READ
Surah Aal Imraan
اٰلِ عِمْرَان
200 Ayaat مدنیۃ
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّیْۤ اٰیَةًؕ-قَالَ اٰیَتُكَ اَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلٰثَةَ اَیَّامٍ اِلَّا رَمْزًاؕ-وَ اذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِیْرًا وَّ سَبِّحْ بِالْعَشِیِّ وَ الْاِبْكَارِ۠(۴۱)
عرض کی اے میرے رب میرے لئے کوئی نشانی کردے (ف۸۵) فرمایا تیری نشانی یہ ہے کہ تین دن تو لوگوں سے بات نہ کرے مگر اشارہ سے اور اپنے رب کی بہت یاد کر (ف۸۶) اور کچھ دن رہے اور تڑکے اس کی پاکی بول،
ثم حكى القرآن أن زكريا- لشدة لهفته على تحقق البشارة- سأل ربه أن يجعل له علامة تكون دليلا على تحقيق الحمل عند زوجته فقال- تعالى: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً.أى قال زكريا مناجيا ربه: يا رب إنى أسألك أن تجعل لي آيَةً أى: علامة تدلني على حصول الحمل عند زوجتي: لأبادر إلى القيام بشكر هذه النعمة شكرا جزيلا ولأقوم بحقها حق القيام.وقد أجابه- سبحانه- إلى طلبه فقال: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً.أى قال الله- تعالى- لعبده زكريا: آيتك أى علامتك ألا تقدر على كلام الناس من غير آفة في لسانك لمدة ثلاثة أيام إلا رَمْزاً أى إلا عن طريق الإيحاء والإشارة.وأصل الرمز الحركة. يقال ارتمز أى تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز وفعله من باب نصر وضرب. ثم أطلق الرمز على الإيماء بالشفتين أو بالحاجبين وعلى الإشارة باليدين وهو المراد هنا.قال صاحب الكشاف: قال الله- تعالى- لزكريا آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام: وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله. ولذلك قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ يعنى في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة، فإن قلت: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت: ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها الذي طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر. وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه إِلَّا رَمْزاً أى: إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما .وعلى رأى صاحب الكشاف يكون احتباس لسان زكريا عن كلام الناس اضطراريا وليس عن اختيار منه.ويمكن أن يقال. إن المراد بقوله- تعالى- قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً.. أن زكريا- عليه السّلام- عند ما طلب آية يعرف بها أن زوجته قد حملت بهذا الغلام الذي بشره الله به، أخبره- سبحانه- أن العلامة على ذلك أن يوفق إلى خلوص نفسه من شواغل الدنيا حتى أنه ليجد نفسه متجها اتجاها كليا إلى ذكر الله وتمجيده وتسبيحه، دون أن يكون عنده أى دافع إلى كلام الناس أو مخالطتهم مع قدرته على ذلك، وعلى هذا يكون انصراف زكريا- عليه السّلام- عن كلام الناس اختياريا وليس اضطراريا كما يرى صاحب الكشاف.ثم أمره الله- تعالى- بالإكثار من ذكره وتسبيحه فقال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ.وبِالْعَشِيِّ جمع عشية وقيل: هو واحد وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، وأما الْإِبْكارِ فمصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار.. ومنه الباكورة لأول الثمرة.والمراد به هنا الوقت الذي يكون من طلوع الفجر إلى الضحى.أى عليك أن تكثر من ذكر الله- تعالى- ومن تسبيحه في أول النهار وفي آخره وفي كل وقت لا سيما في تلك الأيام الثلاثة شكرا الله- تعالى- على ما أعطاك من نعم جليلة لا تحصى، فقد وهبك الذرية بعد أن بلغت من الكبر عتيا، وجعل هذا المولود من أنبياء الله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته.وفي هذا الأمر الإلهى لزكريا حصن لكل عاقل على الإكثار من ذكر الله من تسبيحه وتمجيده لأن ذكر الله به تطمئن القلوب. وتسكن النفوس وتغسل الخطايا والذنوب ويكفى للدلالة على فضل الذكر أن الله- تعالى- أمر به حتى في حالة الحرب فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من قصة زكريا- عليه السّلام- فيه الكثير من العبر والعظات لقوم يعقلون.وبعد أن بين- سبحانه- ما يدل على مظاهر قدرته في ولادة يحيى- عليه السّلام- حيث وهبه لوالديه بعد أن بلغا مبلغا كبيرا من العمر يستبعد معه في العادة الإنجاب.. بعد أن بين كل ذلك ساق قصة أخرى أدل على قدرة الله ونفاذ إرادته من قصة ولادة يحيى، وهذه القصة هي قصة ولادة عيسى- عليه السّلام- من غير أب. وقد مهد القرآن لولادة عيسى ببيان أن الله- تعالى- قد اصطفى أمه مريم وطهرها من كل فاحشة، وفضلها على نساء زمانها، وصانها من كل ما يخدش المروءة والشرف. استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول:
وَ اِذْ قَالَتِ الْمَلٰٓىٕكَةُ یٰمَرْیَمُ اِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰىكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفٰىكِ عَلٰى نِسَآءِ الْعٰلَمِیْنَ(۴۲)
اور جب فرشتوں نے کہا، اے مریم، بیشک اللہ نے تجھے چن لیا (ف۸۷) اور خوب ستھرا کیا (ف۸۸) اور آج سارے جہاں کی عورتوں سے تجھے پسند کیا (ف۸۹)
وقوله- تعالى- وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ.. إلخ معطوف على قوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي.. إلخ عطف القصة على القصة، فإن الله- تعالى- بعد أن ذكر ما قالته امرأة عمران عند ما أحست بالحمل. وبعد ولادتها لمريم، وما كان من شأنها وتربيتها وكفالتها بعد أن ذكر ذلك، بين- سبحانه ما كان من أمر مريم بعد أن بلغت رشدها واكتمل تكوينها، وجاء بقصة زكريا بين قصة الأم وابنتها لما بينهما من مناسبة إذ أن دعاء زكريا ربه كان سببه ما رآه من إكرام الله- سبحانه- لمريم ولأن الكل لبيان اصطفاء آل عمران.والمعنى، واذكر يا محمد للناس وقت أن قالت الملائكة لمريم- التي تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا- يا مريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أى اختارك واجتباك لطاعته، وقبلك لخدمة بيته وَطَهَّرَكِ من الأدناس والأقذار، ومن كل ما يتنافى مع الخلق الحميد، والطبع السليم وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بأن وهب لك عيسى من غير أب دون أن يمسسك بشر.وجعلك أنت وهو آية للعالمين.فأنت ترى أن الله- تعالى- قد مدح مريم مدحا عظيما بأن شهد لها بالاصطفاء والطهر والمحبة، وأكد هذا الخبر للاعتناء بشأنه، والتنويه بقدره.قال الفخر الرازي ما ملخصه:والاصطفاء الأول إشارة إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها بأن قبل الله- تعالى- تحريرها أى خدمتها لبيته، مع أنها أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث، وبأن فرغها لعبادته وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة، وبأن كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله..وأما الاصطفاء الثاني فالمراد به أنه- تعالى- وهب لها عيسى- عليه السّلام من غير أب، وجعلها وابنها آية للعالمين» .ولا شك أن ولادتها لعيسى من غير أب ودون أن يمسها بشر، هو أمر اختصت به مريم ولم تشاركها فيه امرأة قط في أى زمان أو مكان، فهي أفضل النساء في هذه الحيثية.أما من حيث قوة الإيمان، وصلاح الأعمال فيجوز أن يحمل اصطفاؤها على نساء العالمين على معنى تفضيلها على عالمي زمانها من النساء وبعضهم يرى أفضليتها على جميع النساء في سائر الأعصار.هذا وقد أورد ابن كثير عددا من الأحاديث التي وردت في فضل مريم وفي فضل غيرها من النساء، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن على بن أبى طالب أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» وأخرج البخاري عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون. ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»وقول الملائكة لمريم إن الله اصطفاك وطهرك.. إلخ الراجح أنهم قالوه لها مشافهة، لأن هذا ما يدل عليه ظاهر الآية، وإليه ذهب صاحب الكشاف فقد قال: روى أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا، أو إرهاصا لنبوة عيسى- عليه السّلام- .وقال الجمل قوله: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أى مشافهة لها بالكلام، وهذا من باب التربية الروحية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها بعد التربية الجسمانية اللائقة بحال صغرها» .وقيل كان خطابهم لها بالإلهام أو بالرؤيا الصادقة في النوم.والأول أولى لأنه هو الظاهر من الآية، ولأنه الموافق لأقوال جمهور المفسرين، ولأنه جاء صريحا في آيات أخرى أن الملك قد تمثل لها بشرا سويا وكلمها، وذلك في قوله- تعالى- في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا.قال الآلوسى: «واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم: لأن تكليم الملائكة يقتضيها ومنعها اللقاني وغيره من العلماء، لأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا، فقد جاء في الحديث الشريف أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله، وأخبروه بأن الله يحبه كما أحب هو أخاه، ولم يقل أحد بنبوته- فكلام الملائكة لمريم لا يقتضى نبوتها وهو الصحيح» .
یٰمَرْیَمُ اقْنُتِیْ لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِیْ وَ ارْكَعِیْ مَعَ الرّٰكِعِیْنَ(۴۳)
اے مریم اپنے رب کے حضور ادب سے کھڑی ہو (ف۹۰) اور اس کے لئے سجدہ کر اور رکوع والوں کے ساتھ رکوع کر،
ثم حكى القرآن أن الملائكة أمرت مريم بأن تكثر من عبادة الله- تعالى- ومن المداومة على طاعته شكرا له فقال- تعالى-:يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.القنوت. لزوم الطاعة والاستمرار عليها، مع استشعار الخشوع والخضوع الله رب العالمين.أى: قالت الملائكة أيضا لمريم: يا مريم أخلصى العبادة لله وحده وداومى عليها، وأكثرى من السجود الله ومن الركوع مع الراكعين، فإن ملازمة الطاعات والصلوات من شأنها أن تحفظ النعم وأن تزيد الإنسان قربا وحبا من خالقه- عز وجل-.فالآية الكريمة دعوة قوية من الله- تعالى- لمريم ولعباده جميعا بالمحافظة على العبادات ولا سيما الصلاة في جماعة.قال صاحب الكشاف: أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئة الصلاة وأركانها ثم قيل لها وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ بمعنى ولتكن صلاتك مع المصلين أى في الجماعة، أو انظمى نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم .فأنت ترى في هاتين الآيتين أسمى ألوان المدح والتكريم والتهذيب لمريم البتول، فلقد أخبر- سبحانه- باصطفائها صغيرة وكبيرة، وبطهرها من كل سوء، والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى، وذلك لما لا بس مولد عيسى- عليه السّلام- من خوارق، هذه الخوارق جعلت اليهود يفترون الكذب على مريم، ويتهمونها زورا وبهتانا بما هي بريئة منه، ثم بعد ذلك يأمرها- سبحانه- بمداومة الطاعة والعبادة والخضوع الله رب العالمين.وبذلك يتبين لكل ذي عقل سليم أن الإسلام الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم هو الدين الحق، لأنه قد قال القول الحق في شأن مريم وابنها عيسى- عليه السّلام- أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد اختلفوا في شأنهما اختلافا عظيما أدى بهم إلى الضلال والخسران.
ذٰلِكَ مِنْ اَنْۢبَآءِ الْغَیْبِ نُوْحِیْهِ اِلَیْكَؕ-وَ مَا كُنْتَ لَدَیْهِمْ اِذْ یُلْقُوْنَ اَقْلَامَهُمْ اَیُّهُمْ یَكْفُلُ مَرْیَمَ۪-وَ مَا كُنْتَ لَدَیْهِمْ اِذْ یَخْتَصِمُوْنَ(۴۴)
یہ غیب کی خبریں ہیں کہ ہم خفیہ طور پر تمہیں بتاتے ہیں (ف۹۱) اور تم ان کے پاس نہ تھے جب وہ اپنی قلموں سے قرعہ ڈالتے تھے کہ مریم کس کی پرورش میں رہیں اور تم ان کے پاس نہ تھے جب وہ جھگڑ رہے تھے(ف۹۲)
ثم بين- سبحانه- أن ما جاء به القرآن في شأن مريم- بل وفي كل شأن من الشئون- هو الحق الذي لا يحوم حوله باطل، وهو من أنباء الغيب التي لا يعلمها أحد سواه فقال- تعالى:ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ.واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى ما تقدم الحديث عنه من قصة امرأة عمران وقصة زكريا وغير ذلك من الأخبار البديعة.والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر العظيم الشأن.والغيب: مصدر غاب، وهو الأمر المغيب المستور الذي لا يعلم إلا من قبل الله- تعالى-.ونوحيه: من الإيحاء وهو إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفى، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء وبمعنى الإلهام.أى: ذلك القصص الحكيم الذي قصصناه عليك يا محمد، فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران وما قاله زكريا، وما قالته الملائكة لمريم وفيما يتعلق بغير ذلك من شئون ذلك القصص الحكيم هو من أنباء الغيب التي لا يعلمها أحد سوى الله- عز وجل- وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صدقك فيما تبلغه عن ربك ولتكون عبرة وذكرى لقوم يعقلون.وقوله ذلِكَ مبتدأ وخبره قوله- تعالى- مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. وقوله نُوحِيهِ إِلَيْكَ جملة مستقلة مبينة للأولى. والضمير في نُوحِيهِ يعود إلى الغيب أى الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار.ولذا قال- تعالى- وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ والأقلام جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون بها التوراة، وقيل المراد بها السهام.أى وما كنت- يا محمد- لديهم أى عندهم معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم في شأن مريم، إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون فيما بينهم بسببها تنافسا في كفالتها.وقد سبق أن ذكرنا ما قاله صاحب الكشاف من أن مريم بعد أن ولدتها أمها خرجت بها إلى بيت المقدس فوضعتها عند الأحبار وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة!! فقالوا: هذه ابنة إمامنا عمران- وكان في حياته يؤمهم في الصلاة، فقال لهم زكريا: ادفعوها إلى فأنا أحق بها منكم فإن خالتها عندي- فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم، فتولى كفالتها زكريا- عليه السّلام- . فالضمير في قوله لَدَيْهِمْ يعود على المتنازعين في كفالة مريم لأن السياق قد دل عليهم.والمقصود من هذه الجملة الكريمة «وما كنت لديهم إذ يلقون إلخ تحقيق كون الإخبار بما ذكر إنما هو عن وحى من الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن معاصرا لهؤلاء الذين تحدث القرآن عنهم. ولم يقرأ أخبارهم في كتاب من الكتب، ومع ذلك فقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل الكتاب وغيرهم بالحق الذي لا يستطيعون تكذيبه إلا على سبيل الحسد والجحود، فثبت أن القرآن من عند الله- تعالى- وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
اِذْ قَالَتِ الْمَلٰٓىٕكَةُ یٰمَرْیَمُ اِنَّ اللّٰهَ یُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُۙ-اسْمُهُ الْمَسِیْحُ عِیْسَى ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیْهًا فِی الدُّنْیَا وَ الْاٰخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِیْنَۙ(۴۵)
اور یاد کرو جب فرشتو ں نے مریم سے کہا، اے مریم! اللہ تجھے بشارت دیتا ہے اپنے پاس سے ایک کلمہ کی (ف۹۳) جس کا نام ہے مسیح عیسیٰ مریم کا بیٹا رُو دار (باعزت) ہوگا (ف۹۴) دنیا اور آخرت میں اور قرب والا (ف۹۵)
ثم حكى- سبحانه- ما قالته الملائكة لمريم على سبيل تبشيرها بعيسى- عليه السّلام- فقال- تعالى- إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.وهذه الجملة الكريمة بدل اشتمال من جملة وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ.إلخ قالوا: ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريرا لما سبق وتنبيها على استقلاله.والظرف إِذْ معمول لمحذوف تقديره اذكر، أى اذكر وقت أن قالت الملائكة لمريم، يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه.وقوله يبشرك بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أى يبشرك بمولود يحصل بكلمة منه- سبحانه- وسمى هذا المولود كلمة لأنه وجد بكلمة كن فهو من باب إطلاق السبب على المسبب.والمراد أنه وجد من غير واسطة أب، لأن غيره وإن وجد بتلك الكلمة لكنه بواسطة أب، أى أنه- سبحانه- إذا كان قد خلق الناس بطريق التناسل عن ذكر وأنثى وأخرج الأولاد من أصلاب الآباء، فإن عيسى- عليه السّلام- لم يكن كذلك، بل خلقه الله- تعالى- خلقا آخر، خلقه بِكَلِمَةٍ مِنْهُ وهي «كن» فكان كما أراده الله و «من» في قوله «منه» لابتداء الغاية والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة: أى بكلمة كائنة منه.فالمراد بقوله «كلمة» أى يبشر بولد حي يسرى عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم وعلى هذا التأويل سار كثير من المفسرين.ورجح ابن جرير أن معنى بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ببشرى منه- سبحانه- فقد قال: وقوله «بكلمة منه» يعنى برسالة من الله وخير من عنده وهو من قول القائل: ألقى إلى فلان كلمة سرني بها بمعنى أخبرنى خبرا فرحت به.. فتأويل الكلام: وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده، هي ولدك اسمه المسيح عيسى ابن مريم».وعلى كلا التأويلين ففي التعبير عن عيسى- عليه السّلام- بأنه كلمة من الله تكريم له وتشريف، وقوله اسْمُهُ الْمَسِيحُ مبتدأ وخبر، والجملة نعت. والضمير في قوله اسْمُهُ يعود إلى كلمة. وجاء مذكرا رعاية للمعنى لأننا سبق بينا أن المراد بها عند كثير من المفسرين الولد.والمسيح: لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق، وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك. وقد حكى الله- تعالى- أنه قال عن نفسه إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وقيل المسيح فعيل بمعنى فاعل، للمبالغة في مسحه الأرض بالسياحة للعبادة: أو مسحه ذا العاهة ليبرأ. أو بمعنى مفعول أى ممسوح لأن الله مسحه بالطهر من الذنوب.وعيسى: اسم لهذا الاسم الكريم، وهو اسم ينبئ عن البياض والصفاء والنقاء.قال الراغب: عيسى اسم علم، وإذا جعل عربيا أمكن أن يكون من قولهم بعيرا عيسى وناقة عيساء وجمعها عيس وهي إبل بيض يعترى بياضها بعض الظلمة» أى فيها اغبرار قليل يعطى بياضها صفاء ونقاء وجمالا.وابن مريم: هو كنيته، وهي للإشارة إلى أن نسبه ثابت لأمه لا لأحد سواها وليس ابنا الله- تعالى- كما قال الضالون.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قيل عيسى ابن مريم والخطاب لمريم؟ قلت: لأن الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فأعلمت بنسبه إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه. وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين: فإن قلت لم ذكر ضمير الكلمة.قلت لأن المسمى بها مذكر. فإن قلت: لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة أشياء: الاسم منها عيسى وأما المسيح والابن فلقب وصفة؟ قلت: الاسم المسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة» «2» .والمعنى الإجمالى للجملة الكريمة: اذكر يا محمد وقت أن قالت الملائكة لمريم: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه أى بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب، هذا المولود العجيب اسمه الذي يميزه لقبا المسيح ويميزه علما عيسى ويميزه كنية ابن مريم.فأنت ترى أنه- سبحانه- قد عرف هذا المولود العظيم بتعريف واحد جمع ثلاثة أمور كل واحد منها يشير إلى معنى كريم قد تحقق في هذا النبي العظيم ومجموع هذه الأمور لا يشاركه فيها أحد من البشر، ثم بعد ذلك وصفه- سبحانه- بأربعة أوصاف تدل على فضله وعلو منزلته فقال- تعالى- وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ.أما الصفة الأولى فهي قوله- تعالى-: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أى ذا جاه وشرف ومنزلة عالية. يقال وجه الرجل يوجه- من باب ظرف- وجاهة فهو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس. واشتقاقه من الوجه لأنه أشرف الأعضاء ولأنه هو الذي يواجه الإنسان به غيره.وعيسى عليه السّلام، شهد الله تعالى له، - وكفى بالله شهيدا- شهد له بالوجاهة وسمو المنزلة في الدنيا والآخرة لما له من آثار عظيمة في هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ودعوتهم إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق، وإقامة التوراة بعد أن اختلفوا فيها.والصفة الثانية من صفاته أنه مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أى أنه من المقربين عند الله- تعالى- ويا لها من صفة عظيمة هي منتهى ما تتطلع إليه النفوس وتهفو القلوب.
