منه- سبحانه- بسبب كفرهم وجحودهم وَاللَّهُ عَزِيزٌ أى منيع الجانب، غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.وفي قوله وَاللَّهُ عَزِيزٌ إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، وفي قوله ذُو انْتِقامٍ إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب، ينزله متى شاء، وكيف شاء، بمقتضى قدرته وحكمته وإرادته، والوصف الأول صفة للذات. والثاني صفة للفعل.
3:5
اِنَّ اللّٰهَ لَا یَخْفٰى عَلَیْهِ شَیْءٌ فِی الْاَرْضِ وَ لَا فِی السَّمَآءِؕ(۵)
اللہ پر کچھ چھپا ہوا نہیں زمین میں نہ آسمان میں،

ثم أخبر- سبحانه- عن شمول علمه لكل شيء فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ.أى أنه سبحانه- هو المطلع على كل صغير وكبير. وجليل وحقير، في هذا الكون، لأنه هو الخالق له، والمهيمن على شئونه. وصدق- سبحانه- حيث يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.وذكر- سبحانه- السماء والأرض، للإشارة إلى أن علمه وسع كل شيء، وسع السموات والأرض، وليس الإنسان بالنسبة لهما إلا كائنا صغيرا فكيف لا يعلم- سبحانه- ما يسره هذا الإنسان وما يخفيه؟وفي تكرير حرف النهى لا تأكيد لنفى خفاء أى شيء عليه- سبحانه- والآية الكريمة وعيد شديد للكافرين بآياته، لأنه- سبحانه- وهو العليم بما يسرونه وما يعلنونه، سيجازيهم بمقتضى علمه بما يستحقونه.
3:6
هُوَ الَّذِیْ یُصَوِّرُكُمْ فِی الْاَرْحَامِ كَیْفَ یَشَآءُؕ-لَاۤ اِلٰهَ اِلَّا هُوَ الْعَزِیْزُ الْحَكِیْمُ(۶)
وہی ہے کہ تمہاری تصویر بناتا ہے ماؤں کے پیٹ میں جیسی چاہے (ف۴) اس کے سوا کسی کی عبادت نہیں عزت والا حکمت والا (ف۵)

ثم ساق- سبحانه- ما يشهد بشمول قدرته وعلمه فقال: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.وقوله يُصَوِّرُكُمْ من التصوير وهو جعل الشيء على صورة لم يكن عليها. وهو مأخوذ من مادة صار إلى كذا بمعنى تحول إليه. أو من صاره إلى كذا بمعنى أماله وحوله.والله- تعالى- القادر على كل شيء قد حكى لنا أطوار خلق الإنسان في آيات متعددة منها قوله- تعالى- وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً. فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.والأرحام: جمع رحم، وهو مستودع النطفة في بطن المرأة، ومكان تربية الجنين ونموه وتكوينه بالطريقة التي يشاؤها الله، حتى يبرزه إلى الوجود بشرا سويا.والمعنى: الله الذي لا إله إلا هو والذي هو الحي القيوم، هو الذي يصوركم في أرحام أمهاتكم كيف يشاء، بأن جعل بعضكم طويلا وبعضكم قصيرا، وهذا أبيض وذاك أسود، وهذا ذكر وتلك أنثى، فهو وحده القادر على تصوير خلقه بتلك الصور المختلفة المتفاوتة، ومن كان شأنه كذلك. فهو المستحق للعبادة والخضوع، لا إله إلا هو الْعَزِيزُ الذي يقهر كل شيء بقوته وقدرته الْحَكِيمُ في كل شئونه وتصرفاته.وهذه الآية الكريمة في مقام التعليل للتي قبلها، لأن قبلها بينت أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، إذ هو العليم بما يسره الإنسان من كفر أو إيمان أو غيرهما. وهذه الآية تفيد أنه- سبحانه- يعلم أحوال الإنسان لا بعد استوائه بشرا سويا، بل يعلم أحواله وهو نطفة في الأرحام، بل إنه- سبحانه- ليعلم أحواله قبل أن يكون شيئا مذكورا، فهو- كما يقول القرطبي- العالم بما كان وما يكون وما لا يكون.ومن كان ذلك شأنه فمن الواجب على الذين أوجدهم- سبحانه- في بطون أمهاتهم، ورباهم ورعاهم وخلقهم خلقا من بعد خلق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.وقوله- تعالى- كَيْفَ يَشاءُ إخبار منه- سبحانه- بأن هذا التكوين والتصوير في الأرحام تبع لمشيئته وقدرته وليس خاضعا لقانون الأسباب والمسببات، إذ هو الفعال لما يريد.فمن شاء هدايته هداه، ومن شاء إضلاله أضله.وكَيْفَ في موضع نصب على أنه حال، وناصبه الفعل الذي بعده وهو يَشاءُ ومفعول المشيئة محذوف والتقدير: هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء تصويركم، من ذكر وأنثى، وجميل ودميم، وغير ذلك من مظاهر التفاوت والاختلاف في الصور والأشكال والعقول والميول.وقوله- تعالى- لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تأكيد لما قبله، من انفراده بالألوهية، وحقيقة المعبودية، بعد أن أقام الأدلة الساطعة على ذلك من كونه حيا قيوما، منزلا للكتب الهادية للناس إلى الحق عالما بكل شيء، مصورا لخلقه وهم في أرحام أمهاتهم كيف يشاء..وكل ذي عقل سليم يتدبر هذه الآيات الكريمة، يقبل على الإيمان بالحق بقوة وإخلاص، ويسارع إلى العمل الصالح بقلب منيب ونية صادقة.هذا، وقد ذكر كثير من المفسرين أن سورة آل عمران من مطلعها إلى بضع وثمانين آية منها قد نزل في وفد نصارى نجران الذين قدموا على الرسول صلّى الله عليه وسلّم في السنة التاسعة من الهجرة، ليناقشوه في شأن عيسى- عليه السّلام- وقد رد عليهم صلّى الله عليه وسلّم بما يبطل أقوالهم التي تخالف الحق، وأرشدهم إلى الطريق المستقيم وهو طريق الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده دينا. وسنذكر قصة هذا الوفد عند تفسيرنا لآية المباهلة وهي قوله- تعالى- في هذه السورة فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ الآية 61.وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة الواضحة على أنه هو المستحق للعبادة، عقب ذلك ببيان أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، وبيان موقف الناس منهما فقال- تعالى-:
3:7
هُوَ الَّذِیْۤ اَنْزَلَ عَلَیْكَ الْكِتٰبَ مِنْهُ اٰیٰتٌ مُّحْكَمٰتٌ هُنَّ اُمُّ الْكِتٰبِ وَ اُخَرُ مُتَشٰبِهٰتٌؕ-فَاَمَّا الَّذِیْنَ فِیْ قُلُوْبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُوْنَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغَآءَ تَاْوِیْلِهٖ ﳘ وَ مَا یَعْلَمُ تَاْوِیْلَهٗۤ اِلَّا اللّٰهُ ﳕ وَ الرّٰسِخُوْنَ فِی الْعِلْمِ یَقُوْلُوْنَ اٰمَنَّا بِهٖۙ-كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَاۚ-وَ مَا یَذَّكَّرُ اِلَّاۤ اُولُوا الْاَلْبَابِ(۷)
وہی ہے جس نے تم پر یہ کتاب اتاری اس کی کچھ آیتیں صاف معنی رکھتی ہیں (ف۶) وہ کتاب کی اصل ہیں (ف۷) اور دوسری وہ ہیں جن کے معنی میں اشتباہ ہے (ف۸) وہ جن کے دلوں میں کجی ہے (ف۹) وہ اشتباہ والی کے پیچھے پڑتے ہیں (ف۱۰) گمراہی چاہنے (ف۱۱) اور اس کا پہلو ڈھونڈنے کو (ف۱۲) اور اس کا ٹھیک پہلو اللہ ہی کو معلوم ہے (ف۱۳) اور پختہ علم والے (ف۱۴) کہتے ہیں ہم اس پر ایمان لائے (ف۱۵) سب ہمارے رب کے پاس سے ہے (ف۱۶) اور نصیحت نہیں مانتے مگر عقل والے (ف۱۷)

قوله- تعالى-: مُحْكَماتٌ من الإحكام- بكسر الهمزة- وهذه المادة تستعمل في اللغة لمعان متعددة، ترجع إلى شيء واحد هو المنع يقال: أحكم الأمر أى أتقنه ومنعه عن الفساد ويقال: أحكمه عن الشيء أى أرجعه عنه ومنعه منه. ويقال حكم نفسه وحكم الناس، أى منع نفسه ومنع الناس عما لا يليق. ويقال أحكم الفرس أى جعل له حكمة تمنعه من الجموح والاضطراب.وقوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أى أصله الذي فيه عماد الدين وفرائضه وحدوده وما يحتاج إليه الناس في دنياهم وآخرتهم. وأم كل شيء: أصله وعماده.قال ابن جرير: والعرب تسمى الأمر الجامع المعظم الشيء أما له. فيسمون راية القوم التي تجمعهم في العساكر أمهم. ويسمون المدبر لمعظم أمر البلدة والقرية أمها» .وقوله مُتَشابِهاتٌ من التشابه بمعنى أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر ومماثلا ومشاكلا له مشاكلة تؤدى إلى الالتباس غالبا. قال: أمور مشتبهة ومشبهة- كمعظمة-: أى مشكلة.ويقال: شبه عليه الأمر تشبيها: لبس عليه.ولقد جاء في القرآن ما يدل على أنه كله محكم كما في قوله- تعالى- كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه كما في قوله- تعالى- اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً.وجاء فيه ما يدل على أن بعضه متشابه كما في الآية التي نحن بصدد تفسيرها. ولا تعارض بين هذه الإطلاقات الثلاثة، لأن معنى إحكامه كله: أنه متقن متين لا يتطرق إليه خلل أو اضطراب. ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه بعضا في بلاغته وفصاحته وإعجازه وهدايته، ومعنى أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فسنبينه بعد سرد بعض الأقوال التي قالها العلماء في تحديد معنى كل منهما.فمنهم من يرى أن المحكم هو الواضح الدلالة الذي لا يحتمل النسخ، والمتشابه هو الخفى الذي لا يدرك معناه وهو ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة والروح.ومنهم من يرى أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. والمتشابه هو الذي لا يستقل بنفسه، بل يحتاج إلى بيان، فتارة يبين بكذا، وتارة يبين بكذا، لحصول الاختلاف في تأويله.ومنهم من يرى أن المحكم هو الذي لا يحتمل في تأويله إلا وجها واحدا والمتشابه هو الذي يحتمل أوجها. ومنهم من يرى أن المحكم ما كانت دلالته راجحة وهو النص والظاهر. أما المتشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة، وهو المجمل والمؤول والمشكل.هذه بعض الأقوال في تحديد معنى المحكم والمتشابه . وقد اختار كثير من المحققين هذا القول الأخير، ومعنى الآية الكريمة- بعد هذا التمهيد الموجز:الله- عز وجل- الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، والذي أنزل الكتب السماوية لهداية الناس، والذي صورهم في الأرحام كيف يشاء، وهو الذي أنزل عليك- يا محمد- هذا الكتاب الكريم المعجز العظيم الشأن، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وقد اقتضت حكمة الله- تعالى- أن يجعل هذا الكتاب مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أى واضحات الدلالة، محكمات التراكيب، جليات المعاني، متقنات النظم والتعبير حاويات لكل ما يسعد الناس في معاشهم ومعادهم، بينات لا التباس فيها ولا اشتباه.وقوله هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أى هذه الآيات المحكمات الواضحات الدلالة المانعات من الوقوع في الالتباس لانكشاف معانيها لكل ذي عقل سليم، هن أصل الكتاب الذي يعول عليه في معرفة الأحكام، ويرجع إليه في التمييز بين الحلال والحرام، ويرد إليه ما تشابه من آياته، وما استشكل من معانيها.والجار والمجرور مِنْهُ خبر مقدم، وآياتٌ مبتدأ مؤخر، ومُحْكَماتٌ صفة لآيات.وقوله هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ صفة ثانية للآيات.قال الجمل: وأخبر بلفظ الواحد وهو أُمُّ عن الجمع وهو هُنَّ لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة، وكلام الله واحد. أو أن كل واحدة منهن أم الكتاب كما قال- تعالى-: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً أى كل واحد منهما. أو لأنه مفرد واقع موقع الجمع» «2» .وقوله وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أى ومنه آيات أخر متشابهات وذلك كالآيات التي تتحدث عن صفات الله- تعالى- مثل: الاستواء، واليد والغضب، ونحو ذلك من الآيات التي تحدثت عن صفاته- سبحانه- وكالآيات التي تتحدث عن وقت الساعة، وعن الروح وعن حقيقة الجن والملائكة وكالحروف المقطعة في أوائل السور.قال الشيخ الزرقانى ما ملخصه: ومنشأ التشابه إجمالا هو خفاء مراد الشارع من كلامه.أما تفصيلا فنذكر أن منه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ من جهة غرابته كلفظ الأب في قوله تعالى:وَفاكِهَةً وَأَبًّا أو من جهة اشتراكه بين معان عدة كما في قوله- تعالى- فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ أى فأقبل إبراهيم على الأصنام يضربها بيمينه، أو بقوة، أو بسبب اليمين التي حلفها.ومن هذا النوع فواتح السور المبدوءة بحروف التهجي لأن التشابه والخفاء في المراد منها جاء من ناحية ألفاظها.ومنه ما يرجع خفاؤه إلى المعنى، ومثاله كل ما جاء في القرآن وصفا الله- تعالى- أو لأهوال القيامة، أو لنعيم الجنة.. فإن العقل البشرى لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق، ولا بأهوال يوم القيامة، ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.ثم قال- رحمه الله- ويمكننا أن ننوع المتشابهات ثلاثة أنواع:النوع الأول: مالا يستطيع البشر جميعا أن يصلوا إليه كالعلم بذات الله وحقائق صفاته، وكالعلم بوقت القيامة ونحوه مما استأثر الله بعلمه.النوع الثاني: ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس، كالمتشابهات التي نشأ التشابه فيها من جهة الإجمال والبسط والترتيب. والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثال التشابه بسبب الإجمال قوله- تعالى:وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.فإن خفاء المراد فيه جاء من ناحية إيجازه. والأصل: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى لو تزوجتموهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء.النوع الثالث: ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم ولذلك أمثلة كثيرة من المعاني العالية التي تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب الله» .ثم بين- سبحانه- موقف الذين في قلوبهم مرض وانحراف عن الحق من متشابه القرآن فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ فالجملة الكريمة تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق.والزيغ- كما يقول القرطبي- الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، ويقال: زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد، ومنه قوله- تعالى-: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران.والابتغاء: الاجتهاد في الطلب. يقال: بغيت الشيء وابتغيته، إذا طلبته بجد ونشاط.والفتنة: من الفتن: وأصل الفتن إدخال الذهب للنار لتظهر جودته من رداءته. والمراد بها هنا الإضلال وإثارة الشكوك حول الحق.والتأويل: يطلق بمعنى التفسير والتوضيح والبيان. ويطلق بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول إليه أمره، مأخوذ من الأول وهو الرجوع إلى الأصل.يقال: آل الأمر إلى كذا يؤول أولا أى رجع. وأولته إليه: رجعته.المعنى: لقد اقتضت حكمتنا- يا محمد- أن ننزل عليك القرآن مشتملا على آيات محكمات هن أم الكتاب، وعلى أخر متشابهات. فأما الفاسقون الذين في قلوبهم انحراف عن طلب الحق، وميل عن المنهج القويم، وانصراف عن القصد السوى فيتبعون ما تشابه منه، أى:يتعلقون بذلك وحده. ويعكفون على الخوض فيه. ولا تتجه عقولهم إلى المحكم ليردوا المتشابه إليه، وإنما يلازمون الأخذ بالمتشابه كما يلازم التابع متبوعه، لأنه يوافق اعوجاج نفوسهم وسوء نياتهم. وتحكم أهوائهم وشهواتهم.وقد بين- سبحانه- أن اتباع هؤلاء الزائغين للمتشابه إنما يقصدون من ورائه أمرين:أولهما: «ابتغاء الفتنة» أى طلبا لفتنة المؤمنين في دينهم. وتشكيكهم في عقيدتهم، وإثارة الريب في قلوبهم بأوهام يلقونها حول المتشابه الذي جاء به القرآن، بأن يقولوا- كما حكى القرآن عنهم- أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وبأن يقولوا: كيف يكون نعيم الجنة، وما حقيقة الروح ولماذا يعذبنا الله على أعمالنا مع أنه هو الخالق لكل شيء، إلى غير ذلك من الشبهات الزائفة التي يثيرها الذين في قلوبهم زيغ طلبا لتشكيك المؤمنين في دينهم.وثانيهما: «وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أى: ويتعلقون بالمتشابه ويتبعونه طلبا لتأويل آيات القرآن تأويلا باطلا، وتفسيرها تفسيرا فاسدا بعيدا عن الحق زاعمين أن تفسيرهم هذا هو الحق بعينه، لأنه يتفق مع أهوائهم وشهواتهم وميولهم الأثيمة.وفي جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد.وفي تعليل الاتباع- كما يقول الآلوسى- «بابتغاء تأويله دون نفس تأويله وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقيقة. إيذان بأنهم ليسوا من أهل التأويل- في عير ولا نفير ولا قبيل ولا دبير- وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه» .وقد ذم النبي صلّى الله عليه وسلّم هؤلاء الذين يتبعون ما تشابه من القرآن طلبا للفتنة والتأويل الباطل، وحذر منهم في أحاديث كثيرة. ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ.. إلخ الآيات قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم».وقد استجاب الصحابة- رضى الله عنهم- لوصايا الرسول صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يتباعدون عن الذين في قلوبهم زيغ. ويزجرونهم ويكشفون عن أباطيلهم.قال القرطبي: «حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي: قال: أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء: فبلغ ذلك عمر- رضى الله عنه- فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل. فلما حضر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. فقال عمر- وأنا عبد الله عمر: ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين!! فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسى» «2» .ثم بين- سبحانه- أن تأويل المتشابه مرده إلى الله- تعالى- وأن الراسخين في العلم يعلمون منه ما يوفقهم الله لمعرفته فقال، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.وقوله- تعالى- وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ من الرسوخ وهو الثبات والتمكن وأصله في الأجرام، أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض، واستعمل في المعاني ومنه رسخ الإيمان في القلب. أى ثبت واستقر وتمكن.والألباب، جمع لب وهو- كما يقول الراغب- العقل الخالص من الشوائب وسمى بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه، كاللباب واللب من الشيء وقيل هو ما زكا من العقل، فكل لب عقل وليس كل عقل لبا، ولهذا علق الله- تعالى- الأحكام التي لا يدركها إلا العقول الزكية بأولى الألباب» «3» .قال الآلوسى: «وقوله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ في موضع الحال من ضمير يتبعون باعتبار العلة الأخيرة. أى يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله- تأويلا فاسدا- والحال أن التأويل المطابق للواقع- كما يشعر به التعبير بالعلم والإضافة إلى الله- تعالى- مخصوص به- سبحانه- وبمن وفقه- عز شأنه- من عباده الراسخين في العلم. أى الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام، ومداحض الأفهام، دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة، هذا ما يقتضيه الظاهر في تفسير الراسخين» .وقوله. يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا جملة موضحة لحال الراسخين في العلم، ومبينة لما هم عليهم من قوة الإيمان، وصدق اليقين.أى يقول الراسخون في العلم عند ما يقرءون ما تشابه من آيات القرآن آمنا به وصدقنا وأذعنا فنحن لا نشك في أن كلا من الآيات المتشابهة والآيات المحكمة من عند الله وحده فهو الذي أنزلها على نبيه صلّى الله عليه وسلّم بمقتضى حكمته ومشيئته.وقوله وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ، معطوف على جملة يَقُولُونَ وقد ختم به- سبحانه- هذه الآية على سبيل المدح لهؤلاء الراسخين في العلم.أى: وما يدرك هذه الحقائق الدينية ويعتبر بها ويتذكر ما اشتمل عليه القرآن من أحكام وآداب وهدايات وتشريعات إلا أصحاب العقول السليمة، والألباب المستنيرة التي لا تتأثر بالأهواء والشهوات، ولا تركن إلى البدع الزائفة والأفكار الفاسدة.قال ابن كثير: «وقوله- تعالى- وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ اختلف القراء في الوقف هنا فقيل الوقف على لفظ الجلالة، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: «التفسير على أربعة أنحاء فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله» . وعن أبى مالك الأشعرى أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:«لا أخاف على أمتى إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه» .وحكى ابن جرير أن قراءة عبد الله بن مسعود، إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به. واختار هذا القول ابن جرير- وهو مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة.ومنهم من يقف على قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد. وقد روى عن ابن عباس أنه قال. أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله، وروى عن مجاهد أنه قال والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به.وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا لابن عباس فقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» .والذي نراه أنه إذا فسر المتشابه بما استأثر الله- تعالى- بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح، كان الوقف على لفظ الجلالة وكانت الواو في قوله وَالرَّاسِخُونَ للاستئناف، والراسخون مبتدأ وجملة «يقولون» خبر عنه.أى والراسخون في العلم يقولون آمنا به ويفوضون علمه إليه- سبحانه- ولا يقتحمون أسواره، كأهل الزيغ والضلال الذين أولوه تأويلا فاسدا.. وإذا فسر المتشابه بما لا يتبين معناه إلا بعد نظر دقيق بحيث يتناول المجمل ونحوه كان الوقف على لفظ العلم، وكانت الواو في قوله وَالرَّاسِخُونَ للعطف.أى: لا يعلم تأويل المتشابه تأويلا حقا سليما إلا الله والراسخون في العلم أما أولئك الذين في قلوبهم زيغ فهم أبعد ما يكونون عن ذلك.ويجوز الوقف على هذا الرأى أيضا على لفظ الجلالة لأنه لا يعلم تأويل هذا المتشابه علما كاملا إلا الله. أولا يعلم كنهه وحقيقته أحد سواه.وإذا فسر المتشابه بما قام الدليل القاطع على أن ظاهره غير مراد. مع عدم قيام الدليل على تعيينه، كمتشابه الصفات أو ما يسمى بآيات الصفات مثل قوله- تعالى- الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. جاز الوقف والعطف عند من يؤولون هذه الصفات تأويلا يليق بذاته- تعالى- وهم جمهور علماء الخلف ووجب الوقف على لفظ الجلالة عند من يفوض معاني هذه المتشابهات إلى الله- تعالى- مع تنزيهه عن ظواهرها المستحيلة وهم جمهور علماء السلف وهذه المسألة من المسائل التي أفاض القول فيها الباحثون في علم الكلام.هذا وقد ذكر العلماء حكما متعددة لاشتمال القرآن على المحكم والمتشابه، منها: الابتلاء والاختبار، لأن الراسخين في العلم سيؤمنون به وإن لم يعرفوا تأويله، ويخضعون لسلطان الربوبية، ويقرون بالعجز والقصور، وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة. وأما الذين في قلوبهم زيغ فيؤولونه تأويلا باطلا طلبا لإضلال الناس وتشكيكهم في دينهم.ومنها: رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف الذي لا يطيق معرفة كل شيء. فقد أخفى- سبحانه- على الناس معرفة وقت قيام الساعة لكيلا يتكاسلوا ويقعدوا عن الاستعداد لها، ولكيلا يفتك بهم الخوف فيما لو أدركوا بالتحديد قرب قيامها.ومنها- كما يقول الفخر الرازي: «أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب، ومنها: أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص من ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية، فحينئذ يبقى في الجهل والتقليد. ومنها أن اشتماله على المحكم والمتشابه يحمل الإنسان على تعلم علوم كثيرة كعلم اللغة والنحو وأصول الفقه وغير ذلك من أنواع العلوم، ومنها: أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفى فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، وبذلك يكون مخلوطا بما يدل على الحق الصريح. فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات» .ومنها- كما يقول الجمل نقلا عن الخازن: «فإن قيل القرآن نزل لإرشاد الناس فهلا كان كله محكما؟ فالجواب أنه نزل بألفاظ العرب وعلى أسلوبهم. وكلامهم على ضربين: الموجز الذي لا يخفى على سامع هذا هو الضرب الأول، والثاني المجاز والكنايات والإرشادات والتلويحات وهذا هو المستحسن عندهم، فأنزل القرآن على ضربين ليتحقق عجزهم فكأنه قال: عارضوه بأى الضربين شئتم، ولو نزل كله محكما لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا» .قال بعض العلماء: والذي يستخلص من مصادر الشريعة ومواردها، أن الآيات المتشابهة لا يمكن أن يكون موضوعها حكما تكليفيا من الأحكام التي كلف عامة المسلمين أن يقوموا بها، وأنه لا يمكن أن تكون آية من آيات الأحكام التكليفية قد انتقل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى دون أن بينها، ولا تشابه فيها بعد أن بينتها السنة النبوية، لأن الله- تعالى- يقول: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ولا شك من أول بيان ما نزل إليهم بيان الأحكام التكليفية.لذلك نقول جازمين: إنه ليس في آيات الأحكام آية متشابهة، وإن اشتبه فهمها على بعض العقول، لأنه لم يطلع على موضوعها، فليس ذلك لأنها متشابهة في ذاتها، بل لاشتباه عند من لا يعلم، واشتباه من لا يعلم لا يجعل آية في القرآن متشابهة».وبعد أن بين- سبحانه- موقف الناس من محكم القرآن ومتشابهه، شرع في بيان ما يتضرع به المؤمنون الصادقون الذين يؤمنون بكل ما أنزله الله- تعالى- فقال:
3:8
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ اِذْ هَدَیْتَنَا وَ هَبْ لَنَا مِنْ لَّدُنْكَ رَحْمَةًۚ-اِنَّكَ اَنْتَ الْوَهَّابُ(۸)
اے رب ہمارے دل ٹیڑھے نہ کر بعد اس کے کہ تو نے ہمیں ہدایت دی اور ہمیں اپنے پاس سے رحمت عطا کر بیشک تو ہے بڑا دینے والا،

