READ

Surah Aal Imraan

اٰلِ عِمْرَان
200 Ayaat    مدنیۃ


3:81
وَ اِذْ اَخَذَ اللّٰهُ مِیْثَاقَ النَّبِیّٖنَ لَمَاۤ اٰتَیْتُكُمْ مِّنْ كِتٰبٍ وَّ حِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُوْلٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهٖ وَ لَتَنْصُرُنَّهٗؕ-قَالَ ءَاَقْرَرْتُمْ وَ اَخَذْتُمْ عَلٰى ذٰلِكُمْ اِصْرِیْؕ-قَالُوْۤا اَقْرَرْنَاؕ-قَالَ فَاشْهَدُوْا وَ اَنَا مَعَكُمْ مِّنَ الشّٰهِدِیْنَ(۸۱)
اور یاد کرو جب اللہ نے پیغمبروں سے ان کا عہد لیا (ف۱۵۵) جو میں تم کو کتاب اور حکمت دوں پھر تشریف لائے تمہارے پاس وہ رسول (ف۱۵۶) کہ تمہاری کتابوں کی تصدیق فرمائے (ف۱۵۷) تو تم ضرور ضرور اس پر ایمان لانا اور ضرور ضرور اس کی مدد کرنا، فرمایا کیوں تم نے اقرار کیا اور اس پر میرا بھاری ذمہ لیا ؟ سب نے عرض کی، ہم نے اقرار کیا، فرمایا تو ایک دوسرے پر گواہ ہوجاؤ اور میں آپ تمہارے ساتھ گواہوں میں ہوں،