وَ یُكَلِّمُ النَّاسَ فِی الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَّ مِنَ الصّٰلِحِیْنَ(۴۶)
اور لوگوں سے بات کرے گا پالنے میں (ف۹۶) اور پکی عمر میں (ف۹۷) اور خاصوں میں ہوگا، بولی اے میرے رب! میرے بچہ کہاں سے ہوگا مجھے تو کسی شخص نے ہاتھ نہ لگایا (ف۹۸)
وأما الصفة الثالثة من صفات عيسى- عليه السّلام- فهي قوله- تعالى- وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وهذه الجملة معطوفة على قوله وَجِيهاً وعطف الفعل على الاسم لتأويله به جائز والتقدير وجيها ومكلما، والمهد اسم لمضجع الطفل أى المكان الذي يهيأ له وهو في الرضاعة. والكهل: هو الشخص الذي اجتمعت قوته وكمل شبابه. وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوى وتم.والمراد أن عيسى- عليه السّلام- يكلم الناس في حال كونه صغيرا قبل أوان الكلام، كما يكلمهم في حال كهولته واكتمال شبابه، فهو- عليه السّلام- يكلمهم بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالتي الطفولة والكهولة، وذلك إحدى معجزاته- عليه السّلام- وقد حكى القرآن في سورة مريم ما تكلم به عيسى- عليه السّلام- وهو طفل صغير فقال- تعالى-: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.أما الصفة الرابعة من صفاته- عليه السّلام- فهي قوله- تعالى- وَمِنَ الصَّالِحِينَ أى عباد الله الصالحين لحمل رسالته وتبليغها للناس. أو من الذين يصلحون ولا يفسدون ويطيعون الله- تعالى- ولا يعصونه، قالوا: ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحا لأنه لا يكون كذلك إلا إذا كان في جميع الأفعال والتروك مواظبا على المنهج الأصلح، وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا، في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح، ولذا قال سليمان- عليه السّلام- بعد النبوة رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ فلما عدد- سبحانه- صفات عيسى أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات» .تلك هي البشارات التي بشرت بها الملائكة مريم، وتلك هي بعض صفات مولودها فماذا كان موقفها من ذلك؟لقد حكى القرآن أن موقفها كان يدل على بالغ عجبها، وشدة تأثرها فقال- تعالى-
قَالَتْ رَبِّ اَنّٰى یَكُوْنُ لِیْ وَلَدٌ وَّ لَمْ یَمْسَسْنِیْ بَشَرٌؕ-قَالَ كَذٰلِكِ اللّٰهُ یَخْلُقُ مَا یَشَآءُؕ-اِذَا قَضٰۤى اَمْرًا فَاِنَّمَا یَقُوْلُ لَهٗ كُنْ فَیَكُوْنُ(۴۷)
فرمایا اللہ یوں ہی پیدا کرتا ہے جو چاہے جب، کسی کام کا حکم فرمائے تو اس سے یہی کہتا ہے کہ ہوجا وہ فوراً ہوجاتا ہے،
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ.أى: قالت مريم على سبيل التعجب والاستغراب: يا رب كيف يكون لي ولد والحال أنى لم يمسسني بشر، أى لست بذات زوج، ولم يحصل منى قط ما يكون بين الرجل والمرأة مما يسبب عنه وجود الولد.والجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا كان منها بعد أن قالت لها الملائكة ذلك؟ فكان الجواب: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ.. ألخ.وصدرت إجابتها بالنداء الله- تعالى- للإشعار بكمال تسليمها للقدرة الإلهية وأن استغرابها وتعجبها إنما هو من الكيفية لا إنكارا لقدرة الله- تعالى- وجملة وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ حالية محققة لما مر ومقوية له.والمسيس يحتمل أن يكون كناية عن المباشرة التي تقع بين الرجل والمرأة والتي يترتب عليها وجود النسل إذا شاء الله ذلك، ويحتمل أن يكون المراد به حقيقته وهو أنها لم يلمسها رجل، لأنها كانت معتكفة في بيت الله ومنصرفة لعبادته، ولم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط.وبذلك ينتفى بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس، فموضع عجبها واستنكارها إنما هو وجود ولد منها مع أنها لم يمسسها بشر.وهنا يحكى القرآن أن الله- تعالى- قد أزال عجبها واستنكارها بقوله: قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ.أى قال الله- تعالى- لها بلا واسطة أو بواسطة ملائكة: كهذا الخلق الذي تجدينه، بأن يكون لك ولد من غير أن يمسسك بشر وهو إبداع، يخلق الله- تعالى- ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه.وبعضهم يجعل الوقوف على «كذلك» فتكون خبرا لمبتدأ محذوف أى قال- سبحانه- في إجابته على مريم: الأمر كذلك أى يأتى الولد منك على الحالة التي أنت عليها لأن الله- تعالى- يخلق ما يشاء أن يخلقه بدون احتياج إلى وجود الأسباب والمسببات لأنه هو خالقه وخالق كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.وصرح هاهنا بقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ ولم يقل «يفعل» كما في قصة زكريا، لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ كبير، فكان الخلق المنبئ عن الاختراع أنسب بهذا المقام عن مطلق الفعل.ثم أكد- سبحانه عظيم قدرته ونفاذ إرادته بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.وقضى هنا بمعنى أراد، أى إذا أراد- سبحانه- شيئا، فإنما يقول لهذا الشيء كن فيكون من غير تأخر ومن غير وجود أسباب، فهو كقوله- تعالى- وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أى إنما نأمره مرة واحدة لا تثنية فيها فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر.قال الآلوسى: وقوله إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، فالمثل الشيء المكون بسرعة من غير عمل وآلة، والمثل به أمر الآمر المطاع- المأمور المطيع على الفور، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه.وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة، بأن يراد تعلق الكلام النفسي بالشيء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه.وعلى كلا التقديرين فالمراد من هذا الجواب بيان أن الله- تعالى- لا يعجزه أن يخلق ولدا من غير أب، لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الإرادة والقدرة .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حكت لنا بعض البشارات التي بشرت بها الملائكة مريم وبعض الصفات التي وصف الله- تعالى- بها عيسى، وبينت جانبا من مظاهر قدرة الله- تعالى- ونفاذ إرادته، وفي ذلك ما فيه من العظات والعبر لأولى الألباب.ثم واصل القرآن حديثه عن صفات عيسى- عليه السّلام- وعن معجزاته فقال- تعالى:فأنت ترى في هذه الآيات الكريمة بيانا حكيما عن طبيعة رسالة عيسى- عليه السّلام- وعن معجزاته التي أكرمه الله- تعالى- بها.
وَ یُعَلِّمُهُ الْكِتٰبَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْرٰىةَ وَ الْاِنْجِیْلَۚ(۴۸)
اور اللہ سکھائے گا کتاب اور حکمت اور توریت اور انجیل،
وقوله- تعالى-: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ معطوف على يُبَشِّرُكِ أى: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه.. وإن الله يعلم ذلك المولود- المعبر عنه بالكلمة- الكتاب، وقرأ بعضهم ونعلمه الكتاب.. وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة معمولة لقول محذوف من كلام الملائكة أى ويقول الله- تعالى- ونعلمه.. وتكون في المعنى معطوفة على الحال وهي قوله «وجيها» فكأنه قال: وجيها ومعلما.وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون الجملة مستأنفة سيقت تطييبا لقلب مريم، وإراحة لما أهمها من خوف الملامة حين علمت أنها تلد من غير أن يمسها بشر.ولقد حكى القرآن عنها في سورة مريم قولها بتحسر وألم عند ما جاءها المخاض يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا.والمراد بالكتاب الكتابة والخط. فإن عيسى- عليه السّلام- قد بعثه الله- تعالى- في أمة ارتقت فيها ألوان العلم والمعرفة فأكرمه الله بأن جعله يفوق غيره في هذه النواحي. وقيل المراد بالكتاب جنس الكتب الإلهية.قال الفخر الرازي: «والأقرب عندي أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة. ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومجموعهما هو المسمى بالحكمة، ثم بعد أن صار علما بالخط والكتابة ومحيطا بالعلوم العقلية والشرعية يعلمه التوراة. وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة، لأن التوراة كتاب إلهى فيه أسرار عظيمة والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث عن أسرار الكتب الإلهية. ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل. وإنما أخر ذكر الإنجيل عن التوراة لأن من تعلم الخط، ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي نزل على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله عليه بعد ذلك كتابا آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية» .
وَ رَسُوْلًا اِلٰى بَنِیْۤ اِسْرَآءِیْلَ ﳔ اَنِّیْ قَدْ جِئْتُكُمْ بِاٰیَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ ﳐ اَنِّیْۤ اَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّیْنِ كَهَیْــٴَـةِ الطَّیْرِ فَاَنْفُخُ فِیْهِ فَیَكُوْنُ طَیْرًۢا بِاِذْنِ اللّٰهِۚ-وَ اُبْرِئُ الْاَكْمَهَ وَ الْاَبْرَصَ وَ اُحْیِ الْمَوْتٰى بِاِذْنِ اللّٰهِۚ-وَ اُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَاْكُلُوْنَ وَ مَا تَدَّخِرُوْنَۙ-فِیْ بُیُوْتِكُمْؕ-اِنَّ فِیْ ذٰلِكَ لَاٰیَةً لَّكُمْ اِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِیْنَۚ(۴۹)
اور رسول ہوگا بنی اسرائیل کی طرف، یہ فرماتا ہو کہ میں تمہارے پاس ایک نشانی لایا ہوں (ف۹۹) تمہارے رب کی طرف سے کہ میں تمہارے لئے مٹی سے پرند کی سی مور ت بناتا ہوں پھر اس میں پھونک مارتا ہوں تو وہ فوراً پرند ہوجاتی ہے اللہ کے حکم سے (ف۱۰۰) اور میں شفا دیتا ہوں مادر زاد اندھے اور سفید داغ والے کو (ف۱۰۱) اور میں مُردے جلاتا ہوں اللہ کے حکم سے (ف۱۰۲) اور تمہیں بتاتا ہوں جو تم کھاتے اور جو اپنے گھروں میں جمع کر رکھتے ہو، (ف۱۰۳) بیشک ان باتوں میں تمہارے لئے بڑی نشانی ہے اگر تم ایمان رکھتے ہو،
وبعد أن أشار- سبحانه- إلى علم الرسالة التي هيأ لها عيسى- عليه السّلام- عقب ذلك ببيان القوم الذين أرسل إليهم فقال- تعالى- وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أى أن الله- تعالى- سيجعل عيسى- عليه السّلام- رسولا إلى بنى إسرائيل لكي يهديهم إلى الصراط المستقيم، ولكي يبشرهم برسول يأتى من بعده هو خاتم الأنبياء والمرسلين، ألا وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.وخص بنى إسرائيل بالذكر مع أن رسالة عيسى كانت إليهم وإلى من علمها من الرومان:لأن بنى إسرائيل خرج عيسى من بينهم فهو منهم، ولأنهم هم الذين كانوا يدعون أنهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية، وكانت دعوته بينهم وانبعثت منهم إلى غيرهم، فكان تخصيصهم بالذكر فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وفيه توبيخ لهم، لأنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء ومع ذلك فقد كفر كثير منهم بعيسى وبغيره من رسل الله، بل لم يكتفوا بالكفر وإنما آذوا أولئك الرسل الكرام وقتلوا فريقا منهم.وقوله وَرَسُولًا منصوب بمضمر يقود إليه المعنى، معطوف على وَيُعَلِّمُهُ أى يعلمه ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل.وقوله أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ معمول لقوله رَسُولًا لما فيه من معنى النطق. كأنه قيل: ورسولا ناطقا بأنى قد جئتكم يا بنى إسرائيل بآية من ربكم.والباء للملابسة وهي مع مدخولها في محل الحال وقوله مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف صفة لآية. والمراد بالآية هنا المعجزات التي أكرمه الله بها.أى: أن الله- تعالى- قد علم عيسى- عليه السّلام- الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعله رسولا إلى بنى إسرائيل مخبرا إياهم بأنى رسول الله إليكم حال كوني ملتبسا مجيئي بالمعجزات الدالة على صدقى، وهذه المعجزات ليست من عندي وإنما هي من عند ربكم.ثم ذكر- سبحانه- خمسة أنواع من معجزات عيسى- عليه السّلام- أما المعجزة الأولى فعبر عنها بقوله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ.قال الآلوسى: «وقوله أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ.. ألخ.. بدل من قوله أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أو من بِآيَةٍ أو منصوب على المفعولية لمحذوف أى أعنى أنى أخلق لكم.. أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أى أنى قد جئتكم بآية من ربكم هي أنى أخلق لكم. وقرأ نافع بكسر الهمزة على الاستئناف، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإيجاد من العدم» .والمعنى أن عيسى- عليه السّلام- قد حكى الله- عنه أنه قال لبنى إسرائيل: لقد أرسلنى الله إليكم لأبلغكم دعوته، ولآمركم بإخلاص العبادة له، وقد أعطانى- سبحانه- من المعجزات ما يقنعكم بصدقى فيما أبلغه عن ربي، ومن بين هذه المعجزات أنى أقدر على أن أصور لكم من الطين شيئا صورته مثل صورة الطير، فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فيكون طيرا حقيقيا ذا حياة بإذن الله أى بأمره وإرادته.فأنت ترى أن الجملة الكريمة قد اشتملت على ثلاثة أعمال: ثنتان منهما لعيسى وهما تصوير الطين كهيئة الطير ثم النفخ فيه. أما الثالث فهو من صنع الله- تعالى- وحده ألا وهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى ونفخ فيها. وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس في عيسى ألوهية ولا أى معنى من معانيها. ولذا حكى الله- تعالى- عنه أنه قال: بِإِذْنِ اللَّهِ.أى أنى ما فعلت الذي فعلته إلا بإذن الله وأمره وإرادته وتيسيره، واللام في قوله لَكُمْ للتعليل أى أصور لأجل هدايتكم وتصديقكم بي.والكاف في قوله كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بمعنى مثل وهي نعت لمفعول محذوف أى أخلق شيئا مثل هيئة الطير، والهيئة هي الصورة والكيفية.والضمير في قوله فَأَنْفُخُ فِيهِ يعود إلى هذا المفعول المحذوف.وقوله بِإِذْنِ اللَّهِ متعلق بيكون، وجيء به لإظهار العبودية، ونفى توهم أن يكون عيسى أو غيره شريكا الله في خلق الكائنات.وأما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات فقد حكاه القرآن في قوله- تعالى- وَأُبْرِئُ أى أشفي يقال: برأ المريض يبرأ أو يبرؤ برءا وبروءا إذا شفى من مرضه.والأكمه: هو الذي يولد أعمى. يقال كمه كمها إذا ولد أعمى، فهو أكمه وامرأة كمهاء.والأبرص: هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة وهو مرض من الأمراض المنفرة التي عجز الأطباء عن شفائها.والمعنى: أن عيسى- عليه السّلام- قال لقومه: والمعجزات التي تدل على صدقى أن أشفى وأعيد الإبصار إلى من ولد أعمى، وأعيد الشفاء إلى من أصيب بمرض البرص، وأعيد الحياة إلى من مات. ولا أفعل كل ذلك بقدرتي وعلمي وإنما أفعله بإذن الله وبإرادته وأمره.وخص إبراء الأكمه والأبرص بالذكر لأنهما مرضان عضالان لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منهما فإذا أجرى الله- تعالى- على يد عيسى الشفاء منهما كان ذلك دليلا على أن من وراء الأسباب والمسببات خالقا مختارا لا يعجزه شيء وعلى أن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها في الإيجاد أو الإعدام وإنما المؤثر هو الله- تعالى- وقوله وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ فيه تدرج من الصعب إلى الأصعب، لأن مما لا شك فيه أن إحياء الموتى خارق عظيم، يدل دلال قاطعة على أن الأسباب العادية ليست هي المؤثرة وإنما الخالق المكون هو المؤثر وأن الأشياء لم تخلق بالعلية- كما يقول الماديون- وإنما خلقت بالإرادة المختارة والقدرة المبدعة المنشئة المكونة، وهي إرادة خالق الكون وقدرته سبحانه.وقيد ما يقوم به من إبراء وإحياء بأنه بإذن الله: للتنبيه على أن ما يفعله من خوارق إنما هو بأمر الله وتيسيره وإرادته.وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمة والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء، وكان دعاؤه يا حي يا قيوم، وذكروا من بين من أحياهم سام بن نوح .قال ابن كثير: بعث الله كل نبي بمعجزة تناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحّار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام. وأما عيسى فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص؟ وكذلك محمد صلّى الله عليه وسلّم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاويد الشعراء فأتاهم بكتاب من الله لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله ما استطاعوا أبدا، وما ذاك إلا أن كلام الرب لا يشبه كلام الخلق» .وأما المعجزة الخامسة فقد حكاها القرآن في قوله- تعالى- وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ.وقوله- تعالى- وَأُنَبِّئُكُمْ من الإنباء وهو الإخبار بالخبر العظيم الشأن.وقوله تَدَّخِرُونَ من الادخار وهو إعداد الشيء لوقت الحاجة إليه. يقال: دخرته وادخرته، إذ أعدته للعقبى. وأصله «تذتخرون» بالذال المعجمة- من اذتخر الشيء- بوزن افتعل- فأبدلت التاء دالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت.والمعنى: أن عيسى- عليه السّلام- قد قال لقومه بنى إسرائيل: وإن من معجزاتي التي تدل على صدقى فيما أبلغه عن ربي أنى أخبركم بالشيء الذي تأكلونه وبالشيء الذي تخبئونه في بيوتكم لوقت حاجتكم إليه.قال القرطبي: وذلك أنه لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد، فأخبرهم فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا فذلك قوله وَأُنَبِّئُكُمْ .و «ما» في الموضعين موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى بما تأكلونه وتدخرونه.ولا شك أن إخبار عيسى- عليه السّلام- لقومه بالشيء الذي يأكلونه وبالشيء الذي يدخرونه يدل على صدقه، لأن هذا الإخبار الغيبى بما لم يعاينه دليل على أن الله- تعالى- قد أعطاه علم ما أخبر به.ثم ختم الله- تعالى- هذه الآية بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.أى إن في ذلك المذكور من المعجزات التي أجراها الله- تعالى- على يد عيسى- عليه السلام- لدلالة واضحة وعلامة بينة تشهد بصدقه فيما يبلغه عن ربه، إن كنتم يا بنى إسرائيل ممن يصدق بآيات الله ويذعن لها.فاسم الإشارة «ذلك» يعود إلى ما سبق ذكره من معجزات عيسى- عليه السّلام- وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيات وأذعنتم للحق الذي جئتكم به من عند الله.
وَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَیْنَ یَدَیَّ مِنَ التَّوْرٰىةِ وَ لِاُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِیْ حُرِّمَ عَلَیْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِاٰیَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ۫-فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ اَطِیْعُوْنِ(۵۰)
اور تصدیق کرتا آیا ہوں اپنے سے پہلے کتاب توریت کی اور اس لئے کہ حلال کروں تمہارے لئے کچھ وہ چیزیں جو تم پر حرام تھیں (ف۱۰۴) اور میں تمہارے پاس پاس تمہارے رب کی طرف سے نشانی لایا ہوں، تو اللہ سے ڈرو اور میرا حکم مانو،
وبعد أن حكى القرآن المعجزات الباهرة التي أيد الله بها عيسى- عليه السّلام- عقب ذلك بالإشارة إلى طبيعة رسالته فقال- تعالى- وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.وقوله- تعالى وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ عطف على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى بِآيَةٍ أى قد جئتكم محتجا أو ملتبسا بآية من ربكم، ومصدقا لما بين يدي.. وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه «قد جئتكم» .. أى وجئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة، ومعنى تصديقه- عليه السّلام- للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب، وأن كتابه يدعو إلى الإيمان بها.والمعنى: أن عيسى- عليه السّلام- قال لبنى إسرائيل: إن الله- تعالى- قد أرسلنى إليكم لهدايتكم وقد جئتكم بالمعجزات التي تثبت صدقى. وجئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة.أى مقررا لها ومؤمنا بها.ومعنى ما بين يدي ما تقدم قبلي: لأن المتقدم السابق يمشى بين يدي الجائى فهو هنا تمثيل لحالة السبق، وإن كان بين عيسى- عليه السّلام- وبين نزول التوراة أزمنة طويلة لأنها لما اتصل العمل بها إلى مجيئه فكأنها لم تسبقه بزمن طويل ويستعمل بين يدي كذا في معنى الحاضر المشاهد كما في قوله- تعالى- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ.وقوله وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ معمول لمقدر بعد الواو، أى: وجئتكم لأحل لكم بعض الأشياء التي كانت محرمة عليكم في شريعة موسى- عليه السّلام- فهو من عطف الجملة على الجملة.أى أن شريعة عيسى جاءت متممة لشريعة موسى وناسخة لبعض أحكامها، فلقد حرم الله- تعالى- على بنى إسرائيل بعض الطيبات بسبب ظلمهم وبغيهم كما جاء في قوله- تعالى- فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فجاءت شريعة عيسى- عليه السلام- لتحل لهم بعض ما حرمه الله عليهم بسبب ظلمهم وفجورهم.قال ابن كثير: فيه دلالة على أن عيسى- عليه السلام- نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين. ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئا، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطأوا فكشف لهم عن خطئهم كما قال في الآية وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ .قالوا. ومن الأطعمة التي أحلها عيسى لبنى إسرائيل بعد أن كانت محرمة عليهم في شريعة موسى: لحوم الإبل والشحوم وبعض الأسماك والطيوروقوله وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ تحريض لهم على الاستجابة لما يدعوهم إليه.قال الفخر الرازي «وإنما أعاد قوله- تعالى- وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر، فأعاد ذكر المعجزات ليكون كلامه ناجعا في قلوبهم ومؤثرا في طباعهم. ثم خوفهم فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله فبين أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم عن ربي» .
اِنَّ اللّٰهَ رَبِّیْ وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوْهُؕ-هٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِیْمٌ(۵۱)
بیشک میرا تمہارا سب کا رب اللہ ہے تو اسی کو پوجو (ف۱۰۵) یہ ہے سیدھا راستہ،
ثم حكى القرآن أن عيسى- عليه السلام- قد قرر أن هذه المعجزات الباهرة لن تخرجه عن أن يكون عبدا الله مخلوقا له، وأن من الواجب على الناس أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أى قال عيسى- عليه السلام- داعيا قومه إلى عبادة الله- تعالى- هو الذي خلقني وخلقكم وهو الذي رباني ورباكم، ومادام الأمر كذلك فأخلصوا له العبادة فإن عبادته- سبحانه- وطاعته هي الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التباس.وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت لنا بعض المعجزات التي أكرم الله بها عيسى- عليه السلام- كما حكت لنا بعض التوجيهات القويمة، والإرشادات الحكيمة التي نصح بها قومه لكي يسعدوا في دنياهم وآخرتهم.والآن ينساق الذهن إلى سؤال هو: ماذا كان موقف بنى إسرائيل منه بعد أن جاءهم بما جاءهم به من بينات وهدايات؟لقد حكى القرآن ان موقف أكثرهم منه كان موقف الكافر به الجاحد لرسالته فقال تعالى:
فَلَمَّاۤ اَحَسَّ عِیْسٰى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ اَنْصَارِیْۤ اِلَى اللّٰهِؕ-قَالَ الْحَوَارِیُّوْنَ نَحْنُ اَنْصَارُ اللّٰهِۚ-اٰمَنَّا بِاللّٰهِۚ-وَ اشْهَدْ بِاَنَّا مُسْلِمُوْنَ(۵۲)
پھر جب عیسیٰ نے ان سے کفر پایا (ف۱۰۶) بولا کون میرے مددگار ہوتے ہیں اللہ کی طرف، حواریوں نے کہا (ف۱۰۷) ہم دینِ خدا کے مددگار ہیں ہم اللہ پر ایمان لائے، اور آپ گواہ ہوجائیں کہ ہم مسلمان ہیں (ف۱۰۸)
فقوله- تعالى- فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ شروع في بيان مآل أحواله- عليه السلام- وفي بيان موقف قومه منه بعد أن بين- قبل ذلك بعض صفاته ومعجزاته وخصائص رسالته.وأحس: بمعنى علم ووجد وعرف. والإحساس: الإدراك ببعض الحواس الخمس وهي الذوق والشم واللمس والسمع والبصر. يقال أحس الشيء، علمه بالحس. وأحس بالشيء شعر به بحاسته والمراد أن عيسى عليه السلام، علم من بنى إسرائيل الكفر علما لا شبهة فيه.والأنصار جمع نصير مثل شريف وأشراف.والمعنى أن عيسى- عليه السلام- قد جاء لقومه بالمعجزات الباهرات التي تشهد بصدقه في دعوته ولكنه لم يجد منهم أذنا واعية، فلما رأى تصميمهم على باطلهم، وأحس منهم الكفر أى علمه يقينا وتحققه تحقق ما يدرك بالحواس، قال على سبيل التبليغ وطلب النصرة: من أنصارى إلى الله؟ أى من أعوانى في الدعوة إلى الله والتبشير بدينه حتى أبلغ ما كلفنى بتبليغه.قال ابن كثير: وذلك كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر «هل من رجل يؤوينى وينصرني حتى أبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربي» فقيض الله له الأنصار فآووه ونصروه ومنعوه من الأسود والأحمر» .والفاء في قوله فَلَمَّا تؤذن بالتعقيب على الآيات الباهرة. أى أنهم بعد أن رأوا ما رأوا من معجزات عيسى لم يمتثلوا له ولم يتدبروا عاقبة أمرهم بل كذبوه على الفور، وحاولوا قتله تخلصا منه واستمروا على كفرهم.والتعبير بأحس- كما أشرنا من قبل- يشعر بأنه علم منهم الكفر علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس.والمقول لهم مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ هم الحواريون كما يشير إليه قوله- تعالى- في سورة الصف: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وقيل المقول لهم جميع أفراد قومه.وقوله مِنْهُمُ متعلق بأحس. ومن لابتداء الغاية أى ابتداء الإحساس من جهتهم. أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أى أحس الكفر حال كونه صادرا منهم. وقوله إِلَى اللَّهِ متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في أنصارى. أى من أنصارى حال كوني ذاهبا إلى الله أى ملتجئا إليه وشارعا في نصرة دينه.وفي قوله مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ حض لهم على المسارعة إلى نصرة الحق لأنهم لا ينصرونه من أجل متعة زائلة. وإنما هم ينصرونه لأنه يدافع عن دين الله ويبشر به، ومن نصر دين الله، نصره الله تعالى.والآية الكريمة تشير إلى أن الكافرين كانوا هم الكثرة الكاثرة من بنى إسرائيل، بدليل أنه- سبحانه- نسب الكفر إليهم في قوله فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلة غير الظاهرة حتى لكأن عيسى بقوله مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ يبحث عنهم من بين تلك الجموع الكثيرة من الكافرين. وهنا يحكى القرآن أن المؤمنين الصادقين- مع قلتهم- لم يتقاعسوا عن تلبية نداء عيسى- عليه السلام- فقال الله- تعالى- قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ والحواريون جمع حوارى وهم أنصار عيسى الذين آمنوا به وصدقوه، وأخلصوا له ولازموه وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق.يقال فلان حوارى فلان أى خاصه من أصحابه ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الزبير بن العوام:«لكل نبي حوارى وحواريي الزبير» وأصل مادة «حور» هي شدة البياض. أو الخالص من البياض، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق الحوارى. وقالوا في النساء البيض الحواريات والحوريات.وقد سمى- تعالى- أصفياء عيسى وأنصاره بالحواريين لأنهم أخلصوا لله- تعالى نياتهم،وطهرت سرائرهم من النفاق والغش فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص البياض.والمعنى: أن عيسى عليه السلام- لما أحس الكفر من بنى إسرائيل قال لهم من أنصارى إلى الله؟ فأجابه الحواريون الذين آمنوا به وصدقوه وباعوا نفوسهم الله- تعالى-: نحن أنصار الله الذين تبحث عنهم، ونحن الذين سنقف إلى جانبك لنصرة الحق، فقد آمنا بالله إيمانا عميقا، ونريدك أن تشهد على إيماننا هذا، وأن تشهد لنا يا عيسى بأنا مسلمون حين تشهد الرسل لأقوامهم وعليهم.فأنت ترى أن الحواريين لقوة إيمانهم وصفاء نفوسهم قد لبوا دعوة عيسى- عليه السلام- في طلب النصرة دون أن يخشوا أحدا إلا الله.وقولهم- كما حكى القرآن عنهم نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ إشعار بأنهم ما وقفوا بجانب عيسى إلا نصرة لدين الله ودفاعا عن الحق الذي أنزله على رسوله عيسى.وقولهم آمَنَّا بِاللَّهِ جملة في معنى العلة للنصرة أى نحن أنصار الله يا عيسى لأننا آمنا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه هو الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء.وقولهم وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ معطوف على آمنا والشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة فهم يطلبون من عيسى- عليه السلام- أن يكون شاهدا لهم يوم القيامة بأنهم أسلموا وجوههم الله وأخلصوا له العبادة.وأقوالهم هذه التي حكاها القرآن عنهم تدل على أنهم كانوا في الدرجة العليا من قوة الإيمان وصدق اليقين، ونقاء السريرة.
رَبَّنَاۤ اٰمَنَّا بِمَاۤ اَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُوْلَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّٰهِدِیْنَ(۵۳)
اے رب ہمارے! ہم اس پر ایمان لائے جو تو نے اتارا اور رسول کے تابع ہوئے تو ہمیں حق پر گواہی دینے والوں میں لکھ لے،
ثم حكى القرآن عنهم أنهم قالوا- أيضا- رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ على أنبيائك من كتب وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أى امتثلنا ما أتى به منك إلينا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أى: اكتبنا بفضلك ورحمتك مع الشاهدين بوحدانيتك العاملين بشريعتك المستحقين لرضاك ورحمتك.فهم قد صدروا ضراعتهم إلى الله- تعالى- بالاعتراف الكامل بربوبيته ثم أعلنوا إيمانهم به وبما أنزل على أنبيائه، ثم أقروا باتباعهم لرسوله والأخذ بسنته، ثم التمسوا منه- سبحانه- بعد ذلك أن يجعلهم من عباده الذين رضى عنهم وأرضاهم.وهذا يدل على أنهم في نهاية الأدب مع الله- تعالى- وعلى أنهم في أسمى مراتب الإيمان قال بعض العلماء: وكان عدد هؤلاء الحواريين اثنى عشر رجلا آمنوا بعيسى وصدقوه ولازموه في دعوته إلى الحق.
وَ مَكَرُوْا وَ مَكَرَ اللّٰهُؕ-وَ اللّٰهُ خَیْرُ الْمٰكِرِیْنَ۠(۵۴)
اور کافروں نے مکر کیا (ف۱۰۹) اور اللہ نے ان کے ہلاک کی خفیہ تدبیر فرمائی اور اللہ سب سے بہتر چھپی تدبیر والا ہے (ف۱۱۰)
ثم حكى- سبحانه ما كان من بنى إسرائيل فقال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ والمكر: التدبير المحكم. أو صرف غيرك عما يريده بحيلة. وهو مذموم إن تحرى به الفاعلي الشر والقبيح كما فعل اليهود مع عيسى- عليه السلام- ومحمود إن تحرى به الفاعلي الخير والجميل.والمعنى: أن أولئك اليهود الذين أحس عيسى منهم الكفر دبروا له القتل غيلة واتخذوا كل الوسائل لتنفيذ مآربهم الذميمة. فأحبط الله- تعالى- مكرهم، وأبطل تدبيرهم بأن نجى نبيه عيسى- عليه السلام- من شرورهم وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أى أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب.
اِذْ قَالَ اللّٰهُ یٰعِیْسٰۤى اِنِّیْ مُتَوَفِّیْكَ وَ رَافِعُكَ اِلَیَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا وَ جَاعِلُ الَّذِیْنَ اتَّبَعُوْكَ فَوْقَ الَّذِیْنَ كَفَرُوْۤا اِلٰى یَوْمِ الْقِیٰمَةِۚ-ثُمَّ اِلَیَّ مَرْجِعُكُمْ فَاَحْكُمُ بَیْنَكُمْ فِیْمَا كُنْتُمْ فِیْهِ تَخْتَلِفُوْنَ(۵۵)
یاد کرو جب اللہ نے فرمایا اے عیسیٰ میں تجھے پوری عمر تک پہنچاؤں گا (ف۱۱۱) اور تجھے اپنی طرف اٹھالوں گا (ف۱۱۲) اور تجھے کافروں سے پاک کردوں گا اور تیرے پیروؤں کو (ف۱۱۳) قیامت تک تیرے منکروں پر (ف۱۱۴) غلبہ دوں گا پھر تم سب میری طرف پلٹ کر آؤ گے تو میں تم میں فیصلہ فرمادوں گا جس بات میں جھگڑتے ہو،
ثم حكى- سبحانه- بعض مظاهر قدرته، ورعايته لعبده عيسى- عليه السلام- وخذلانه لأعدائه فقال- تعالى. إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ.وللعلماء في تفسير هذه الآية الكريمة أقوال كثيرة أشهرها قولان:أما القول الأول: وهو قول جمهور العلماء- فيرى أصحابه أن معنى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أى قابضك من الأرض ورافعك إلى السماء بجسدك وروحك لتستوفى حظك من الحياة هناك.وأصحاب هذا الرأى لا يفسرون التوفي بالموت وإنما يقولون: إن التوفي في اللغة معناه أخذ الشيء تاما وافيا. فمعنى مُتَوَفِّيكَ آخذك وافيا بروحك وجسدك ومعنى وَرافِعُكَ إِلَيَّ ورافعك إلى محل كرامتي في السماء فالعطف للتفسير. يقال: وفيت فلانا حقه أى أعطيته إياه وافيا فاستوفاه وتوفاه أى أخذه وافيا كاملا.قال القرطبي: «قال الحسن وابن جريج: معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل توفيت مالي من فلان أى قبضته» «1» .أما القول الثاني: وهو قول قلة من العلماء- فيرى أصحابه أن معنى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أى مميتك ورافع منزلتك وروحك إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي كما ترفع أرواح الأنبياء إليه- سبحانه-.فأنت ترى أن أصحاب هذا الرأى يفسرون التوفي بالإماتة، ويقولون إن هذا التفسير هو الظاهر من معنى التوفي ويفسرون وَرافِعُكَ إِلَيَّ بمعنى رفع الروح إلى السماء.أى أن الله- تعالى- قد توفى عيسى كما يتوفى الأنفس كلها، ورفع روحه إليه كما يرفع أرواح النبيين.والذي تسكن إليه النفس هو القول الأول لأمور:أولها: أن قوله- تعالى- في سورة النساء وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يفيد أن الرفع كان بجسم عيسى وروحه لأن الإضراب مقابل للقتل والصلب الذي أرادوه وزعموا حصوله، ولا يصح مقابلا لهما رفعه بالروح لأن الرفع بالروح يجوز أن يجتمع معهما ومادام الرفع بالروح لا يصح مقابلا لهما إذن يكون المتعين أن المقابل لهما هو الرفع بالجسد والروح.ثانيها: أن هناك أحاديث متعددة، بلغت في قوتها مبلغ التواتر المعنوي- كما يقول ابن كثير- قد وردت في شأن نزول عيسى إلى الأرض في آخر الزمان ليملأها عدلا كما ملئت جورا، وليكون حاكما بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، يقتل الدجال ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال، وتكون السجدة واحدة الله رب العالمين» .وظاهر هذا الحديث وما يشابهه من الأحاديث الصحيحة في شأن نزول عيسى، يفيد أن نزوله يكون بروحه وجسده كما رفعه الله إليه بروحه وجسده.ثالثا: أن هذا القول هو قول جمهور العلماء، وهو القول الذي يتناسب مع ما أكرم الله- تعالى- به عيسى- عليه السلام- من كرامات ومعجزات.قال بعض العلماء ما ملخصه: وجمهور العلماء على أن عيسى رفع حيا من غير موت ولا غفوة بجسده وروحه إلى السماء. والخصوصية له- عليه السلام- هي في رفعه بجسده، وبقاؤه فيها إلى الأمد المقدر له ولا يصح أن يحمل التوفي على الإماتة لأن إماتة عيسى في وقت حصار أعدائه ليس فيها ما يسوغ الامتنان بها ورفعه إلى السماء جثة هامدة سخف من القول. وقد نزه الله السماء أن تكون قبورا لجثث الموتى. وإن كان الرفع بالروح فقط فأى مزية لعيسى في ذلك على سائر الأنبياء، والسماء مستقر أرواحهم الطاهرة. فالحق أنه- عليه السلام- رفع إلى السماء حيا بجسده. وكما كان- عليه السلام- في مبدأ خلقه آية للناس ومعجزة ظاهرة، كان في نهاية أمره آية ومعجزة باهرة والمعجزات بأسرها فوق قدرة البشر ومدارك العقول، وهي من متعلقات القدرة الإلهية ومن الأدلة على صدق الرسل- عليهم الصلاة والسلام-» «1» .هذا، وقد ذكر بعض المفسرين أقوالا أخرى للعلماء في معنى هذه الآية الكريمة نرى من الخير عدم ذكرها لضعفها وخوف الإطالة «2» .ومعنى الآية الكريمة: واذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ وقت أن قال الله- تعالى- لنبيه عيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أى آخذك وافيا بروحك وجسدك من الأرض وَرافِعُكَ إِلَيَّ أى ورافعك إلى محل كرامتي في السماء لتستوفى حظك من الحياة هناك إلى أن آذن لك بالنزول إلى الأرض.وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بإبعادك عنهم، وبإنجائك مما بيتوه لك من مكر سىء وبتبرئتك مما أشاعوه عنك وعن أمك من أكاذيب وأباطيل.وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وهم المسلمون الذين آمنوا بك وصدقوك، وصدقوا بكل نبي بعثه الله- تعالى- بدون تفرقة بين أنبيائه ورسله.فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أى جاعلى هؤلاء المؤمنين فوق الذين كفروا بك وبغيرك من الرسل إلى يوم القيامة.أى فوقهم بحجتهم، وبسلامة اعتقادهم، وبقوتهم المادية والروحية إلى يوم القيامة.فالمراد بأتباع عيسى هم الذين أخلصوا الله- تعالى- عبادتهم، وأقروا بوحدانية- سبحانه- ونزهوا عيسى عن أن يكون ابن الله أو ثالث ثلاثة أو غير ذلك من الأقاويل الباطلة.والمراد بالفوقية ما يتناول الناحيتين الروحية والمادية، أى هم فوقهم بقوة إيمانهم، وحسن إدراكهم، وسلامة عقولهم، وهم فوقهم كذلك بشجاعتهم وحسن أخذهم للأسباب التي شرعها الله- تعالى- كوسائل للنصر والفوز ولذا قال صاحب الكشاف قوله: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أى يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ومتبعوه هم المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه والذين كذبوا عليه من اليهود والنصارى» .ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.أى. ثم إلى الله مرجعكم ومصيركم أيها الناس فيتولى- سبحانه- الحكم العادل بينكم فيما كنتم تختلفون فيه في دنياكم من شئون دينية أو دنيوية،
فَاَمَّا الَّذِیْنَ كَفَرُوْا فَاُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِیْدًا فِی الدُّنْیَا وَ الْاٰخِرَةِ٘-وَ مَا لَهُمْ مِّنْ نّٰصِرِیْنَ(۵۶)
تو وہ جو کافر ہوئے میں انہیں دنیاو آخرت میں سخت عذاب کروں گا، اور انکا کوئی مددگار نہ ہوگا،
ثم فصل سبحانه- هذا الحكم الذي سيحكم به على عباده يوم القيامة فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بي وبما يجب الإيمان به فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.أى فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا بإيقاع العداوة والبغضاء والحروب بينهم، وبما يشبه ذلك من هزائم وأمراض وشقاء نفس لا يعلم مقدار ألمه إلا الله- تعالى- وأما في الآخرة فيساقون إلى عذاب النار وبئس القرار.وقد أكد- سبحانه- شدة هذا العذاب بعدة تأكيدات منها نسبة العذاب إليه- سبحانه- وهو القوى القهار الغالب على كل شيء، ومنها التأكيد بالمصدر، ومنها الوصف بالشدة، ومنها الإخبار بأنه لا ناصر لهم ينصرهم من هذا العذاب الشديد في قوله- تعالى- وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أى ليس لهم من ناصر أيا كان هذا الناصر، وأيا كانت نصرته ولو كانت نصرة ضئيلة لا وزن لها ولا قيمة.هذا هو جزاء الكافرين وأما جزاء المؤمنين فقد بينه- سبحانه- بقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ.