اشتملت هاتان الآيتان على دعوات طيبات. ويرى بعض العلماء أن هذه الدعوات من مقول الراسخين في العلم، فهم يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ويقولون أيضا رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ويرى بعضهم أن هذا كلام جديد، وهو تعليم من الله- تعالى- لعباده ليكثروا من التضرع إليه بهذه الدعوات وأمثالها.والزيغ- كما أشرنا في الآية السابقة- الميل عن الاستقامة، والانحراف عن الحق، يقال:زاغ يزيغ أى مال ومنه زاغت الشمس إذا مالت.والمعنى: نسألك يا ربنا ونضرع إليك ألا تميل قلوبنا عن الهدى بعد إذ ثبتنا عليه ومكنتنا منه. وأن تباعد بيننا وبين الزيغ الذي لا يرضيك. وبين الضلال الذي يفسد القلوب، ويعمى البصائر. وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أى وامنحنا من عندك ومن جهتك إنعاما وإحسانا تشرح بهما صدورنا. وتصلح بهما أحوالنا إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ لا غيرك، فأنت مالك الملك وأنت القائل ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ .فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد تضمنت سؤال المؤمنين ربهم تثبيت الإيمان في قلوبهم ومنحهم المزيد من فضله وإنعامه وإحسانه..قال الفخر الرازي- ما ملخصه-: وقال- سبحانه- رَحْمَةً ليكون ذلك شاملا لجميع أنواعها التي تتناول حصول نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب، وحصول الطاعة في الأعضاء والجوارح، وحصول سهولة أسباب المعيشة والأمن والصحة والكفاية في الدنيا وحصول سهولة سكرات الموت عند حضوره، وحصول سهولة السؤال في القبر، وغفران السيئات والفوز بالجنات في الآخرة. وقوله مِنْ لَدُنْكَ يتناول كل هذه الأقسام. لأنه لما ثبت بالبراهين الباهرة أنه لا رحيم إلا هو أكد ذلك بقوله «من لدنك» تنبيها للعقل والقلب والروح على أن هذا المقصود لا يحصل إلا منه- سبحانه- ثم قال: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ كأن العبد يقول: إلهى هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلى، حقير بالنسبة إلى كمال كرمك، فأنت الوهاب الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها، فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك فلا تخيب رجاء هذا المسكين، ولا ترد دعاءه واجعله أهلا لرحمتك» .هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير وغيره بعض الأحاديث النبوية عند تفسيرهم لهذه الآية ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن مردويه عن عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا استيقظ من الليل قال «لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك.اللهم زدني علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب» .وروى الترمذي عن شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فقلت: يا رسول الله، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال:«يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقبله بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ» فتلا معاذ- أحد رجال سند هذا الحديث- رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا.وعن أنس- رضى الله عنه- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلنا: يا رسول الله قد آمنا بك، وصدقنا بما جئت به، أفيخاف علينا؟قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها تبارك- وتعالى-.
3:9
رَبَّنَاۤ اِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِیَوْمٍ لَّا رَیْبَ فِیْهِؕ-اِنَّ اللّٰهَ لَا یُخْلِفُ الْمِیْعَادَ۠(۹)
اے رب ہمارے بیشک تو سب لوگوں کو جمع کرنے والا ہے (ف۱۸) اس دن کے لئے جس میں کوئی شبہ نہیں (ف۱۹) بیشک اللہ کا وعدہ نہیں بدلتا (ف۲۰)

ثم حكى- سبحانه- ضراعة أخرى تضرع بها المؤمنون إلى خالقهم فقال: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ.أى: يا ربنا إنك جامع الناس: محسنهم ومسيئهم، مؤمنهم وكافرهم. ليوم لا شك في وقوعه وحصوله وهو يوم الحساب والجزاء، لتجازى الذين أساءوا بما عملوا وتجازى الذين أحسنوا بالحسنى. فأنت- سبحانك- لم تخلق الخلق عبثا، ولن تتركهم سدى، وإنما خلقتهم لرسالة عظمى هي عبادتك وطاعتك. فمن استجاب لك تفضلت عليه بالثواب العظيم، ومن أعرض عن طاعتك عاقبته بما يستحقه.وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب في وقوع يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب.أى إنك يا مولانا لا تخلف ما أخبرت به عبادك من أن هناك يوما لا شك في وقوعه، تجازى فيه الناس على أعمالهم بمقتضى إرادتك ومشيئتك.وفي هذه الآية الكريمة إشعار بأن نهاية أمل المؤمنين أن يظفروا بالجزاء الحسن من خالقهم يوم القيامة، لأنهم بعد أن سألوه تثبيت الإيمان وسعة الرحمة، توجهوا إليه بالمقصود الأعظم وهو حسن الثواب يوم القيامة. فكأنهم قالوا- كما يقول الرازي-: ليس الغرض من تلك الدعوات ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها فانية وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا، وكلامك لا يكون كذبا فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد، ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين، بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآبدين فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة».وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملنا على دعوات كريمات بليغات، من شأنها أن تسعد الناس في دينهم ودنياهم. والله نسأل أن ينفعنا بها إنه مجيب الدعاء، وأرحم الراحمين.وبعد هذا الدعاء الجامع الحكيم الذي حكاه الله- تعالى- عن عباده المؤمنين عقب ذلك بالحديث عن الكافرين، وعن أسباب كفرهم وغرورهم، وعن سوء عاقبتهم فقال تعالى:
3:10
اِنَّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا لَنْ تُغْنِیَ عَنْهُمْ اَمْوَالُهُمْ وَ لَاۤ اَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللّٰهِ شَیْــٴًـاؕ-وَ اُولٰٓىٕكَ هُمْ وَ قُوْدُ النَّارِۙ(۱۰)
بیشک وہ جو کافر ہوئے (ف۲۱) ان کے مال اور ان کی اولاد اللہ سے انہیں کچھ نہ بچاسکیں گے اور وہی دوزخ کے ایندھن ہیں،

الوقود- بفتح الواو- هو ما توقد به النار كالحطب وغيره. وأصله من وقدت النار تقد إذا اشتعلت. والوقود- بضم الواو- المصدر عند أكثر اللغويين.والمعنى: إن الذين كفروا بالحق لما جاءهم، وعموا وصموا عن الاستجابة له، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة، ولن تدفع عنهم شيئا من عذاب الله الذي استحقوه بسبب كفرهم، واغترارهم بكثرة المال، وعزة النفر، وقوة العصبية وقد أكد- سبحانه- هذا الحكم ردا على مزاعمهم الباطلة من أن ذلك سينفعهم فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فبين- سبحانه- أنه بسبب كفرهم الذي أصروا عليه، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم أى نفع من وقوع عذاب الله عليهم.ومن في قوله مِنَ اللَّهِ لابتداء الغاية وشَيْئاً منصوب على المصدرية. أى شيئا من الإغناء. أو النفع، لأن الذي ينفع الناس يوم القيامة إنما هو إيمانهم وعملهم الصالح.والإشارة في قوله وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ لأولئك الكافرين الذين غرهم بالله الغرور.أى: وأولئك الكافرون الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم ولم يعيروا أسماعهم أى التفات إلى الحق هم وقود النار أى حطبها. أى أن النار يشتد اشتعالها فيهم حتى لكأنهم هم مادتها التي بها تتقد وتشتعل.وجيء بالإشارة في قوله وَأُولئِكَ لاستحضارهم في الأذهان حتى لكأنهم بحيث يشار إليهم، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيأتى من الخبر وهو قوله هُمْ وَقُودُ النَّارِ. وكانت الإشارة للبعيد، للإشعار بغلوهم في الكفر، وانغماسهم فيه إلى منتهاه، ولذلك كانت العقوبة شديدة.وقوله وَأُولئِكَ مبتدأ، وهم ضمير فصل والخبر قوله: وَقُودُ النَّارِ والجملة مستأنفة مقررة لعدم الإغناء. وفي هذا التذييل تهديد شديد للكفار الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم ببيان أن ما اغتروا به لن يحول بينهم وبين الخلود في النار.قال الفخر الرازي ما ملخصه: اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عن الإنسان كل ما كان منتفعا به. ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة.أما الأول فهو المراد بقوله لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد. فبين الله- تعالى- أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا. ونظير هذه الآية قوله- تعالى- يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.وأما القسم الثاني من أسباب العذاب فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة، وإليه الإشارة بقوله: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وهذا هو النهاية في العذاب، فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس.
3:11
كَدَاْبِ اٰلِ فِرْعَوْنَۙ-وَ الَّذِیْنَ مِنْ قَبْلِهِمْؕ-كَذَّبُوْا بِاٰیٰتِنَاۚ-فَاَخَذَهُمُ اللّٰهُ بِذُنُوْبِهِمْؕ-وَ اللّٰهُ شَدِیْدُ الْعِقَابِ(۱۱)
جیسے فرعون والوں اور ان سے اگلوں کا طریقہ، انہوں نے ہماری آیتیں جھٹلائیں تو اللہ نے ان کے گناہوں پر ان کو پکڑا اور اللہ کا عذاب سخت،

ثم بين- سبحانه- أن حال الكافرين بالحق الذي جاءهم به النبي صلّى الله عليه وسلّم كحال الذين سبقوهم في الجحود والعناد فقال- تعالى-: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.الدأب: أصله الدوام والاستمرار. يقال: دأب على كذا يدأب دأبا ودأبا ودءوبا، إذا داوم عليه وجد فيه وتعب. ثم غلب استعماله في الحال والشأن والعادة، لأن من يستمر في عمل أمدا طويلا يصير عادة من عاداته، وحالا من أحواله فهو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.وآل فرعون: هم أعوانه ونصراؤه وأشياعه الذين استحبوا العمى على الهدى واستمروا على النفاق والضلال حتى صار ديدنا لهم.قال الراغب: «والآل مقلوب عن الأهل. ويصغر على أهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة. يقال آل فلان ولا يقال آل رجل..ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف والأفضل، فيقال آل الله وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكل فيقال أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا» ؟ .والمعنى: حال هؤلاء الكافرين الذين كرهوا الحق الذي جئت به- يا محمد- ولم يؤمنوا بك حالهم في استحقاق العذاب، كحال آل فرعون والذين من قبلهم من أهل الزيغ والضلال، كفروا بآيات الله، وكذبوا بما جاءت به من هدايات فكانت نتيجة ذلك أن أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر حيث أهلكم بسبب ما ارتكبوه من ذنوب، والله- تعالى- شديد العقاب لمن كفر بآياته.والجار والمجرور وهو قوله كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف. أى شأن هؤلاء في تكذيبك يا محمد كشأن آل فرعون والذين من قبلهم في تكذيبهم لأنبيائهم.والمقصود بآل فرعون أعوانه وبطانته، لأن الآل يطلق على أشد الناس التصاقا واختصاصا بالمضاف إليه، والاختصاص هنا في المتابعة والتواطؤ على الكفر، لأنه إذا وجد العناد في التابع فهو في الغالب يكون في المتبوع أشد وأكبر. ولأنهم هم الذين حرضوه على الشرور والآثام والطغيان فلقد حكى القرآن عنهم ذلك في قوله- تعالى- وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ قالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ .وخص القرآن آل فرعون بالذكر من بين الذين سبقوهم في الكفر، لأن فرعون كان أشد الطغاة طغيانا، وأكبرهم غرورا وبطرا وأكثرهم استهانة بقومه، واحتقارا لعقولهم وكيانهم، ألم يقل لهم- كما حكى القرآن- أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى . ألم يبلغ به غروره أن يقول لهم:أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ألم يقل لوزيره:يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ، أَسْبابَ السَّماواتِ، فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً.. .ولقد وصف الله- تعالى- قوم فرعون بهوان الشخصية، وتفاهة العقل، والخروج عن كل مكرمة فقال: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ، لأن الأمة التي تترك الظالم وبطانته يعيثون في الأرض فسادا لا تستحق الحياة، ولا يكون مصيرها إلا إلى التعاسة والخسران.وجملة كَذَّبُوا بِآياتِنا تفسير لصنيعهم الباطل، ودأبهم على الفساد والضلال. والمراد بالآيات ما يعم المتلوة في كتب الله- تعالى- والبراهين والمعجزات الدالة على صدق الأنبياء فيما يبلغونه عن ربهم.وفي إضافتها إلى الله- تعالى- تعظيم لها وتنبيه على قوة دلالتها على الحق والخير وقوله فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ بيان لما أصابهم بسبب كفرهم وتكذبيهم للحق، وفي التعبير بالأخذ إشارة إلى شدة العقوبة، فهو- سبحانه- قد أخذهم كما يؤخذ الأسير الذي لا يستطيع فكاكا من آسره.والباء للسببية أى أخذهم بسبب ما اجترحوه من ذنوب. أو الملابسة والمصاحبة. أى أخذهم وهم متلبسون بذنوبهم دون أن يتوبوا منها أو يقلعوا عنها، والجملة على الوجهين تدل على كمال عدل الله- تعالى- لأنه ما عاقبهم إلا لأنهم استحقوا ذلك.وأصل الذنب: الأخذ بذنب الشيء، أى بمؤخرته ثم أطلق على الجريمة لأن مرتكبها يعاقب بعدها.وفي قوله: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ إشارة إلى أن شدة العقاب سببها شدة الجريمة وتعليم للناس بأن كل فعل له جزاؤه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وتقرير وتأكيد لمضمون ما قبلها.
3:12
قُلْ لِّلَّذِیْنَ كَفَرُوْا سَتُغْلَبُوْنَ وَ تُحْشَرُوْنَ اِلٰى جَهَنَّمَؕ-وَ بِئْسَ الْمِهَادُ(۱۲)
فرمادو، کافروں سے کوئی دم جاتا ہے کہ تم مغلوب ہوگے اور دوزخ کی طرف ہانکے جاؤ گے (ف۲۲) اور وہ بہت ہی برا بچھونا،

ثم أنذر الله- تعالى- الكافرين بسوء المصير، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال- تعالى-:قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ.وقد وردت روايات في سبب نزول هذه الآية والتي بعدها. من أشهرها: ما ذكره ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أصاب من قريش ما أصاب في غزوة بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع وقال: «يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أنى نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» فقالوا يا محمد، لا يغرنك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة. إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس. فأنزل الله- تعالى- قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ إلى قوله- تعالى- لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ . والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود وأمثالهم من المشركين الذين يدلون بقوتهم، ويغترون بأموالهم وأولادهم وعصبيتهم.. قل لهم ستغلبون وتهزمون في الدنيا على أيدى المؤمنين وتحشرون يوم القيامة ثم تساقون إلى نار جهنم لتلقوا فيها مصيركم المؤلم، وَبِئْسَ الْمِهادُ أى بئس المكان الذي هيئوه لأنفسهم في الآخرة بسبب سوء فعلهم. والمهاد: المكان الممهد الذي ينام عليه كالفراش.ولقد أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يتولى الرد عليهم. وأن يواجههم بهذا الخطاب المشتمل على التهديد والوعيد، لأنهم كانوا يتفاخرون عليه بأموالهم وبقوتهم، فكان من المناسب أن يتولى صلّى الله عليه وسلّم الرد عليهم، وأن يخبرهم بأن النصر سيكون له ولأصحابه، وأن الدائرة ستدور عليهم.وقوله سَتُغْلَبُونَ إخبار عن أمر يحصل في المستقبل، وقد وقع كما أخبر به الله- تعالى-فقد دارت الدائرة على اليهود من بنى قينقاع والنضير وقريظة وغيرهم، بعد بضع سنوات من الهجرة، وتم فتح مكة في السنة الثامنة بعد الهجرة.وقوله وَبِئْسَ الْمِهادُ إما من تمام ما يقال لهم، أو استئناف لتهويل شأن جهنم، وتفظيع حال أهلها.
3:13
قَدْ كَانَ لَكُمْ اٰیَةٌ فِیْ فِئَتَیْنِ الْتَقَتَاؕ-فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِ وَ اُخْرٰى كَافِرَةٌ یَّرَوْنَهُمْ مِّثْلَیْهِمْ رَاْیَ الْعَیْنِؕ-وَ اللّٰهُ یُؤَیِّدُ بِنَصْرِهٖ مَنْ یَّشَآءُؕ-اِنَّ فِیْ ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّاُولِی الْاَبْصَارِ(۱۳)
بیشک تمہارے لئے نشانی تھی (ف۲۳) دو گروہوں میں جو آپس میں بھڑ پڑے (ف۲۴) ایک جتھا اللہ کی راہ میں لڑتا (ف۲۵) اور دوسرا کافر (ف۲۶) کہ انہیں آنکھوں دیکھا اپنے سے دونا سمجھیں، اور اللہ اپنی مدد سے زور دیتا ہے جسے چاہتا ہے (ف۲۷) بیشک اس میں عقلمندوں کے لئے ضرور دیکھ کر سیکھنا ہے،