قوله- تعالى- وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الظرف «إذ» منصوب بفعل مقدر تقديره اذكر، والخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يصلح للخطاب.والميثاق: هو العقد المؤكد بيمين.أى: اذكر يا محمد أو أيها المخاطب وقت أن أخذ الله الميثاق من النبيين.وللمفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة أقوال أشهرها قولان:أولهما: وهو رأى جمهور العلماء- أن المراد أن الله- تعالى- أخذ الميثاق من النبيين.وثانيهما: وهو رأى بعض العلماء- أن المراد أن الأنبياء هم الذين أخذوا الميثاق من غيرهم.والمعنى على رأى فريق من أصحاب القول الأول- منهم الحسن والسدى وسعيد بن جبير-:أن الله- تعالى- أخذ الميثاق من النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتى بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه فإن لم يدركه يأمر قومه بنصرته إن أدركوه. فأخذ- سبحانه- الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا- وإذا كان هذا حكم الأنبياء، كانت الأمم بذلك أولى وأحرى.والمعنى على رأى فريق آخر من أصحاب هذا القول منهم على وابن عباس وقتادة: أن الله- تعالى- أخذ الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إذا أدركوه، وأن يأمروا أقوامهم بالإيمان به.قالوا: يؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن على بن أبى طالب قال: لم يبعث الله نبيّا: آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وسلّم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه. ثم تلا الآية» .فكأن أصحاب هذا القول الأول متفقون فيما بينهم عن أن الميثاق إنما أخذه الله من النبيين إلا أن بعضهم يرى أن هذا الميثاق أخذه الله منهم لكي يصدق بعضهم بعضا والبعض الآخر يرى أن هذا الميثاق أخذه الله منهم في شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصة.قال ابن كثير ما ملخصه. وما قاله الحسن ومن معه لا يضاد ما قاله على وابن عباس ولا ينفيه، بل يستلزمه ويقتضيه ... وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله: إنى مررت بأخ لي من بنى قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عبد الله بن ثابت: فقلت له:ألا ترى ما بوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال عمر: رضيت بالله ربا. وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا. قال: فسرى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى- عليه السلام- ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظى من الأمم وأنا حظكم من النبيين.وعن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا. وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حيّا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني» وفي بعض الأحاديث: «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعى» .فالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم «هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أى عصر وجد- كان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم» .هذا هو معنى الجملة الكريمة عند أصحاب الرأى الأول الذين يرون أن الله- تعالى- أخذ الميثاق من النبيين. وأصحاب هذا الرأى كما سبق أن بيناهم جمهور العلماء.أما أصحاب الرأى الثاني الذين يرون أن المراد من الآية أن الأنبياء هم الذين أخذوا الميثاق من غيرهم، فالمعنى عليه.واذكر يا محمد أو أيها المخاطب وقت أن أخذ الأنبياء العهد على أقوامهم بأنه إذا بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم وأدركوه فعليهم أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه فكأن معنى الآية: واذكر وقت أن أخذ الله الميثاق الذي وثق الأنبياء على أقوامهم..هذا، وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الرأيين وغيرهما فقال:«ميثاق النبيين» فيه غير وجه:أحدهما: أن يكون على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك.والثاني: أن يضيف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا إلى الموثق عليه، كما تقول: ميثاق الله وعهد الله كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم.والثالث: أن يراد ميثاق أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف.والرابع: أن يراد أهل الكتاب وأن يرد زعمهم تهكما بهم لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب، ومنا كان النبيون» .والذي تسكن إليه النفس في معنى الآية. هو الرأى الأول الذي قال به جمهور العلماء، وذلك لأن الآيات الكريمة مسوقة- كما يقول الفخر الرازي لتعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب، مما يدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قطعا لعذرهم، وإظهارا لعنادهم، ومن جملة هذه الأشياء ما ذكره- سبحانه- في هذه الآية. وهو أنه- تعالى- أخذ الميثاق من الأنبياء بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه، وأخبر أنهم قبلوا ذلك، وحكم- سبحانه- بأنه من رجع عن ذلك كان من الفاسقين.. فحاصل الكلام أنه- تعالى- أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقا لما معهم، ولا شك أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد جاء مصدقا لما معهم فوجب على الجميع أن يؤمنوا به» .ولأن هذا المعنى هو الظاهر من الآية الكريمة. ولا تحتاج إلى تقدير مضاف أو غيره، والأخذ بالمعنى الظاهر الذي لا يحتاج إلى تقدير أولى من الأخذ بغيره.ولأن أخذ العهد على الأنبياء بأن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أعلى وأشرف لقدره صلّى الله عليه وسلّم من أخذه على أممهم وأقوامهم.ولأن أخذ العهد على الأنبياء أخذ له على الأمم، إذ كل أمة يجب أن تصدق بما جاءها به نبيها.واللام في قوله- تعالى- لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ قرأها الجمهور بالفتح. وقرأها حمزة بالكسر.أما قراءة الفتح فلها وجهان:أولهما: أن تجعل «ما» اسم موصول مبتدأ، وما بعده صلة له، وخبره قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ.والتقدير: واذكر وقت أن أخذ الله ميثاق النبيين قائلا لهم: الذي آتيتكم إياه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما أوتيتموه لتؤمنن بهذا الرسول ولتنصرنه. وعلى هذا الوجه تكون اللام في قوله «لما» للابتداء وحسن دخولها هنا لأن قوله لَما آتَيْتُكُمْ في مقام المقسم عليه، وقوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ في مقام القسم، إذ هو بمنزلة الاستحلاف تقول:أخذت ميثاقك لتفعلن كذا فكأنك قلت: استحلفتك لتفعلن كذا..وثانيهما: أن تجعل «ما» هاهنا، اسم شرط جازم في موضع نصب بآتيتكم.والتقدير: ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم، لتؤمنن به ولتنصرنه.وعلى هذا الوجه يكون فعل الشرط مكونا من جملتين:الأولى: آتَيْتُكُمْ.والثانية: ثُمَّ جاءَكُمْ وهما معا في محل جزم بما الشرطية. وقوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جواب القسم الذي تضمنه قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ وجواب الشرط محذوف، لأن القاعدة النحوية أنه إذا اجتمع شرط. وقسم فالجواب المذكور للسابق منهما وجواب اللاحق محذوف وهنا السابق هو القسم. قال ابن مالك:واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزموأما على قراءة الكسر التي قرأها حمزة فتكون اللام للتعليل كأنه قيل: اذكر وقت أن أخذ الله ميثاق النبيين، لأن إيتاءهم الكتاب والحكمة، ثم مجيء من يصدقهم يوجب عليهم الإيمان بهذا الرسول المصدق لما معهم ويوجب عليهم نصرته.والمراد بالكتاب: ما أنزله الله- تعالى- على هؤلاء النبيين من كتب تنطق بالحق.والمراد بالحكمة: الوحى الوارد بالتكاليف المفصلة التي لم يشتمل عليها الكتاب.أو المراد بها العلم النافع الذي أعطاه- سبحانه- لهم، ووفقهم للعمل به.ومِنْ في قوله مِنْ كِتابٍ للبيان.قال القرطبي: والمراد بالرسول هنا محمد صلّى الله عليه وسلّم واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين، كقوله- تعالى- «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً» إلى قوله- تعالى- «وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ» فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وينصروه إن أدركوه، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم» .ثم حكى- سبحانه- ما قاله لهم بعد أن أمرهم بالإيمان بهذا الرسول وبنصرته فقال:«قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» ؟.والإصر: العهد. وأصله من الإصار- أى الحبال التي يعقد بها الشيء ويشد- وسمى العهد إصرا لأنه تقوى به الأقوال والعقود.أى- قال الله- تعالى- للنبيين: أأقررتم بهذا الذي أمرتكم به وقبلتم عهدي؟ والاستفهام للتقرير والتوكيد عليهم لاستحالة معناه الحقيقي في حقه- سبحانه-.ثم حكى- سبحانه- ما أجاب به الرسل وما رد به عليهم فقال: «قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» .أى: قال الرسل مجيبين لخالقهم- عز وجل- أقررنا يا ربنا وقبلنا عهدك وأطعناه.فرد عليهم- سبحانه- بقوله: «فَاشْهَدُوا» أى فليشهد بعضكم على بعض بهذا الإقرار، وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم على بعض من الشاهدين.وهذا توكيد عليهم، وتحذير من الرجوع.
3:82
فَمَنْ تَوَلّٰى بَعْدَ ذٰلِكَ فَاُولٰٓىٕكَ هُمُ الْفٰسِقُوْنَ(۸۲)
تو جو کوئی اس (ف۱۵۸) کے بعد پھرے (ف۱۵۹) تو وہی لوگ فاسق ہیں (ف۱۶۰)