وَ اَمَّا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا وَ عَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ فَیُوَفِّیْهِمْ اُجُوْرَهُمْؕ-وَ اللّٰهُ لَا یُحِبُّ الظّٰلِمِیْنَ(۵۷)
اور وہ جو ایمان لائے اور اچھے کام کئے اللہ ان کا نیگ (انعام) انہیں بھرپور دے گا اور ظالم اللہ کو نہیں بھاتے،
أى فسيعطيهم- سبحانه- بفضله وإحسانه بسبب إيمانهم وعملهم الصالح، أجورهم كاملة غير منقوصة، من ثواب جزيل، وجنات تجرى من تحتها الأنهار وأزواج مطهرة، ورضوان من الله أكبر من كل ذلك.ففي هذه الجملة الكريمة بشارة عظمى للمؤمنين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على طريقه.ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.أى أنه- سبحانه- عادل في أحكامه، ويكره الظلم والظالمين الذين لا يضعون الأمور في مواضعها.ومن أفحش أنواع الظلم ما يقوله أهل الكتاب على عيسى- عليه السلام- فقد زعم بعضهم أنه ابن الله، وزعم فريق آخر أنه ثالث ثلاثة وافترى عليه اليهود وعلى أمه مريم البتول المفتريات التي برأهما الله- تعالى- منها.أما الذين آمنوا فقد قالوا في عيسى وأمه قولا كريما، ولذلك كافأهم الله- تعالى- وبينت يستحقون من ثواب.وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا من فضائل عيسى- عليه السّلام- وبينت للناس جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين حتى يثوبوا إلى رشدهم ويسلكوا الطريق القويم.وبعد أن حكى الله- تعالى- في الآيات السابقة ولادة عيسى- عليه السّلام- وما أجراه على يديه من معجزات، وما أكرمه به من مكرمات، وكيف كان موقف بنى إسرائيل منه، وكيف أبطل الله مكرهم وخيب سعيهم، إذ رفعه إليه وطهره من أقوالهم الباطلة وأفعالهم الأثيمة وتوعد أعداءه بالعذاب الشديد ووعد أتباعه بالثواب الجزيل.. بعد أن حكى القرآن كل ذلك ختم حديثه عن عيسى- عليه السّلام- ببيان حقيقة تكوينه، وبإزالة وجه الغرابة في ولادته، وبتلقين النبي صلّى الله عليه وسلّم الرد الصحيح على كل مجادل في شأن عيسى- عليه السّلام- استمع إلى القرآن وهو يصور كل ذلك بأسلوبه المعجز فيقول:
ذٰلِكَ نَتْلُوْهُ عَلَیْكَ مِنَ الْاٰیٰتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِیْمِ(۵۸)
یہ ہم تم پر پڑھتے ہیں کچھ آیتیں اور حکمت والی نصیحت،
وقوله- تعالى- ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ اسم الإشارة فيه وهو «ذلك» مشار به إلى المذكور من قصة آل عمران وقصة مريم وأمها، وقصة زكريا وندائه لربه، وقصة عيسى وما أجراه الله- تعالى- على يديه من معجزات وما خصه به من كرامات.أى ذلك القصص الحكيم الذي قصصناه عليك يا محمد نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أى نقصه عليك متتابعا بعضه تلو بعض من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه. فأنت لم تكن معاصرا لهؤلاء الذين ذكرنا لك قصصهم وأحوالهم وهذا من أكبر الأدلة على صدقك فيما تبلغه عن ربك.وقوله ذلِكَ مبتدأ وقوله نَتْلُوهُ عَلَيْكَ خبره.وقوله مِنَ الْآياتِ حال من الضمير المنصوب في نَتْلُوهُ.والمراد بالآيات الحجج الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وقوله وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ أى والقرآن المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمشتمل على الحكم التي من شأنها أن تهدى الناس إلى ما يسعدهم متى اتبعوها وقيل المراد بالذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذي نقلت منه جميع الكتب المنزلة على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-
اِنَّ مَثَلَ عِیْسٰى عِنْدَ اللّٰهِ كَمَثَلِ اٰدَمَؕ-خَلَقَهٗ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهٗ كُنْ فَیَكُوْنُ(۵۹)
عیسیٰ کی کہاوت اللہ کے نزدیک آدم کی طرح ہے (ف۱۱۵) اسے مٹی سے بنایا پھر فرمایا ہوجا وہ فوراً ہوجاتا ہے،
ثم بين- سبحانه- أن خلق عيسى من غير أب ليس مستبعدا على الله- تعالى- فقد خلق آدم كذلك فقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.والمثل هنا: بمعنى الصفة والحال العجيبة الشأن، ومحل التمثيل كون كليهما قد خلق بدون أب، والشيء قد يشبه بالشيء متى اجتمعا ولو في وصف واحد.والمعنى: إن شأن عيسى وحاله الغريبة عِنْدَ اللَّهِ أى في تقديره وحكمه كَمَثَلِ آدَمَ أى كصفته وحاله العجيبة في أن كليهما قد خلقه الله- تعالى- من غير أب، ويزيد آدم على عيسى أنه خلق بدون أم- أيضا-.فالآية الكريمة ترد ردا منطقيا حكيما يهدم زعم كل من قال بألوهية المسيح أو اعتبره ابن الله.وكأن الآية الكريمة تقول لمن ادعى ألوهية عيسى لأنه خلق من غير أب: أنه إذا كان وجود عيسى بدون أب يسوغ لكم أن تجعلوه إلها أو ابن إله فأولى بذلك ثم أولى آدم لأنه خلق من غير أب ولا أم. ومادام لم يدع أحد من الناس ألوهية آدم لهذا السبب فبطل حينئذ القول بألوهية عيسى لانهيار الأساس الذي قام عليه وهو خلقه من غير أب.ولأنه إذا كان الله- تعالى- قادرا على أن يخلق إنسانا بدون أب ولا أم. فأولى ثم أولى أن يكون قادرا على خلق إنسان من غير أب فقط. ومن أم هي مريم التي تولاها- سبحانه- برعايته وصيانته لها من كل سوء وجعلها وعاء لهذا النبي الكريم عيسى- عليه السّلام-.قال صاحب الكشاف: وقوله خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم- أى للأمر الذي لأجله كان ذلك التشبيه- أى خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم وكذلك حال عيسى. فإن قلت: كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب ووجد آدم من غير أب وأم؟قلت: هو مثيله في أحد الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شبه به لأنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران. ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيم هو أغرب مما استغربه» .وقوله ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ تصوير لخلق الله- تعالى- آدم من تراب أى أراد- سبحانه- أن يوجد آدم فصوره من طين ثم قال له حين صوره كن بشرا فصار بشرا كاملا روحا وجسدا كما أمر- سبحانه-.فالجملة الكريمة تصور نفاذ قدرة الله، تصويرا بديعا يدل على أنه- سبحانه- لا يعجزه شيء في هذا الكون.وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في «يكون» دون الماضي بأن يقول «فكان» لأن التعبير بالمضارع فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت، ومن وجهة أخرى فإن صيغة المضارع في هذا المقام تنبئ عما كان، وتومئ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله- تعالى- المستمر في المستقبل كما كان في الماضي.
اَلْحَقُّ مِنْ رَّبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِّنَ الْمُمْتَرِیْنَ(۶۰)
اے سننے والے! یہ تیرے رب کی طرف سے حق ہے تو شک والوں میں نہ ہونا،
ثم بين- سبحانه- أن ما أخبر به عباده في شأن عيسى وغيره هو الحق الذي لا يحوم حوله باطل فقال- تعالى- الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.والامتراء هو الشك الذي يدفع الإنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق.وهو- كما يقول الرازي- مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا أردت حلبها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذي يجتذب عند الحلب. يقال: قد مارى فلان فلانا إذا جادله كأنه يستخرج غضبه .والمعنى: هذا الذي أخبرناك عنه يا محمد من شأن عيسى ومن شأن غيره هو الحق الثابت اليقيني الذي لا مجال للشك فيه، ومادام الأمر كذلك فاثبت على ما أنت عليه من حق،ولا تكونن من الشاكين في أى شيء مما أخبرناك به.وقد أكد- سبحانه- أن ما أوحاه إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم هو الحق بثلاثة تأكيدات:أولها: بالتعريف في كلمة الْحَقُّ أى ما أخبرناك به هو الحق الثابت الذي لا يخالطه باطل.ثانيها: بكونه من عنده- سبحانه- وكل شيء من عنده فهو صدق لا ريب فيه.ثالثها: بالنهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق، لأن من شأن الأمور الثابتة أن يتقبلها العقلاء بإذعان وتسليم وبدون جدل أو امتراء.قال الآلوسى: وقوله فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خطاب له صلّى الله عليه وسلّم ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه صلّى الله عليه وسلّم بل ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين:إحداهما: أنه صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نورا على نور.وثانيتهما: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلّى الله عليه وسلّم مع جلالته التي لا تصل إليها الأمانى- إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره؟ ففي ذلك ثبات له صلّى الله عليه وسلّم ولطف بغيره» .
فَمَنْ حَآجَّكَ فِیْهِ مِنْۢ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ اَبْنَآءَنَا وَ اَبْنَآءَكُمْ وَ نِسَآءَنَا وَ نِسَآءَكُمْ وَ اَنْفُسَنَا وَ اَنْفُسَكُمْ- ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَتَ اللّٰهِ عَلَى الْكٰذِبِیْنَ(۶۱)
پھر اے محبوب! جو تم سے عیسیٰ کے بارے میں حجت کریں بعد اس کے کہ تمہیں علم آچکا تو ان سے فرما دو آ ؤ ہم بلائیں اپنے بیٹے اور تمہارے بیٹے اور اپنی عورتیں اور تمہاری عورتیں اور اپنی جانیں اور تمہاری جانیں، پھر مباہلہ کریں تو جھوٹوں پر اللہ کی لعنت ڈالیں (ف۱۱۶)
لقد لقن الله تعالى، نبيه صلّى الله عليه وسلّم، الجواب الذي يقطع لسان المجادلين بالباطل في شأن عيسى عليه السّلام، فقال تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ.. إلخ.قال الفخر الرازي: اعلم أنه «سبحانه» بين أول هذه السورة وجوها من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد وأتبعهما بذكر الجواب على جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم أن يكون ابنا الله فكذلك لا يلزم من عدم الأب البشرى لعيسى أن يكون ابنا الله. ولما لم يبعد خلق آدم من التراب لم يبعد أيضا خلق عيسى من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى. ومن أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى-فعند ذلك- قال سبحانه- فَمَنْ حَاجَّكَ بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة .والفاء في قوله فَمَنْ حَاجَّكَ للتفريع على قوله- تعالى- الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.. وقوله مِنْ الراجح فيها أنها شرطية. وقوله حَاجَّكَ من المحاجة وهي تبادل الحجة والمجادلة بين شخص وآخر.والمعنى: فمن جادلك وخاصمك «يا محمد» من أهل الكتاب «فيه» أى في شأن عيسى- عليه السّلام- بأن زعموا أنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة أو غير ذلك من الأقاويل الكاذبة في شأنه.وقوله مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أى فمن جادلك في شأن عيسى من بعد الذي أنزلناه إليك وقصصناه عليك في أمره، فلا تبادله المجادلة، فإنه معاند لا يقنعه الدليل مهما كان واضحا، ولكن قل له ولأمثاله من الظالمين:تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ.وقوله: تَعالَوْا اسم فعل أمر لطلب القدوم. وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى «كترامي يترامى» إذا قصد العلو. فكأنهم أرادوا به في الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور.وقوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ أى نتباهل ونتلاعن. فالافتعال هنا بمعنى المفاعلة أى بأن نقول: بهلة الله على الكاذب منا ومنكم. والبهلة بفتح الباء وضمها: اللعنة. يقال بهله الله يبهله بهلا لعنه الله وأبعده من رحمته ثم شاعت في كل دعاء مجتهد فيه وإن لم يكن التعانا.والمعنى: فإن جادلك أهل الكتاب في شأن عيسى من بعد أن أخبرك ربك بما هو الحق من أمره فقل لهم تَعالَوْا أى أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه الحق من الباطل، وهو أن ندعو نحن وأنتم الأبناء والنساء ثم نجتمع جميعا في مكان واحد، ثم نتضرع إلى الله ونبتهل إليه بأن يجعل لعنته على الكاذبين في دعواهم المنحرفين عن الحق في اعتقادهم.فأنت ترى أن الآية الكريمة قد لقنت النبي صلّى الله عليه وسلّم الجواب الحاسم الذي يخرس ألسنة المجادلين في عيسى، ويتحداهم- إن كانوا صادقين- أن يقبلوا هذه المباهلة، ولكنهم نكصوا على أعقابهم فثبت كذبهم وضلالهم.وهذه الآية الكريمة تسمى بآية المباهلة، وقد ذكر العلماء أنها نزلت للرد على نصارى نجران الذين جادلوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في شأن عيسى- عليه السّلام-.قال ابن كثير ما ملخصه. وكان نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران حين قدموا المدينة فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والألوهية فأنزل صدر هذه السورة ردا عليهم.. وكانوا ستين راكبا منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم وهم: العاقب أميرهم واسمه عبد المسيح، والسيد صاحب رحلهم واسمه الأبهم، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم. وفي القصة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أتاه الخبر من الله تعالى، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم. دعاهم إلى المباهلة فقالوا:يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا.. ثم خلوا بالعاقب فقالوا. يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال.والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيّا قط، فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم.. فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، فلم يلاعنهم صلّى الله عليه وسلّم وأقرهم على خراج يؤدونه إليه.وروى الحافظ ابن مردويه عن جابر قال: قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ بيد على وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج.قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «والذي بعثني بالحق لو لاعنا لأمطر عليهم الوادي نارا» .ثم قال: وروى البخاري عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحب نجران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فو الله لئن كان نبيّا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، ثم قالا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا.. فقال: «لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين» . فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح» . فلما قام قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا أمين هذه الأمة» .وقال صاحب الكشاف: إن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء؟قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له. وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب.. وفي الآيةدليل واضح على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك» .
اِنَّ هٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّۚ-وَ مَا مِنْ اِلٰهٍ اِلَّا اللّٰهُؕ-وَ اِنَّ اللّٰهَ لَهُوَ الْعَزِیْزُ الْحَكِیْمُ(۶۲)
یہی بیشک سچا بیان ہے (ف۱۱۷) اور اللہ کے سوا کوئی معبود نہیں (ف۱۱۸) اور بیشک اللہ ہی غالب ہے حکمت والا،
ثم أكد- سبحانه- صدق ما أخبر به عن عيسى وغيره فقال: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.أى إن الذي قصصناه عليك وأخبرناك به يا محمد من شأن عيسى ومن كل شأن من الشئون لهو القصص الثابت الذي لا مجال فيه الإنكار منكر، ولا لتشكيك متشكك.وقد أكد- سبحانه- صدق هذا القصص بحرف إن وباللام في قوله لَهُوَ وبضمير الفصل «هو» وبالقصر الذي تضمنه تعريف الطرفين وذلك ليكون الرد حاسما على كل منكر ما أخبر الله به في شأن عيسى- عليه السّلام- وفي كل ما قصه على نبيه صلّى الله عليه وسلّم.وقوله وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ نفى قاطع لأن يكون هناك إله سوى الله- تعالى- وإثبات بأن الألوهية الحقة إنما هي الله رب العالمين.وقد أكد- سبحانه- نفى الألوهية عن غيره بكلمة مِنْ المفيدة لاستغراق النفي استغراقا مستمرا ثابتا مؤكدا.وقوله وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ «ما» نافية، و «إله» في قوله مِنْ إِلهٍ مبتدأ ومِنْ مزيدة فيه، وإِلَّا اللَّهُ خبره والتقدير: وما إله إلا الله، وزيدت من للاستغراق والعموم.وقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تذييل قصد به تأكيد قصر الألوهية على الله- تعالى- وحده، أى وإن الله- تعالى- لهو المنفرد بالألوهية وحده لأنه هو الغالب الذي يقهر ولا يقهر، الحكيم في كل ما يخلقه ويدبره.وفي هذا التذييل أيضا رد على أولئك الضالين الذين يزعمون أن المسيح إله ويعتقدون مع ذلك أنه صلب ولم يستطع أن يدافع عن نفسه.