ثم ساق القرآن مثلا مشاهدا يدل على نصر الله- تعالى- لأوليائه وخذلانه لأعدائه، فقال:قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ.والمراد بالآية هنا العلامة والبرهان والشاهد على صدق الشيء المخبر عنه.والفئة- كما يقول القرطبي- الجماعة من الناس، وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها، أى يرجع إليها في وقت الشدة، ولا خلاف في أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر. ثم قال: ويحتمل أن يكون المخاطب بهذه الآية جميع المؤمنين، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة، وبكل احتمال منها قد قال قوم. وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها، حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع .والمعنى: قد كان لكم أيها الناس علامة عظيمة، ودلالة واضحة على أن الكافرين سيغلبون والمؤمنين سينصرون بما جرى في غزوة بدر، فقد رأيتم كيف أن الله- تعالى- قد نصر لمؤمنين مع قلة عددهم، وهزم الكافرين مع كثرة عددهم وعددهم. ولقد كان المؤمنون يرون أعداءهم أكثر منهم عددا وعدة ومع ذلك لم يهابوهم ولم يجبنوا عن لقائهم، بل أقدموا على قتالهم بإيمان وشجاعة فرزقهم الله النصر على أعدائهم.ووصف- سبحانه- الفئة المؤمنة بأنها تقاتل في سبيل الله، على سبيل المدح لها، والإعلاء من شأنها، وبيان الغاية السامية التي من أجلها قاتلت، ومن أجلها تم لها النصر فهي لم تقاتل لأجل عرض من أعراض الدنيا، وإنما قاتلت لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق.ووصف الفتنة الأخرى بأنها كافرة لأنها لم تؤمن بالحق، ولم تتبع الطريق المستقيم، بل كفرت بكل ما يصلحها في دينها ودنياها.ولم يصفها بالقتال كما وصف الفئة المؤمنة. إسقاطا لقتال تلك الفئة الكافرة عن درجة الاعتبار، وإيذانا بأن الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم عند لقائهم للمؤمنين، جعلهم بأنهم ليسوا أهلا لأن يوصفوا بالقتال.هذا وللعلماء أقوال في المراد من قوله- تعالى- يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه الأقوال فقال: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ أى: يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين أى قريبا من ألفين، أو مثلي عدد المسلمين أى ستمائة ونيفا وعشرين. أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم. وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم بالملائكة. والدليل عليه قراءة نافع تَرَوْنَهُمْ بالتاء، أى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة، أو مثلي أنفسهم. فإن قلت فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ قلت: قللوا أولا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم: فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين.. وتقليلهم تارة وتكثيرهم تارة أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية. وقيل: يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ.بعد ما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله- تعالى- إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ .والذي نراه أن الرأى الذي عبر عنه صاحب الكشاف بقوله: وقيل: يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين.. إلخ هذا الرأى هو أقرب الأقوال إلى الصواب لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا أقل عددا وعدة من المشركين، ولأن التعبير بقوله- تعالى- رَأْيَ الْعَيْنِ يفيد أن رؤية هذه الكثرة من المشركين كانت رؤية بصرية بالمشاهدة، وليست بالتقدير أو التخيل، وهذا يتحقق في رؤية المؤمنين للمشركين:فإن قيل: إن المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا- كما حكى لنا التاريخ- ولم يكونوا مثليهم أى ضعفهم؟فالجواب على ذلك أن هذا التقدير للمشركين من جانب المؤمنين كان تقديرا تقريبيا وليس تقديرا عدديا، فثلاثة الأمثال قد ترى رأى العين مثلين أو نقول: إن المراد بكلمة مثلين مجرد التكرار وليس المراد بها التثنية على الحقيقة، كما في قوله- تعالى- فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ، فالمراد تكرار النظر مرة ومرات وليس المراد التحديد بكرتين.وقد رجح ابن جرير الطبري هذا الرأى، فقد قال بعد سرده لجملة من أقوال العلماء: وأولى هذه القراءات بالصواب: قراءة من قرأ يَرَوْنَهُمْ بمعنى: وأخرى كافرة يراهم المسلمون مثليهم، يعنى: مثلي عدد المسلمين، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال. فكان حزرهم إياهم كذلك. ثم قال: وأما قوله: رَأْيَ الْعَيْنِ فإنه مصدر رأيته. يقال رأيته رأيا ورؤية، ويقال هو منى رأى العين، ورأى العين- بالنصب والرفع- يراد حيث يقع عليه بصرى.. فمعنى ذلك: يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم وتراهم عيونهم مثليهم» .وقوله- تعالى- قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ.. إلخ من تمام القول المأمور به جيء به لتقرير وتحقيق ما قبله. وكانَ هنا ناقصة، وآيَةٌ اسمها، وترك التأنيث في- كان- لوجود الفاصل بينها وبين اسمها. ولأن المرفوع بها وهو اسمها مجازى التأنيث أو باعتبار أن الآية برهان ودليل.وقوله لَكُمْ خبر كان. وقوله فِئَةٌ خبر لمبتدأ محذوف أى. إحداهما فئة تقاتل في سبيل الله. وقوله وَأُخْرى نعت لمقدر أى وفئة أخرى كافرة. والجملة مستأنفة لتقرير «ما في الفئتين من الآية» ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ.أى: والله- تعالى- يؤيد بنصره من يشاء نصره وفوزه، فهو القادر على أن يجعل الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه وإن الذين يغترون بقوتهم وحدها، ويغترون بما بين أيديهم من أموال وعتاد ورجال، ولا يعملون حسابا للقدر، الذي يجريه الله على حسب مشيئته وإرادته هؤلاء الذين غرهم بالله الغرور، تداهمهم الهزيمة من حيث لا يحتسبون، وقد يفجؤهم الخسران والخذلان من الطريق الذي توهموا فيه الكسب والانتصار.لذا أمر الله- تعالى- عباده بالاعتبار والاتعاظ فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ واسم الإشارة ذلك يعود إلى المذكور الذي رأوه وشاهدوه وهو أن الفئة القليلة المؤمنة غلبت الفئة الكثيرة الكافرة.والعبرة- الاعتبار والاتعاظ وأصله من العبور وهو النفور من أحد الجانبين إلى الآخر، وسمى الاتعاظ عبرة، لأن المعتبر المتعظ يعبر من الجهل إلى العلم، ومن الهلاك إلى النجاة، أى: إن في ذلك الذي شاهده الناس وعاينوه من انتصار الفئة القليلة التي تقاتل في سبيل الله، على الفئة الكثيرة التي تقاتل في سبيل الطاغوت، لعبرة عظيمة، ودلالة واضحة، لأصحاب المدارك السليمة والعقول الواعية التي تفهم الأمور على حقيقتها، وتؤمن بأن الله- تعالى- قادر على كل شيء، أما أصحاب القلوب المطموسة والنفوس المغرورة بقوتها. فهي عن الاعتبار والاتعاظ بمعزل.قال الفخر الرازي ما ملخصه: «واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وعبرة واضحة- وجوها: منها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قلة العدد، وأنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا، ومنه قلة السلاح، ومنها أنها كانت ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من الكثرة والتأهب وغير ذلك ومع هذا فقد انتصر المؤمنون، ولما كان ذلك خارجا عن العادة كان معجزا».وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أنذرت الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم، وساقت لهم ما يؤيد ذلك من واقع ما شاهدوه، وبشرت المؤمنين بنصر الله لهم، وحثتهم على الاتعاظ والاعتبار، لأن من شأن المعتبرين أن يكونوا مراقبين الله- تعالى- ومنفذين لأوامره، ومبتعدين عن نواهيه، ومن كان كذلك كان الله معه بنصره وتأييده.ثم بين- سبحانه- أهم الشهوات التي يؤدى الانهماك في طلبها إلى الانحراف في التفكير، وإلى عدم التبصر والاعتبار، ودعا الناس إلى التزود من العمل الصالح الذي يفضى بهم إلى رضاه- سبحانه- فقال:
3:14
زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوٰتِ مِنَ النِّسَآءِ وَ الْبَنِیْنَ وَ الْقَنَاطِیْرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَیْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْاَنْعَامِ وَ الْحَرْثِؕ-ذٰلِكَ مَتَاعُ الْحَیٰوةِ الدُّنْیَاۚ-وَ اللّٰهُ عِنْدَهٗ حُسْنُ الْمَاٰبِ(۱۴)
لوگوں کے لئے آراستہ کی گئی ان خواہشوں کی محبت (ف۲۸) عورتوں اور بیٹے اور تلے اوپر سونے چاندے کے ڈھیر اور نشان کئے ہوئے گھوڑے اور چوپائے اور کھیتی یہ جیتی دنیا کی پونجی ہے (ف۲۹) اور اللہ ہے جس کے پاس اچھا ٹھکانا (ف۳۰)

فأنت ترى في هذه الآيات الكريمة بيانا حكيما من الله- تعالى- لأهم متع الحياة الدنيا وشهواتها، ولما هو خير من هذه المتع والشهوات، مما أعده الله لعباده المتقين من جنات وخيرات.وقوله زُيِّنَ من التزيين وهو تصيير الشيء زينا أى حسنا. والزينة هي ما في الشيء من المحاسن التي ترغب الناظرين في اقتنائه.قال الراغب: «والزينة بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه.. وقد نسب الله التزيين في مواضع إلى نفسه كما في قوله- تعالى- وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ونسبه في مواضع إلى الشيطان كما في قوله وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وذكره في مواضع غير مسمى فاعله كما في قوله- تعالى- زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ .والشهوات جمع شهوة، وهي ثوران النفس وميلها نحو الشيء المشتهى. والمراد بها هنا الأشياء المشتهاة من النساء والبنين.. إلخ. وعبر عنها بالشهوات للإشارة- كما يقول الآلوسى- إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى لكأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض: ما تشتهي؟ فقال: أشتهى أن أشتهى. أو تنبيها على خستها: لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيها عند الله، ثم قال: والتزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب، وهو بهذا المعنى مضاف إليه- تعالى- حقيقة لأنه لا خالق إلا هو. ويطلق ويراد به الحض على تعاطى الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها» .ثم بين- سبحانه- أهم المشتهيات التي يحبها الناس، وتهفو إليها قلوبهم، وترغب فيها نفوسهم، فأجملها في أمور ستة.أما أولها: فقد عبر عنه القرآن بقوله: «من النساء ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شيء فطري في الطبيعة الإنسانية، ويكفى أن الله- تعالى- قد قال في العلاقة بين الرجل والمرأة هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ .وقال- تعالى- في آية ثانية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً وإن بعض الرجال قد يستهين بكل شيء في سبيل الوصول إلى المرأة التي يهواها ويشتهيها والأمثال على ذلك كثيرة ولا مجال لذكرها هنا وصدق رسول الله حيث يقول: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» ، ولذا قدم القرآن اشتهاءهن على كل شهوة. ومِنَ في قوله مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ بيانية، وهي مع مجرورها في محل نصب على الحال من الشهوات. واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمرأة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغنى عن ذكر الطرفين معا، وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة خصوصا في هذا المجال الذي يحرص في القرآن على تربية الحياء والأدب في النفوس، ولأن المرأة في هذا الباب يهمها أن تكون مطلوبة لا طالبة. وحتى لو كانت محبتها للرجل أشد فإنها تحاول أن تثير فيه ما يجعله هو الذي يطلبها لا هي التي تطلبه.وأما ثانى المشتهيات: فقد عبر عنه القرآن بقوله وَالْبَنِينَ جمع ابن، وهو معطوف على ما قبله، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء لأن البنين ثمرة حب النساء، واكتفى بذكر البنين، لأنهم موضع الفخر في العادة وحب الأولاد طبيعة في النفس البشرية فهم ثمرات القلوب، وقرة الأعين ومهوى الأفئدة، ومطمح الآمال، ولقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ وسيدنا زكريا يقول: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ.والإنسان في سبيل حبه لأولاده يضحى براحته، وقد يجمع المال من أجلهم من حلال ومن حرام، وقد يرتكب بعض الأعمال التي لا يريد ارتكابها إرضاء لهم، وقد يمتنع عن فعل أشياء هو يريد فعلها لأن مصلحتهم تقتضي ذلك.وصدق الله إذ يقول: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌوصدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول:«الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة» أى أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت لئلا يصيب أبناءهم اليتم وآلامه، ويجعلونهم يبخلون فلا ينفقون فيما ينبغي أن ينفق فيه إيثارا لهم بالمال، ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه.أما الأمر الثالث من المشتهيات: فقد عبر عنه القرآن بقوله وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ والقناطير جمع قنطار، وهو مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه، تقول العرب: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها.قال الفخر الرازي «القنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: إنه وزن لا يحد. واعلم أن هذا هو الصحيح، ومن الناس من حاول تحديده. فعن ابن عباس: القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية» .ولفظ الْمُقَنْطَرَةِ مأخوذ من القنطار. ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة أى والقناطير المضاعفة المتكاثرة المجموعة قنطارا قنطارا كقولهم: دراهم مدرهمة وإبل مؤبلة.وقوله مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بيان للقناطير، وهو في موضع الحال منها.والمراد أن الإنسان محب للمال حبا شديدا، قال- تعالى- وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ وقال تعالى- وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا.وفي الحديث الشريف الذي رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.وقالت السيدة- عائشة- رضى الله عنها- «رأيت ذا المال مهيبا، ورأيت ذا الفقر مهينا» .وقالت: «إن أحساب ذوى الدنيا بنيت على المال».وإنما كان الذهب والفضة محبوبين، لأنهما- كما يقول الرازي- جعلا ثمنا لجميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء» وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته- وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب- لا جرم كانا محبوبين»وأما المشتهيات الرابعة والخامسة والسادسة فتتجلى في قوله- تعالى- وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ.ولفظ الخيل يرى سيبويه أنه اسم جمع لا واحد له من لفظه، بل مفردة فرس فهو نظير قوم ورهط ونساء. ويرى الأخفش أنه جمع تكسير وواحده خائل، فهو نظير راكب وركب، وطائر وطير.وهو مشتق من الخيلاء لأنها تختال في مشيتها.والمسومة: أى الراعية في المروج والمسارح. يقال: سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى. أو المطهمة الحسان، من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة.والخيل كانت وما زالت زينة محببة مرغوبة، مهما تفنن البشر في اختراع صنوف من المراكب برّا وبحرا وجوّا فمع وجود هذه المراكب المتنوعة ما زال للخيل عشاقها الذين يعجبهم ما فيها من جمال وانطلاق وألفة. ويقتنونها للركوب والمسابقات.. وَالْأَنْعامِ جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم. ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها.والأنعام فيها زينة. والإنسان في حاجة شديدة إليها في مركبه ومطعمه وغير ذلك. قال- تعالى- وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ .والْحَرْثِ مصدر بمعنى المفعول أى المحروث. والمراد به المزروع سواء أكان حبوبا أم بقلا، أم ثمرا إذ من هذه الأشياء يتخذ الإنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته.تلك هي أهم المشتهيات في هذه الحياة إلى نفس الإنسان قد جمعها القرآن في آية واحدة، وقد اختصها- سبحانه- بالذكر لأنها أوضح من غيرها في الاحتياج إليها والتلذذ بها، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها سواء أكانت متعة جسدية أم روحية، أم مالية، أم غير ذلك من ألوان المتع، ومن مستلزمات الحياة.وقد ختم- سبحانه- الآية بقوله ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى كل ما تقدم ذكره من الأمور الستة التي سبق الحديث عنها، والمآب:مصدر ميمى بوزن مفعل، من آب. كقال- إيابا وأوبا ومآبا، إذا رجع. وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ثم قلبت الواو ألفا مثل مقال.أى ذلك المذكور من النساء والبنين وما عطف عليهما هو موضع الزينة، ومطلب الناس الذي يستمتعون به، ويرغبون فيه، ويشتهونه اشتهاء عظيما في حياتهم، والله- تعالى- عنده المرجع الحسن وهو الجنة، فهي الأحق بالرغبة فيها لبقائها دون المتع الفانية.فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المشتهيات التي جبل الإنسان على الميل إليها، وصياغة الفعل للمجهول زُيِّنَ لِلنَّاسِ للإشارة إلى أن محبة هذه الأشياء واشتهاءها مركوز في الفطرة الإنسانية منذ أوجد. الله الإنسان في هذه الحياة الدنيا.وهذه المتشهيات ليست خسيسة في ذاتها، ولا يقصد الإسلام إلى تخسيسها في ذاتها أو إلى التنفير منها، وإنما الإسلام يريد من أتباعه أن يقتصدوا في طلبها، وأن يطلبوها من وجوهها المشروعة، وأن يضعوها في مواضعها المشروعة، وأن يشكروا الله عليها، وألا يجعلوها غاية مقصدهم في هذه الحياة إن الإسلام لا يحارب الفطرة الإنسانية التي تشتهي هذه الأشياء، وإنما يهذبها ويضبطها ويرشدها إلى أن تضع هذه الأشياء في موضعها المناسب، بحيث لا تطغى على غيرها ولا تستعمل في غير ما خلقها الله من أجله، وبذلك يسعد الإنسان في دينه ودنياه وآخرته.وللإمام ابن كثير كلام حسن عند تفسيره لهذه الآية فقد قال ما ملخصه: يخبر الله- تعالى- عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد.. فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بذلك.. وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر..فيكون مذموما، وتارة يكون للنفقة في وجوه البر فيكون محمودا.. وحب الخيل على ثلاثة أقسام، تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرا ومناوأة لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر. وتارة تربط للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس صاحبها حق الله فيها فهذه لصاحبها ستر. وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» والسكة النخل المصطف، والمأبورة الملقحة، . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقه».هذا، وختام الآية الكريمة بقوله ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ إشارة إلى أن متع الدنيا مهما كثرت وتنوعت وتلذذ بها الإنسان فهي زوال، وأما اللذائذ الباقية الخالدة فهي التي أعدها الله- تعالى- لعباده المتقين في الدار الآخرة، ولذا قال- سبحانه- بعد ذلك قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ.
3:15
قُلْ اَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَیْرٍ مِّنْ ذٰلِكُمْؕ-لِلَّذِیْنَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّٰتٌ تَجْرِیْ مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهٰرُ خٰلِدِیْنَ فِیْهَا وَ اَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَّ رِضْوَانٌ مِّنَ اللّٰهِؕ-وَ اللّٰهُ بَصِیْرٌۢ بِالْعِبَادِۚ(۱۵)
تم فرماؤ کیا میں تمہیں اس سے (ف۳۱) بہتر چیز بتادوں پرہیزگاروں کے لئے ان کے رب کے پاس جنتیں ہیں جن کے نیچے نہریں رواں ہمیشہ ان میں رہیں گے اور ستھری بیبیاں (ف۳۲) اور اللہ کی خوشنودی (ف۳۳) اور اللہ بندوں کو دیکھتا ہے (ف۳۴)

أى قل يا محمد للناس الذين مالوا إلى شهوات الدنيا من النساء والبنين وغيرهما، قل لهم ألا تحبون أن أخبركم بما هو خير من تلك المشتهيات الدنيوية؟والاستفهام للتقرير، والمراد به التحقيق والتثبيت في نفوس المخاطبين، أى تحقيق وتثبيت خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا، وحضهم على الاستجابة لما سيلقى عليهم.وافتتح الكلام بكلمة قُلْ للاهتمام بالمقول وتنبيه السامعين إلى أن ما سيلقى عليهم أمر يهمهم ومما يقوى هذا التنبيه هنا: التعبير بقوله أَأُنَبِّئُكُمْ لأن الإنباء معناه الخبر العظيم الشأن، والتعبير بقوله ذلِكُمْ لاشتماله على الإشارة التي للبعيد الدالة على عظم شأن ما سيخبرهم به، والتعبير بقوله بِخَيْرٍ الذي يدل على الأفضلية، لأن نعيم الآخرة خير محض ونعيم الدنيا مشوب بالشرور والاضرار. ثم بين- سبحانه- المخبر عنه بعد أن مهد له بتلك التنبيهات التي تشوق إلى سماعه وتغرى بالاستجابة له فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ.هذه هي اللذائذ والمتع التي أعداها الله- تعالى- لمن اتقاه، أى أدى ما أمره به، وابتعد عما نهاه عنه.وأول هذه النعيم،: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أى بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار، وفي هذه الجنات ما لا عين رأت، ولا أدن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.وقوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا خبر مقدم، وقوله جَنَّاتٌ مبتدأ مؤخر، وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ في محل نصب على الحال من جنات. وقوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لجنات.وعلى هذا يكون منتهى الاستفهام عند قوله مِنْ ذلِكُمْ وهذا هو المشهور عند العلماء ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ثم يبتدأ فيقال: عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار. ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله- تعالى- عِنْدَ رَبِّهِمْ ثم يبتدأ فيقال: جنات تجرى من تحتها الأنهار.قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل الاستفهام منتهيا عند قوله- تعالى- بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فيكون مخرج ذلك مخرج الخير. وهو إبانة عن معنى الخير الذي قال: أنبئكم به، فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير» .وثانى هذه النعم عبر عنه- سبحانه- بقوله خالِدِينَ فِيها أى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم خالدون في تلك الجنات التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خلودا أبديّا، بخلاف أولئك المنعمين بنعم الدنيا فإن نعيمهم إلى فناء وزوال.وثالث هذه النعم قوله- تعالى- وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ.والأزواج: جمع زوجة وهي المرأة يختص بها الرجل. أى ولهم في تلك الجنات أزواج مطهرة غاية التطهير من كل دنس وقذر حسى ومعنوي، فقد وصف- سبحانه- هؤلاء الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل ما يتمناه الرجل في المرأة.ورابع هذه النعم قوله- تعالى- وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وهذه النعمة هي أعظم النعم وأجلها أى لهم رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون، ومنشئ الوجود. وهو مصدر كالرضا، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم.وقوله مِنَ اللَّهِ صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة.روى الشيخان عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله- عز وجل- يقول لأهل الجنة يوم القيامة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: يا ربنا وأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا».هذه هي اللذائذ والمتع والنعم التي أعدها الله- تعالى- لعباده المتقين.ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أى أنه- سبحانه- عليم بأحوال عباده، لا تخفى عليه خافية من شئونهم. وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى. ففي هذا التذييل وعد للمتقين ووعيد للمسيئين.
3:16
اَلَّذِیْنَ یَقُوْلُوْنَ رَبَّنَاۤ اِنَّنَاۤ اٰمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوْبَنَا وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِۚ(۱۶)
وہ جو کہتے ہیں ے رب ہمارے! ہم ایمان لائے تو ہمارے گناہ معاف کر اور ہمیں دوزخ کے عذاب سے بچالے،