ثم بين- سبحانه- عاقبة الناكثين لعهودهم فقال: «فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» .أى فمن أعرض عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وعن نصرته، بعد أخذ الميثاق المؤكد عليه، فأولئك المعرضون «هُمُ الْفاسِقُونَ» أى الخارجون عن الإيمان إلى أفحش دركات الكفر والخيانة.والفاء في قوله «فَمَنْ تَوَلَّى» للتفريع، و «من» يجوز أن تكون شرطية ويكون قوله «فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» جوابها.ويجوز أن تكون موصولة، ويكون قوله «فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» هو الخبر.والضمير في قوله «تَوَلَّى» يعود على «من» بالإفراد باعتبار لفظها، ويعود عليها بصيغة الجمع في قوله «فأولئك» باعتبار معناها.
3:83
اَفَغَیْرَ دِیْنِ اللّٰهِ یَبْغُوْنَ وَ لَهٗۤ اَسْلَمَ مَنْ فِی السَّمٰوٰتِ وَ الْاَرْضِ طَوْعًا وَّ كَرْهًا وَّ اِلَیْهِ یُرْجَعُوْنَ(۸۳)
تو کیا اللہ کے دین کے سوا اور دین چاہتے ہیں (ف۱۶۱) اور اسی کے حضور گردن رکھے ہیں جو کوئی آسمانوں اور زمین میں ہیں (ف۱۶۲) خوشی سے (ف۱۶۳) سے مجبوری سے (ف۱۶۴)

وبعد أن بين- سبحانه- أن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حق لا ريب فيه، وأنه واجب على جميع من مضى من الأنبياء والأمم، عقب ذلك ببيان أن كل من كره الإيمان بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فإنه يكون بعيدا عن الدين الحق، مستحقا للعقاب الأليم فقال- تعالى- «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» .والاستفهام للإنكار والتوبيخ، وهمزة الاستفهام داخلة على فعل محذوف، والفاء الداخلة على «غير» عاطفة لجملة «يَبْغُونَ» على ذلك المحذوف الذي دل عليه الاستفهام وعينه المقام.والمعنى: أيتولون عن الإيمان بعد هذا البيان فيبغون دينا غير دين الله الذي هو الإسلام.ومعنى «يَبْغُونَ» يطلبون. يقال بغى الأمر يبغيه بغاء- بضم الباء- أى طلبه. وقوله- تعالى- «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» جملة حالية. أى أيبغون دينا غير دين الله والحال أن الله- تعالى- استسلم وانقاد وخضع له من في السموات والأرض طوعا وكرها. أى طائعين وكارهين فهما مصدران في موضع الحال.والمراد أن كل من في السموات والأرض قد انقادوا وخضعوا لله- تعالى- إما عن طواعية واختيار وهم المؤمنون لأنهم راضون في كل الأحوال بقضائه وقدره، ومستجيبون له في المنشط والمكره والعسر واليسر. وإما عن تسخير وقهر وهم الكافرون لأنهم واقعون تحت سلطانه العظيم وقدرته النافذة، فهم مع كفرهم لا يستطيعون دفع قضائه- سبحانه- وإذن فهم خاضعون لسلطانه- عز وجل- لأنهم لا سبيل لهم ولا لغيرهم إلى الامتناع عن دفع ما يريده بهم.هذا، وقد ساق الفخر الرازي جملة آراء في معنى الآية الكريمة ثم اختار أحدها فقال ما ملخصه: في خضوع من في السموات والأرض لله وجوه: أصحها عندي أن كل ما سوى الله- سبحانه- ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده، ولا يعدم إلا بإعدامه، فإن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه. وهذا هو نهاية الخضوع والانقياد. ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى: وهي أن قوله «وَلَهُ أَسْلَمَ» يفيد الحصر، أى وله كل ما في السموات والأرض لا لغيره.فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد، وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه، ولا يفنى إلا بإفنائه والآيات في هذا المعنى كثيرة.وقوله «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» أى إليه وحده يرجع الخلق فيجازى كل مخلوق بما يستحقه من خير أو شر.ففي الجملة الكريمة تحذير من الإعراض عن دينه، لأنه ما دام مرجع الخلق جميعا إليه- سبحانه- فعلى العاقل أن يسلم نفسه إلى خالقه اختيارا قبل أن يسلمها اضطرارا، وأن يستجيب لأوامره ونواهيه، حتى ينال رضاه.وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد أقامت للناس الأدلة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمرتهم بالدخول في دينه، وحذرتهم من الإعراض عنه بأجلى بيان وأقوى برهان.وبعد هذا البيان الواضح والبرهان الساطع على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر الله- تعالى- نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن على الدنيا كلمة الحق التي يؤمن بها، وأن يخبر كل من يتأتى له الخطاب بأن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام وأن كل دين سواه فهو باطل. لأن رسالته صلّى الله عليه وسلّم هي خاتمة الرسالات ودين الإسلام الذي أتى به ناسخ لكل دين سواه. استمع إلى القرآن وهو يبين ذلك فيقول:
3:84
قُلْ اٰمَنَّا بِاللّٰهِ وَ مَاۤ اُنْزِلَ عَلَیْنَا وَ مَاۤ اُنْزِلَ عَلٰۤى اِبْرٰهِیْمَ وَ اِسْمٰعِیْلَ وَ اِسْحٰقَ وَ یَعْقُوْبَ وَ الْاَسْبَاطِ وَ مَاۤ اُوْتِیَ مُوْسٰى وَ عِیْسٰى وَ النَّبِیُّوْنَ مِنْ رَّبِّهِمْ۪-لَا نُفَرِّقُ بَیْنَ اَحَدٍ مِّنْهُمْ٘-وَ نَحْنُ لَهٗ مُسْلِمُوْنَ(۸۴)
اور اُسی کی طرف پھیریں گے، یوں کہو کہ ہم ایمان لائے اللہ پر اور اس پر جو ہماری طرف اترا اور جو اترا ابراہیم اور اسماعیل اور اسحاق اور یعقوب اور ان کے بیٹوں پر اور جو کچھ ملا موسیٰ اور عیسیٰ اور انبیاء کو ان کے رب سے، ہم ان میں کسی پر ایمان میں فرق نہیں کرتے (ف۱۶۵) اور ہم اسی کے حضور گردن جھکائے ہیں