فَاِنْ تَوَلَّوْا فَاِنَّ اللّٰهَ عَلِیْمٌۢ بِالْمُفْسِدِیْنَ۠(۶۳)
پھر اگر وہ منہ پھیریں تو اللہ فسادیوں کو جانتا ہے،
ثم ختم- سبحانه- تلك المحاجة بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ.أى فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات والحجج الواضحات التي أخبرناك بها وقصصناها عليك، فأنذرهم بسوء العاقبة، وأخبرهم أن الله- تعالى- عليم بهم، وبما يقولونه ويفعلونه من فساد في الأرض، وسيعاقبهم على ذلك العقاب الأليم.فقوله فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قائم مقام جواب الشرط، أى فإن تولوا فأخبرهم بأنهم مفسدون وأن لهم سوء العقبى لأن الله عليم بإفسادهم ولن يتركهم بدون عقوبة.وهذه الجملة الكريمة تتضمن في ذاتها تهديدا شديدا لهؤلاء المجادلين بالباطل في شأن عيسى- عليه السّلام- ولكل من أعرض عن الحق الذي جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن الله- تعالى- ليس غافلا عن إفساد المفسدين، وإنما يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد بينت بأسلوب معجز حكيم جانبا من قصة آل عمران فحدثتنا عما كان من امرأته أم مريم، وما قالته عند ما حملت بها، وما قالته بعد ولادتها، وما أكرم الله به مريم من رعايتها بالتربية الحسنة وبالرزق الحسن، ثم ما كان من شأن زكريا وتضرعه إلى الله أن يهبه الذرية الصالحة واستجابة الله له وتبشيره بولادة يحيى، ثم ما كان من شأن مريم وتبشيرها باصطفاء الله لها وأمرها بالمداومة على طاعته، ثم تبشيرها بعيسى وتعجبها لذلك والرد عليها بما يزيل هذا العجب، ثم ما كان من شأن عيسى- عليه السّلام- وما وصفه به من صفات كريمة، وما منحه من معجزات باهرة تشهد بصدقه في رسالته، مما جعل الحواريين يؤمنون به، أما الأكثرون من بنى إسرائيل فقد كفروا به ودبروا له المكايد فأنجاه الله من مكرهم ورفعه إليه وطهره منهم.ثم بين القرآن أن عيسى عبد الله ورسوله، وأن هذا هو الحق، وقد تحدى الرسول صلّى الله عليه وسلّم كل من نازعه في ذلك بالمباهلة ولكن المجادلين نكصوا على أعقابهم، فثبت صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عن ربه.وبذلك يكون القرآن قد بين الحق في شأن عيسى- عليه السّلام- بيانا يهدى القلوب ويقنع العقول ويحمل النفوس على التدبر والاعتبار، وإخلاص العبادة الله رب العالمين.ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء عاما إلى أهل الكتاب دعاهم فيه- في بضع آيات متوالية- إلى عبادة الله وحده، وإلى ترك المحاجة الباطلة في شأن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وإلى الإقلاع عن الكفر بآيات الله وعن تلبيس الحق بالباطل، وعن كتمان الحق مع علمهم بأنه حق..استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه النداءات داعيا أهل الكتاب إلى كلمة الحق فيقول:
قُلْ یٰۤاَهْلَ الْكِتٰبِ تَعَالَوْا اِلٰى كَلِمَةٍ سَوَآءٍۭ بَیْنَنَا وَ بَیْنَكُمْ اَلَّا نَعْبُدَ اِلَّا اللّٰهَ وَ لَا نُشْرِكَ بِهٖ شَیْــٴًـا وَّ لَا یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا اَرْبَابًا مِّنْ دُوْنِ اللّٰهِؕ-فَاِنْ تَوَلَّوْا فَقُوْلُوا اشْهَدُوْا بِاَنَّا مُسْلِمُوْنَ(۶۴)
تم فرماؤ، اے کتابیو! ایسے کلمہ کی طرف آؤ جو ہم میں تم میں یکساں ہے (ف۱۱۹) یہ کہ عبادت نہ کریں مگر خدا کی اور اس کا شریک کسی کو نہ کریں (ف۱۲۰) اور ہم میں کوئی ایک دوسرے کو رب نہ بنالے اللہ کے سوا (ف۱۲۱) پھر اگر وہ نہ مانیں تو کہہ دو تم گواہ رہو کہ ہم مسلمان ہیں،
فأنت ترى أن القرآن الكريم قد وجه إلى أهل الكتاب أربع نداءات في هذه الآيات الكريمة أما النداء الأول فقد طلب منهم فيه أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يخلصوا الله العبادة فقال قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ.والسواء: العدل والنصفة، أى قل يا محمد لأهل الكتاب: هلموا وأقبلوا إلى كلمة ذات عدل وإنصاف بيننا وبينكم.أو السواء: مصدر مستوية أى هلموا إلى كلمة لا تختلف فيها الرسل والكتب المنزلة والعقول السليمة، لأنها كلمة عادلة مستقيمة ليس فيها ميل عن الحق.ثم بين- سبحانه- هذه الكلمة العادلة المستقيمة التي هي محل اتفاق بين الأنبياء فقال:أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ أى نترك نحن وأنتم عبادة غير الله، بأن نفرده وحده بالعبادة والطاعة والإذعان.وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً أى ولا نشرك معه أحدا في العبادة والخضوع، بأن نقول: فلان إله، أو فلان ابن إله، أو أن الله ثالث ثلاثة.وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أى ولا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله.قال الآلوسى: ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدى بن حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قال: ما كنا نعبدهم يا رسول الله. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما كانوا يحلون منكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم. فقال صلّى الله عليه وسلّم هو ذاك» . قيل وإلى هذا أشار- سبحانه- بقوله:اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ .فالآية الكريمة قد نهت الناس جميعا عن عبادة غير الله، وعن أن يشرك معه في الألوهية أحد من بشر أو حجر أو غير ذلك، وعن أن يتخذ أحد من البشر في مقام الرب- عز وجل- بأن يتبع في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله أو حرمه.ولقد كانت رسالة الأنبياء جميعا متفقة في دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وقد حكى القرآن في كثير من الآيات هذا المعنى ومن ذلك قوله- تعالى-: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ . وقوله- تعالى-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ .ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين إلى ما يجب عليهم أن يقولوه إذا ما لج الجاحدون في طغيانهم فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.أى فإن أعرض هؤلاء الكفار عن دعوة الحق، وانصرفوا عن موافقتكم بسبب ما هم عليه من عناد وجحود فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم، بل قولوا لهم: اشهدوا: بأنا مسلمون مذعنون لكلمة الحق، بخلافكم أنتم فقد رضيتم بما أنتم فيه من باطل.قال صاحب الكشاف وقوله فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أى لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم. وذلك كما يقول الغالب للمغلوب في جدال وصراع أو غيرهما: اعترف بأنى أنا الغالب وسلم لي بالغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض ومعناه: اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره» .هذا وتعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التي تهدى الناس إلى طريق الحق بأسلوب منطقي رصين، ولذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكتبها في بعض رسائله التي أرسلها إلى الملوك والرؤساء ليدعوهم إلى الإسلام-.فقد جاء في كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل- ملك الروم- «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى.أما بعد: فإنى أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً إلخ الآية» .
یٰۤاَهْلَ الْكِتٰبِ لِمَ تُحَآجُّوْنَ فِیْۤ اِبْرٰهِیْمَ وَ مَاۤ اُنْزِلَتِ التَّوْرٰىةُ وَ الْاِنْجِیْلُ اِلَّا مِنْۢ بَعْدِهٖؕ-اَفَلَا تَعْقِلُوْنَ(۶۵)
اے کتاب والو! ابراہیم کے باب میں کیوں جھگڑتے ہو توریت و انجیل تو نہ اتری مگر ان کے بعد تو کیا تمہیں عقل نہیں (ف۱۲۲)
وأما النداء الثاني الذي اشتملت عليه هذه الآيات فقد تضمن نهى أهل الكتاب عن الجدال بالباطل في شأن إبراهيم- عليه السّلام- قال- تعالى- يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.قال ابن جرير: عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله فتنازعوا عنده، قالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله- تعالى- فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ .وقوله تُحَاجُّونَ من المحاجة ومعناها أن يتبادل المتخاصمان الحجة بأن يقدم كل واحد حجة ويطلب من الآخر أن يرد عليها.والمعنى: لا يسوغ لكم يا معشر اليهود والنصارى أن تجادلوا في دين إبراهيم وشريعته فيدعى بعضكم أنه كان على الديانة اليهودية، ويدعى البعض الآخر أنه كان على الديانة النصرانية، فإن التوراة والإنجيل ما نزلا إلا من بعده بأزمان طويلة، فكيف يكون يهوديا يدين بالتوراة مع أنها ما نزلت إلا من بعده، أو كيف يكون نصرانيا يدين بالإنجيل مع أنه ما نزل إلا من بعده، بآلاف السنين؟ إن هذه المحاجة منكم في شأن إبراهيم ظاهرة البطلان واضحة الفساد.وقوله أَفَلا تَعْقِلُونَ أى أفلا تعقلون يا أهل الكتاب هذا الأمر البديهي وهو أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا للشيء المتأخر عنه؟فالاستفهام لتوبيخهم وتجهيلهم في دعواهم أن إبراهيم- عليه السّلام- كان يهوديا أو نصرانيا.
هٰۤاَنْتُمْ هٰۤؤُلَآءِ حَاجَجْتُمْ فِیْمَا لَكُمْ بِهٖ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَآجُّوْنَ فِیْمَا لَیْسَ لَكُمْ بِهٖ عِلْمٌؕ-وَ اللّٰهُ یَعْلَمُ وَ اَنْتُمْ لَا تَعْلَمُوْنَ(۶۶)
سنتے ہو یہ جو تم ہو (ف۱۲۳) اس میں جھگڑے جس کا تمہیں علم تھا (ف۱۲۴) تو اس میں (ف۱۲۵) کیوں جھگڑتے ہو جس کا تمہیں علم ہی نہیں اور اللہ جانتا ہے اور تم نہیں جانتے (ف۱۲۶)
ثم بين- سبحانه- مظهرا آخر من مظاهر مخالفة أهل الكتاب لمقتضيات العقول السليمة وهو أنهم يجادلون في أمر ليس عندهم أسباب العلم به فقال- تعالى- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ.والمعنى: أنتم يا معشر أهل الكتاب جادلتم وبادلتم الحجة- سواء أكانت صحيحة أم فاسدة في أمر لكم به علم في الجملة، كجدالكم فيما وجدتموه في كتبكم من أمر موسى وعيسى- عليهما السلام- أو كجدالكم فيما جاء في التوراة والإنجيل من أحكام، ولكن كيف أبحتم لأنفسكم أن تجادلوا في أمر ليس لكم به علم أصلا، وهو جدالكم في دين إبراهيم وشريعته؟لأنه من البديهي أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا إذ وجوده سابق على وجودهما بأزمان طويلة.وإذن فجدالكم في شأن إبراهيم هو لون من ألوان جهلكم ومخالفتكم لكل ما تقتضيه العقول السليمة، والنفوس المستقيمة.وقوله- تعالى- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ ها حرف تنبيه، وأنتم مبتدأ، وهؤلاء منادى بحرف نداء محذوف حاجَجْتُمْ خبر المبتدأ أنتم. والتقدير: أنتم يا هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم.ويرى صاحب الكشاف أن قوله أَنْتُمْ مبتدأ وهؤُلاءِ خبره. وحاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى. والمعنى: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم «فيما لكم به علم» مما نطق به التوراة والإنجيل. فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ولا ذكر له. في كتابيكم من دين إبراهيم.. ومعنى الاستفهام التعجب من حماقتهم» .وتكرير هاء التنبيه في قوله ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ يشعر بغرابة ما هم عليه من جهل، ومجافاته لكل منطق سليم.قال الرازي: وقوله ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يحتمل أنه لم يصفهم بالعلم حقيقة وإنما أراد أنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به البتة» .وقوله- تعالى- وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تذييل قصد به تأكيد علم الله الشامل، ونفى العلم عن أهل الكتاب في شأن إبراهيم.أى والله- تعالى- يعلم حال إبراهيم ودينه، ويعلم كل شيء في هذا الوجود، وأنتم لا تعلمون ذلك
مَا كَانَ اِبْرٰهِیْمُ یَهُوْدِیًّا وَّ لَا نَصْرَانِیًّا وَّ لٰكِنْ كَانَ حَنِیْفًا مُّسْلِمًاؕ-وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِیْنَ(۶۷)
ابراہیم نہ یہودی تھے نہ نصرانی بلکہ ہر باطل سے جدا مسلمان تھے، اور مشرکوں سے نہ تھے (ف۱۲۷)
ثم صرح- سبحانه- ببراءة إبراهيم من كل دين يخالف دين الإسلام فقال- تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.وقوله حَنِيفاً من الحنف وهو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، بعكس الجنف فهو ميل عن الاستقامة إلى الضلال ويقال: تحنف الرجل أى تحرى طريق الاستقامة.أى: ما كان إبراهيم- عليه السّلام- في يوم من الأيام يهوديا كما قال اليهود، ولا نصرانيا كما قال النصارى ولكنه كان حنيفا أى مائلا عن العقائد الزائفة متحريا طريق الاستقامة وكان «مسلما» أى مستسلما الله- تعالى- منقادا له مخلصا له العبادة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يشركون مع الله آلهة أخرى بأن يقولوا إن الله ثالث ثلاثة، أو يقولوا عزير ابن الله أو المسيح ابن الله أو غير ذلك من الأقوال الباطلة والأفعال الفاسدة.ففي هذه الآية الكريمة تنويه بشأن إبراهيم، وتعريض بأولئك الكافرين من أهل الكتاب الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا بأنهم هم المشركون بخلاف إبراهيم فقد كان مبرأ من ذلك.أخرج الامام مسلم والترمذي وأبو داود عن أنس رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا خير البرية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاك إبراهيم عليه السّلام» .
اِنَّ اَوْلَى النَّاسِ بِاِبْرٰهِیْمَ لَلَّذِیْنَ اتَّبَعُوْهُ وَ هٰذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِیْنَ اٰمَنُوْاؕ-وَ اللّٰهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِیْنَ(۶۸)
بیشک سب لوگوں سے ابراہیم کے زیادہ حق دار وہ تھے جو ان کے پیرو ہوئے (ف۱۲۸) اور یہ نبی (ف۱۲۹) اور ایمان والے (ف۱۳۰) اور ایمان والوں کا ولی اللہ ہے،
ثم أصدر- سبحانه- حكمه الحاسم العادل في هذه القضية التي كثر الجدل فيها فقال:إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.وقوله- تعالى- أَوْلَى أفعل تفضيل من الولي وهو القرب.والمعنى: إن أقرب الناس من إبراهيم، وأخصهم به، وأحقهم بالانتساب إليه أصناف ثلاثة:أولهم: بينه الله بقوله لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أى الذين أجابوا دعوته في حياته واتبعوا دينه وشريعته بعد مماته.وقد أكد الله- تعالى- حكمه هذا بحرف إِنَّ وبأفعل التفضيل أَوْلَى وباللام في قوله لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ليرد على أقاويل أهل الكتاب ومفترياتهم حيث زعموا أنه كان يهوديا أو نصرانيا.وثانى هذه الأصناف: بينه- سبحانه- بقوله وَهذَا النَّبِيُّ والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم الداعي إلى التوحيد الذي دعا إليه إبراهيم.والجملة الكريمة من عطف الخاص على العام للاهتمام به. وللإشعار بأنه صلّى الله عليه وسلّم قد تلقى الهداية من السماء كما تلقاها إبراهيم- عليه السّلام- وثالث هذه الأصناف: بينه الله- تعالى- بقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا أى: والذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم واتبعوه.وفي هذا تنويه بشأن الأمة الإسلامية، وتقرير بأن أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم أحق بالانتساب إلى إبراهيم من أهل الكتاب لأن المؤمنين طلبوا الحق وآمنوا به، أما أهل الكتاب فقد باعوا دينهم بدنياهم، وتركوا الحق جريا وراء شهواتهم.وقوله وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تذييل مقصود به تبشير المؤمنين بأن الله- تعالى- هو ناصرهم ومتولى أمورهم.قال ابن كثير عند تفسيره لهذا الآية: يقول الله- تعالى- إن أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. فعن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن لكل نبي ولاية من النبيين، وإن وليي منهم أبى خليل ربي عز وجل إبراهيم عليه السّلام. ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ الآية .
وَدَّتْ طَّآىٕفَةٌ مِّنْ اَهْلِ الْكِتٰبِ لَوْ یُضِلُّوْنَكُمْؕ-وَ مَا یُضِلُّوْنَ اِلَّاۤ اَنْفُسَهُمْ وَ مَا یَشْعُرُوْنَ(۶۹)
کتابیوں کا ایک گروہ دل سے چاہتا ہے کہ کسی طرح تمہیں گمراہ کردیں، اور وہ اپنے ہی آپ کو گمراہ کرتے ہیں اور انہیں شعور نہیں (ف۱۳۱)
ثم حكى- سبحانه- أن بعض أهل الكتاب لا يكتفون بما هم فيه من ضلال، بل يحاولون أن يضلوا غيرهم فقال- تعالى- وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ.وقوله- تعالى- وَدَّتْ من الود وهو محبة الشيء وتمنى حصوله ووقوعه.أى تمنت وأحبت جماعة من أهل الكتاب إضلالكم وإهلاككم عن الحق- أيها المؤمنون- وذلك بأن ترجعوا عن دين الإسلام الذي هداكم الله إليه، إلى دين الكفر الذي يعتنقه أولئك الكافرون من أهل الكتاب.ولم يقف بغى بعض أهل الكتاب وحسدهم عند هذا التمني، بل تجاوزوه إلى إلقاء الشبهات حول دين الإسلام، وإلى محاولة صرف بعض المسلمين عن دينهم.قال القرطبي: نزلت هذه الآية- في معاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، حين دعاهم اليهود من بنى النضير وقريظة وبنى قينقاع إلى اليهودية .والمراد بالطائفة رؤساء أهل الكتاب وأحبارهم ومن للتبعيض وهي مع مجرورها في محل رفع نعت لطائفة.ولَوْ في قوله لَوْ يُضِلُّونَكُمْ مصدرية أى ودت طائفة من أهل الكتاب إضلالكم.وقوله وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ جملة حالية.أى: والحال أنهم ما يضلون أى ما يهلكون إلا أنفسهم بسبب غوايتهم واستيلاء الأهواء على قلوبهم، وإبثارهم العمى على الهدى ولكنهم لا يشعرون بذلك ولا يفطنون له، لأنهم قد زين لهم الشيطان سوء عملهم فرأوه حسنا.