ثم حكى- سبحانه- أقوال هؤلاء المتقين ومدحهم على إيمانهم وصلاحهم فقال- تعالى- الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ أى أن هذه الجنات وغيرها من أنواع النعم قد أعدها الله- تعالى- لهؤلاء المتقين الذين يضرعون إلى الله ملتمسين منه المغفرة فيقولون: يا ربنا إننا آمنا بك وصدقنا رسولك في كل ما جاء به من عندك، فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا في أمرنا فأنت الغفار الرحيم، وَقِنا عَذابَ النَّارِ أى جنبنا هذا العذاب الأليم يا أرحم الراحمين.وفي حكاية هذا القول عنهم بصيغة المضارعة يَقُولُونَ إشعار بأنهم يجددون التوبة إلى الله دائما لقوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، وإحساسهم بأنهم مهما قدموا من طاعات فهي قليلة بجانب فضل الله عليهم، ولذلك فهم يلتمسون منه الستر والغفران، والوقاية من النار، وهذا شأن الأخيار من الناس.وقوله- سبحانه- الَّذِينَ يَقُولُونَ بدل أو عطف بيان من قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة منهما جواب عن سؤال كأنه قيل: من أولئك المتقون؟ فقيل: هم الذين يقولون ربنا إننا آمنا.. ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح.
3:17
اَلصّٰبِرِیْنَ وَ الصّٰدِقِیْنَ وَ الْقٰنِتِیْنَ وَ الْمُنْفِقِیْنَ وَ الْمُسْتَغْفِرِیْنَ بِالْاَسْحَارِ(۱۷)
صبر والے (ف۳۵) اور سچے (ف۳۶) اور ادب والے اور راہِ خدا میں خرچنے والے اور پچھلے پہر سے معافی مانگنے والے (ف۳۷)

ثم وصفهم- سبحانه- بخمس صفات كريمة من شأنها أن تحمل العقلاء على التأسى بهم فقال: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.وفي كل صفة من صفاتهم دليل على قوة إيمانهم، وإذعانهم للحق حق الإذعان. فهم صابرون، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس من أكبر البراهين على سلامة اليقين، وقد حث القرآن أتباعه على التحلي بهذه الصفة في أكثر من سبعين موضعا. وهم صادقون، والصدق من أكمل الصفات الإنسانية وأشرفها، وقد أمر الله عباده أن يتحلوا به في كثير من آيات كتابه، ومن ذلك قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.وهم قانتون، والقانت هو المداوم على طاعة الله- تعالى- غير متململ منها ولا متبرم بها، ولا خارج على حدودها. فالقنوت يصور الإذعان المطلق لرب العالمين.وهم منفقون أموالهم في طاعة الله- تعالى-، وبالطريقة التي شرعها وأمر بها. وهم مستغفرون بالأسحار. أى يسألون الله- تعالى- أن يغفر لهم خطاياهم في كل وقت، ولا سيما في الأسحار.والأسحار جمع سحر وهو الوقت الذي يكون قبل الفجر. روى مسلم في صحيحه عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل ربنا- عز وجل- إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألنى فأعطيه، من ذا الذي يستغفرنى فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر»وخص وقت الأسحار بالذكر لأن النفس تكون فيه أصفى، والقلب فيه أجمع، ولأنه وقت يستلذ فيه الكثيرون النوم فإذا أعرض المؤمن عن تلك اللذة وأقبل على ذكر الله كانت الطاعة أكمل وأقرب إلى القبول.وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد كشفت عن المشتهيات التي يميل إليها الناس في دنياهم بمقتضى فطرتهم، وأرشدتهم إلى ما هو أسمى وأعلى وأبقى من ذلك وبشرتهم برضوان الله وجناته، متى استقاموا على طريقه، واستجابوا لتعاليمه، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.وبعد أن بين- سبحانه- ما أعده للمتقين، وذكر صفاتهم عقب ذلك ببيان أساس التقوى وهو عقيدة التوحيد، وببيان أن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله- تعالى- للناس، وأن من يعارض في ذلك معارضته داحضة وسيعاقبه الله بما يستحقه. استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول:
3:18
شَهِدَ اللّٰهُ اَنَّهٗ لَاۤ اِلٰهَ اِلَّا هُوَۙ-وَ الْمَلٰٓىٕكَةُ وَ اُولُوا الْعِلْمِ قَآىٕمًۢا بِالْقِسْطِؕ-لَاۤ اِلٰهَ اِلَّا هُوَ الْعَزِیْزُ الْحَكِیْمُؕ(۱۸)
اور اللہ نے گواہی دی کہ اس کے سوا کوئی معبود نہیں (ف۳۸) اور فرشتوں نے اور عالموں نے (ف۳۹) انصاف سے قائم ہوکر اس کے سوا کسی کی عبادت نہیں عزت والا حکمت والا،

قال القرطبي: «لما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما للآخر: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له: أنت محمد؟ قال نعم قالا:وأنت أحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك.فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سلانى. فقالا: أخبرنا عن الأعظم شهادة في كتاب الله. فأنزل الله تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أى بين وأعلم كما يقول:شهد فلان عند القاضي إذا بين وأعلم لمن الحق أو على من هو قال الزجاج: «الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه، فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبين» .والمعنى: أخبر الله- تعالى- عباده وأعلمهم بالآيات القرآنية التي أنزلها على نبيه، وبالآيات الكونية التي لا يقدر على خلقها أحد سواه، وبغير ذلك من الأدلة القاطعة التي تشهد بوحدانيته، وأنه لا معبود بحق سواه، وأنه هو المنفرد بالألوهية لجميع الخلائق. وأن الجميع عبيده وفقراء إليه وهو الغنى عن كل ما عداه. وشهد بذلك «الملائكة» بأن أقروا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد فعبدوه حق العبادة، وأطاعوه حق الطاعة، وشهد بذلك أيضا «أولو العلم» بأن اعترفوا له- سبحانه- بالوحدانية، وصدقوا بما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبلغوا ذلك لغيرهم.قال الزمخشري: شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما، بشهادة الشاهد في البيان والكشف وكذلك إقرار الملائكة وأولى العلم بذلك واحتجاجهم عليه» .وقالوا: وفي هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء، لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن العلماء. وقال في شرف العلم لنبيه- صلّى الله عليه وسلّم- وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله نبيه أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم. وقال صلّى الله عليه وسلّم «إن العلماء ورثة الأنبياء» وقال: «العلماء أمناء الله على خلقه» . وهذا شرف للعلماء عظيم ومحل لهم في الدين خطير .والمراد بأولى العلم هنا جميع العلماء الذين سخروا ما أعطاهم الله من معارف في خدمة عقيدتهم، وفيما ينفعهم وينفع غيرهم، وأخلصوا الله في عبادتهم، وصدقوا في أقوالهم وأفعالهم.وقدم- سبحانه- الملائكة على أولى العلم، لأن فيهم من هو واسطة لتوصيل العلم إلى ذويه، لأن علمهم كله ضروري بخلاف البشر فإن علمهم منه ما هو ضروري، ومنه ما هو اكتسابى.وقوله- تعالى- قائِماً بِالْقِسْطِ بيان لكماله- سبحانه- في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته.والقسط: العدل. يقال قسط ويقسط قسطا، وأقسط إقساطا فهو مقسط إذا عدل ومنه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ويطلق القسط على الجور، والفاعلي قاسط، ومنه «وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا» .أى: مقيما للعدل في تدبير أمر خلقه، وفي أحكامه. وفيما يقسم بينهم من الأرزاق والآجال، وفيما يأمر به وينهى عنه، وفي كل شأن من شئونه.قال الجمل وقائِماً منصوب على أنه حال من الضمير المنفصل الواقع بعد إلا، فتكون الحال أيضا في حيز الشهادة، فيكون المشهود به أمرين: الوحدانية والقيام بالقسط وهذا أحسن من جعله حالا من الاسم الجليل فاعلى شهد، لأن عليه يكون المشهود به الوحدانية فقط والحال ليست في حيز الشهادة.وقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تكرير للمشهود به للتأكيد والتقرير، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل، والاعتناء به يقتضى الاعتناء بأدلته.الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان مقررتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل. أى لا إله في هذا الوجود يستحق العبادة بحق إلا الله الْعَزِيزُ الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، وينتصر من كل أحد عاقبه أو انتقم منه الْحَكِيمُ في تدبيره فلا يدخله خلل.قال ابن جرير: «وإنما عنى جل ثناؤه- بهذه الآية نفى ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عيسى من النبوة، وما نسب إليه سائر أهل الشرك: من أن له شريكا، واتخاذهم دونه أربابا، فأخبرهم الله عن نفسه، أنه الخالق كل ما سواه، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه.فبدأ- جل ثناؤه- بنفسه تعظيما لنفسه، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها، كما سن لعباده أن يبدءوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره مؤدبا خلقه بذلك»هذا، ومن الآثار التي وردت في فضل هذه الآية ما رواه الإمام أحمد عن الزبير بن العوام قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ.. إلى آخر الآية. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب» وقال غالب القطان: أتيت الكوفة في تجارة لي فنزلت قريبا من الأعمش فكنت اختلف إليه، فقام في ليلة متهجدا فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فقال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي وديعة «إن الدين عند الله الإسلام» ، - قالها مرارا- فقلت. لقد سمع فيها شيئا فسألته في ذلك فقال: حدثني أبو وائل بن عبد الله قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله- تعالى- «عبدى عهد إلى وأنا أحق من وفي العهد ادخلوا عبدى الجنة» .
3:19
اِنَّ الدِّیْنَ عِنْدَ اللّٰهِ الْاِسْلَامُ۫-وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِیْنَ اُوْتُوا الْكِتٰبَ اِلَّا مِنْۢ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیًۢا بَیْنَهُمْؕ-وَ مَنْ یَّكْفُرْ بِاٰیٰتِ اللّٰهِ فَاِنَّ اللّٰهَ سَرِیْعُ الْحِسَابِ(۱۹)
بیشک اللہ کے یہاں اسلام ہی دین ہے (ف۴۰) اور پھوٹ میں نہ پڑے کتابی (ف۴۱) مگر اس کے کہ انہیں علم آچکا (ف۴۲) اپنے دلو ں کی جلن سے (ف۴۳) اور جو اللہ کی آیتوں کا منکر ہو تو بیشک اللہ جلد حساب لینے والا ہے،

وقوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى. وأصل الدين في اللغة الجزاء والحساب. يقال دنته بما صنع أى جازيته على صنيعه، ومنه قولهم: كما تدين تدان أى، كما تفعل تجازى، وفي الحديث «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» والمراد به هنا ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه من عقائد وتكاليف وتشريعات، فيكون بمعنى الملة والشرع.أى: إن الشريعة المرضية عند الله- تعالى- هي الإسلام، والإسلام في اللغة هو الاستسلام والانقياد يقال: أسلم أى انقاد واستسلم. وأسلم أمره الله سلمه إليه والمراد به هنا- كما قال ابن جرير: «شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله الذي شرعه لنفسه وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره ولا يجزى بالإحسان إلا به» وهو الدين الحنيف الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم.وقال ابن كثير: وقوله- تعالى- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ إخبار منه تعالى- بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فمن لقى الله تعالى- بعد بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال- تعالى- وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ الآية. وقال في هذه الآية مخبرا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وقوله: عِنْدَ اللَّهِ ظرف العامل فيه لفظ الدين لما تضمنه من معنى الفعل، أى الذي شرع عند الله الإسلام. ويصح أن يكون صفة للدين فيكون متعلقا بمحذوف أى الكائن أو الثابت عند الله الإسلام. وفي إضافة الدين إلى الله- تعالى- بقوله عِنْدَ اللَّهِ وباعتبار الإسلام وحده، هو دين الله، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين، إشعار بفضل الإسلام، لأن له ذلك الشرف الإضافى إلى خالق هذا الكون ومربيه، فهو دين الله الذي شرعه لخلقه.ثم بين- سبحانه- أن اختلاف أهل الكتاب في شأن الدين الحق لم يكن عن جهل منهم بالحقائق وإنما كان سببه البغي والحسد وطلب الدنيا فقال- تعالى- وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.أى: وما كان خلاف الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى فيما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلا من بعد أن علموا بأن ما جاءهم به هو الحق الذي لا باطل معه، فخلافهم لم يكن عن جهل منهم بأن ما جاءهم به هو الحق وإنما كان سببه البغي والحسد والظلم فيما بينهم.وفي التعبير عنهم بأنهم أُوتُوا الْكِتابَ زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وأفحش، إذ الكتاب ما نزل إلا لهدايتهم، وسعادتهم فإذا تركوا بشاراته وتوجيهاته واتبعوا أهواءهم كان فعلهم هذا أشد قبحا وفحشا.وقوله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ زيادة أخرى في تقبيح أفعالهم، فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القبح والعناد.والاستثناء من أعم الأحوال أو الأوقات، أى وما اختلفوا في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا الحق، والعلم بالحق وحده لا يكفى في الإيمان به، ولكنه يحتاج إلى جانب ذلك إلى قلب مخلص متفتح لطلبه، وكم من أناس يعرفون الحق معرفة تامة ولكنهم يحاربونه ويحاربون أهله، لأنهم يرون أن هذا الحق يتعارض مع أهوائهم وشهواتهم وصدق الله إذ يقول. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .فهم قد اختلفوا في الحق مع علمهم بأنه حق، لأن العلم كالمطر، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية، والقلوب الواعية، والأفئدة المستقيمة.وقوله بَغْياً بَيْنَهُمْ مفعول لأجله، والعامل فيه اختلف أى وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره قال القرطبي: «وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم».ثم ختم- سبحانه- الآية بهذا التهديد الشديد فقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. أى: ومن يكفر بآيات الله الدالة على وحدانيته- سبحانه- فإن الله محص عليه أعماله في الدنيا وسيعاقبه بما يستحقه في الآخرة.فقوله فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قائم مقام جواب الشرط وعلة له، أى: ومن يكفر بآيات الله فإنه- سبحانه- محاسبة ومعاقبه والله سريع الحساب.وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل والقدرة التامة فهو- سبحانه- لا يحتاج إلى فحص وبحث، لأنه لا تخفى عليه خافية.
3:20
فَاِنْ حَآجُّوْكَ فَقُلْ اَسْلَمْتُ وَجْهِیَ لِلّٰهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِؕ-وَ قُلْ لِّلَّذِیْنَ اُوْتُوا الْكِتٰبَ وَ الْاُمِّیّٖنَ ءَاَسْلَمْتُمْؕ-فَاِنْ اَسْلَمُوْا فَقَدِ اهْتَدَوْاۚ-وَ اِنْ تَوَلَّوْا فَاِنَّمَا عَلَیْكَ الْبَلٰغُؕ-وَ اللّٰهُ بَصِیْرٌۢ بِالْعِبَادِ۠(۲۰)
پھر اے محبوب! اگر وہ تم سے حجت کریں تو فرمادو میں اپنا منہ اللہ کے حضور جھکائے ہوں اور جومیرے پیرو ہوئے (ف۴۴) اور کتابیوں اور اَن پڑھوں سے فرماؤ (ف۴۵) کیا تم نے گردن رکھی (ف۴۶) پس اگر وہ گردن رکھیں جب تو راہ پاگئے اور اگر منہ پھیریں تو تم پر تو یہی حکم پہنچادینا ہے (ف۴۷) اور اللہ بندوں کو کو دیکھ رہا ہے،

ثم لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم ما يرد به على أهل الكتاب إذا ما جادلوه أو خاصموه ليحسم الأمر معهم ومع غيرهم من المشركين وليمضى في طريقه الواضح المستقيم فقال- تعالى- فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ.وقوله حَاجُّوكَ من المحاجة وهي أن يتبادل المتجادلان الحجة، بأن يقدم كل واحد حجته ويطلب من الآخر أن يرد عليها أو يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعم أنه الحق الذي لا شك فيه.والمعنى: فإن جادلك- يا محمد- أهل الكتاب ومن لف لفهم بالأقاويل المزورة والمغالطات الباطلة بعد أن قامت الحجج على صدقك. فلا تسر معهم في لجاجتهم، ولا تلتفت إلى أكاذيبهم، بل قل لهم أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ أى أخلصت عبادتي الله وحده، وأطعته وانقدت له، وكذلك من اتبعنى وآمن بي قد أسلم وجهه الله وأخلص له العبادة.والمراد بالوجه هنا الذات، وعبر بالوجه عن سائر الذات لأنه أشرف أعضاء الشخص، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة، وهو مجمع محاسن الجسم فالتعبير به عن الجسم كله تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل.ومَنِ في قوله وَمَنِ اتَّبَعَنِ في محل رفع عطفا على الضمير المتصل في أَسْلَمْتُ أى أسلمت أنا ومن اتبعنى. وجاء العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد لوجود الفاصل بينهما.وقوله وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ عطف على الجملة الشرطية، والمراد بالأميين الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب.والاستفهام في قوله أَأَسْلَمْتُمْ للحض على أن يسلموا وجوههم الله، ويتبعوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما اتبعه المسلمون.والمعنى: فإن جادلوك في الدين- يا محمد- بعد أن تبين لكل عاقل صدقك، فقل لهؤلاء المعاندين إنى أسلمت وجهى الله وكذلك أتباعى أسلموا وجوههم الله، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلموا تسلموا فقد تبين لكم أنى على حق، ومن شأن العاقل أنه إذا تبين له الحق أن يدخل فيه وأن يترك العناد والمكابرة.قال صاحب الكشاف: وقوله أَأَسْلَمْتُمْ يعنى أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان طريقا إلا سلكته: هل فهمتها لا أم لك. ومنه قوله- تعالى- فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر. وفي هذا الاستفهام استقصار- أى عد المخاطب قاصرا- وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف في إذعانه للحق .ثم بين- سبحانه- ما يترتب على إسلامهم من نتائج، وما يترتب على إعراضهم من شرور تعود عليهم فقال: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.أى: فإن أسلموا وجوههم الله وصدقوا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد اهتدوا إلى طريق الحق، لأن هذا الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للناس وإن أعرضوا عن هذا الطريق المستقيم، فإن إعراضهم لن يضرك- أيها الرسول الكريم- لأن الذي عليك إنما هو تبليغ الناس ما أمرك الله بتبليغه إياهم. وهو- سبحانه- بصير بخلقه لا تخفى عليه خافية من أقوالهم أو أفعالهم، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه.وعبر بالماضي في قوله فَقَدِ اهْتَدَوْا مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى لهم وقوله فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ قائم مقام جواب الشرط أى وإن تولوا لا يضرك توليهم شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه.وقوله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ تذييل فيه عزاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن كفرهم، وإشارة إلى أحوالهم، وإنذار بسوء مصيرهم، لأنه- سبحانه- عليم بنفوس الناس جميعا وسيجازى كل إنسان بما يستحقه، وفيه كذلك وعد للمؤمنين بحسن العاقبة، وجزيل الثواب.قال ابن كثير: وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله- تعالى- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وقال- تعالى- تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً.وفي الصحيحين وغير هما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلّى الله عليه وسلّم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بنى آدم من عربهم وعجمهم. كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك، فعن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» .وقال صلّى الله عليه وسلّم «بعثت إلى الأحمر والأسود» . وقال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وعن أنس- رضى الله عنه- أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلّى الله عليه وسلّم وضوءه ويناوله نعليه فمرض. فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا فلان قل لا إله إلا الله، فنظر إلى أبيه فسكت أبوه فأعاد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم القول. فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه أطع أبا القاسم. فقال الغلام أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: الحمد لله الذي أخرجه بي من النار» رواه البخاري في الصحيح. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد بينت للناس في كل زمان ومكان أن دين الإسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده وشهد بذلك خالق هذا الكون- عز وجل- وكفى بشهادته شهادة كما شهد بذلك الملائكة المقربون والعلماء المخلصون. كما بينت أن كثيرا من الذين أوتوا الكتاب يعلمون هذه الحقيقة ولكنهم يكتمونها ظلما وبغيا، كما بينت- أيضا- أن الذين يدخلون في هذا الدين يكونون بدخولهم قد اهتدوا إلى الطريق القويم، وأن الذين يعرضون عنه سيعاقبون بما يستحقونه بسبب هذا الإعراض عن الحق المبين.ثم انتقل القرآن إلى سرد بعض الرذائل التي عرف بها اليهود وعرف بها أسلافهم، وبين سوء مصيرهم ومصير كل من يفعل فعلهم فقال- تعالى-:
3:21
اِنَّ الَّذِیْنَ یَكْفُرُوْنَ بِاٰیٰتِ اللّٰهِ وَ یَقْتُلُوْنَ النَّبِیّٖنَ بِغَیْرِ حَقٍّۙ-وَّ یَقْتُلُوْنَ الَّذِیْنَ یَاْمُرُوْنَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِۙ-فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ اَلِیْمٍ(۲۱)
وہ جو اللہ کی آیتوں سے منکر ہوتے اور پیغمبروں کو ناحق شہید کرتے (ف۴۸) اور انصاف کا حکم کرنے والوں کو قتل کرتے ہیں انہیں خوشخبری دو درناک عذاب کی،

فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف هؤلاء المارقين بصفات ينفر منها كل عاقل وصفهم أولا بأنهم: يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أى لا يكتفون بالكفر بالله- تعالى-، بل يكفرون بالآيات المثبتة لوحدانيته، وبالرسل الذين جاءوهم بالهدى والحق.ووصفهم ثانيا بأنهم يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وقتل النبيين بغير حق فعل معروف عن اليهود، فهم الذين قتلوا زكريا- عليه السّلام- لأنه حاول أن يخلص ابنه يحيى- عليه السلام- من القتل وقتلوا يحيى لأنه لم يوافقهم في أهوائهم وحاولوا قتل عيسى- عليه السّلام- ولكن الله تعالى نجاه من مكرهم، وقتلوا غيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .فإن قيل إن اليهود ما قتلوا كل الأنبياء فلم أخبر القرآن عنهم أنهم يقتلون النبيين ولم يقل يقتلون بعض النبيين؟فالجواب أنهم بقتلهم لبعض النبيين فقد استهانوا بمقام النبوة، ومن استهان بمقام النبوة بقتله لبعض الأنبياء فكأنه قد قتل الأنبياء جميعا، ونظير هذا قوله- تعالى-: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً .وقيد القتل بأنه بِغَيْرِ حَقٍّ مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبدا، للتصريح بموضع الاستنكار، لأن موضع الاستنكار هو اعتداؤهم على الحق بقتلهم الأنبياء، وللإشارة إلى أنهم لتوغلهم في الظلم والعدوان قد صاروا أعداء للحق لا يألفونه ولا تميل إليه نفوسهم، وللتسجيل عليهم أن هذا القتل للأنبياء كان مخالفا لما في شريعتهم فإنها قد نهتهم عن قتلهم، بل عن مخالفتهم. فهذا القيد من باب الاحتجاج عليهم بما نهت عنه شريعتهم لتخليد مذمتهم في كل زمان ومكان.وقال- سبحانه- بِغَيْرِ حَقٍّ بصيغة التنكير، لعموم النفي، بحيث يتناول الحق الثابت، والحق المزعوم، أى أنهم لم يكونوا معذورين بأى لون من ألوان العذر في هذا الاعتداء فقد أقدموا على ما أقدموا عليه وهم يعلمون أنهم على الباطل، فكان فعلهم هذا إجراما في بواعثه وفي حقيقته، وأفظع أنواع الإجرام في موضوعه.وقوله بِغَيْرِ حَقٍّ في موضع الحال المؤكدة لمضمون جملة يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ إذ لا يكون قتل النبيين إلا كذلك.ووصفهم ثالثا بأنهم يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ.والقسط: العدل. يقال: قسط يقسط ويقسط قسطا، وأقسط إقساطا إذا عدل.أى: لا يكتفون بقتل النبيين الذين جاءوا لهدايتهم وسعادتهم، وإنما يقتلون مع ذلك الذين يأمرونهم بالعدل من مرشديهم ونصحائهم.وفي قوله مِنَ النَّاسِ إشارة إلى أنهم ليسوا بأنبياء، بل من الناس غير المبعوثين.وفي قرنهم بالأنبياء، وإثبات أن الاعتداء عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء، إشارة إلى بيان علو منزلتهم، وأنهم ورثتهم الذين يدعون بدعوتهم.وعبر عن جرائمهم بصيغة الفعل المضارع- يكفرون ويقتلون لاستحضار صورة أفعالهم الشنيعة في أذهان المخاطبين، ولإفادة أن أفعالهم هذه متجددة كلما استطاعوا إليها سبيلا، وللإشعار بأن اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا راضين بفعل آبائهم وأسلافهم، ولقد حاول اليهود في العهد النبوي أن يقتلوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن الله- تعالى- نجاه من شرورهم.هذا، وقد وردت آثار متعددة تصرح بأن اليهود قد دأبوا على قتل الأنبياء والمصلحين، ومن ذلك ما جاء عن أبى عبيدة بن الجراح أنه قال: قلت يا رسول الله: أى الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيّا، أو قتل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الآية. ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلا منهم فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم»هذه بعض جرائمهم فماذا كانت نتيجتها؟ كانت نتيجتها العذاب الأليم الذي أخبرهم الله به في قوله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.والجملة الكريمة خبر إن، وجاز دخول الفاء على خبرها لتضمن اسمها وهو الَّذِينَ معنى الشرط في العموم.وحقيقة التبشير: الإخبار بما يظهر سرور المخبر- بفتح الباء- على بشرة وجهه، وهو هنا مستعمل في ضد حقيقته على سبيل التهكم بهم، وذلك لأن هؤلاء المعتدين مع أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه وأولياءه، وفعلوا ما فعلوا من منكرات، مع كل ذلك زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، فساق لهم القرآن ما يخبرهم به على سبيل الاستهزاء بعقولهم أن بشارتهم التي يرتقبونها بسبب كفرهم ودعواهم الباطلة هي: العذاب الأليم.واستعمال اللفظ في ضده عند علماء البيان من باب الاستعارة التهكمية، لأن تشبيه الشيء بضده لا يروج في عقل العقلاء إلا على معنى التهكم والاستهزاء.
3:22
اُولٰٓىٕكَ الَّذِیْنَ حَبِطَتْ اَعْمَالُهُمْ فِی الدُّنْیَا وَ الْاٰخِرَةِ٘-وَ مَا لَهُمْ مِّنْ نّٰصِرِیْنَ(۲۲)
یہ ہیں وہ جنکے اعمال اکارت گئے دنیا و آخرت میں (ف۴۹) اور ان کا کوئی مددگار نہیں (ف۵۰)

ثم أخبر- سبحانه- بفساد أعمالهم في الدنيا والآخرة فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.والحبوط- كما يقول الراغب- من الحبط، وهو أن تكثر الدابة الأكل حتى تنتفخ بطنها، وقد يؤدى إلى موتها.والمراد بحبوط أعمالهم إزالة آثارها النافعة من ثواب في الآخرة وحياة طيبة في الدنيا، لأنهم عملوا ما عملوا وهم لا يرجون الله وقارا.وجيء باسم الإشارة في صدر الآية، لتمييز أصحاب تلك الأفعال القبيحة أكمل تمييز، وللتنبيه على أنهم أحقاء بما سيخبر به عنهم بعد اسم الإشارة.وكانت الإشارة للبعيد، للإيذان ببعدهم عن الطريق القويم، والخلق المستقيم، وقوله أُولئِكَ مبتدأ والموصول وصلته خبره.أى: أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وسقطت عن حيز الاعتبار، وخلت عن الثمرة التي كانوا يؤملونها من ورائها، بسبب إشراكهم بالله واعتدائهم على حرماته.وقوله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ نفى لكل ما كانوا يتوهمونه من أسباب النصر، وقد أكد هذا النفي بمن الزائدة.أى ليس لهم من أحد ينصرهم من بأس الله وعقابه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنهم بسبب كفرهم وأفعالهم القبيحة صاروا مستحقين للعقاب، وليس هناك من يدفعه عنهم.فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصفهم بصفات ثلاث: بالكفر وقتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس.وتوعدهم- أيضا- بثلاثة أنواع من العقوبات: بالعذاب الأليم، وحبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة، وانتفاء من ينصرهم أو يدافع عنهم.وبذلك نرى الآيتين الكريمتين تسوقان أشد ألوان التهديد والوعيد لهؤلاء المعتدين، بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة.وبعد أن وصف القرآن هؤلاء المعاندين بالكفر وقتل الأنبياء والمصلحين وبين سوء مصيرهم، أتبع ذلك ببيان رذيلة من أفحش رذائلهم وهي أنهم يدعون إلى التحاكم إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به، فيمتنعون عن ذلك غرورا وعنادا، استمع إلى القرآن وهو يصور أحوالهم السيئة فيقول:
3:23
اَلَمْ تَرَ اِلَى الَّذِیْنَ اُوْتُوْا نَصِیْبًا مِّنَ الْكِتٰبِ یُدْعَوْنَ اِلٰى كِتٰبِ اللّٰهِ لِیَحْكُمَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ یَتَوَلّٰى فَرِیْقٌ مِّنْهُمْ وَ هُمْ مُّعْرِضُوْنَ(۲۳)
کیا تم نے انہیں دیکھا جنہیں کتاب کا ایک حصہ ملا (ف۵۱) کتاب اللہ کی طرف بلائے جاتے ہیں کہ وہ ان کا فیصلہ کرے پھر ان میں کا ایک گروہ اس سے روگرداں ہوکر پھر جاتا ہے (ف۵۲)

أورد بعض المفسرين روايات في سبب نزول هذه الآيات:منها، ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر أن اليهود جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل منهم وامرأة قد زنيا. فقال لهم: «كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نفحمهما- أى نجعل على وجوههما الفحم تنكيلا بهما، ونضربهما. فقال: ألا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئا.فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم. فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فوضع مدراسها- الذي يدرسها منهم- كفه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن الرجم. فقال ما هذه؟ - أى أن عبد الله بن سلام رفع يد القارئ عن آية الرجم وقال له ما هذه- فلما رأى اليهود ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد» .وقال ابن عباس: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت المدارس على جماعة من يهود- أى دخل عليهم في المكان الذي يتدارسون فيه علومهم- فدعاهم إلى الله. فقال له بعضهم: على أى دين أنت يا محمد؟ فقال: إنى على ملة إبراهيم ودينه. فقالوا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فهلموا إلى التوراة هي بيننا وبينكم فأبوا عليه فأنزل الله هذه الآيات.وذكر النقاش أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: «هلموا إلى التوراة ففيها صفتي «فأبوا» .قال ابن جرير ما ملخصه: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله- تعالى- قد أخبر عن طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم دعوا إلى التوراة للتحاكم إليها في بعض ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأبوا. ويجوز أن يكون هذا التنازع في أمر نبوته، أو في أمر إبراهيم ودينه، أو في حد من الحدود فإن كل ذلك مما نازعوا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .وكأن ابن جرير- رحمه الله- يريد أن يقول: إن الآيات الكريمة تتسع لكل ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما دعاهم إلى أن يحكم التوراة بينه وبينهم في شأن هذا التنازع أبوا وأعرضوا وهو رأى حسن.والاستفهام في قوله أَلَمْ تَرَ للتعجيب من شأنهم ومن سوء صنيعهم حيث دعوا إلى كتابهم ليحكم بينهم فامتنعوا عن ذلك لأنهم كانوا- كما يقول الآلوسى- «إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن الحجة» ثم قال:و «من» إما للتبعيض وإما للبيان، ومعنى «نصيب» هو الكتاب أو نصيبا منه، لأن الوصول إلى كنه كلامه- سبحانه- متعذر «فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم. وإن جعل تبعيضا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه، وعلى التقديرين اللام في «الكتاب» للعهد والمراد به التوراة» .والمعنى: قد علمت أيها العاقل حال أولئك الأحبار من اليهود الذين أعطوا قسطا من معرفة كتابهم والذين دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى التحاكم إلى التوراة التي هي كتابهم فيما حدث بينهم وبينه من نزاع فأبوا أن يستجيبوا لدعوته، وأعرضوا عنها كما هو شأنهم ودأبهم في الأعراض عن الحق والصواب.وعرف المتحدث عنهم- وهم أحبار اليهود- بطريق الموصولية، لأن في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم، لأن كونهم على علم من الكتاب قليل أو كثير من شأنه أن يصدهم عما أخبر به عنهم لو كانوا يعقلون.وجملة يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ مستأنفة مبينة لمحل التعجب، أو حال من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب.والمراد بكتاب الله: التوراة، لأن سبب النزول يؤيد ذلك، ولأن التعجيب من حالهم يكون أشد إذا كان إعراضهم إنما هو عن كتابهم. وقيل المراد به القرآن.وقوله ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ معطوف على قوله يُدْعَوْنَ وجاء العطف بثم للإشعار بالفارق الشاسع بين ما قاموا به من إعراض عن الحق، وبين ما كان يجب عليهم أن يفعلوه. فإن علمهم بالكتاب كان يقتضى أن يتبعوه وأن يعملوا بأحكامه، ولكنهم أبوا ذلك لفساد نفوسهم.وقوله مِنْهُمْ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لفريق.وإنما قال فَرِيقٌ مِنْهُمْ ليخرج القلة التي أسلمت من علماء اليهود كعبد الله بن سلام، وهذا من إنصاف القرآن في أحكامه. واحتراسه في سوق الحقائق، فهو لا يلقى الأحكام على الجميع جزافا، وإنما يحدد هذه الأحكام بحيث يدين المتهم، ويبرئ ساحة البريء.وقوله وَهُمْ مُعْرِضُونَ حال من فريق، أى ثم يتولى فريق منهم عن سماع الحق، والانقياد لأحكامه، وينفر منها نفورا شديدا. والحال أنهم قوم ديدنهم الإعراض والانصراف عن الحق.
3:24
ذٰلِكَ بِاَنَّهُمْ قَالُوْا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ اِلَّاۤ اَیَّامًا مَّعْدُوْدٰتٍ۪- وَّ غَرَّهُمْ فِیْ دِیْنِهِمْ مَّا كَانُوْا یَفْتَرُوْنَ(۲۴)
یہ جرأت (ف۵۳) انہیں اس لئے ہوئی کہ وہ کہتے ہیں ہرگز ہمیں آگ نہ چھوئے گی مگر گنتی کے دنوں (ف۵۴) اور ان کے دین میں انہیں فریب دیا اس جھوٹ نے جو باندھتے تھے (ف۵۵)

ثم بين- سبحانه- الأسباب التي صرفتهم عن الحق فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ.واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى المذكور من توليهم وإعراضهم عن مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن سماعهم للحق الذي جاء به.والمس: اتصال أحد الشيئين بالآخر على وجه الإحساس والإصابة، والمراد من النار: نار الآخرة.والمراد من المعدودات: المحصورات القليلات يقال شيء معدود: أى قليل وشيء غير معدود أى كثير. فهم يزعمون أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة قد تكون سبعة أيام، وقد تكون أربعين يوما، وبعدها يخرجون إلى الجنة.عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: إن اليهود كانوا يقولون إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار، وإنما هي سبعة أيام. وفي رواية عنه أنه قال في قوله- تعالى- قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ذلك أعداء الله اليهود، قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الأيام انقطع عنا العذاب والقسم .أى ذلك التولي والإعراض عن الحق الذي صدر عن كثير من أحبار اليهود وعوامهم سببه أنهم سهلوا على أنفسهم أمر العقاب، وتوهموا أنهم لن يعذبوا عذابا طويلا، بل النار ستمسهم أياما قليلة ثم بعد ذلك يخرجون منها، لأنهم أبناء الله وأحباؤه، ولأن آباءهم سيشفعون لهم في زعمهم.ثم قال- تعالى- وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.وقوله وَغَرَّهُمْ من الغرور وهو كل ما يغر الإنسان ويخدعه من مال أو جاه أو شهوة أو غير ذلك من الأشياء التي تغر الإنسان وتخدعه وتجعله غافلا عن اتباع الحق.والمعنى: أنهم سهلوا على أنفسهم الخطوب، ولم يبالوا بالمعاصي والذنوب، وأنهم طمعوا في غير مطمع، وأصاب موضع المغرة والغفلة منهم في دينهم ما كانوا يفترونه من أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات. والغرور أكبر شيء يبعد الإنسان عن حسن الاستعداد لما يجب عليه نحو دينه ودنياه.
3:25
فَكَیْفَ اِذَا جَمَعْنٰهُمْ لِیَوْمٍ لَّا رَیْبَ فِیْهِ۫-وَ وُفِّیَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَ هُمْ لَا یُظْلَمُوْنَ(۲۵)
تو کیسی ہوگی جب ہم انہیں اکٹھا کریں گے اس دن کے لئے جس میں شک نہیں (ف۵۶) اور ہر جان کو اس کی کمائی پوری بھر (بالکل پوری) دی جائے گی اور ان پر ظلم نہ ہوگا،

ثم حكى القرآن ما سيكون عليه حالهم من عذاب وحسرة بأسلوب مؤثر فقال: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.فالاستفهام هنا للاستعظام والتهويل والرد على مزاعمهم الباطلة.وكيف في موضع نصب على الحال، والعامل فيه محذوف أى فكيف تكون حالهم، أو كيف يصنعون. ويجوز أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أى: فكيف حالهم.قال الفخر الرازي: أما قوله فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ فالمعنى أنه لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بين أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل، وينكشف فيه ذلك الغرور فقال: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ وفي الكلام حذف والتقدير: فكيف صورتهم وحالهم، ويحذف الحال كثيرا مع كيف، لدلالتها عليه تقول كنت أكرمه وهو لم يزرني، فكيف لو زارني، أى كيف حاله إذا زارني. واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل: «لو زارني، وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية» .والمعنى: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لجزاء يوم لا ريب في مجيئه وحصوله، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا، بل يجازى كل إنسان على حسب عمله، لا شك أنهم في هذا اليوم الهائل الشديد سيفاجأون بذهاب غرورهم، وبفساد تصورهم، وأنهم سيقعون في العذاب الأليم الذي لا حيلة لهم في دفعه، ولا مخلص لهم من ذوقه يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.قال الزمخشري: «روى أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود، فيفضحهم الله على رءوس الأشهاد، ثم يأمر بهم إلى النار» . وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد وبخت أحبار اليهود الذين يعرضون عن الحق توبيخا شديدا، وأبطلت أكاذيبهم وغرورهم، وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم، وصورت حالهم يوم القيامة تصويرا مؤثرا هائلا تهتز له القلوب، وترتجف منه الأفئدة ويحمل العقلاء على التزود من التقوى والعمل الصالح حتى يفوزوا برضا الله.من توجيهات القرآن الكريم: بعد أن تحدثت سورة آل عمران، عن المعرضين عن الحق.أمر الله تعالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أمر كل مؤمن أن يتوجه إليه بالضراعة.. فقال تعالى:
3:26
قُلِ اللّٰهُمَّ مٰلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِی الْمُلْكَ مَنْ تَشَآءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ٘-وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَآءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشَآءُؕ-بِیَدِكَ الْخَیْرُؕ-اِنَّكَ عَلٰى كُلِّ شَیْءٍ قَدِیْرٌ(۲۶)
یوں عرض کر، اے اللہ! ملک کے مالک تو جسے چاہے سلطنت دے اور جس سے چاہے چھین لے، اور جسے چاہے عزت دے اور جسے چاہے ذلت دے، ساری بھلائی تیرے ہی ہاتھ ہے، بیشک تو سب کچھ کرسکتا ہے (ف۵۷)

قال القرطبي: قال ابن عباس وأنس بن مالك: «لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم. فأنزل الله هذه الآية..والأمر بقوله قُلِ للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكل من يتأتى له الخطاب من المؤمنين.وكلمة اللَّهُمَّ يرى الخليل وسيبويه أن أصلها يا الله فلما استعملت دون حرف النداء الذي هو «يا» جعلوا هذه الميم المشددة التي في آخرها عوضا عن حرف النداء، وهذا التعويض من خصائص الاسم الجليل، كما اختص بجواز الجمع فيه بين «يا» و «أل» وبقطع همزته، ودخول تاء القسم عليه.والمعنى. قل أيها المخاطب على سبيل التعظيم لربك، والشكر له، والتوكل عليه والضراعة إليه، قل: يا الله يا مالك الملك أنت وحدك صاحب السلطان المطلق في هذا الوجود، بحيث تتصرف فيه كيف تشاء، إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة، وتعذيبا وإثابة، من غير أن ينازعك في ذلك أى منازع.فكأن في هذه الجملة الكريمة قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ دعاءين خاشعين:أما الدعاء الأول فهو بلفظ الجلالة المعبر عنه بقوله اللَّهُمَّ أى يا الله، وفي هذا النداء كل معاني العبودية والتنزيه والتقديس والخضوع.وأما الدعاء الثاني فهو المعبر عنه بقوله مالِكَ الْمُلْكِ أى يا مالك الملك، وفي هذا النداء كل معاني الإحساس بالربوبية، والضعف أمام قدرة الله وسلطانه.فقوله مالِكَ منصوب بحرف النداء المحذوف. كما في قوله قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى يا فاطر السموات والأرض.ثم فصل- سبحانه- بعض مظاهر خلقه التي تدل على أنه هو مالك الملك على الحقيقة فقال- تعالى- تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ.أى أنت وحدك الذي تعطى الملك من تشاء إعطاءه من عبادك، وتنزعه ممن تشاء، نزعه منهم، فأنت المتصرف في شئون خلقك لا راد لقضائك ولا معقب لحكمك.وعبر بالإيتاء الذي هو مجرد الإعطاء دون التمليك المؤذن بثبوت المالكية، للتنبيه على أن المالكية على الحقيقة إنما هي مختصة بالله رب العالمين، أما ما يعطيه لغيره من ملك فهو عارية مستردة، وهو شيء زائل لا يدوم.والتعبير عن إزالة الملك بقوله وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ يشعر بأنه- سبحانه- في قدرته أن يسلب هذا العطاء من أى مخلوق مهما بلغت سعة ملكه، ومهما اشتدت قوته، وذلك لأن لفظ النزع يدل على أن المنزوع منه الشيء كان متمسكا به، فسلبه الله منه بمقتضى قدرته وحكمته.والمراد بالملك هنا السلطان، وقيل النبوة، وقيل غير ذلك.قال الفخر الرازي: وقوله تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة، وملك العقل، والصحة، والأخلاق الحسنة. وملك النفاذ والقدرة، وملك المحبة، وملك الأموال، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز» .ومفعول المشيئة في الجملتين محذوف أى: تؤتى الملك من تشاء إيتاءه وتنزعه ممن تشاء نزعه منه.أما الأمر الثاني الذي يدل على أنه- سبحانه- هو مالك الملك على الحقيقة فهو قوله وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ.العزة- كما يقول الراغب- حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، من قولهم: أرض عزاز:أى صلبة، وتعزز اللحم: اشتد وعز، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه.. والعزيز الذي يقهر ولا يغلب.وتذل، من الذل، وهو ما كان عن قهر، يقال: ذل يذل ذلا إذا قهر وغلب والعزة صفة نفسية يحس بها المؤمن الصادق في إيمانه، لأنه يشعر دائما بأنه عبد الله وحده وليس عبدا لأحد سواه، قال- تعالى- وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فالمؤمنون الصادقون أعزاء ولو كانوا في المال والجاه فقراء. أما الكافرون فهم أذلاء، لأنهم خضعوا لغير الله الواحد القهار.والمعنى: أنت يا الله يا ملك الملك، أنت وحدك الذي تؤتى الملك لمن تشاء أن تؤتيه له، وتنزعه ممن تريد نزعه منه، وأنت وحدك الذي تعز من تشاء إعزازه بالنصر والتوفيق، وتذل من تشاء إذلاله بالهزيمة والخذلان، ثم ختم- سبحانه- الآية بهذا التسليم المطلق من المؤمنين لذاته فقال- تعالى-: بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.أى أنت وحدك الذي تملك الخير كله، وتتصرف فيه حسب إرادتك ومشيئتك، لأنك على كل شيء قدير.وأل في الخير للاستغراق الشامل، إذ كل خير فهو بيده- سبحانه- وقدرته، وتقديم الجار والمجرور بِيَدِكَ لإفادة الاختصاص، أى بيدك وحدك على الحقيقة لا بيد غيرك، وجملة «إنك على كل شيء قدير» تعليلية.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: «كيف قال بِيَدِكَ الْخَيْرُ فذكر الخير دون الشر قلت: لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة فقال بيدك الخير، تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك، ولأن أفعال الله- تعالى- من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه» .
3:27
تُوْلِجُ الَّیْلَ فِی النَّهَارِ وَ تُوْلِجُ النَّهَارَ فِی الَّیْلِ٘-وَ تُخْرِ جُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ وَ تُخْرِ جُ الْمَیِّتَ مِنَ الْحَیِّ٘-وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشَآءُ بِغَیْرِ حِسَابٍ(۲۷)
تو دن کا حصّہ رات میں ڈالے اور رات کا حصہ دن میں ڈالے (ف۵۸) اور مردہ سے زندہ نکالے اور زندہ سے مردہ نکالے (ف۵۹) اور جسے چاہے بے گنتی دے،