قوله «وَالْأَسْباطِ» جمع سبط وهو الحفيد، والمراد بهم أولاد يعقوب- عليه السلام- وكانوا اثنى عشر ولدا قال- تعالى-: «وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً» .وسموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق- عليهم السلام-.والمعنى: «قُلْ» يا محمد لأهل الكتاب الذين جادلوك بالباطل وجحدوا الحق مع علمهم به، قل لهم ولغيرهم «آمَنَّا بِاللَّهِ» أى آمنت أنا وأتباعى بوجود الله ووحدانيته، واستجبنا له في كل ما أمرنا به، أو نهانا عنه.وآمنا كذلك بما «أُنْزِلَ عَلَيْنا» من قرآن يهدى إلى الرشد، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.وآمنا أيضا بما أنزله الله- تعالى- من وحى وصحف على «إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» .وآمنا- أيضا- بما آتاه الله لموسى وعيسى من التوراة والإنجيل وغيرهما من المعجزات، وبما آتاه لسائر أنبيائه من وحى وآيات تدل على صدقهم.«لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» أى لا نفرق بين جماعة الرسل فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتاب، إذ فرقوا بين أنبياء الله وميزوا بينهم وقالوا- كما حكى القرآن عنهم- «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ» وهم في الحقيقة كافرون بهم جميعا، لأن الكفر بواحد من الأنبياء يؤدى إلى الكفر بهم جميعا، ولذا فنحن معاشر المسلمين نؤمن بجميع الأنبياء بلا تفرقة أو استثناء.«وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» أى خاضعون له وحده بالطاعة والعبودية. مستجيبون له في كل ما أمرنا به وما نهانا عنه.فالآية الكريمة تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخبر عن نفسه وعمن معه بأنهم آمنوا بالله وبكتبه وبرسله جميعا بدون تفرقة بينهم، لأنها شرائع الله- تعالى- التي أنزلها على أنبيائه، كلها مرتبط بعضها ببعض، وكلها تتفق على كلمة واحدة هي إفراد الله- تعالى- بالعبودية والطاعة.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم عدى أنزلها على أنبيائه، كلها مرتبط بعضها ببعض، وكلها تتفق على كلمة واحدة هي إفراد الله- تعالى- بالعبودية والطاعة.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم عدى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء «أُنْزِلَ عَلَيْنا» ، وفيما تقدم من مثلها- في سورة البقرة- بحرف الانتهاء؟ «أُنْزِلَ إِلَيْنا» قلت: لوجود المعنيين جميعا، لأن الوحى ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر.ومن قال إنما قيل هنا «عَلَيْنا» لقوله «قُلْ» وقيل هناك «إِلَيْنا» لقوله «قُولُوا» تفرقة بين الرسل والمؤمنين، لأن الرسول يأتيه الوحى على طريق الاستعلاء، ويأتيهم على وجه الانتهاء، من قال ذلك تعسف. ألا ترى إلى قوله «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» وإلى قوله «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» .وخص هؤلاء الأنبياء الذين ذكرتهم الآية بالذكر، لأن أهل الكتاب يزعمون أنهم يؤمنون بهم ويتبعونهم، فأراد القرآن أن يبين لهم أن زعمهم باطل، لأنهم لن يكونوا مؤمنين بهم إلا إذا آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.وقوله- تعالى- «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» بيان لثمرة الإيمان الحق الذي رسخ في قلوب المؤمنين وعلى رأسهم هاديهم ومرشدهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن هذا الإيمان الحق جعلهم يصدقون بأن رسل الله جميعا قد أرسلهم- سبحانه- بالدعوة إلى توحيده وإخلاص العبادة له، وإذا وجد تفاضل أو اختلاف فهذا التفاضل والاختلاف يكون في أمور أخرى سوى الإيمان بالله وإفراده بالعبودية، سوى ما اتفقت عليه الشرائع جميعها من الدعوة إلى الحق وإلى مكارم الأخلاق. وقد جاءت رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتمة للرسالات، وجامعة لكل ما فيها من محاسن فوجب الإيمان بها، وإلا كان الكفر به كفرا بجميع الرسالات السابقة عليها.وقوله «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» يفيد الحصر، نحن له وحده أسلمنا وجوهنا، وأخلصنا عبادتنا. لا لغيره كائنا من كان هذا الغير.وهذا يدل على أنهم بلغوا أعلى مراتب الإخلاص والطاعة لله رب العالمين.
3:85
وَ مَنْ یَّبْتَغِ غَیْرَ الْاِسْلَامِ دِیْنًا فَلَنْ یُّقْبَلَ مِنْهُۚ-وَ هُوَ فِی الْاٰخِرَةِ مِنَ الْخٰسِرِیْنَ(۸۵)
اور جو اسلام کے سوا کوئی دین چاہے گا وہ ہرگز اس سے قبول نہ کیا جائے گا اور وہ آخرت میں زیاں کاروں سے ہے،