یٰۤاَهْلَ الْكِتٰبِ لِمَ تَكْفُرُوْنَ بِاٰیٰتِ اللّٰهِ وَ اَنْتُمْ تَشْهَدُوْنَ(۷۰)
اے کتابیو! اللہ کی آیتوں سے کیوں کفر کرتے ہو حالانکہ تم خود گواہی ہو (ف۱۳۲)
وأما النداء الثالث الذي اشتملت عليه هذه الآيات فهو قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.أى: لماذا تكفرون بآيات الله- تعالى- التي يتلوها عليكم نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم والحال أنكم تعلمون صدقها وصحتها علما يقينيا كعلم المشاهدة والعيان، وتعرفون أنه نبي حقا كما تعرفون أبناءكم.والاستفهام في قوله لِمَ تَكْفُرُونَ لتوبيخهم والتعجيب من شأنهم، وإنكار ما هم عليه من كفر بآيات الله مع علمهم بصدقها.وفي هذا النداء إشارة إلى أن ما أعطوه من علم كان يقتضى منهم أن يسارعوا إلى الإيمان لا أن يكفروا بآيات الله الدالة على صدق نبيه صلّى الله عليه وسلّم والتي تتناول القرآن الكريم، والحجج والمعجزات التي جاءهم بها صلّى الله عليه وسلّم.
یٰۤاَهْلَ الْكِتٰبِ لِمَ تَلْبِسُوْنَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ تَكْتُمُوْنَ الْحَقَّ وَ اَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ۠(۷۱)
اے کتابیو! حق میں باطل کیوں ملاتے ہو (ف۱۳۳) اور حق کیوں چھپاتے ہو حالانکہ تمہیں خبر ہے،
ثم وجه إليهم- سبحانه- نداء رابعا نهاهم فيه عن الخلط بين الحق والباطل وعن كتمان الحق بعد أن نهاهم قبل ذلك عن الكفر بالآيات فقال- تعالى-: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.وقوله: تَلْبِسُونَ أى تخلطون من اللبس- بفتح اللام- أى الخلط وفعله لبس من باب ضرب.تقول: لبست عليه الأمر ألبسه إذا مزجت بينه بمشكله وحقه بباطله في ستر وخفاء.أى: يا أهل الكتب لماذا تخلطون الحق الواضح الذي نطقت به الكتب السماوية، وأيدته العقول السليمة، بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم إرضاء لأهوائكم؟ ولماذا تكتمون الحق الذي تعرفونه كما تعرفون أبناءكم بغية انصراف الناس عنه، لأن من جهل شيئا عاداه.وفي تكرير النداء والاستفهام زيادة في توبيخهم ولإنكار ما هم عليه، والتعجيب من شأنهم، ذلك لأنهم جمعوا أفحش أنواع الرذائل التي على رأسها كفرهم بآيات الله وخلطهم الحق بالباطل وكتمان الحق عمن يريده.ولدعاة الضلالة طريقتان في إغواء الناس.إحداهما: طريقة خلط الحق بالباطل حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر وهي المشار إليها بقوله- تعالى لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ.والثانية: طريقة جحد الحق وإخفائه حتى لا يظهر، وهي المشار إليها بقوله- تعالى-:وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ.وقد استعمل أهل الكتاب الطريقتين لصرف الناس عن الإسلام فقد كان بعضهم يؤول نصوص كتبهم الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم تأويلا فاسدا يخلط فيه الحق بالباطل ليوهموا العامة أنه ليس هو النبي المنتظر، وكان بعضهم يلقى حول الحق شبها ليوقع ضعفاء الإيمان في حيرة وتردد، وكان بعضهم يخفى أو يحذف النصوص الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم أو التي لا توافق أهواءهم.وقوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية. أى وأنتم تعلمون أن ما أخفيتموه وما لبستموه هو الحق، أو وأنتم من ذوى العلم ولا يناسب من كان كذلك أن يكتم الحق ويخلطه بالباطل، وإذا كان هذا الفعل يعد من كبائر الذنوب حتى ولو وقع من شخص عادى فإن وقعه يكون أقبح وفساده أكبر وعاقبته أشأم متى صدر من عالم فاهم يميز بين الحق والباطل.قال أبو حيان: وهذه الحال وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهى عن اللبس والكتم، إلا أنها لا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل إذ الجاهل بحال الشيء لا يدرى كونه حقا أو باطلا. وإنما فائدتها بيان أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل وبعد هذه النداءات المتكررة لأهل الكتاب، والحجج الباهرة التي ساقها لهم على صحة هذا الدين والتوبيخات المتعددة التي وبخهم بها لانصرافهم عن الحق ومحاولتهم صرف غيرهم عنه بعد كل ذلك، أخذ القرآن في سرد بعض المسالك الخبيثة التي سلكها اليهود لكيد الإسلام والمسلمين فبدأ ببيان مسلك لئيم من مسالكهم الكثيرة، وهو أن بعضهم كان يظهر الإيمان لفترة من الوقت ثم يرجع عنه إلى الكفر، ليوهم ضعاف العقول أنه ما رجع عن الإسلام إلا بعد أن دخله فوجده دينا ليس بشيء- في زعمه- استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك لكي يطلع أتباعه على مسالك اليهود ومكرهم حتى يحذروهم، فيقول:
وَ قَالَتْ طَّآىٕفَةٌ مِّنْ اَهْلِ الْكِتٰبِ اٰمِنُوْا بِالَّذِیْۤ اُنْزِلَ عَلَى الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا وَجْهَ النَّهَارِ وَ اكْفُرُوْۤا اٰخِرَهٗ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُوْنَۚۖ(۷۲)
اور کتابیوں کا ایک گروہ بولا (ف۱۳۴) وہ جو ایمان والوں پر اترا (ف۱۳۵) صبح کو اس پر ایمان لاؤ اور شام کو منکر ہوجاؤ شاید وہ پھر جائیں (ف۱۳۶)
فأنت إذا تأملت في هذه الآيات الكريمة تراها قد حكت عن طائفة من أهل الكتاب طريقة ماكرة لئيمة، هي تظاهرهم بالإسلام لفترة من الوقت ليحسن الظن بهم من ليس خبيرا بمكرهم وخداعهم، حتى إذا ما اطمأن الناس إليهم جاهروا بكفرهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه، ليوهموا حديثي العهد بالإسلام أو ضعاف الإيمان، أنهم قوم يبحثون عن الحقيقة، وأنهم ليس عندهم أى عداء للنبي صلّى الله عليه وسلّم بل إن الذي حصل منهم هو أنهم بعد دخولهم في الإسلام وجدوه دينا باطلا وأنهم ما عادوا إلى دينهم القديم إلا بعد الفحص والاختبار وإمعان النظر في دين الإسلام.ولا شك أن هذه الطريقة التي سلكها بعض اليهود لصرف بعض المسلمين عن الإسلام من أقوى ما تفتق عنه تدبيرهم الشيطاني، لأن إعلانهم الكفر بعد الإسلام، وبعد إظهارهم الإيمان به، من شأنه أن يدخل الشك في القلوب ويوقع ضعاف الإيمان في حيرة واضطراب، خاصة وأن العرب- في مجموعهم- قوم أميون ومنهم من كان يعتقد أن اليهود أعرف منهم بمسائل العقيدة والدين. فيظن أنهم ما ارتدوا عن الإسلام إلا بعد اطلاعهم على نقص في تعاليمه.والمتتبع لمراحل التاريخ قديما وحديثا يرى أن الدهاة في السياسة والحرب يتخذ هذه الخدعة ذريعة لإشاعة الخلل والاضطراب في صفوف أعدائه.قال الأستاذ الشيخ محمد عبده- رحمه الله: «هذا النوع الذي تحكيه الآيات من صد اليهود عن الإسلام مبنى على قاعدة طبيعية في البشر، وهي أن من علامة الحق أن لا يرجع عنه من يعرفه. وقد فقه هذا، هرقل، ملك الروم، فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شئون النبي صلّى الله عليه وسلّم أن قال له: «هل يرتد أحد من أتباع محمد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان:لا. وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا: لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، واطلعوا على بواطنه وخوافيه، إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته، ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب» .هذا، وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة روايات متعددة كلها تدور حول المعنى الذي قررناه.ومن هذه الروايات ما أخرجه ابن جرير عن قتادة قال في قوله- تعالى- وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا.. ألخ قال بعض أهل الكتاب لبعض: «أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار، واكفروا آخره فإنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أنكم قد رأيتم ما تكرهونه في دينهم، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم» .وعن السدى: كان- هؤلاء- أحبار قرى عربية، اثنى عشر حبرا، فقالوا لبعضهم:ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: نشهد أن محمدا حق صادق. فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدثونا أن محمدا كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكون، يقولون:هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم؟ فأخبر الله- عز وجل- رسوله صلّى الله عليه وسلّم بذلك» .والمعنى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أى: فيما بينهم ليلبسوا على الضعفاء أمر دينهم آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ أى قال بعضهم لبعض: نافقوا وأظهروا التصديق بالإسلام وبنبيه- صلّى الله عليه وسلّم- وبما أنزل عليه وعلى أصحابه من قرآن وَجْهَ النَّهارِ أى في أول النهار.وسمى أول النهار وجها، لأنه أول ما يواجهك منه، وأول وقت ظهوره ووضوحه.وقوله وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ معطوف على آمِنُوا.أى: آمنوا في أول النهار واكفروا في آخره، بأن تعودوا إلى اليهودية، أملا في أن ينخدع بحيلتكم هذه بعض المسلمين، فيشكوا في دينهم، ويعودوا إلى الكفر بعد دخولهم في الإسلام.وقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ كشف عن مقصدهم الخبيث، وهو ابتغاؤهم رجوع بعض المؤمنين عن دينهم الحق إلى ما كانوا عليه من باطل.قال الفخر الرازي: «والفائدة في إخبار الله- تعالى- عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه:الأول: أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم، وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا.الثاني: أنه- تعالى- لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف.الثالث: أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس» .
وَ لَا تُؤْمِنُوْۤا اِلَّا لِمَنْ تَبِـعَ دِیْنَكُمْؕ-قُلْ اِنَّ الْهُدٰى هُدَى اللّٰهِۙ-اَنْ یُّؤْتٰۤى اَحَدٌ مِّثْلَ مَاۤ اُوْتِیْتُمْ اَوْ یُحَآجُّوْكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْؕ-قُلْ اِنَّ الْفَضْلَ بِیَدِ اللّٰهِۚ-یُؤْتِیْهِ مَنْ یَّشَآءُؕ-وَ اللّٰهُ وَاسِعٌ عَلِیْمٌۚۙ(۷۳)
اور یقین نہ لاؤ مگر اس کا جو تمہارے دین کا پیرو ہو تم فرمادو کہ اللہ ہی کی ہدایت ہدایت ہے (ف۱۳۷) (یقین کا ہے کا نہ لاؤ) اس کا کہ کسی کو ملے (ف۱۳۸) جیسا تمہیں ملا یا کوئی تم پر حجت لاسکے تمہارے رب کے پاس (ف۱۳۹) تم فرمادو کہ فضل تو اللہ ہی کے ہاتھ ہے جسے چاہے دے، اور اللہ وسعت والا علم والا ہے،
ثم حكى- سبحانه- لونا من عصبيتهم وتعاونهم على الإثم والعدوان فقال تعالى:وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ.وقوله- سبحانه- حكاية عنهم وَلا تُؤْمِنُوا معطوف على قوله- تعالى- في الآية السابقة آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ.وقد فسر بعضهم وَلا تُؤْمِنُوا بمعنى ولا تقروا، أو ولا تعترفوا فتكون اللام في قوله إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أصلية.وعليه يكون المعنى: أن بعض اليهود قد قالوا لبعض: أظهروا إسلامكم أول النهار واكفروا آخره، لعل هذا العمل منكم يحمل بعض المسلمين على أن يتركوا دينهم الإسلام، ويعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ولم يكتفوا بهذا القول بل قالوا أيضا على سبيل المكر والخديعة،ولا تقروا ولا تعترفوا بأن أحدا من المسلمين أو من غيرهم يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة والفضائل، أو بأن أحدا في قدرته أن يحاججكم أى يبادلكم الحجة عند ربكم يوم القيامة، ولا تقروا ولا تعترفوا بشيء من ذلك «إلا لمن تبع دينكم» أى إلا لمن كان على ملتكم اليهودية دون غيرها.فالمستثنى منه على هذا التفسير محذوف، والتقدير: ولا تؤمنوا أى تقروا وتعترفوا لأحد من الناس بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم أو بأن أحدا يحاججكم عند ربكم إلا لمن تبع دينكم، لأن إقراركم بذلك أمام المسلمين أو غيرهم ممن هو على غير ملتكم سيؤدي إلى ضعفكم وإلى قوة المسلمين.فهم على هذا التفسير يعلمون ويعتقدون بأن المؤمنين قد أوتوا مثلهم من الدين والفضائل عن طريق محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، ولكنهم لشدة حسدهم وبغضهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأتباعه، قد تواصوا فيما بينهم بأن يكتموا هذا العلم وتلك المعرفة، ولا يظهروا ذلك إلا فيما بينهم، وصدق الله إذ يقول في شأنهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره للآية بهذا الوجه فقال: «قوله وَلا تُؤْمِنُوا متعلق بقوله: أَنْ يُؤْتى وما بينهما اعتراض، أى: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا: أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عطف على أن يؤتى. والضمير في يحاجوكم لأحد، لأنه في معنى الجمع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة ويغالبونكم عند الله- تعالى بالحجة» .هذا هو الوجه الأول في تفسير الآية الكريمة.وهناك وجه آخر يرى أصحابه أن قوله- تعالى- وَلا تُؤْمِنُوا بمعنى ولا تصدقوا أو ولا تعتقدوا، فتكون اللام في قوله لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ زائدة للتقوية.فيصير المعنى على هذا الوجه: أن بعض اليهود قد قالوا لبعض: أظهروا الإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل عملكم هذا يجعل بعض المسلمين يترك دينه ويعود إلى الكفر الذي كان عليه لا تصدقوا أن أحدا من البشر يؤتى مثل ما أوتيتم يا بنى إسرائيل من الكتاب والنبوة، أو أن أحدا في قدرته أن يحاججكم عند ربكم فأنتم الأعلون في الدنيا والآخرة وأنتم الذين لا تخرج النبوة من بينكم إلى العرب، وما دام الأمر كذلك فلا تتبعوا إلا نبيّا منكم يقرر شرائع التوراة، أما من جاء بتغيير شيء من أحكامها أو كان من غير بنى إسرائيل كمحمد صلّى الله عليه وسلّم فلا تصدقوه.فالمستثنى منه على هذا الوجه هو قوله «أحد» المذكور في الآية، والمستثنى هو قوله إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ.والتقدير: ولا تصدقوا أن أحدا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم أو يمكنه أن يحاججكم عند ربكم إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أى إلا من كان على ملتكم اليهودية، أما أن يكون من غيركم كهذا النبي العربي فلا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، لأنهما- في زعمهم- حكر على بنى إسرائيل.فهم على هذا الوجه من التفسير يزعمون أنهم غير مصدقين ولا معتقدين بأن المسلمين قد أوتوا كتابا ودينا وفضائل مثل ما أوتوا هم أى اليهود، ويرون أنفسهم- لغرورهم وانطماس بصيرتهم- أنهم أهدى سبيلا من كل من سواهم من البشر.وعلى كل من الوجهين يكون قوله- تعالى- أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ مفعول به لتؤمنوا.والتقدير: ولا تصدقوا أو ولا تقروا لأحد بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم أو بأن أحدا يحاججكم عند ربكم.وعلى كل من الوجهين- أيضا- يكون قوله- تعالى-: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وقوله أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ حكاية من الله- تعالى- لما تواصى به بعض اليهود فيما بينهم من أقوال خبيثة، وأفكار ماكرة.ويكون قوله- تعالى- قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ كلاما معترضا بين أقوالهم ساقه الله- تعالى- للمسارعة بالرد على أقوالهم الذميمة حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ويزدادوا هم رجسا إلى رجسهم، وينكشف ما أضمروه وما بيتوه للمؤمنين من سوء وحقد.أى قل لهم يا محمد إن هداية الله- تعالى- ملك له وحده، وهو الذي يهبها لمن يشاء من عباده، فهي ليست حكرا على أحد، ولا أمرا مقصورا على قوم دون قوم، وإذا كانت النبوة قد ظلت فترة من الزمان في بنى إسرائيل، فالله- تعالى- قادر على أن يسلبها منهم لأنهم لم يشكروه عليها وأن يجعلها في محمد العربي صلّى الله عليه وسلّم لأنه أهل لها وهو- سبحانه- أعلم حيث يجعل رسالته.هذا، ويرى بعض المفسرين أن أقوال اليهود التي حكاها القرآن عنهم قد انتهت بنهاية قوله- تعالى- وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وأما قوله- تعالى- قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْفهو من كلام الله- تعالى- وقد ساقه- سبحانه- للرد عليهم.فيكون المعنى عليه: أن بعض اليهود قد قال لبعض: أظهروا إسلامكم أول النهار واكفروا آخره لعل بعض المسلمين يرجع عن دينه بسبب فعلكم هذا، ولا تعترفوا بفعلكم هذا إلا لأهل دينكم من اليهود حتى يبقى عملكم هذا سرا له أثره في بلبلة أفكار المسلمين ورجوع بعضهم عن الإسلام.وهنا يأمر الله- تعالى- نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالرد عليهم وبالكشف عن مكرهم فيقول: قل لهم يا محمد إن الهدى هدى الله، أى إن هداية الله ملك له وحده فهو الذي يهدى من يشاء وهو الذي يضل من يشاء، وقد هدانا- سبحانه- إلى الإسلام وارتضيناه دينا لنا ولن نرجع عنه.وقل لهم كذلك على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم: أمخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة: أو مخافة أن يحاججكم المسلمون عند ربكم يوم القيامة حيث آمنوا بالحق وأنتم كفرتم به، أمخافة ذلك دبرتم ما دبرتم من هذه الأقوال السيئة والأفعال الخبيثة؟ لا شك أنه لم يحملكم على ذلك المنكر السيئ إلا الحسد لمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولقومه وزعمكم أنكم أفضل منهم لأنكم- كما تدعون- أبناء الله وأحباؤه فدفعكم ذلك كله إلى كراهية دينه والكيد لأتباعه.قالوا: ويؤيد هذا الوجه من التفسير للآية قراءة ابن كثير «أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم..» .بهمزتين أولاهما للاستفهام الذي قصد به التوبيخ والإنكار، والثانية هي همزة أن المصدرية.وقد أشار إلى هذا الوجه الفخر الرازي فقال ما ملخصه: «واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة ... ويحتمل أن يكون قوله- تعالى- أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ من كلام الله- تعالى- فقد قرأ ابن كثير «آن يؤتى أحد ... » بمد الألف على الاستفهام، ويكون الاستفهام للتوبيخ كقوله- تعالى- أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ. إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع تنكرون اتباعه، ثم حذف الجواب للاختصار، وهذا الحذف كثير.يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه. وبعد كثرة إحسانه إليه: أمن قلة إحسانى إليك؟.والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت» .ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم مرة ثانية حتى يبطل مزاعمهم ويفضحهم على رؤس الأشهاد فقال: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أى قل لهم يا محمد: إن الفضل- الذي يتناول النبوة وغيرها من نعم الله على عباده- هذا الفضل وذلك العطاء بيد الله- تعالى- وحده، وهو- سبحانه- المتفضل به على من يشاء التفضل عليه من عباده، وإذا كان- سبحانه- قد جعل النبوة في بنى إسرائيل لفترة من الزمان، فذلك بفضل منه ورحمته، وإذا كان قد سلبها عنهم لأنهم لم يرعوها حق رعايتها وجعلها في هذا النبي العربي فذلك- أيضا- بفضله ورحمته، وهو- سبحانه- أعلم حيث يجعل رسالته، وهو- سبحانه- صاحب الاختيار المطلق في أن يؤتى فضله لمن يشاء من عباده. وهو- سبحانه واسِعٌ الرحمة والفضل عَلِيمٌ بمن يستحقهما وبمن لا يستحقهما.