ثم ذكر- سبحانه- مظهرا حسيا من مظاهر قدرته الباهرة فقال: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ.الولوج في الأصل: الدخول، والإيلاج الإدخال. يقال: ولج فلان منزله إذا دخله، فهو يلجه ولجا وولوجا. وأولجته أنا إذا أدخلته، ثم استعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب.أى أنت يا الله يا مالك الملك. أنت الذي بقدرتك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل ويزيد النهار وتدخل طائفة من النهار في الليل فيقصر النهار ويزيد الليل، وأنت وحدك الذي بقدرتك أن تجعلهما متعاقبين بأن تأتى بالليل رويدا رويدا في أعقاب النهار، وتأتى بالنهار شيئا فشيئا في أعقاب الليل. وفي كل ذلك دليل على سعة قدرتك، وواسع رحمتك. وتذكير واعتبار لأولى الألباب.ثم ذكر- سبحانه- مظهرا حسيا آخر من مظاهر قدرته فقال: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ.قال الفخر الرازي: ذكر المفسرون فيه وجوها.أحدها: يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح.والثاني: يخرج الحيوان- وهو حي- من النطفة- وهي ميتة-، والدجاجة- وهي حية- من البيضة أو العكس.والثالث: يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس: ثم قال:والكلمة محتملة للكل: أما الكفر والإيمان فقال- تعالى- أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ يريد كان كافرا فهديناه، فجعل الكفر موتا والإيمان حياة، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل ما قبل ذلك ميتة فقال: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وقال: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وقال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.وفي الحق: إن المتدبر في هذا الكون وما يعترى سكانه من موت وحياة ليشهد ويذعن بأن لهذا الكون خالقا قادرا هو الله الواحد القهار.ثم ختم- سبحانه- مظاهر قدرته ورحمته بقوله وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ والرزق- كما يقول الراغب- يقال للعطاء الجاري تارة دنيويا كان أو أخرويا. وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة أخرى يقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علما، قال- تعالى-: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ.. أى: من المال والجاه والعلم».أى أنت يا الله يا مالك الملك، أنت وحدك الذي ترزق من تشاء أن ترزقه بغير حساب، أى رزقا واسعا عظيما لأنك أنت صاحب الجود والكرم، ولأنك ليس معك شريك فيحاسبك، بل أنت المعطى بدون محاسب، وبدون محاسبة من تعطيه، ولأن خزائن ملكك لا ينقصها العطاء مهما كثر.ومن كانت هذه صفاته، وتلك بعض مظاهر قدرته: من إيتاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وإخراج الحي من الميت والميت من الحي، كان من حقه أن يفرد بالعبادة والخضوع أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.قال ابن كثير: روى الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب في هذه الآية: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد وصفتا الخالق- عز وجل- بما هو أهله، من قدرة تامة وسلطان نافذ، ورحمة واسعة، وهذا الوصف من شأنه أن يحمل كل عاقل على إخلاص العبادة له- سبحانه- وعلى الاستجابة لكل ما أمر به أو نهى عنه رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه.وبعد أن بين- سبحانه- أنه هو وحده مالك الملك، وأنه على كل شيء قدير، عقب ذلك بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه بسبب قرابة أو صداقة أو نحوهما، فقال- تعالى-
3:28
لَا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُوْنَ الْكٰفِرِیْنَ اَوْلِیَآءَ مِنْ دُوْنِ الْمُؤْمِنِیْنَۚ-وَ مَنْ یَّفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَیْسَ مِنَ اللّٰهِ فِیْ شَیْءٍ اِلَّاۤ اَنْ تَتَّقُوْا مِنْهُمْ تُقٰىةًؕ-وَ یُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهٗؕ-وَ اِلَى اللّٰهِ الْمَصِیْرُ(۲۸)
مسلمان کافروں کو اپنا دوست نہ بنالیں مسلمانوں کے سوا (ف۶۰) اور جو ایسا کرے گا اسے اللہ سے کچھ علاقہ نہ رہا مگر یہ کہ تم ان سے کچھ ڈرو (ف۶۱) اور اللہ تمہیں اپنے غضب سے ڈراتا ہے اور اللہ ہی کی طرف پھرنا ہے،

أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات:منها أن جماعة من اليهود كانوا يصادقون جماعة من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة ابن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من الأنصار: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا ملازمتهم ومباطنتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية».وقوله أَوْلِياءَ جمع ولى، والولاء والتوالي- كما يقول الراغب: أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد.والولاية- بكسر الواو- النصرة والولاية- بفتحها- تولى الأمر، وقيل هما بمعنى واحد» .و «لا» ناهية. والفعل «يتخذ» مجزوم بها، وهو متعد لمفعولين:أولهما: الْكافِرِينَ.وثانيهما: أَوْلِياءَ.والمعنى: لا يحل للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء ونصراء، بل عليهم أن يراعوا ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، وأن يقدموها على ما بينهم وبين الكفار من قرابة أو صداقة أو غير ذلك من ألوان الصلات لأن في تقديم مصلحة الكافرين على مصلحة المؤمنين تقديما للكفر على الإيمان ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن لا يصدر منه ذلك.وقد ورد مثل هذا النهى في كثير من الآيات ومن ذلك قوله- تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ .وقوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ .قال الآلوسى: وقوله مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حال من الفاعل، أى متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا، ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والوا الكافر دون المؤمنين فهو لبيان الواقع. أو لأن ذكره للإشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون، وفي موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار» .قالوا: والموالاة الممنوعة هي التي يكون فيها خذلان للدين أو إيذاء لأهله أو إضافة لمصالحهم، وأما ما عدا ذلك كالتجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النهى، لأنها ليست معاملة فيها أذى للإسلام والمسلمين».وكرر- سبحانه- لفظ «المؤمنين» بأداة التعريف أل للإشارة إلى أن الثاني هو عين الأول، وفي ذلك إشعار بأن المؤمنين الذين يتخذون الكافرين أولياء ونصراء، يتركون أنفسهم ويهملونها ويتخذون من عدوهم نهاية لها.ثم قال- تعالى- وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أى: ومن يتخذ الكافرين أولياء وأنصارا من دون المؤمنين، فإنه في هذه الحالة يكون بعيدا عن ولايته الله، ومنسلخا منها رأسا وليس بينه وبين الله صلة تذكر.فاسم الإشارة ذلِكَ يعود على الاتخاذ المفهوم من الفعل يتخذ.والتنوين في شَيْءٍ للتحقير أى ليس في شيء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية، لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان كما قال الشاعر:تود عدوى ثم تزعم أننى ... صديقك ليس النوك عنك بعازب و «من» شرطية، ويَفْعَلْ فعل الشرط، وجوابه «فليس من الله في شيء» واسم ليس ضمير يعود على «من» وقوله فِي شَيْءٍ خبرها. أى فليس الموالي في شيء كائن من الله- تعالى- والجملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه.وقال- سبحانه- فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ ولم يقل «فليس من ولاية الله» للإشعار بأن من اختار مناصرة المشركين وموالاتهم فقد ترك ذات الله- تعالى- وكان مؤثرا لقوة الكفار على قوة العزيز الجبار، فهو في هذه الحالة يعاند الله نفسه، ثم استثنى- سبحانه- من أحوال النهى حال التقية فقال: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وقوله: تَتَّقُوا من الاتقاء بمعنى تجنب المكروه، وعدى بمن لتضمينه معنى تخافوا وتُقاةً مصدر تقيته- كرميته- بمعنى اتقيته ووزنه فعلة ويجمع على تقى: كرطبة ورطب. وأصل تقاة: وقية من الوقاية. فأبدلت الواو المضمومة تاء والياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال، والتقدير: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين أولياء في أى حال من الأحوال إلا في حال اتقائكم منهم أى إلا أن تخافوا منهم مخافة. أو إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه من الضرر في النفس أو المال أو العرض.كأن يكون الكفار غالبين ظاهرين. أو كنتم في قوم كفار فيرخص لكم في مداراتهم باللسان، على ألا تنطوى قلوبكم على شيء من مودتهم، بل تدارونهم وأنتم لهم كارهون. وألا تعملوا ما هو محرم كشرب الخمر، أو اطلاعهم على عورات المسلمين أو الانحياز إليهم في مجافاة بعض المسلمين، وإذن فلا رخصة إلا في المداراة باللسان. ثم ختم- سبحانه- الآية بهذا التهديد الشديد حيث قال- تعالى- وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.والتحذير: هو التخويف لأجل الحذر واليقظة، من أن يقع الإنسان في قول أو عمل منهى عنه.ونفسه: منصوب على نزع الخافض. والمصير: المرجع والمآب.أى: ويحذركم الله- تعالى- من نفسه أى من عقابه وانتقامه، وإليه- سبحانه- مرجعكم ومصيركم فيحاسبكم على أعمالكم.وقوله وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فيه ما فيه من التهديد والتخويف من موالاة الكافرين، لأن التحذير من ذات الله، يقتضى الخوف ووقوع الرهبة في النفس من الذات العلية، وذلك كما يقال: - والله المثل الأعلى- احذر الأسد، فإن هذا القائل يريد أن ذات الأسد في كل أحوالها موهوبة، ولأن كلمة «نفس» تقال لتأكيد التعبير عن الذات. أى أن التحذير قد جاءكم من الله- تعالى- لا من غيره فعليكم أن تمتثلوا أمره، فإن إليه وحده المآل وانتهاء أمر العباد.وسيجازيهم على أعمالهم بما يستحقون فاحذروا التعرض لعقابه، وقوله وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه. هذا، ولبعض العلماء كلام طويل عن التقية- وهي أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن مخافة الأذى الشديد- فقد قال الآلوسى ما ملخصه:«وفي الآية دليل على مشروعية التقية، وعرفوها بالمحافظة على النفس أو العرض من شر الأعداء..والعدو قسمان:الأول: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم.والثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والإمارة، ومن هنا صارت التقية قسمين:أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له فيه أن يظهر دينه لتعرض المخالفين له بالعداوة فإنه يجب عليه أن يهاجر من ذلك المكان إلى مكان يستطيع فيه أن يظهر دينه، إلا إذا كان ممن لهم عذر شرعي كالنساء والصبيان والعجزة فقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً.وإذا كان التخويف بالقتل ونحوه جاز له المكث والموافقة لهم ظاهرا بقدر الضرورة مع السعى في حيلة للخروج والفرار بدينه.والموافقة لهم حينئذ رخصة، وإظهار ما في قلبه عزيمة فلو مات مات شهيدا بدليل ما روى من أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لأحدهما: «أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، نعم، نعم فقال له: أتشهد أنى رسول الله؟ قال: نعم. ثم دعا الثاني فقال له أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم. فقال له: أتشهد أنى رسول الله؟ قال إنى أصم، قالها ثلاثا، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه فهنيئا له. وأما الآخر فقد قبل رخصة الله فلا تبعة عليه» .وأما القسم الثاني وهو من كانت عداوته بسبب المال والإمارة وما إلى ذلك، فقد اختلف في وجوب هجرة صاحبه، فقال بعضهم تجب لأن الله قد نهى عن إضاعة المال. وقال آخرون لا تجب، لأنها لمصلحة دنيوية ولا يعود على من تركها نقصان في الدين.وعد قوم من باب التقية الجائزة مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم- بشرط أن لا تكون هذه المداراة مخالفة لأصول الدين وتعاليمه- فإن كانت مخالفة لذلك فلا تجوز.روى البخاري عن عائشة قالت: استأذن رجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا عنده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بئس أخو العشيرة، ثم أذن له فألان له القول، فقلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: «يا عائشة إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه» إلى غير ذلك من الأحاديث. لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين، ويرتكب المنكر، وتسيء الظنون».ثم يبين- سبحانه- أنه عليم بالظواهر والبواطن، وأمر بأن يكثروا من العمل الصالح الذي ينفعهم يوم القيامة، وأن يلتزموا طاعة الله ورسوله لكي يسعدوا في دينهم ودنياهم، وأن يراقبوا الله- تعالى- في أقوالهم وأعمالهم لأنه- سبحانه- لا تخفى عليه خافية فقال تعالى:
3:29
قُلْ اِنْ تُخْفُوْا مَا فِیْ صُدُوْرِكُمْ اَوْ تُبْدُوْهُ یَعْلَمْهُ اللّٰهُؕ-وَ یَعْلَمُ مَا فِی السَّمٰوٰتِ وَ مَا فِی الْاَرْضِؕ-وَ اللّٰهُ عَلٰى كُلِّ شَیْءٍ قَدِیْرٌ(۲۹)
تم فرمادو کہ اگر تم اپنے جی کی بات چھپاؤ یا ظاہر کرو اللہ کو سب معلوم ہے، اور جانتا ہے جو کچھ آسمانوں میں ہے اور جو کچھ زمین میں ہے، اور ہر چیز پر اللہ کا قابو ہے،

والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وقل لغيرهم ممن يوجه إليهم الخطاب، قل لهم على سبيل الإرشاد والتحذير إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ من ولاية الكفار أو غيرها من الأقوال والأفعال يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيجازيكم عليه بما تستحقون.وفي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتوجيه هذا القول إلى المخاطبين ترهيب لهم من الآمر وهو الله- تعالى- لأن هذا التنويع في الخطاب من شأنه أن يربى المهابة في القلوب. وذلك- والله المثل الأعلى- كأن يقول الملك للمخالفين من رعيته: أحذركم من مخالفتي، ثم يأمر أحد أصفيائه بأن يكرر هذا التحذير وأن يبين لهم سوء عاقبة المخالفين.وقوله وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جملة مستأنفة وليست معطوفة على جواب الشرط وهو يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وذلك لأن علمه- سبحانه- بما في السموات والأرض ليس متوقفا على شرط فلذلك جيء به مستأنفا. وهذا من باب ذكر العام بعد الخاص وهو علم ما في صدوركم تأكيدا له وتقريرا.وقوله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل قصد به الإخبار بأنه مع علمه الواسع المحيط، ذو قدرة نافذة على كل شيء وهذا لون من التهديد والتحذير لأن الذي يتوعد غيره بشيء لا يحول بينه وبين تحقيق هذا الشيء إلا أحد أمرين: الجهل بجريمة المجرم، أو العجز عن تنفيذ وعيده، فلما أعلمهم- سبحانه- بأنه محيط بكل شيء وقادر على كل شيء، ثبت أنه- سبحانه متمكن من تنفيذ وعيده.قال صاحب الكشاف: «وقوله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى: هو قادر على عقوبتكم وهذا بيان لقوله وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ لأن نفسه وهي ذاته المميزة من سائر الذوات، متصفة بعلم ذاتى لا يختص بمعلوم دون معلوم. فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدورات كلها فكان حقها أن تحذر وتتقى فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب فإنه مطلع عليه لا محالة فلا حق به العقاب. ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله، فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونا، وبث من يتجسس عن بواطن أموره: لأخذ حذره وتيقظ في أمره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم أن العالم بالذات- يعنى أن علمه بذاته لا بعلم زائد عن ذاته كعلم الحوادث وهذا عند المعتزلة- الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك» .
3:30
یَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُّحْضَرًا ﳝ- وَّ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوْٓءٍۚۛ-تَوَدُّ لَوْ اَنَّ بَیْنَهَا وَ بَیْنَهٗۤ اَمَدًۢا بَعِیْدًاؕ-وَ یُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهٗؕ-وَ اللّٰهُ رَءُوْفٌۢ بِالْعِبَادِ۠(۳۰)
جس دن ہر جان نے جو بھلا کیا حاضر پائے گی (ف۶۲) اور جو برا کام کیا، امید کرے گی کاش مجھ میں اور اس میں دور کا فاصلہ ہوتا (ف۶۳) اور اللہ تمہیں اپنے عذاب سے ڈراتا ہے، اور اللہ بندوں پر مہربان ہے،

ثم كرر- سبحانه- التحذير من الحساب يوم القيامة وما يقع فيه من أهوال ورغب المؤمنين في العمل الصالح فقال: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.قال الآلوسى: الأمد: غاية الشيء ومنتهاه والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة والأمد مدة لها حد مجهول، والمراد هنا الغاية الطويلة، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة، ولعله الأظهر، فالتمنى هنا من قبيل التمني في قوله- تعالى- يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ .والمعنى: راقبوا ربكم أيها المؤمنون. وتزودوا من العمل الصالح واذكروا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ في الدنيا مِنْ خَيْرٍ وإن كان مثقال ذرة مُحْضَراً لديها مشاهدا في الصحف، حتى لكأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأى العين وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تراه أيضا ظاهرا ثابتا مسجلا عليها، وتتمنى لو أن بينها وبين هذا العمل السيئ زمنا طويلا، ومسافة بعيدة وذلك لأن الإنسان يتمنى دائما أن يكون بعيدا بعدا شاسعا عن الشيء المخيف المؤلم خصوصا في هذا اليوم العصيب وهو يوم القيامة.وقوله يَوْمَ متعلق بمحذوف تقديره اذكروا، وهو مفعول به لهذا المحذوف. و «تجد» يجوز أن يكون متعديا لواحد فيكون بمعنى تصيب وتصادف، ويكون «محضرا» على هذا منصوبا على الحال. قال الجمل: وهذا هو الظاهر. ويجوز أن يكون بمعنى تعلم فيتعدى لاثنين أولهما ما عَمِلَتْ والثاني مُحْضَراً .وقوله وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ معطوف على قوله ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ.ويرى بعضهم أن «ما» في قوله وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مبتدأ، وخبرها جملة تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً فيكون المعنى: ما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمدا بعيدا.أتى- سبحانه- بقوله مُحْضَراً في جانب الخير فقط مع أن عمل السوء أيضا يكون محضرا للإشعار بكون عمل الخير هو المراد بالذات. وهو الذي يتمناه الإنسان ويرجو حضوره في هذا لما يترتب عليه من ثواب وأما عمل الشر فتتمنى كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره بسبب ما يترتب عليه من عقاب.وقوله- سبحانه- وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ تكرير للتحذير الأول الذي جاء في قوله- تعالى-لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ والسر في هذا التكرير زيادة التحذير من عقاب الله وانتقامه، فإن تكرار التحذير من شأنه أن يغرس في القلوب التذكر والاعتبار والوجل.وقيل: إن التحذير الأول ذكر للنهى عن موالاة الكافرين. والذي هنا ذكر للحث على عمل الخير والتنفير من عمل الشر.ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ومن مظاهر رأفته ورحمته أنه حذر عباده قبل أن يعاقبهم، وأنه يعفو عن كثير من ذنوب عباده، وأنه فتح لهم باب التوبة حتى يقلعوا عن خطاياهم. إلى غير ذلك من مظاهر رأفته ورحمته.
3:31
قُلْ اِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللّٰهَ فَاتَّبِعُوْنِیْ یُحْبِبْكُمُ اللّٰهُ وَ یَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوْبَكُمْؕ-وَ اللّٰهُ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ(۳۱)
اے محبوب! تم فرمادو کہ لوگو اگر تم اللہ کو دوست رکھتے ہو تو میرے فرمانبردار ہوجاؤ اللہ تمہیں دوست رکھے گا (ف۶۴) اور تمہارے گناہ بخش دے گا اور اللہ بخشنے والا مہربان ہے،

ثم أمر الله- تعالى- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يرشد الناس إلى الطريق الذي متى سلكوه كانوا حقا محبين الله، وكانوا ممن يحبهم- سبحانه- فقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.قال بعضهم: عن الحسن البصري قال: قال قوم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم يا محمد إنا نحب ربنا، فأنزل الله الآية، وروى محمد بن إسحاق عن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال:«نزلت في نصارى نجران وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبا الله وتعظيما له فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم» .ومحبة العباد الله- كما يقول الزمخشري- مجاز عن إرادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها، ومحبة الله عباده أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم.والمعنى: قل يا محمد للناس على سبيل الإرشاد والتبين: إن كنتم تحبون الله حقا كما تدعون، فاتبعوني، فإن اتباعكم لي يؤدى إلى محبة الله لكم، وإلى غفرانه لذنوبكم، وذلك لأن محبة الله ليست دعوى باللسان، وإنما محبة الله تتحقق باتباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه على لسان رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أرسله رحمة للعالمين.قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، بأنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في كل أقواله وأعماله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .وقوله يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ جواب الأمر، وهو قوله فَاتَّبِعُونِي. وهذا رأى الخليل.ويرى أكثر المتأخرين من النحاة أن قوله «يحببكم الله» جواب لشرط مقدر دل عليه المقام والتقدير: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، وإن اتبعتمونى يحببكم الله، أى يمنحكم الثواب الجزيل، والأجر العظيم، والرضا الكبير.فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن أول علامات محبة العبد لربه، هي اتباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأن هذا الاتباع يؤدى إلى محبة الله- تعالى- لهذا العبد وإلى مغفرة ذنوبه.ومحبة الله لعبده هي منتهى الأمانى، وغاية الآمال، ولذا قال بعض الحكماء: «ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تحب» .ومحبة الله إنما تتأتى بإخلاص العبادة والوقوف عند حدوده والاستجابة لتعاليم رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وكل من يدعى أنه محب الله وهو معرض عن أوامره ونواهيه فهو كاذب في دعواه كما قال الشاعر الصوفي:تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديعلو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيعثم ختم- سبحانه- الآية بوصفين جليلين فقال: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى أنه- سبحانه- كثير الغفران والرحمة لمن تقرب إليه بالطاعة، واتبع رسوله فيما جاء به من عنده.
3:32
قُلْ اَطِیْعُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُوْلَۚ-فَاِنْ تَوَلَّوْا فَاِنَّ اللّٰهَ لَا یُحِبُّ الْكٰفِرِیْنَ(۳۲)
تم فرمادو کہ حکم مانو اللہ اور رسول کا (ف۶۵) پھر اگر وہ منہ پھیریں تو اللہ کو خوش نہیں آتے کافر،