ثم بين- سبحانه- أن كل من يطلب دينا سوى دين الإسلام فهو خاسر فقال- تعالى-:«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» .أى: ومن يطلب دينا سوى دين الإسلام الذي أتى به محمد- عليه الصلاة والسلام- فلن يقبل منه هذا الدين المخالف لدين الإسلام، لأن دين الإسلام الذي جاء به محمد، هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده قال- تعالى- «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ولأنه هو الدين الذي ختم الله به الديانات، وجمع فيه محاسنها.أما عاقبة هذا الطالب لدين سوى دين الإسلام فقد بينها- سبحانه- بقوله: «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» .أى وهو في الآخرة من الذين خسروا أنفسهم بحرمانهم من ثواب الله، واستحقاقهم لعقابه جزاء ما قدمت أيديهم من كفر وضلال.وفي الحديث الشريف «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» أى مردود عليه، وغير مقبول منه.وفي الأخبار بالخسران عن الذي يبتغى أى يطلب دينا سوى الإسلام، إشعار بأن من يتبع دينا سوى دين الإسلام يكون أشد خسرانا، وأسوأ حالا، لأن الطلب أقل شرا من الاتباع الفعلى.وبعد أن عظم- سبحانه- شأن الإسلام، وبين أنه هو الدين المقبول عنده، أتبع ذلك ببيان أن سنته جرت في خلقه بأن يزيد الذين اهتدوا هدى، أما الجاحدون للحق عن علم، والمتبعون لأهوائهم وشهواتهم فهم بعيدون عن هداية الله، ولن يقبلهم- سبحانه- إلا إذا تابوا عن ضلالهم، وأصلحوا ما فسد منهم، استمع إلى القرآن وهو يصور هذا المعنى بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول:
3:86
كَیْفَ یَهْدِی اللّٰهُ قَوْمًا كَفَرُوْا بَعْدَ اِیْمَانِهِمْ وَ شَهِدُوْۤا اَنَّ الرَّسُوْلَ حَقٌّ وَّ جَآءَهُمُ الْبَیِّنٰتُؕ-وَ اللّٰهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّٰلِمِیْنَ(۸۶)
کیونکر اللہ ایسی قوم کی ہدایت چاہے جو ایمان لاکر کافر ہوگئے (ف۱۶۶) اور گواہی دے چکے تھے کہ رسول (ف۱۶۷) سچا ہے اور انہیں کھلی نشانیاں آچکی تھیں (ف۱۶۸) اور اللہ ظالموں کو ہدایت نہیں کرتا

روى المفسرون روايات في سبب نزول هذه الآيات الكريمة منها ما أخرجه النسائي عن ابن عباس قال. إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا. هل له من توبة؟فنزلت هذه الآيات، فأرسل إليه قومه فأسلم.وعن مجاهد قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله هذه الآيات. قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه. فقال الحارث:إنك والله- ما عملت- لصدوق، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصدق منك، وإن الله- عز وجل- لأصدق الثلاثة، قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه وعن الحسن البصري أنه قال:إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم وأقروا به، وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم .هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآيات، ويبدو لنا أن أقربها إلى سياق الآيات هي الرواية التي جاءت عن الحسن البصري بأن المقصود بالآيات أهل الكتاب، وذلك لأن الحديث معهم من أول السورة ولأن القرآن قد ذكر في غير موضع أن أهل الكتاب كانوا يعرفون صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم، وأنهم كانوا يستفتحون به عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.ومع هذا فليس هناك ما يمنع من أن يكون حكم هذه الآيات شاملا لكل من ذكرتهم الروايات ولكل من يشابههم، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.قال ابن جرير- بعد أن ساق هذه الروايات- ما ملخصه: وأشبه هذه الأقوال بظاهر التنزيل ما قاله الحسن: من أن هذه الآيات معنى بها أهل الكتاب على ما قال، وجائز أن يكون الله- تعالى- أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الإسلام، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآيات، ثم عرف عباده سنته فيهم فيكون داخلا في ذلك كل من كان مؤمنا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث ثم كفر به بعد أن بعث، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده صلّى الله عليه وسلّم ثم ارتد وهو حي عن إسلامه، فيكون معنيا بالآيات جميع هذين الصنفين وغيرهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء الله «2» .والاستفهام في قوله- تعالى- كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ للنفي ولاستبعاد هدايتهم إلى الصراط المستقيم وهم على هذا الحال من الارتكاس في الكفر والضلال، مع علمهم بالحق، وإيمانهم به لفترة من الوقت.والمعنى: أن الله- تعالى- جرت سنته في خلقه ألا يهدى إلى الصراط المستقيم، قوما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ أى ارتدوا إلى الكفر بعد أن آمنوا، وبعد أن شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم «حق» وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه، وبعد أن جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أى البراهين والحجج الناطقة بحقيقة ما يدعيه، من قرآن كريم عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله، ومن معجزات باهرة دالة على صدقه صلّى الله عليه وسلّم.فأنت ترى أن حالهم التي أوجبت هذا النفي والاستبعاد تتمثل في أنهم كانوا مؤمنين، وكانوا يشهدون بأن الرسول حق، وجاءتهم البينات اليقينية الملزمة التي تؤيد إيمانهم وشهادتهم، ومع كل ذلك استحبوا العمى على الهدى، واختاروا الكفر على الإيمان، واستولى عليهم التعصب بالباطل فأرداهم وحرمهم من هداية الله حتى يغيروا ما بأنفسهم ويتوبوا عن غيهم، ويصلحوا ما أفسدوه، ويخلصوا وينيبوا إلى خالقهم وبارئهم.قال صاحب الكشاف: «قوله كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً أى كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف، لما علم الله من تصميمهم على كفرهم، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم، وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق وبعد ما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت بمثلها النبوة- وهم اليهود- كفروا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن كانوا مؤمنين به، وذلك حين عاينوا ما يوجب قوة إيمانهم من البينات.فإن قلت: علام عطف قوله وَشَهِدُوا؟ قلت: فيه وجهان: أن يعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل، لأن معناه بعد أن آمنوا. ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار «قد» . بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق» .وقوله- تعالى- وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ جملة حالية أو معترضة.والمعنى: أنه- سبحانه- قد مضت سنته في خلقه أنه لا يهدى إلى الحق أولئك الذين آثروا الكفر على الإيمان، عن تعمد وإصرار، ووضعوا الشيء في غير موضعه مع علمهم بسوء صنيعهم.وفي تذييل الآية الكريمة بهذه الجملة مع إطلاق لفظ الظلم، إشعار بأنهم قد ظلموا أنفسهم.بإيقاعها في مهاوي الردى والعذاب وظلموا الرسول الذي شهدوا له بأن ما جاء به هو الحق ثم كفروا به، وظلموا الحقائق والبراهين التي نطقت بأحقية الإيمان وببطلان الكفر ثم تركوا هذه الحقائق والبراهين وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم ومطامعهم.وإن الظلم متى سيطر على النفوس أفقدها رشدها وإدراكها للأمور إدراكا سليما، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول: «اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة» .
3:87
اُولٰٓىٕكَ جَزَآؤُهُمْ اَنَّ عَلَیْهِمْ لَعْنَةَ اللّٰهِ وَ الْمَلٰٓىٕكَةِ وَ النَّاسِ اَجْمَعِیْنَۙ(۸۷)
ان کا بدلہ یہ ہے کہ ان پر لعنت ہے اللہ اور فرشتوں اور آدمیوں کی سب کی،