یَّخْتَصُّ بِرَحْمَتِهٖ مَنْ یَّشَآءُؕ-وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیْمِ(۷۴)
اپنی رحمت سے (ف۱۴۰) خاص کرتا ہے جسے چاہے (ف۱۴۱) اور اللہ بڑے فضل والا ہے،
ثم قال- تعالى- يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أى يختص بالنبوة وما يترتب عليها من الهداية والنعم من يشاء من عباده.وقوله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ أى هو- سبحانه- صاحب الجود العميم والفضل العظيم، فلا عظمة تساوى عظمة فضل الله- تعالى- على خلقه، وإنما هو وحده صاحب النعم التي لا تحصى على عباده، فعليهم أن يشكروه وأن يفردوه بالعبادة والخضوع.وبذلك تكون الآيات الكريمة قد كشفت عن مسلك من مسالك اليهود الماكرة التي أرادوا من ورائها كيد الإسلام والمسلمين، وفي هذا الكشف تنبيه للمسلمين إلى ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء من شرور وآثام حتى يحذروهم.ثم حكى القرآن لونا آخر من ألوان مزاعم اليهود الباطلة، وأقاويلهم الكاذبة، وهو دعواهم أنهم ليس عليهم في الأميين سبيل، أى أن كل من كان على غير ملتهم فإنه مهدور الحقوق، ثم رد عليهم بما يدحض مزاعمهم ويثبت أنهم ليسوا أهلا لاختصاصهم بالنبوة والرحمة فقال تعالى:
وَ مِنْ اَهْلِ الْكِتٰبِ مَنْ اِنْ تَاْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ یُّؤَدِّهٖۤ اِلَیْكَۚ-وَ مِنْهُمْ مَّنْ اِنْ تَاْمَنْهُ بِدِیْنَارٍ لَّا یُؤَدِّهٖۤ اِلَیْكَ اِلَّا مَا دُمْتَ عَلَیْهِ قَآىٕمًاؕ-ذٰلِكَ بِاَنَّهُمْ قَالُوْا لَیْسَ عَلَیْنَا فِی الْاُمِّیّٖنَ سَبِیْلٌۚ-وَ یَقُوْلُوْنَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ یَعْلَمُوْنَ(۷۵)
اور کتابیوں میں کوئی وہ ہے کہ اگر تو اس کے پاس ایک ڈھیر امانت رکھے تو وہ تجھے ادا کردے گا (ف۱۴۲) اور ان میں کوئی وہ ہے کہ اگر ایک اشرفی اس کے پاس امانت رکھے تو وہ تجھے پھیر کر نہ دے گا مگر جب تک تو اس کے سر پر کھڑا رہے (ف۱۴۳) یہ اس لئے کہ وہ کہتے ہیں کہ اَن پڑھوں (ف۱۴۴) کے معاملہ میں ہم پر کوئی مؤاخذہ نہیں اور اللہ پر جان بوجھ کر جھوٹ باندھتے ہیں(ف۱۴۵)
قال الإمام الرازي: اعلم أن تعلق هذه الآية- وهي قوله- ومن أهل الكتاب ... بما قبلها من وجهين:الأول: أنه- تعالى- حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية ما لم يؤت أحد غيرهم مثله، ثم إنه- تعالى- بين أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان وهم مصرون عليها فدل هذا على كذبهم.والثاني: أنه- تعالى- لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا (لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس، وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير.قال ابن عباس: أودع رجل عند عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداها إليه.وأودع رجل آخر عند فنحاص بن عازوراء اليهودي دينارا فخانه فنزلت الآية .والمعنى: إن من أهل الكتاب فريقا إن تأتمنه على الكثير والنفيس من الأموال يؤده إليك عند طلبه كاملا غير منقوص، وإن منهم فريقا آخر إن تأتمنه على القليل والحقير من حطام الدنيا يستحله ويجحده ولا يؤديه إليك إلا إذا داوم صاحب الحق على المطالبة بحقه واستعمل كل الوسائل في الحصول عليه.فالآية الكريمة قد مدحت من يستحق المدح من أهل الكتاب وهو الفريق الذي استجاب للحق وآمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كعبد الله بن سلام وأمثاله من مؤمنى أهل الكتاب. وذمت من يستحق الذم منهم وهو الفريق الذي لا يؤدى الأمانة، ولم يستجب للحق، بل استمر على كفره وجحوده، وهذا القسم يمثل أكثرية أهل الكتاب.والمراد من ذكر القنطار والدينار هنا العدد الكثير والعدد القليل. أى أن منهم من هو في غاية الأمانة حتى أنه لو اؤتمن على الأموال الكثيرة لأداها، ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى أنه لو أؤتمن على الشيء القليل لجحده.وقوله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً استثناء من أعم الأحوال أو الأوقات. أى لا يؤده إليك في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال أو في وقت مداومتك على طلبه، والإلحاح في ذلك، واستعمال كل الوسائل للوصول إلى حقك.قال الجمل: و «دمت» هذه هي الناقصة، ترفع وتنصب، وشرط إعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية: إذ التقدير إلا مدة دوامك. وأصل هذه المادة للدلالة على الثبوت والسكون. يقال: دام الماء، أى سكن. وفي الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» أى الذي لا يجرى.. ومنه دام الشيء إذا امتد عليه زمان. ودامت الشمس إذا وقفت في كبد السماء وقوله عَلَيْهِ متعلق بقوله قائِماً والمراد بالقيام الملازمة، لأن الأغلب أن المطالب يقوم على رأس المطالب، ثم جعل عبارة عن الملازمة وإن لم يكن ثمة قيام .قال ابن جرير: فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله بذلك نبيه صلّى الله عليه وسلّم وقد علمت أن الناس لم يزالوا كذلك، منهم المؤدى أمانته ومنهم الخائن لها؟ قيل: إنما أراد- عز وجل- بإخباره المؤمنين خبرهم على ما بينه في كتابه بهذه الآية، تحذير المؤمنين من أن يأتمنوهم على أموالهم، وتخويفهم من الاغترار بهم، لاستحلال كثير منهم أموال المؤمنين .ثم حكى- سبحانه- بعض الأسباب التي جعلتهم يبررون خيانتهم وجحودهم لحقوق غيرهم فقال- تعالى-: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.وقوله ذلِكَ إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله- سبحانه- لا يُؤَدِّهِ.والمراد بالأميين: العرب، خصوصا من آمن منهم، وسمى العرب بالأميين نسبة إلى الأم، وذلك لغلبة الأمية عليهم لكأن الواحد منهم قد بقي على الحالة التي ولدتهم عليها أمهاتهم من عدم القراءة والكتابة.والسبيل: المراد به: الحجة الملزمة والحرج. وأصله الطريق، ثم أطلق على الحجة باعتبارها طريقا ووسيلة للإلزام وتحمل التبعات.أى: ذلك الامتناع عن الوفاء بالعهود، وجحود الأمانات والحقوق من الفريق الخائن. سببه زعمهم الباطل أنهم ليس عليهم حرج أو إثم أو تبعة في استحلال أموال العرب الأميين واستلابها منهم بأية طريقة، لأن الأميين ليسوا على ملتهم.واليهود يزعمون أن كتابهم يحل لهم قتل من خالفهم، كما يحل لهم أخذا ما له بأى وسيلة.وهذا الخلق الذميم معرق في اليهود، لأن أنانيتهم جعلتهم يحرفون كتبهم على حسب ما تهوى نفوسهم، فقد كانت التوراة تحرم الربا تحريما مطلقا فتقول: «لا تأخذ ربا من أخيك إذا أقرضته» فحرف اليهود هذا النص: إذ زادوا فيه كلمة الإسرائيلى فأصبح النص هكذا «لا تأخذ ربا من أخيك الإسرائيلى إذا أقرضته» وبذلك أصبحوا يحرمون الربا عند تعاملهم مع أنفسهم ويحلونه عند تعاملهم مع غيرهم، لأنهم لا يشعرون بالأخوة الإنسانية العامة.قال الآلوسى: أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن بيوعهم فقال اليهود: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.وقال الكلبي: قالت اليهود: «الأموال كلها كانت لنا، فما في أيدى العرب منها فهو لنا، وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم» .وقوله- تعالى- وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ رد عليهم فيما قالوه من أنهم ليس عليهم في الأميين سبيل، وتكذيب لهم فيما زعموه، لأن قولهم هذا ما أنزل الله به من سلطان، ولا يؤيده عقل سليم، إذ المبادئ الخلقية الفاضلة يجب أن تطبق على جميع الناس بدون تفرقة بينهم.والمعنى: أن هؤلاء اليهود الذين يجحدون الأمانات متذرعين بقولهم لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، يفترون على الله الكذب في قولهم هذا، وهم يعلمون أنه كاذبون، لأنهم ليس عندهم في كتبهم نص يبيح لهم استحلال أموال العرب وخيانتهم، وإنما الذي تأمرهم به كتبهم هو أداء الأمانة لمستحقيها بالمعروف.وقوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ جملة حالية من الضمير في يَقُولُونَ ومفعول العلم محذوف اقتصارا، أى وهم من ذوى العلم. أو اختصارا، أى يعلمون كذبهم وافتراءهم.ولقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحاديث متعددة أن الأمانة يجب أن تؤدى إلى البار والفاجر، ومن ذلك ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنه قال: لما نزلت: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ الآية. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كذب أعداء الله!! ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البار والفاجر» .ولقد سار أتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم على مبدأ أداء الأمانة، وعدم أخذ شيء من أموال الغير إلا بوجه مشروع.قال ابن كثير: «قال عبد الرازق: أنبأنا معمر عن أبى إسحاق الهمدانى عن أبى صعصعة بن يزيد. أن رجلا سأل ابن عباس: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة: الدجاجة والشاة.قال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس. قال ابن عباس: هذا كما قال أهل الكتاب لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم» .
بَلٰى مَنْ اَوْفٰى بِعَهْدِهٖ وَ اتَّقٰى فَاِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ الْمُتَّقِیْنَ(۷۶)
ہاں کیوں نہیں جس نے اپنا عہد پورا کیا اور پرہیزگاری کی اور بیشک پرہیزگار اللہ کو خوش آتے ہیں،
ثم أكد الله- تعالى- كذب هؤلاء اليهود الذين قالوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ بجملة أخرى فيها الرد الذي يخرس ألسنتهم، ويدحض مزاعمهم فقال- تعالى-: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.وبَلى حرف يذكر في الجواب لإثبات المنفي في كلام سابق، ولقد حكى القرآن قبل ذلك أن اليهود قد نفوا أن يكون عليهم في الأميين سبيل. فجاء- سبحانه- بهذا الرد الذي يثبت ما نفوه. ويبطل ما زعموه.والمعنى: ليس الأمر كما زعمتم أيها اليهود من أنه ليس عليكم في الأميين سبيل، بل الحق أن عليكم فيهم سبيل. وأنكم معذبون بسبب كفركم واستحلالكم لأموالهم بدون حق ومثابون إن آمنتم بالله ورسوله ووفيتم بعهودكم، وصنتم أنفسكم من كل ما يغضب الله- تعالى-.وقد علل- سبحانه- هذا الحكم العادل بجملة مستأنفة عامة فقال: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.أى كل من أوفى بعهد الله فآمن بنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم واستقام على دينه، واتقى ما نهى الله عنه من ترك الخيانة والغدر وما إلى ذلك من المحرمات، فإن الله يحبه ويرضى عنه، ومن لم يفعل ذلك فإن الله يبغضه ولا يحبه ويعذبه العذاب الأليم.وبذلك تكون الآية الكريمة قد بينت أن محبة الله لعبده تتوفر بأمرين:أولهما: الوفاء بالعهد. فكل ما يلتزمه الإنسان من عهود فالوفاء بها واجب. وفي مقدمة هذه العهود، العهد الذي أخذه الله على عباده بتوحيده والإيمان برسله وعلى رأسهم محمد صلّى الله عليه وسلّم.وثانيهما: تقوى الله بمعنى أن يجتنب ما نهى الله عنه وحرمه عليه، ولا يفعل إلا ما أحله الله وأذن له فيه.وقد خلا اليهود من هذين الأمرين، لأنهم لم يفوا بعهودهم، ولم يتقوا الله، فسلبت عنهم محبته، واستحقوا غضبه- سبحانه- ونقمته.قال صاحب الكشاف: قوله- تعالى- بَلى إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أى بلى عليهم سبيل فيهم. وقوله مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى جملة مستأنفة مقررة للجملة التي سدّت بَلى مسدها. والضمير في بِعَهْدِهِ راجع إلى مَنْ أَوْفى على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله بأن ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه.فإن قلت: فهذا عام يخيل أنه لو وفي أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله.قلت: أجل، لأنهم إذا وفوا بالعهود، وفوا أول شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم.ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه، ويجوز أن يرجع الضمير في «بعهده» إلى الله، على أن كل من وفي بعهد الله واتقاه فإن الله يحبه ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من لصالحات، وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء.فإن قلت: فأين الضمير الراجع من الجزاء إلى من؟ قلت: عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير» .وبهذا يكون القرآن قد كشف عن مكر اليهود وخداعهم، ورد عليهم فيما افتروه من أقوال باطلة، وأثبت أنهم يكذبون فيما يدعون عن تعمد وإصرار، وبين أن أداء الأمانة واجب على كل إنسان، وأن كل من وفي بعهود الله واتقاه فهو أهل لمحبته ورضاه.ثم توعد الله- تعالى- الذين يخونون العهود، ويحلفون كذبا بالعذاب الأليم، ونعى على فريق من اليهود تحريفهم للكلم عن مواضعه، وأنذرهم بسوء المصير فقال- تعالى-:
اِنَّ الَّذِیْنَ یَشْتَرُوْنَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ اَیْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِیْلًا اُولٰٓىٕكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِی الْاٰخِرَةِ وَ لَا یُكَلِّمُهُمُ اللّٰهُ وَ لَا یَنْظُرُ اِلَیْهِمْ یَوْمَ الْقِیٰمَةِ وَ لَا یُزَكِّیْهِمْ۪-وَ لَهُمْ عَذَابٌ اَلِیْمٌ(۷۷)
جو اللہ کے عہد اور اپنی قسموں کے بدلے ذلیل دام لیتے ہیں (ف۱۴۶) آخرت میں ان کا کچھ حصہ نہیں اور اللہ نہ ان سے بات کرے نہ ان کی طرف نظر فرمائے قیامت کے دن اور نہ انہیں پاک کرے، اور ان کے لئے دردناک عذاب ہے (ف۱۴۷)
روى المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الآية روايات منها:ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقى الله وهو عليه غضبان» قال عبد الله. ثم قرأ علينا رسول الله مصداقه من كتاب الله، إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إلخ.وفي رواية قال: «من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله- تعالى- تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. قال عبد الله:فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا: كذا وكذا. فقال: صدق. في نزلت، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: شاهداك أو يمينه؟ قلت: إنه إذا يحلف ولا يبالى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان» ، ونزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ .وروى البخاري عن عبد الله بن أوفى أن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ .وقال الفخر الرازي: قال عكرمة إنها نزلت في أحبار اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا» .هذه ثلاث روايات في سبب نزول تلك الآية الكريمة، وأرجحها رواية الشيخين، ولذا وجب الأخذ بها إلا أن نزول الآية في قصة معينة لا يمنع شمول حكمها لكل ما يشبه هذه القصة أو الحادثة، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب- كما يرى جمهور العلماء-.فكل من حلف بالله كاذبا، واشترى بعهده- سبحانه- ثمنا قليلا حقت عليه العقوبة التي بينتها الآية الكريمة. ويدخل تحت هذه العقوبة دخولا أوليا أولئك اليهود الذين خانوا عهد الله بإنكارهم لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم مع أنهم يعرفون صدقه معرفة جليلة.والمراد بقوله يَشْتَرُونَ أى يستبدلون، وذلك لأن المشترى يأخذ شيئا ويعطى شيئا. فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر.والمراد بِعَهْدِ اللَّهِ كل ما يجب الوفاء به، فيدخل فيه ما أوجبه الله- تعالى- على عباده من فرائض وتكاليف، ومن إيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كما يدخل فيه- أيضا- ما أوجبه الله على أهل الكتاب من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يجدون نعته في كتبهم، ويعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم.والباء في قوله- تعالى-: بِعَهْدِ اللَّهِ داخلة على المتروك الذي تركوه وأخذوا في مقابله الثمن القليل.وقوله وَأَيْمانِهِمْ معطوف على عهد الله.والمراد بأيمانهم تلك: الأيمان الكاذبة التي يحلفونها ليؤكدوا ما يريدون تأكيده من أقوال أو أفعال.والمراد بالثمن القليل: حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو المال والمنافع الزائلة، التي أخذوها نظير تركهم لعهود الله، وحلفهم الكاذب.وليس وصف الثمن بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل نظير خيانة عهود الله تحقيرا له، إذ أنه لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب رضا الله والوفاء بعهوده.وقوله أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أى الذين يخونون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في مقابل عرض من أعراض الدنيا، لا نصيب لهم ولا حظ من نعيم الآخرة بسبب ما ارتكبوه من غدر وافتراء.وقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ أى لا يكلمهم بما يسرهم بل يكلمهم بما يسوؤهم ويخزيهم يوم القيامة بسبب أعمالهم السيئة.أو أن عدم كلام الله- تعالى- لهم: كناية عن عدم محبته لهم، لأن من عادة المحب أن يقبل على حبيبه ويتحدث إليه، أما المبغض لشيء، فإنه ينصرف عنه.وإلى هذا المعنى ذهب الإمام الرازي فقد قال ما ملخصه: «وقوله- تعالى- وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ فيه سؤال وهو أنه- تعالى- قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فكيف الجمع بين الآية التي معنا وبين قوله لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ والجواب: أن المقصود من كل هذه الكلمات: بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه، فإنما ذلك بسخط عليه، وإذا سخط إنسان على آخر قال له: لا أكلمك، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول: لا أرى وجه فلان، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب نعوذ بالله منه.وهذا هو الجواب الصحيح» وقوله وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أى لا يعطف عليهم ولا يرحمهم ولا يحسن إليهم، وذلك كما يقول القائل لغيره: انظر إلى، يريد: ارحمني واعطف على.ويقال: فلان لا ينظر إلى فلان، والمراد من ذلك نفى الإحسان إليه وترك الاعتداد به، فقد جرت العادة بأن من اعتد بإنسان وعطف عليه التفت إليه.قالوا: فلهذا السبب صار المراد بعدم نظر الله- تعالى- إلى هؤلاء الخائنين عبارة عن ترك العطف عليهم والإحسان إليهم والرحمة بهم.ولا يجوز أن يكون المراد من عدم النظر إليهم، عدم رؤيتهم، لأنه- سبحانه- يراهم كما يرى غيرهم من خلقه.وقوله- تعالى- وَلا يُزَكِّيهِمْ أى أنه- سبحانه- لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وأوزارهم بالمغفرة، بل يعاقبهم عليها. أو أنه- سبحانه- لا يثنى عليهم كما يثنى على الصالحين من عباده، بل يسخط عليهم وينتقم منهم جزاء غدرهم.ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان النتيجة المترتبة على هذا الغضب منه عليهم، فقال: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.أى ولهم عذاب مؤلم موجع بسبب ما ارتكبوه من آثام وسيئات.فأنت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا بأنهم لا حظ لهم من نعيم الآخرة، وأنهم ليسوا أهلا لرضا الله ورحمته وإحسانه، وأنهم سينالون العذاب المؤلم الموجع بسبب ما قدمت أيديهم.