ثم كرر- سبحانه- الأمر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يحض الناس على اتباع ما يسعدهم فقال له:قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ.أى قل لهم يا محمد أطيعوا الله وأطيعوا رسوله في جميع الأوامر والنواهي، وإن من يدعى أنه مطيع الله دون أن يتبع رسوله فإنه يكون كاذبا في دعواه، ولذا لم يقل- سبحانه- أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، للإشعار بأن الطاعة واحدة وأن طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم طاعة الله تعالى، كما قال سبحانه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ .ثم ذكر- سبحانه- عاقبة العصاة المعاندين فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أى: فإن أعرضوا عما تأمرهم به يا محمد ولم يستجيبوا لك واستمروا على كفرهم، فإنهم لا ينالون محبة الله، لأنهم كافرون.ففي هذه الجملة الكريمة دلالة على أن محبة الله لا ينالها إلا من يتبع الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنه- سبحانه- نفى حبه عن الكافرين، ومتى نفى حبه عنهم فقد أثبت بغضه، ولأنه عبر عن تركهم اتباع رسوله بالتولى وهو أفحش أنواع الإعراض، ومن أعرض عن طاعة رسول الله كان بعيدا عن محبة الله.وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ساقت للناس من التوجيهات السامية، والآداب العالية ما من شأنه أن يغرس في النفوس إخلاص العبادة الله، والخشية من عقابه، والأمل في ثوابه، والإكثار من العمل الصالح الذي يؤدى إلى رضا الله ومحبته.وبعد هذا الحديث الحكيم المتنوع- من أول السورة إلى هنا- عن وحدانية الله، وقدرته النافذة وعلمه المحيط، وعن أحقيته للعبادة والخضوع، وعن الكتب السماوية وما اشتملت عليه من هدايات وعن محكم القرآن ومتشابهه، وعن رعاية الله- تعالى- لعباده المؤمنين، وعن تهديد الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم، وعن الشهوات التي يميل الإنسان بطبعه إليها وعما هو أفضل منها، وعن دين الإسلام وأنه هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وعن بعض الرذائل التي عرفت عن أكثر أهل الكتاب، وعن حث الناس على مراقبة الله- تعالى- وإخلاص العبادة له حتى يكونوا ممن يحبهم ويحبونه فيسعدوا في دينهم ودنياهم وآخرتهم.. بعد كل ذلك تحدث القرآن- في أكثر من ثلاثين آية- عمن اصطفاهم الله من عباده، وعن جانب من قصة مريم، وقصة زكريا وابنه يحيى- عليهما السلام- وعن قصة ولادة عيسى- عليه السّلام- وما صاحبها من خرق للعادات، وما منحه- سبحانه- من معجزات وعن محاجة الكافرين من أهل الكتاب في شأنه وكيف رد القرآن عليهم.. استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول:
3:33
اِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰۤى اٰدَمَ وَ نُوْحًا وَّ اٰلَ اِبْرٰهِیْمَ وَ اٰلَ عِمْرٰنَ عَلَى الْعٰلَمِیْنَۙ(۳۳)
بیشک اللہ نے چن لیا آدم اور نوح اور ابراہیم کی آ ل اولاد اور عمران کی آ ل کو سارے جہاں سے (ف۶۶)

قوله اصْطَفى من الاصطفاء وهو الاختيار والانتقاء وطلب الصفوة من كل شيء.وقوله وَآلَ إِبْراهِيمَ الآل- كما يقول الراغب- مقلوب عن الأهل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة. يقال آل فلان ولا يقال آل رجل ولا آل زمان كذا أو موضع كذا.. ويضاف إلى الأشرف الأفضل فيقال آل الله وآل السلطان ولا يقال آل الحجام.. ويستعمل الآل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة قال- تعالى- آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ «1» .والمعنى: إن الله- تعالى- قد اختار واصطفى آدَمَ أبا البشر، بأن جعله خليفة في الأرض، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته..واصطفى نُوحاً لأنه- كما يقول الآلوسى- آدم الأصغر، والأب الثاني للبشرية، وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله- سبحانه- وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ.واصطفى آلَ إِبْراهِيمَ أى عشيرته وذوى قرباه وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما.واصطفى آلَ عِمْرانَ إذ جعل فيهم عيسى- عليه السّلام- الذي آتاه الله البينات، وأيده بروح القدس.والمراد بعمران هذا والد مريم أم عيسى- عليه السّلام- فهو عمران بن ياشم بن ميشا بن حزقيا.. وينتهى نسبه إلى إبراهيم- عليه السّلام-.وإن في ذلك التسلسل دليلا على أن الله- تعالى- قد اقتضت حكمته أن يجعل في الإنسانية من يهديها إلى الصراط المستقيم فقد ابتدأت الهداية بآدم أبى البشر كما قال- تعالى-: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى ثم جاء من بعده بقرون لا يعلمها إلا الله نوح- عليه السّلام- فمكث يدعو الناس إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق «ألف سنة إلا خمسين عاما» ثم جاء من بعد ذلك إبراهيم- عليه السّلام- فدعا الناس إلى عبادة الله وحده، فكان هو صفوة الخلق وفيهم النبوة فمن إسماعيل بن إبراهيم كان محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي ختمت به الرسالات السماوية.ومن إسحاق وبنيه كان عدد من الأنبياء كداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون..ومن فرع إسحاق كان آل عمران وهم ذريته وأقاربه كزكريا ويحيى وعيسى الذي كان آخر نبي من هذا الفرع.وفي التعبير بالاصطفاء تنبيه إلى أن آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران صفوة الخلق، إذ أن الرسل والأنبياء جميعا من نسلهم.وقوله عَلَى الْعالَمِينَ أى على عالمي زمانهم. أى أهل زمان كل واحد منهم.
3:34
ذُرِّیَّةًۢ بَعْضُهَا مِنْۢ بَعْضٍؕ-وَ اللّٰهُ سَمِیْعٌ عَلِیْمٌۚ(۳۴)
یہ ایک نسل ہے ایک دوسرے سے (ف۶۷) اور اللہ سنتا جانتا ہے،

ثم صرح- سبحانه- بعد ذلك بتسلسل هذه الصفوة الكريمة بعضها من بعض فقال ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وأصل الذرية- كما يقول القرطبي- فعلية من الذر، لأن الله- تعالى- أخرج الخلق من صلب آدم كالذر حين أشهدهم على أنفسهم- وقيل هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين».والمعنى: أن أولئك المصطفين الأخيار بعضهم من نسل بعض، فهم متصلو النسب، فنوح من ذرية آدم، وآل إبراهيم من ذرية نوح، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، فهم جميعا سلسلة متصلة الحلقات في النسب، والخصال الحميدة.وقوله ذُرِّيَّةً منصوب على الحال من آل إبراهيم وآل عمران. ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أى هو- سبحانه- سميع لأقوال عباده في شأن هؤلاء المصطفين الأخيار وفي شأن غيرهم عليم بأحوال خلقه علما تاما بحيث لا تخفى عليه خافية تصدر عنهم.والجملة الكريمة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها، ومؤكد له.
3:35
اِذْ قَالَتِ امْرَاَتُ عِمْرٰنَ رَبِّ اِنِّیْ نَذَرْتُ لَكَ مَا فِیْ بَطْنِیْ مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّیْۚ-اِنَّكَ اَنْتَ السَّمِیْعُ الْعَلِیْمُ(۳۵)
جب عمران کی بی بی نے عرض کی (ف۶۸) اے رب میرے! میں تیرے لئے منت مانتی ہو جو میرے پیٹ میں ہے کہ خالص تیری ہی خدمت میں رہے (ف۶۹) تو تو مجھ سے قبول کرلے بیشک تو ہی سنتا جانتا،

ثم حكى سبحانه ما قالته امرأة عمران عند ما أحست بعلامات الحمل فقال تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي والظرف «إذ» في محل النصب على المفعولية بفعل محذوف والتقدير: اذكر لهم وقت قولها رب إنى نذرت.. ألخ. وقيل هو متعلق بقوله وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أى أنه- سبحانه- يعلم علم ما يسمع في الوقت الذي قالت فيه امرأة عمران ذلك القول.وامرأة عمران هذه هي «حنة» بنت فاقوذا بن قنبل وهي أم مريم وجدة عيسى عليه السّلام وعمران هذا هو زوجها، وهو أبو مريم.وقوله نَذَرْتُ من النذر وهو التزام التقرب إلى الله- تعالى- بأمر من جنس العبادات التي شرعها- سبحانه- لعباده ليتقربوا بها إليه.وقوله مُحَرَّراً أى عتيقا مخلصا للعبادة متفرغا من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس.يقال: حررت العبد إذا خلصته من الرق وحررت الكتاب إذا أصلحته ولم تبق فيه شيئا من وجوه الخطأ، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه سلطان.والمعنى: اذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن لجأت امرأة عمران إلى ربها تدعوه بضراعة وخشوع فتقول: يا رب إنى نذرت لخدمة بيتك هذا الجنين الذي في بطني مخلصا لعبادتك متفرغا لطاعتك فتقبل منى هذا النذر الخالص، وتلك النية الصادقة، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لقولي ولأقوال خلقك الْعَلِيمُ بنيتي وبنوايا سائر عبادك.فأنت ترى في هذا الدعاء الخاشع الذي حكاه القرآن عن امرأة عمران أسمى ألوان الأدب والإخلاص، فقد توجهت إلى ربها بأعز ما تملك وهو الجنين الذي في بطنها، ملتمسة منه- سبحانه- أن يقبل نذرها الذي وهبته لخدمة بيته، واللام في قوله «لك» للتعليل أى نذرت لخدمة بيتك.وقوله مُحَرَّراً حال من «ما» والعامل فيه «نذرت» .قال بعضهم: «وكان هذا النذر يلزم في شريعتهم فكان المحرر عندهم إذا حرر جعل في الكنيسة يخدمها ولا يبرح مقيما فيها حتى يبلغ الحلم، ثم يتخير فإن أحب ذهب حيث شاء، وإن اختار الإقامة لا يجوز له بعد ذلك الخروج. ولم يكن أحد من أنبياء بنى إسرائيل وعلمائهم إلا ومن أولاده من حرر لخدمة بيت المقدس ولم يكن يحرر إلا الغلمان، ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى» . وجملة إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تعليلية لاستدعاء القبول، من حيث أن علمه- سبحانه- بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لقبول نذرها تفضلا منه وكرما.
3:36
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ اِنِّیْ وَضَعْتُهَاۤ اُنْثٰىؕ-وَ اللّٰهُ اَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْؕ-وَ لَیْسَ الذَّكَرُ كَالْاُنْثٰىۚ-وَ اِنِّیْ سَمَّیْتُهَا مَرْیَمَ وَ اِنِّیْۤ اُعِیْذُهَا بِكَ وَ ذُرِّیَّتَهَا مِنَ الشَّیْطٰنِ الرَّجِیْمِ(۳۶)
پھر جب اسے جنا بولی، اے رب میرے! یہ تو میں نے لڑکی جنی (ف۷۰) اور اللہ جو خوب معلوم ہے جو کچھ وہ جنی، اور وہ لڑکا جو اس نے مانگا اس لڑکی سا نہیں (ف۷۱) اور میں نے اس کا نام مریم رکھا (ف۷۲) اور میں اسے اور اس کی اولاد کو تیری پناہ میں دیتی ہوں راندے ہوئے شیطان سے،

ثم حكى- سبحانه- ما قالته بعد أن وضعت ما في بطنها فقال- تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى.قالوا: إن هذا خبر لا يقصد به الإخبار، بل المقصود منه إظهار التحسر والتحزن والاعتذار، فقد كانت امرأة عمران تتوقع أن يكون ما في بطنها ذكرا، لأنه هو الذي يصلح لخدمة بيت الله والانقطاع للعبادة فيه، لكنها حين وضعت حملها ووجدته أنثى، قالت على سبيل الاعتذار عن الوفاء بنذرها: رب إنى وضعتها أنثى، والأنثى لا تصلح للمهمة التي نذرت ما في بطني لها وهي خدمة بيتك المقدس، وأنت يا إلهى القدير على كل شيء فبقدرتك أن تخلق الذكر وبقدرتك أن تخلق الأنثى.والضمير في قوله فَلَمَّا وَضَعَتْها يعود لما في بطنها. وتأنيثه باعتبار حاله في الواقع ونفس الأمر وهو أنه أنثى.وقوله أُنْثى منصوب على الحال من الضمير في وضعتها، وهي حال مؤكدة لأن كونها أنثى مفهوم من تأنيث الضمير فجاءت أنثى مؤكدة.وقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ جملة معترضة سيقت للايماء إلى تعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه، وللإشعار بأن الأنثى ستصلح لما يصلح له الذكور من خدمة بيته. أى: والله- تعالى- أعلم منها ومن غيرها بما وضعته، لأنه هو الذي خلق هذا المولود وجعله أنثى، وهو العليم بما سيصير إليه أمر هذه الأنثى من فضل، إذ منها سيكون عيسى- عليه السّلام- وسيجعلها- سبحانه- آية ظاهرة دالة على كمال قدرته، ونفوذ إرادته.وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ بضم التاء وعلى هذه القراءة لا تكون الجملة معترضة وإنما هي من تتمة ما قالته، ويكون الكلام التفاتا من الخطاب إلى الاسم الظاهر وهو لفظ الجلالة إذ لو جرت على مقتضى قولها، رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى لقالت: وأنت أعلم بما وضعت.ويكون قولها هذا من تتمة الاعتذار إلى الله- تعالى- حيث وضعت مولودا لا يصلح لما نذرته- في عرف قومها وتسلية لنفسها، أى ولعل الله سرا وحكمة لا يعلمها أحد سواه في جعل هذا المولود أنثى. أو لعل هذه الأنثى تكون خيرا من الذكر.وقوله- تعالى- وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى يحتمل أنه من كلامه- سبحانه- وهو الظاهر- فتكون الجملة معترضة كسابقتها، ويكون: وليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي ولدتها، بل هذه الأنثى وإن كانت أفضل منه في العبادة والمكانة إلا أنها لا تصلح عندهم لسدانة بيت الله تعالى، بسبب حرمة اختلاطها بالرجال وما يعتريها من حيض وغير ذلك مما يعترى النساء.ويحتمل أنه من كلامها الذي حكاه الله تعالى عنها فلا تكون الجملة معترضة ويكون المعنى:وليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي وضعتها، بل هو خير منها لأنه هو الذي يصلح لسدانة بيتك وخدمته، ومع هذا فأنا في كلتا الحالتين راضية بقضائك مستسلمة لإرادتك.ثم حكى- سبحانه- أيضا بعض ما قالته بعد ولادتها فقال وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.قالوا: إن كلمة مريم معناها في لغتهم العابدة، فأرادت بهذه التسمية التقرب إلى الله والالتماس منه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لا سمها.ومعنى أُعِيذُها بِكَ أمنعها وأجيرها بحفظك. مأخوذ من العوذ، وهو أن تلتجئ إلى غيرك وتتعلق به. يقال: عاذ فلان بفلان إذا استجار به، ومنه العوذة وهي التميمة والرقية.والشيطان في لغة العرب: كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء. وهو مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن كل خير.والرجيم: فعيل بمعنى مفعول. أى أنه مرجوم مطرود من رحمة الله ومن كل خير. وقيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والشرور.والمعنى: وإنى يا خالقي مع حبى لأن يكون المولود ذكرا لتتهيأ له خدمة بيتك فقد رضيت بما وهبت لي، وإنى قد سميت هذه الأنثى التي أعطيتنى إياها مريم. أى العابدة الخادمة لك، وإنى أحصنها وأجيرها بكفالتك لها ولذريتها من الشيطان الرجيم الذي يزين للناس الشرور والمساوئ.قال القرطبي: وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه» .ثم قال أبو هريرة: «اقرءوا إن شئتم: وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» .قال علماؤنا: فأفاد هذا الحديث أن الله- تعالى- استجاب دعاء أم مريم.. ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال المنخوس فإن ذلك ظن فاسد، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك عصمهم الله مما يرومه الشيطان كما قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ .وقوله: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ معطوف على إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وما بينهما اعتراض. وهذا على قراءة الجمهور التي جاءت بتسكين التاء في وَضَعَتْ في قوله- تعالى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ.وأما على قراءة غير الجمهور التي جاءت بضم التاء في قوله: وَضَعَتْ فيكون أيضا معطوفا على إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ويكون هذا القول وما عطف عليه في محل نصب بالقول، والتقدير: قالت: إنى وضعتها أنثى، وقالت: الله أعلم بما وضعت وقالت: ليس الذكر كالأنثى، وقالت: إنى سميتها مريم.وأتى في قوله: وَإِنِّي أُعِيذُها بخبر إن فعلا مضارعا للدلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها، بخلاف وضعتها، وسميتها، حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما.وقوله: وَذُرِّيَّتَها معطوف على الضمير المنصوب في أعيذها.وفي التنصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها من الشيطان الرجيم، رمز إلى طلب بقائها على قيد الحياة حتى تكبر وتكون منها الذرية الصالحة.تلك هي بعض الكلمات الطيبات والدعوات الخاشعات، التي توجهت بها امرأة عمران إلى ربها عند ما أحست بالحمل في بطنها وعند ما وضعت حملها حكاها القرآن بأسلوبه البليغ المؤثر، فماذا كانت نتيجتها؟كانت نتيجتها أن أجاب الله دعاءها وقبل تضرعها، وقد حكى- سبحانه- ذلك بقوله:فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً.
3:37
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُوْلٍ حَسَنٍ وَّ اَنْۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًاۙ-وَّ كَفَّلَهَا زَكَرِیَّاؕ-كُلَّمَا دَخَلَ عَلَیْهَا زَكَرِیَّا الْمِحْرَابَۙ-وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًاۚ-قَالَ یٰمَرْیَمُ اَنّٰى لَكِ هٰذَاؕ-قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِؕ-اِنَّ اللّٰهَ یَرْزُقُ مَنْ یَّشَآءُ بِغَیْرِ حِسَابٍ(۳۷)
تو اسے اس کے رب نے اچھی طرح قبول کیا (ف۷۳) اور اسے اچھا پروان چڑھایا (ف۷۴) اور اسے زکریا کی نگہبانی میں دیا، جب زکریا اس کے پاس اس کی نماز پڑھنے کی جگہ جاتے اس کے پاس نیا رزق پاتے (ف۷۵) کہا اے مریم! یہ تیرے پاس کہاں سے آیا، بولیں وہ اللہ کے پاس سے ہے، بیشک اللہ جسے چاہے بے گنتی دے (ف۷۶)