ثم بين- سبحانه- عاقبة هؤلاء الظالمين فقال: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.قال الراغب: اللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله- تعالى- في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه، ومن الإنسان دعاء على غيره» .والمعنى: أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ أى جزاؤهم أن عليهم غضب الله وسخطه بسبب استحبابهم الكفر على الإيمان وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أى وعليهم كذلك سخط الملائكة والناس أجمعين وغضبهم، ودعاؤهم عليهم باللعنة والطرد من رحمة الله.وقوله أُولئِكَ مبتدأ. وقوله جَزاؤُهُمْ مبتدأ ثان، وقوله أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ إلخ..خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول.والآية الكريمة قد بينت أن اللعنة على هؤلاء القوم، صادرة من الله وهي أشد ألوان اللعن، وصادرة من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وصادرة من الناس أجمعين، أى أن الفطر الإنسانية تلعنهم لنبذهم الحق بعد أن عرفوه وشهدوا به، وقامت بين أيديهم الأدلة على أنه حق.قال الفخر الرازي ما ملخصه: فإن قيل: لم عم جميع الناس مع أن من وافقهم في كفرهم لا يلعنهم؟ قلنا فيه وجوه: منها أنهم في الآخرة يلعن بعضهم بعضا كما قال- تعالى- كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها. فعلى هذا التقدير يكون اللعن قد حصل للكفار من الكفار. ومنها كأن الناس هم المؤمنون، والكفار ليسوا من الناس، ثم لما ذكر لعن الثلاث قال أَجْمَعِينَ.ومنها وهو الأصح عندي: أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر، ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا كافر، فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافرا فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك» .
3:88
خٰلِدِیْنَ فِیْهَاۚ-لَا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ یُنْظَرُوْنَۙ(۸۸)
ہمیشہ اس میں رہیں، نہ ان پر سے عذاب ہلکا ہو اور نہ انہیں مہلت دی جائے،

ثم أكد- سبحانه- تلك العقوبة بعقوبة أخرى لازمة لها ما داموا على تلك الحالة الشنيعة فقال- تعالى- خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ بسبب إصرارهم على الكفر في الدنيا، وانغماسهم فيما يغضب الله وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أى ولا هم يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب بل عذابهم عاجل لا يقبل الإمهال أو التأخير بسبب ما ارتكبوه في الدنيا من شرور وآثام.
3:89
اِلَّا الَّذِیْنَ تَابُوْا مِنْۢ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ اَصْلَحُوْا۫-فَاِنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ(۸۹)
مگر جنہوں نے اس کے بعد توبہ کی (ف۱۶۹) اور آپا سنبھالا تو ضرور اللہ بخشنے والا مہربان ہے،