وَ اِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِیْقًا یَّلْوٗنَ اَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتٰبِ لِتَحْسَبُوْهُ مِنَ الْكِتٰبِ وَ مَا هُوَ مِنَ الْكِتٰبِۚ-وَ یَقُوْلُوْنَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ وَ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِۚ-وَ یَقُوْلُوْنَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ یَعْلَمُوْنَ(۷۸)
اور ان میں کچھ وہ ہیں جو زبان پھیر کر کتاب میں میل (ملاوٹ) کرتے ہیں کہ تم سمجھو یہ بھی کتاب میں ہے اور وہ کتاب میں نہیں، اور وہ کہتے ہیں یہ اللہ کے پاس سے ہے اور وہ اللہ کے پاس سے نہیں، اور اللہ پر دیدہ و دانستہ جھوٹ باندھتے ہیں (ف۱۴۸)
ثم بين- سبحانه- بعض الرذائل التي صدرت عن فريق من أهل الكتاب فقال- تعالى-:وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ والضمير في قوله- تعالى- مِنْهُمْ يعود إلى أهل الكتاب الذين ذكر القرآن طرفا من رذائلهم ومسالكهم الخبيثة فيما سبق.قال الفخر الرازي: اعلم أن هذه الآية وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً تدل على أن الآية المتقدمة وهي قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ نازلة في اليهود بلا شك، لأن هذه الآية نازلة في حق اليهود وهي معطوفة على ما قبلها، فهذا يقتضى كون تلك الآية المتقدمة نازلة في اليهود أيضا «1» .وقال ابن كثير: يخبر- سبحانه- عن اليهود- عليهم لعائن الله- أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله، ويزيلونه عن المراد ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك وينسبونه إلى الله. وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله» .وقوله يَلْوُونَ مأخوذ من اللى. وأصل اللى الميل يقال: لوى بيده ولوى برأسه إذا أماله.والتوى الشيء إذا انحرف ومال عن الاستقامة إلى الاعوجاج والمعنى: «وإن من هؤلاء اليهود الذين كتموا الحق واشتروا بعهد الله وبأيمانهم ثمنا قليلا. إن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب» أى يعمدون إلى كتاب الله فينطقون ببعض ألفاظه نطقا مائلا محرفا يتغير به المعنى من الوجه الصحيح الذي يفيده ظاهر اللفظ إلى معنى آخر سقيم لا يدل عليه اللفظ ولكنه يوافق أهواءهم ونواياهم السيئة، ومقاصدهم الذميمة.وذلك كأن ينطقوا بكلمة راعِنا نطقا ملتويا يوافق في لغتهم كلمة قبيحة يقصدون بها الإساءة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد نهى الله- تعالى- المؤمنين عن مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمثال هذه الألفاظ حتى لا يتخذها اليهود ذريعة للإساءة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وكأن ينطقوا بكلمة «السلام عليكم» بقولهم: «السام عليكم» بحذف اللام يعنون الموت عليكم لأن السام معناه الموت.وكأن يغيروا لفظا من كتابهم فيه ما يشهد بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظ آخر، أو يؤولوا المعاني تأويلا فاسدا، وقد وبخهم الله- تعالى- على هذا التحريف في كثير من آيات القرآن الكريم، ومن ذلك قوله- تعالى- أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وقوله- تعالى- مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا .وقوله- تعالى- وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً إنصاف منه- سبحانه- للفريق الذي لم يرتكب هذا الفعل الشنيع وهو تحريف كلامه- عز وجل- وتلك عادة القرآن في أحكامه لا يظلم أحدا ولكنه يمدح من يستحق المدح ويذم من يستحق الذم.وقوله يَلْوُونَ صفة لقوله لَفَرِيقاً.والباء في قوله بِالْكِتابِ بمعنى «في» مع حذف المضاف. أى وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم في حال قراءتهم للكتاب، إما بحذف حروف يتغير المعنى بحذفها، أو بزيادة تفسد المعنى، أو بغير ذلك من وجوه التغيير والتبديل.وقوله- تعالى- لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ بيان للدوافع السيئة التي دفعتهم إلى ارتكاب هذا التحريف الذميم.والضمير المنصوب في قوله لِتَحْسَبُوهُ وكذلك ضمير الغائب هُوَ: يعودان إلى الكلام المحرف الذي لووا به ألسنتهم والمدلول عليه بقوله يَلْوُونَ.أى إن من هؤلاء اليهود فريقا يلوون ألسنتهم في نطقهم بالكتاب ويحرفونه عن وجهه الصحيح، لتظنوا أيها المسلمون أن هذا المحرف الذي لووا به ألسنتهم من كتاب الله الذي أنزله على أنبيائه، والحق بأن هذا المحرف ليس من كتاب الله في شيء، وإنما هو من عند أنفسهم نطقوا به زورا وبهتانا إرضاء لأهوائهم. وقوله مِنَ الْكِتابِ هو المفعول الثاني لقوله لِتَحْسَبُوهُ.والمخاطب بقوله لِتَحْسَبُوهُ هم المسلمون وقال وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ بتكرار لفظ الكتاب، ولم يقل وما هو منه، للتنبيه على أن كتاب الله المنزل على موسى وعيسى- عليهما السلام- برىء كل البراءة من تحريفهم وتبديلهم، ومما يزعمونه ويفترونه عليه. ثم بين- سبحانه- أنهم قد بلغت بهم الجرأة في الكذب والافتراء أنهم نسبوا هذا الذي حرفوه وغيروه من كتبهم إلى الله- تعالى- فقال: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.أى أن هؤلاء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب ليوهموا غيرهم بأن هذا المحرف من الكتاب، لا يكتفون بهذا التحريف، بل يقولون هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أى هذا المحرف هو نزل من عند الله هكذا، لم ننقص منه حرفا ولم نزد عليه حرفا، والحق أن هذا المحرف ليس من عند الله ولكنهم قوم ضالون يقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنهم كاذبون.ففي هذه الجملة الكريمة بيان لإصرارهم على الباطل، ولتعمدهم الكذب على الله، وتوبيخ لهم على هذا الافتراء العجيب. وقد أكد الله جرأتهم في النطق بالزور والبهتان بمؤكدات منها:أن كذبهم لم يكن تعريضا وإنما كان في غاية الصراحة، فهم يقولون عن المحرف هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.وأن كذبهم لم يكن على البشر فحسب وإنما على الله الذي خلقهم والذي يعلم ما يسرون وما يعلنون وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.وأن كذبهم لم يكن عن جهل أو عن نسيان وإنما عن علم وإصرار على هذا الكذب، وهذا ما يشهد به قوله- تعالى- وَهُمْ يَعْلَمُونَ.وهكذا القلوب إذا فسدت، واستولى عليها الحسد والجحود، ارتكبت كل رذيلة ومنكر بدون تفكر في العواقب، أو تدبر لما جاءت به الشرائع، وأمرت به العقول السليمة.وفي هذه الآية ترى أن لفظ الجلالة اللَّهُ قد تكرر ثلاث مرات، كذلك لفظ الْكِتابَ تكرر ثلاث مرات، ولم يكتف بالضمير الذي يدل عليهما، وذلك لقصد الاهتمام باسم الله- تعالى- وباسم كتابه، وبالخبر المتعلق بهما، ولأن من عادة العرب أنهم إذا عظموا شيئا أعادوا ذكره، وقد جاء ذلك كثيرا في أشعارهم، ومنه قول الشاعر:لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرافقصد الشاعر من تكرار لفظ الموت تفخيم شأنه وتهويل أمره.وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد توعد الذين يشترون بعهد الله وبأيمانهم ثمنا قليلا بأشد ألوان الوعيد، وكشف عن لون آخر من ألوان مكر بعض اليهود، وعن جرأتهم في النطق بالكذب عن تعمد وإصرار، حتى يحذرهم المسلمون.ثم نزه الله- تعالى- أنبياءه- عليهم الصلاة والسّلام- وعلى رأسهم محمد صلّى الله عليه وسلّم عن أن يطلبوا من الناس أن يعبدوهم، عقب تنزيهه- سبحانه- لذاته عما تقوله المفترون فقال- تعالى-:
مَا كَانَ لِبَشَرٍ اَنْ یُّؤْتِیَهُ اللّٰهُ الْكِتٰبَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ یَقُوْلَ لِلنَّاسِ كُوْنُوْا عِبَادًا لِّیْ مِنْ دُوْنِ اللّٰهِ وَ لٰكِنْ كُوْنُوْا رَبّٰنِیّٖنَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُوْنَ الْكِتٰبَ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُوْنَۙ(۷۹)
کسی آدمی کا یہ حق نہیں کہ اللہ اسے کتاب اور حکم و پیغمبری دے (ف۱۴۹) پھر وہ لوگوں سے کہے کہ اللہ کو چھوڑ کر میرے بندے ہوجاؤ (ف۱۵۰) ہاں یہ کہے گا کہ اللہ والے (ف۱۵۱) ہوجاؤ اس سبب سے کہ تم کتاب سکھاتے ہو اور اس سے کہ تم درس کرتے ہو(ف۱۵۲)
قال ابن كثير: «عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل نصراني من أهل نجران يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ - أو كما قال- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك أمرنى ولا بذلك بعثني. - أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم- فأنزل الله في ذلك قوله- تعالى-: ما كانَ لِبَشَرٍ إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.فقوله- تعالى- ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ رد على أولئك الجاهلين الذين زعموا أن بعض النبيين يصح له أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون الله والمعنى: لا يصح ولا ينبغي ولا يستقيم عقلا لبشر آتاه الله- تعالى- وأعطاه الْكِتابَ الناطق بالحق، الآمر بالتوحيد، الناهي عن الإشراك، وآتاه الْحُكْمَ أى العلم النافع والعمل به، وآتاه النُّبُوَّةَ أى الرسالة التي يبلغها عنه- سبحانه- إلى الناس، ليدعوهم إلى عبادته وحده، وإلى مكارم الأخلاق، لا يصح له ولا ينبغي بعد كل هذه النعم أن يكفرها ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ بعد هذا العطاء العظيم الذي وهبه الله له كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أى: لا ينبغي ولا يعقل من بشر آتاه الله كل هذه النعم أن يقول للناس هذا القول الشنيع وهو كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ لأن الأنبياء الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة يحجزهم خوفهم من الله، وإخلاصهم له، عن أن يقولوا هذا القول المنكر، كما يحجزهم عنه- أيضا- ما امتازوا به من نفوس طاهرة، وقلوب نقية، وعقول سليمة ... لأنهم لو فرض أنهم قالوا ذلك لأخذهم الله- تعالى- أخذ عزيز مقتدر فهو- سبحانه- القائل:وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ.والتعبير بقوله- تعالى-: ما كانَ لِبَشَرٍ تعبير قرآنى بليغ، إذ يفيد نفى الشأن وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسل الكرام- عليهم الصلاة والسلام- وشبيه بهذا التعبير قوله- تعالى-: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً.وجاء العطف بثم في قوله ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ للإشعار بالتفاوت العظيم بين ما أعطاه الله- تعالى- لأنبيائه من نعم، وبين هذا القول المنكر الذي نفاه- سبحانه- عنهم، وهو أن يقولوا للناس: اجعلوا عبادتكم لنا ولا تجعلوها الله- تعالى- ثم بين- سبحانه- ما يصح للأنبياء أن يقولوه للناس فقال- تعالى-: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ.وقوله رَبَّانِيِّينَ جمع رباني نسبة إلى الرب- عز وجل- بزيادة الألف والنون سماعا للمبالغة كما يقال في غليظ الرقبة رقبانى وللعظيم اللحية: لحياني.والمراد بالربانى: الإنسان الذي أخلص الله- تعالى- في عبادته، وراقبه في كل أقواله وأفعاله، واتقاه حق التقوى، وجمع بين العلم النافع والعمل به، وقضى حياته في تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم.والمعنى: لا يصح لبشر آتاه الله ما آتاه من النعم أن يقول للناس اعبدوني من دون الله، ولكن الذي يعقل أن يصدر منه هو أن يقول لهم: كونوا رَبَّانِيِّينَ أى مقبلين على طاعة الله- تعالى- وعبادته وحده بجد ونشاط وإخلاص، بسبب كونكم تعلمون غيركم الكتاب الذي أنزله الله لهداية الناس وبسبب كونكم دارسين له، أى قارئين له بتمهل وتدبر.وقوله- تعالى- وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ استدراك قصد به إثبات ما ينبغي للرسل أن يقولوه. بعد أن نفى عنهم ما لا ينبغي لهم أن ينطقوا به، أى: لا ينبغي لبشر آتاه الله نعما لا تحصى أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، ولكن الذي ينبغي له أن يقوله لهم هو قوله: كونوا ربانيين أى مخلصين له- سبحانه- العبادة إخلاصا تاما.ففي الجملة الكريمة إضمار، والتقدير: «ولكن يقول لهم كونوا ربانيين» فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، ونظيره قوله- تعالى- فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ أى فيقال لهم: أكفرتم، والباء في قوله بِما كُنْتُمْ للسببية. وما مصدرية أى بسبب كونكم معلمين الكتاب وبسبب كونكم دارسين له.وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع «تعلمون» بإسكان العين وفتح اللام- من العلم أى بسبب كونكم عالمين بالكتاب ودارسين له.قال الرازي: دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا، فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله، وكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع» .
وَ لَا یَاْمُرَكُمْ اَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلٰٓىٕكَةَ وَ النَّبِیّٖنَ اَرْبَابًاؕ-اَیَاْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ اِذْ اَنْتُمْ مُّسْلِمُوْنَ۠(۸۰)
اور نہ تمہیں یہ حکم دے گا (ف۱۵۳) کہ فرشتوں اور پیغمبروں کو خدا ٹھیرالو، کیا تمہیں کفر کا حکم دے گا بعد اس کے کہ تم مسلمان ہولیے (ف۱۵۴)
وقوله- تعالى- وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً تأكيد لنفى أن يقول أحد من البشر الذين أتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة للناس اعبدوني من دون الله، وتنزيه لساحتهم عن أن يأمروهم بعبادة غير الله.وقوله وَلا يَأْمُرَكُمْ وردت فيه قراءتان مشهورتان.أما القراءة الأولى فبفتح الراء عطفا على يَقُولَ في قوله ثُمَّ يَقُولَ وتكون «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله ما كانَ لِبَشَرٍ ويكون في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب.والمعنى على هذه القراءة: ما كان لبشر أن يؤتيه الله ما ذكر ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، أو يأمرهم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، وذلك كقولك ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي. وبهذه القراءة قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم.وعلى هذه القراءة يكون توسيط الاستدراك بين المعطوف والمعطوف عليه، للمسارعة إلى تحقيق الحق، ولبيان ما يليق بشأنه ويحق صدوره عنه.وأما القراءة الثانية فقد قرأها الباقون برفع الراء في يَأْمُرَكُمْ فتكون الجملة مستأنفة، والمعنى: ولا يأمركم هذا البشر الذي أعطاه الله ما أعطاه من نعمة أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا.وخصص الملائكة والنبيين بالذكر لأن عبادتهما قد شاعت عند كثير من الناس، فقد وقع في عبادة الملائكة «الصابئة» الذين كانوا يقيمون في بلاد الكلدان، وتبعهم بعض المشركين من العرب. ووقع في عبادة بعض النبيين كثير من النصارى فقد اتخذوا المسيح إلها يعبد وزعموه ابن الله وكثير من اليهود عبدوا عزيزا وزعموه ابن الله.والاستفهام في قوله أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ للإنكار الذي بمعنى النفي.أى: أن الرسل الكرام لا يمكن أن يأمروا الناس بالكفر بالله بعد أن هداهم الله- تعالى- عن طريق هؤلاء الرسل إلى أن يكونوا مسلمين.فالجملة الكريمة تأكيد بأبلغ وجه لنفى أن يأمر الرسل الناس بعبادة غير الله، وتنزيه لساحتهم عن أن يقولوا قولا أو يأمروا بأمر يخالف ما تلقوه عن الله- تعالى- من إفراده بالعبادة والطاعة والخضوع.قال بعضهم: وإذا كان ما ذكر في الآيتين لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى، ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته. ثم قال: وذلك أن القوم- يعنى أهل الكتاب- كان يعبد بعضهم بعضا كما قال- تعالى- اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.فالجهلة من الأحبار والرهبان يدخلون في هذا الذم، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين، فإنهم إنما يأمرون بما أمر الله به، وينهون عما نهى الله- تعالى- عنه، ولذلك سعدوا وفازوا»وبعد أن نزه- سبحانه- الأنبياء عن أن يقولوا قولا أو يأمروا بأمر لم يأذن به الله، أتبع ذلك ببيان الميثاق الذي أخذه الله- تعالى- عليهم، فقال- سبحانه-:
- English | Ahmed Ali
- Urdu | Ahmed Raza Khan
- Turkish | Ali-Bulaç
- German | Bubenheim Elyas
- Chinese | Chineese
- Spanish | Cortes
- Dutch | Dutch
- Portuguese | El-Hayek
- English | English
- Urdu | Fateh Muhammad Jalandhry
- French | French
- Hausa | Hausa
- Indonesian | Indonesian-Bahasa
- Italian | Italian
- Korean | Korean
- Malay | Malay
- Russian | Russian
- Tamil | Tamil
- Thai | Thai
- Farsi | مکارم شیرازی
- العربية | التفسير الميسر
- العربية | تفسير الجلالين
- العربية | تفسير السعدي
- العربية | تفسير ابن كثير
- العربية | تفسير الوسيط لطنطاوي
- العربية | تفسير البغوي
- العربية | تفسير القرطبي
- العربية | تفسير الطبري
- English | Arberry
- English | Yusuf Ali
- Dutch | Keyzer
- Dutch | Leemhuis
- Dutch | Siregar
- Urdu | Sirat ul Jinan