والفاء في قوله: فَتَقَبَّلَها تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة، والضمير يعود إلى مريم. والتقبل- كما يقول الراغب- قبول الشيء على وجه يقتضى ثوابا كالهدية ونحوها.وإنما قال- سبحانه- فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ ولم يقل بتقبل: للجمع بين الأمرين: التقبل الذي هو الترقي في القبول، والقبول الذي يقتضى الرضا والإثابة» .والمعنى: أن الله- تعالى- تقبل مريم قبولا مباركا وخرق بها عادة قومها، فرضي أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته كالذكور، مع كونها أنثى وفاء بنذر الأم التقية التي قالت رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً.وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أى رباها تربية حسنة، وصانها من كل سوء، فكان حالها كحال النبات الذي ينمو في الأرض الصالحة حتى يؤتى ثماره الطيبة.وهكذا قيض الله- تعالى- لمريم كل ألوان السعادة الحقيقية، فقد قبلها لخدمة بينه مع أنها أنثى، وأنشأها حسنة بعيدة عن كل نقص خلقي أو خلقي، وهيأ لها وسائل العيش الطيب من حيث لا تحتسب. فقد قال- تعالى- وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.قوله وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أى ضمها إلى زكريا، لأن الكفالة في أصل معناها الضم. أى ضمها الله- تعالى- إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها.وقرئ وَكَفَّلَها بتخفيف الفاء. وبرفع زَكَرِيَّا على أنه فاعل. وعلى هذه القراءة تنطق كلمة زكريا بالمد قبل الهمزة فقط أى «زكرياء» .أما على القراءة الأولى فيجوز في زكريا المد والقصر.وزكريا هو أحد أنبياء بنى إسرائيل وينتهى نسبة إلى سليمان بن داود- عليهما السلام- وكان متزوجا بخالة مريم، وقيل كان متزوجا بأختها.وكانت كفالته لها نتيجة اقتراع بينه وبين من رغبوا في كفالتها من سدنة بيت المقدس، يدل على ذلك قوله- تعالى- ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ.قال صاحب الكشاف: «روى أن «حنة» حين ولدت مريم، لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وهم في بيت المقدس، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم» .فقال لهم زكريا: أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا: لا، حتى نقترع عليها، فانطلقوا إلى نهر وألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها» .وقوله: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً بيان لكفالة الله- تعالى- لرزقها ورضاه عنها، ورعايته لها.والمحراب الموضع العالي الشريف والمراد به الغرفة التي كانت تتخذها مريم مكانا لعبادتها في المسجد. سمى بذلك لأنه مكان محاربة الشيطان والهوى.قال الآلوسى ما ملخصه: «والمحراب- على ما روى عن ابن عباس- غرفة بنيت لها في بيت المقدس، وكانت لا يصعد إليها إلا بسلم. وقيل المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب. وقيل المراد به أشرف مواضع المسجد ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد أصلهمفعال: صيغة مبالغة- كمطعان- فسمى به المكان، لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه و «كلما» ظرف على أن «ما» مصدرية، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها.والمعنى: كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه «وجد عندها رزقا» أى أصاب ولقى بحضرتها ذلك أو وجد ذلك كائنا بحضرتها. أخرجه بن جرير عن الربيع قال: «إنه كان لا يدخل أحد سوى زكريا فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف» والتنوين في رِزْقاً للتعظيم.. .وهذا دليل على قدرة الله- سبحانه- على كل شيء، وعلى رعايته لمريم، فقد رزقها- سبحانه- من حيث لا تحتسب، ودليل على وقوع الكرامة لأوليائه- تعالى-.ولقد كان وجود هذا الرزق عند مريم دون أن يعرف زكريا- عليه السّلام- مصدره مع أنه لا يدخل عليها أحد سواه كان ذلك محل عجبه، لذا حكى القرآن عنه: قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أى من أين لك هذا الرزق العظيم الذي لا أعرف سببه ومصدره. وأَنَّى هنا بمعنى من أين.والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال زكريا عند مشاهدة هذا الرزق؟ فكان الجواب: قال يا مريم من أين لك هذا.ولقد كانت إجابة مريم على زكريا تدل على قوة إيمانها، وصفاء نفسها. فقد أجابته بقولها- كما حكى القرآن عنها- قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أى: قالت له إن هذا الرزق من عند الله- تعالى- فهو الذي رزقني إياه وسافه إلى بقدرته النافذة.وقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ جملة تعليلية. أى: إن الله تعالى، يرزق من يشاء أن يرزقه رزقا واسعا عظيما لا يحده حد، ولا تجرى عليه الأعداد التي تنتهي، فهو- سبحانه- لا يحاسبه محاسب، ولا تنقص خزائنه من أى عطاء مهما كثر وعظم.وهذه الجملة الكريمة يحتمل أنها من كلام الله- تعالى- فتكون مستأنفة، ويحتمل أنها من كلامها الذي حكاه القرآن عنها، فتكون تعليلية في محل نصب داخلة تحت القول.هذا وفي تلك الآيات التي حكاها القرآن عن مريم وأمها نرى كيف يعمل الإيمان عمله في القلوب فينقيها ويصفيها ويحررها من رق العبودية لغير الله الواحد القهار وكيف أن الله تعالى، يتقبل دعاء عباده الصالحين، وينبتهم نباتا حسنا، ويرعاهم برعايته، يرزقهم من حيث لا يحتسبون.ولقد كان ما رآه زكريا- عليه السّلام- من أحوال مريم من الأسباب التي جعلته- وهو الشيخ الهرم- يتضرع إلى الله أن يرزقه الذرية الصالحة، وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال- تعالى-:
3:38
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِیَّا رَبَّهٗۚ-قَالَ رَبِّ هَبْ لِیْ مِنْ لَّدُنْكَ ذُرِّیَّةً طَیِّبَةًۚ-اِنَّكَ سَمِیْعُ الدُّعَآءِ(۳۸)
یہاں (ف۷۷) پکارا زکریا اپنے رب کو بولا اے رب! میرے مجھے اپنے پاس سے دے ستھری اولاد، بیشک تو ہی ہے دعا سننے والا،

قوله- تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ كلام مستأنف، وقصة مستقلة سيقت في تضاعيف قصة مريم وأمها لما بينهما من قوة الارتباط، وشدة الاشتباك مع ما في إيرادها من تقرير ما سبقت له قصة مريم وأمها من بيان اصطفاء آل عمران.و «هنا» ظرف يشار به إلى المكان القريب كما في قوله- تعالى- إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وتدخل عليه السلام والكاف «هنالك» أو الكاف وحدها «هناك» فيكون للبعيد وقد يشار به للزمان اتساعا.والمعنى: في ذلك المكان الطاهر الذي كان يلتقى فيه زكريا بمريم ويرى من شأنها ما يرى من فضائل وغرائب، تحركت في نفس زكريا عاطفة الأبوة، وهو الشيخ الكبير الذي وهن عظمه واشتعل رأسه شيبا، وبلغ من الكبر عتيّا- فدعا الله تعالى- بقلب سليم، وبنفس صافية وبجوارح خاشعة، أن يرزقه الذرية الصالحة. ولقد حكى القرآن دعاءه بأسلوبه المؤثر فقال:قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ.أى، قال زكريا مناجيا ربه: يا رب أنت الذي خلقتني، وأنت الذي لا يقف أمام قدرتك شيء، وأنت الذي جعلتني أرى من أحوال مريم ما يشهد بقدرتك النافذة وفضلك العميم فهب لي يا خالقي من عندك ذرية صالحة تقر بها عيني، وتكون خلفا من بعدي إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أى إنك عليم بدعائى علم من يسمع، قريب الإجابة لمن يدعوك، فإن أجيب لي سؤالى فبفضلك وإن لم تجبه، فبعدلك وحكمتك. فأنت ترى في هذا الدعاء الذي صدر عن زكريا- عليه السّلام- أسمى ألوان الأدب والخشوع والإنابة. فقد رفع أكف الضراعة في مكان مقدس طاهر، وفي التعبير بقوله دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ إشارة إلى تسليمه الله وإلى شعوره بقدرة الله على كل شيء، فهو الذي خلقه ورباه وتولاه برعايته في كل أدوار حياته.وفي قوله هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ إشعار بأنه يريد من خالقه- عز وجل- أن يعطيه هذه الذرية بلا سبب عادى، ولكن بإرادته وقدرته لأنه لو كان الأمر في هذا العطاء يعود إلى الأسباب والمسببات العادية لكان الحصول على الذرية مستبعدا إذ هو قد بلغ من الكبر عتيا وزوجته قد تجاوزت السن التي يحصل فيها الإنجاب في العادة.أى هب لي من عندك لا من عندي، لأن الأسباب عندي أصبحت مستبعدة. وفي تقييد الذرية بكونها طيبة، إشارة إلى أن زكريا لقوة إيمانه، ونقاء سريرته، وحسن صلته بربه، لا يريد ذرية فحسب وإنما يريد ذرية صالحة يرجى منها الخير في الدنيا والآخرة.وجملة إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ تعليلية، أى إنى ما التجأت إليك يا إلهى إلا لأنك مجيب للدعاء غير مجيب للرجاء.قال القرطبي ما ملخصه «دلت هذه الآية على طلب الولد وهي سنة المرسلين والصديقين.قال الله- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً.. وقد ترجم البخاري على هذا «باب طلب الولد» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبى طلحة حين مات ابنه «أعرستم الليلة» قال نعم. قال: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما» فقال رجل من الأنصار فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن، والأخبار في هذا المعنى كثيرة. تحث على طلب الولد لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد مماته. قال صلّى الله عليه وسلّم إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث:فذكر منها «أو ولد صالح يدعو له» ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية هذا، وقد حكى لنا القرآن في سورة مريم دعاء زكريا بصورة أكثر تفصيلا فقال: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا. قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.هذا هو دعاء زكريا كما حكاه الله- تعالى- في أكثر من موضع في كتابه الكريم فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع، والتضرع الخالص؟ لقد كانت نتيجته الإجابة من الله- تعالى- لعبده زكريا، فقد قال- تعالى-: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى.
3:39
فَنَادَتْهُ الْمَلٰٓىٕكَةُ وَ هُوَ قَآىٕمٌ یُّصَلِّیْ فِی الْمِحْرَابِۙ-اَنَّ اللّٰهَ یُبَشِّرُكَ بِیَحْیٰى مُصَدِّقًۢا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّٰهِ وَ سَیِّدًا وَّ حَصُوْرًا وَّ نَبِیًّا مِّنَ الصّٰلِحِیْنَ(۳۹)
تو فرشتوں نے اسے آواز دی اور وہ اپنی نماز کی جگہ کھڑا نماز پڑھ رہا تھا (ف۷۸) بیشک اللہ آپ کو مژدہ دیتا ہے یحییٰ کا جو اللہ کی طرف کے ایک کلمہ کی (ف۷۹) تصدیق کرے گا اور سردار (ف۸۰) اور ہمیشہ کے لیے عورتوں سے بچنے والا اور نبی ہمارے خاصوں میں سے (ف۸۱)

أى: فنادت الملائكة زكريا- عليه السّلام- وهو قائم يصلى في المحراب، يناجى ربه.ويسبح بحمده بأن الله قد استجاب دعاءك ويبشرك بغلام اسمه يحيى، لكي تقر به عينك ويسر به قلبك.والتعبير بالفاء في قوله فَنادَتْهُ يشعر بأن الله- تعالى- فضلا منه وكرما قد استجاب لزكريا دعاءه بعد فترة قليلة من هذا الدعاء الخاشع، إذ الفاء تفيد التعقيب.ويرى فريق من المفسرين أن الذي ناداه هو جبريل وحده، ومن الجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع.قال ابن جرير: كما يقال في الكلام: خرج فلان على بغال البريد وإنما ركب بغلا واحدا وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وكما يقال: ممن سمعت هذا؟ فيقال: من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد، وقد قيل: إن منه قوله- تعالى- الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ والقائل كان فيما ذكر واحد . ويرى فريق آخر منهم أن الذي نادى زكريا وبشره بمولوده يحيى، جمع من الملائكة لأن الآية صريحة في أن هذا النداء قد صدر من جمع لا من واحد، ولأن صدوره من جمع يناسب هذه البشارة العظيمة، فقد جرت العادة في أمثال هذه البشارات العظيمة أن يقوم بها جمع لا واحد، ولا شك أن حالة زكريا وحالة زوجه تستدعيان عددا من المبشرين لإدخال السرور على هذين الشخصين الذين كادا يفقدان الأمل في إنجاب الذرية.وقد رجح هذا الاتجاه ابن جرير فقال «وأما الصواب من القول في تأويله فأن يقال: إن الله- جل ثناؤه- أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد، جبريل واحد فلا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني» .وقوله وَهُوَ قائِمٌ جملة حالية من مفعول النداء، و «يصلى» حال من الضمير المستكن في قائم أو حال أخرى من مفعول النداء على القول بجواز تعدد الحال، وقوله فِي الْمِحْرابِ متعلق بيصلى. والمراد بالمحراب هنا المسجد، أو المكان الذي يقف فيه الإمام في مقدمة المسجد.وقرأ جمهور القراء: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بفتح همزة أن- على أنه في محل جر بباء محذوفه.أى: نادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى.وقرأ ابن عامر وحمزة: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ- بكسر الهمزة- على تضمين النداء معنى القول، أى: قالت له الملائكة إن الله يبشرك بيحيى.وقوله: بِيَحْيى متعلق بيبشرك، وفي الكلام مضاف أى يبشرك بولادة يحيى، لأن الذوات ليست متعلقا للبشارة.وفي اقتران التبشير بالتسمية بيحيى، إشعار بأن ذلك المولود سيحيا اسمه وذكره بعد موته، وبذلك تتحقق الإجابة لدعاء زكريا تحققا تاما، فقد حكى القرآن عنه في سورة مريم أنه قال:يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا قال الجمل: و «يحيى، فيه قولان:أحدهما: وهو المشهور عند أهل التفسير أنه منقول من الفعل المضارع، وقد سموا بالأفعال كثيرا نحو يعيش ويعمر.. وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، نحو يزيد ويشكر وتغلب.والثاني: أنه أعجمى لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهر، فامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة» .ثم وصف الله- تعالى- يحيى- عليه السّلام- بأربع صفات كريمة فقال: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَسَيِّداً. وَحَصُوراً. وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فالصفة الأولى: من صفات يحيى- عليه السّلام- أنه كان مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان:أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه- وهم جمهور العلماء- أن المراد بكلمة الله هو عيسى- عليه السلام- لأنه كان يسمى بذلك أى أن يحيى كان مصدقا بعيسى ومؤمنا بأنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.وقد كان يحيى معاصرا لعيسى. وكانت بينهما قرابة قوية إذ أن والدة يحيى كانت أختا لأم مريم وقيل إن أم يحيى كانت أختا لمريم.وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن المراد بكلمة الله كتابه، أى أن يحيى من صفاته الطيبة أنه كان مصدقا بكتاب الله وبكلامه، وذلك لأن الكلمة قد تطلق ويراد منها الكلام، والعرب تقول أنشد فلان كلمة أى قصيدة، وقال كلمة أى خطبة.ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب، لأن القرآن قد وصف عيسى بأنه كلمة الله في أكثر من موضع فيه ومن ذلك قوله- تعالى- يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وقوله تعالى- يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ولأن في التعبير عن عيسى الذي صدقه يحيى- بأنه كلمة من الله، إشعارا بأن ولادتهما متقاربة من حيث الزمن، وإيماء إلى أن زكريا- عليه السّلام- قد أوتى علما بأن المسيح عهده قريب، وأن يحيى- عليه السّلام- سيعيش حتى يدرك عيسى.وقوله مُصَدِّقاً منصوب على الحال المقدرة من يحيى، أى على الحال التي سيكون عليها في المستقبل، والمراد بهذا التصديق الإيمان بعيسى- كما سبق أن أشرنا- قيل: هو أول من آمن بعيسى وصدق أنه كلمة الله وروح منه.و «من» في قوله مِنَ اللَّهِ للابتداء. والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة، أى مصدقا بكلمة كائنة من الله- تعالى- والصفة الثانية: من صفات يحيى عبر عنها القرآن بقوله «وسيدا» والسيد- كما يقول القرطبي- الذي يسود قومه وينتهى إلى قوله. وأصله سيود يقال: فلان أسود من فلان على وزن أفعل من السيادة، ففيه دلالة على تسمية الإنسان سيدا. وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لبنى قريظة عند ما دخل سعد بن معاذ- «قوموا إلى سيدكم» وفي الصحيحين أنه قال في الحسن «إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»والمراد أن يحيى- عليه السّلام- من صفاته أنه سيكون سيدا، أى يفوق غيره في الشرف والتقوى وعفة النفس، بأن يكون مالكا لزمامها، ومسيطرا على أهوائها.والصفة الثالثة: من صفاته عبر عنها القرآن بقوله: وَحَصُوراً وأصل الحصر: المنع والحبس. يقال حصرنى الشيء وأحصرنى إذا حبسني.والمراد أن يحيى- عليه السلام- من صفاته أنه سيكون حابسا نفسه عن الشهوات، حتى لقد قيل عنه إنه امتنع عن الزواج وهو قادر على ذلك- زهادة منه واستعفافا، وليس صحيحا ما قيل من أنه كان لا يأتى النساء لعدم قدرته على ذلك.قال ابن كثير: وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله على يحيى بأنه كان حَصُوراً معناه أنه معصوم من الذنوب، أى لا يأتيها كأنه حصور عنها. وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله- تعالى- كيحيى- عليه السّلام- ثم هي في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه: درجة عليا وهي درجة نبينا صلّى الله عليه وسلّم الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وهدايته لهن.. والمقصود أن مدح يحيى بأنه حصور ليس معناه أنه لا يأتى النساء، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال:هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً كأنه قال ولدا له ذرية ونسل وعقب.أما الوصف الرابع: من أوصاف يحيى- عليه السّلام- فهو قوله- تعالى- وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وفي هذا الوصف بشارة ثانية لزكريا بأن ابنه سيكون من الأنبياء الذي اصطفاهم الله لتبليغ دعوته إلى الناس، وهذه البشارة أسمى وأعلى من الأولى التي أخبره الله فيها بولادة يحيى، لأن النبوة منزلة لا تعدلها منزلة في الشرف والفضل.
3:40
قَالَ رَبِّ اَنّٰى یَكُوْنُ لِیْ غُلٰمٌ وَّ قَدْ بَلَغَنِیَ الْكِبَرُ وَ امْرَاَتِیْ عَاقِرٌؕ-قَالَ كَذٰلِكَ اللّٰهُ یَفْعَلُ مَا یَشَآءُ(۴۰)
بولا اے میرے رب میرے لڑکا کہاں سے ہوگا مجھے تو پہنچ گیا بڑھا پا (ف۸۲) اور میری عورت بانجھ (ف۸۳) فرمایا اللہ یوں ہی کرتا ہے جو چاہے (ف۸۴)

ثم حكى القرآن بعد ذلك ما قاله زكريا بعد أن ساقت له الملائكة تلك البشارات السارة فقال- تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ أنى هنا بمعنى كيف. و «عاقر» أى عقيم لا تلد لكبر سنها من العقر وهو العقم. يقال عقرت المرأة تعقر عقرا وعقرا فهي عاقر إذا بلغت سن اليأس من الولادة. أى قال زكريا على سبيل التعجب بعد أن نادته الملائكة وبشرته بما بشرته به: يا رب كيف يكون لي غلام والحال أننى قد أدركنى الكبر الكامل الذي أضعفنى، وفوق ذلك فإن امرأتى عاقر أى عقيم لا تلد لشيخوختها وبلوغها العمر الذي ينقطع معه النسل؟قال بعضهم: وإنما قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوث الحمل، أو استبعادا من حيث العادة، أو استعظاما وتعجبا من قدرة الله- تعالى- لا استبعادا أو إنكارا فلا يرد: كيف قال زكريا ذلك ولم يكن شاكا في قدرة الله- تعالى-.والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال زكريا عند ما بشرته الملائكة؟ فكان الجواب: قال رب أنى يكون لي غلام.وقد خاطب زكريا ربه مع أن النداء له صدر من الملائكة، للإشعار بالمبالغة في التضرع وأنه قد طرح الوسائط واتجه إلى خالقه مباشرة يشكره ويظهر التعجب من قدرته لأنه- سبحانه- أعطاه ما لم تجر العادة به.قال الآلوسى وقوله يَكُونُ يجوز أن تكون من كان التامة فيكون فاعلها هو قوله غُلامٌ ويكون الظرف أَنَّى والجار والمجرور لِي متعلقان بها.ويجوز أن تكون من كان الناقصة ولِي متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة. وفي الخبر حينئذ وجهان: أحدهما أَنَّى لأنها بمعنى كيف أو من أين والثاني الخبر الجار والمجرور وأَنَّى منصوب على الظرفية» .وقوله وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ جملة حالية من ياء المتكلم، أى أصابنى الكبر وأدركنى فأضعفنى وأفقدنى قوتي.والكبر مصدر كبر الرجل إذا أسن. وقد قال زكريا وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ولم يقل وقد بلغت الكبر للإشارة إلى الكبر قد تابعه ولازمه حتى أصابه بالضعف والآلام والأسقام.وقوله وَامْرَأَتِي عاقِرٌ جملة حالية أيضا إما من ياء لِي أو ياء بَلَغَنِيَ.فأنت ترى أن زكريا- عليه السّلام- قد أظهر التعجب عند ما بشرته الملائكة بغلامه يحيى لأنه كان شيخا مسنا ولأن امرأته كانت عقيما لا تلد إما لكبر سنها- أيضا وإما لأنها من الأصل كانت على غير استعداد للحمل والإنجاب.قال ابن عباس: كان زكريا يوم بشر بيحيى ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة»ثم حكى القرآن أن الله تعالى قد رد على زكريا بما يزيل عجبه ويمنع حيرته فقال تعالى، قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.أى قال- سبحانه-: مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي رأيته من أن يكون لك غلام وأنت شيخ كبير وامرأتك عاقر مثل ذلك الفعل يفعل الله ما يشاء أن يفعله، لأنه- سبحانه- هو خالق الأسباب والمسببات ولا يعجزه شيء في هذا الكون، وبقدرته أن يغير ما جرت به العادات بين الناس.فالجملة الكريمة بجانب تضمنها إقناع زكريا وإزالة عجبه، تتضمن أيضا تقرير قضية عامة وهي أن الله- تعالى- يفعل ما يشاء أن يفعله بدون تقيد بالأسباب والمسببات والعادات فهو الفعال لما يريد.
  FONT
  THEME
  TRANSLATION
  • English | Ahmed Ali
  • Urdu | Ahmed Raza Khan
  • Turkish | Ali-Bulaç
  • German | Bubenheim Elyas
  • Chinese | Chineese
  • Spanish | Cortes
  • Dutch | Dutch
  • Portuguese | El-Hayek
  • English | English
  • Urdu | Fateh Muhammad Jalandhry
  • French | French
  • Hausa | Hausa
  • Indonesian | Indonesian-Bahasa
  • Italian | Italian
  • Korean | Korean
  • Malay | Malay
  • Russian | Russian
  • Tamil | Tamil
  • Thai | Thai
  • Farsi | مکارم شیرازی
  TAFSEER
  • العربية | التفسير الميسر
  • العربية | تفسير الجلالين
  • العربية | تفسير السعدي
  • العربية | تفسير ابن كثير
  • العربية | تفسير الوسيط لطنطاوي
  • العربية | تفسير البغوي
  • العربية | تفسير القرطبي
  • العربية | تفسير الطبري
  • English | Arberry
  • English | Yusuf Ali
  • Dutch | Keyzer
  • Dutch | Leemhuis
  • Dutch | Siregar
  • Urdu | Sirat ul Jinan
  HELP

اٰلِ عِمْرَان
اٰلِ عِمْرَان
  00:00



Download

اٰلِ عِمْرَان
اٰلِ عِمْرَان
  00:00



Download