ولكن القرآن- مع هذا- يفتح باب التوبة لمن أراد أن يتوب، وينهى الناس عن أن يقنطوا من رحمة الله متى تابوا وأنابوا وأصلحوا فيقول- بعد تلك الحملة المرعبة التي شنها على الكفر والكافرين: - إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.أى: أن اللعنة مستمرة على هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وهم خالدون في العذاب يوم القيامة بدون إمهال أو تأخير، إلا الذين تابوا منهم عن الكفر الذي ارتكبوه، وعن الظلم الذي اقترفوه، وأصلحوا ما أفسدوه بأن قالوا ربنا الله ثم استقاموا على طريق الحق، وحافظوا على أداء الأعمال الصالحة «فإن الله- تعالى- غفور رحيم» أى فإنه سبحانه يغفر لهم ما سلف منهم من كفر وظلم.ففي هذه الآية الكريمة إغراء للكافرين بأن يقلعوا عن كفرهم وللمذنبين بأن يثوبوا إلى رشدهم وبأن يتوبوا إلى ربهم، فإنه- سبحانه- يغفر الذنوب جميعا لمن يتوب ويحسن التوبة، فهو القائل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ .أما الذين لا يتوبون ولا يستغفرون ولا يثوبون إلى رشدهم. بل يصرون على الكفر فيزدادون كفرا. والذين يرتكسون في كفرهم وضلالهم حتى تفلت منهم الفرصة، وينتهى أمد الاختبار، ويأتى دور الجزاء، فهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة، فقد قال- تعالى- بعد هذه الآيات:
3:90
اِنَّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا بَعْدَ اِیْمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوْا كُفْرًا لَّنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْۚ-وَ اُولٰٓىٕكَ هُمُ الضَّآلُّوْنَ(۹۰)
بیشک وہ جو ایمان لاکر کافر ہوئے پھر اور کفر میں بڑھے (ف۱۷۰) ان کی توبہ ہرگز قبول نہ ہوگی (ف۱۷۱) اور وہی ہیں بہکے ہوئے،

قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً.قال قتادة وعطاء: نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم. بموسى والتوراة. ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن.وقال أبو العالية والحسن: نزلت في أهل الكتاب جميعا، آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه ثم كفروا به بعد مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك، وطعنهم في نبوته في كل وقت، وعداوتهم له، ونقضهم لعهودهم وصدهم الناس عن طريق الحق، وسخريتهم بآيات الله.ويمكن أن يقال: إن الآية الكريمة على عمومها فهي تتناول كل من آمن ثم ارتد عن الإيمان إلى الكفر، وازداد كفرا بمقاومته للحق، وإيذائه لأتباعه، وإصراره على كفره وعناده وجحوده.ثم بين- سبحانه- سوء عاقبتهم فقال: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ.أى إن هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا وعنادا وجحودا للحق لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أى لن تتوقع منهم توبة حتى تقبل، لأنهم بإصرارهم على كفرهم، ورسوخهم فيه، وتلاعبهم بالإيمان، قد صاروا غير أهل للتوفيق لها، ولأنهم حتى لو تابوا فتوبتهم إنما هي بألسنتهم فحسب، أما قلوبهم فمليئة بالكفر والنفاق ولذا تعتبر توبتهم كلا توبة.وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم تابوا عند حضور الموت، والتوبة في هذا الوقت لا قيمة لها.قال القرطبي: وهذا قول حسن كما قال- تعالى-: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ.وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم ماتوا على الكفر، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال. فإن قلت: قد علم أن المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ؟ قلت: جعلت عبارة عن الموت على الكفر، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر. كأنه قيل إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.فإن قلت: فأى فائدة في هذه الكناية؟ أعنى أن كنى الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟قلت: الفائدة فيها جليلة وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة» .والذي يبدو لنا أن الآية الكريمة أشد ما تكون انطباقا على أولئك الذين تتكرر منهم الردة من الإيمان إلى الكفر فهم لفساد قلوبهم، وانطماس بصيرتهم واستيلاء الأهواء والمطامع على نفوسهم أصبح الإيمان لا استقرار له في قلوبهم بل يتلاعبون به، ويبيعونه نظير عرض قليل من أعراض الدنيا، وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في سورة النساء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا .وقوله وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ أى الكاملون في الضلال، البعيدون عن طريق الحق، المستحقون لسخط الله وعذابه.
3:91
اِنَّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا وَ مَاتُوْا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ یُّقْبَلَ مِنْ اَحَدِهِمْ مِّلْءُ الْاَرْضِ ذَهَبًا وَّ لَوِ افْتَدٰى بِهٖؕ-اُولٰٓىٕكَ لَهُمْ عَذَابٌ اَلِیْمٌ وَّ مَا لَهُمْ مِّنْ نّٰصِرِیْنَ۠(۹۱)
وہ جو کافر ہوئے اور کافر ہی مرے ان میں کسی سے زمین بھر سونا ہرگز قبول نہ کیا جائے گا اگرچہ اپنی خلاصی کو دے، ان کے لئے دردناک عذاب ہے اور ان کا کوئی یار نہیں۔

ثم صرح- سبحانه- ببيان عاقبة الذين يموتون على الكفر فقال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ.أى استمروا على كفرهم وضلالهم حتى ماتوا على هذا الكفر والضلال فكأن الآيات الكريمة قد ذكرت لنا ثلاثة أصناف من الكافرين: قسم كان كافرا ثم تاب عن كفره توبة صادقة بأن آمن وعمل صالحا فقبل الله توبته. وهذا القسم هو الذي استثناه الله بقوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.وقسم كان كافرا ثم تاب عن كفره توبة ليست صادقة، فلم يقبلها الله- تعالى- منه.وهو الذي قال الله في شأنه في الآية السابقة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ.وقسم كان كافرا واستمر على كفره حتى مات عليه دون أن تحدث منه آية توبة، وهو الذي أخبر عنه- سبحانه- في هذه الآية بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ.أى ماتوا على كفرهم دون أن يتوبوا منه. وقد بين الله- تعالى- سوء مصيرهم بقوله:فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ.أى أن هؤلاء الذين ماتوا على الكفر دون أن يتوبوا منه. لن يقبل الله- تعالى- من أحدهم ما كان قد أنفقه في الدنيا ولو كان هذا المنفق ملء الأرض ذهبا، لأن كفره قد أحبط أعماله وأفسدها كما قال- تعالى- وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً .وكذلك لن يقبل الله- تعالى- عن أحدهم فدية عن عقابه الشديد له بسبب موته على الكفر. ولو كان ما يفتدى به نفسه ملء الأرض ذهبا، لأن الله- تعالى- غنى عنه وعن فديته- مهما عظمت- وسيعاقبه على كفره بما يستحق من عقاب.نه، كما قال- تعالى- وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ» ، وقال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .ثم قال: وروى الشيخان والإمام أحمد عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ قال:فيقول نعم، فيقول الله له، قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك» .وفي رواية للإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله له: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أى رب، خير منزل. فيقول الله- تعالى- له: سل وتمن، فيقول: ما اسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار- لما يرى من فضل الشهادة- ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أى رب! شر منزل، فيقول له: أتفتدي منه بطلاع الأرض ذهبا؟ فيقول أى رب! نعم فيقول: كذبت! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار» «2» .وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: فلم قيل في الآية السابقة لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ بغير فاء.وقيل هنا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ بوجود الفاء-؟ قلت: قد أوذن بالفاء أن الكلام بنى على الشرط والجزاء، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر، وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب، كما تقول: الذي جاءني له درهم، لم تجعل المجيء سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم» .وقوله ذَهَباً منصوب على أنه تمييز.وعبر بالذهب لأنه أنفس الأشياء وأعزها على النفس.وقوله وَلَوِ افْتَدى بِهِ جملة حالية، والواو للحال، أى لا يقبل من الذي مات على كفره هذا الفداء ولو في حال افتراض تحقق هذا الفداء في يده وتقديمه إياه لكي يدفعه لخالقه وينجو من العقوبة التي توعده بها.أى أن العذاب الأليم نازل قطعا على هذا الذي مات على كفره، حتى ولو فرضنا أنه تصدق في الدنيا بملء الأرض ذهبا. وحتى لو فرضنا أنه ملك هذا المقدار النفيس الكثير من الأموال في الآخرة وقدمه فدية لنفسه من العذاب، فإن كل ذلك غير مقبول منه، ولا بد من نزول العذاب به.وقد أشار ابن المنير إلى هذا المعنى بقوله: «قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال: منها: أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية من نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول. ومنها أن يقول المفتدى في التقدير: أفدى نفسي بكذا وقد لا يفعل. ومنها أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدى به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته. وإذا تعددت الأحوال فالمراد من الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهو أن يفتدى بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا ومع ذلك لا يقبل منه، فمجرد قوله أبذل المال وأقدر عليه أو ما يجرى هذا المجرى بطريق الأولى. فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة. وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من العذاب، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم، ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلى في يدي هذه» .ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ.أى أولئك الذين ماتوا على كفرهم لهم عذاب أليم، وما لهم من ناصرين ينصرونهم بدفع العذاب عنهم، أو تخفيف وقعه عليهم.ومن مزيدة لاستغراق النفي وتأكيده، أى لا يوجد أحد كائنا من كان ينقذهم من عذاب الله، أو يجيرهم من أليم عقابه.وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد توعدتا الكافرين بأشد ألوان العذاب، وأقسى أنواع العقاب، حتى يقلعوا عن كفرهم، ويثوبوا إلى رشدهم.
3:92
لَنْ  تَنَالُوا  الْبِرَّ  حَتّٰى  تُنْفِقُوْا  مِمَّا  تُحِبُّوْنَ  ﱟ  وَ  مَا  تُنْفِقُوْا  مِنْ  شَیْءٍ  فَاِنَّ  اللّٰهَ  بِهٖ  عَلِیْمٌ(۹۲)
تم ہرگز بھلائی کو نہ پہنچو گے جب تک راہِ خدا میں اپنی پیاری چیز نہ خرچ کرو (ف۱۷۲) اور تم جو کچھ خرچ کرو اللہ کو معلوم ہے،

وبعد هذا الحديث المشتمل على أشد صنوف الترهيب من الكفر، وعلى بيان سوء عاقبة الكافرين، أتبعه بالحديث عن الطريق الذي يوصل المؤمنين إلى رضا الله وحسن مثوبته فقال- تعالى-: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.تنالوا: من النيل وهو إصابة الشيء والحصول عليه. يقال نال ينال نيلا، إذا أصاب الشيء ووجده وحصل عليه.والبر: الإحسان وكمال الخير. وأصله التوسع في فعل الخير. يقال: بر العبد ربه أى توسع في طاعته.والإنفاق البذل، ومنه إنفاق المال. وعن الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من ماله يبتغى به وجه الله ويطلب ثوابه حتى التمرة يدخل في هذه الآية.والمعنى: لن تنالوا حقيقة البر، ولن تبلغوا ثوابه الجزيل الذي يوصلكم إلى رضا الله، وإلى جنته التي أعدها لعباده الصالحين، إلا إذا بذلتم مما تحبونه وتؤثرونه من الأموال وغيرها في سبيل الله، وما تنفقوا من شيء- ولو قليلا- فإن الله به عليم، وسيجازيكم عليه بأكثر مما أنفقتم وبذلتم.ولقد حكى لنا التاريخ كثيرا من صور البذل والإنفاق التي قام بها السلف الصالح من أجل رضا الله وإعلاء كلمته، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء- موضع بالمدينة- وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ... ، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن الله- تعالى- يقول في كتابه لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالى إلى بيرحاء، وإنها صدقة الله- تعالى- أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بخ بخ- كلمة استحسان ومدح- ذلك مال رابح- أى ذو ربح- ذلك مال رابح. وقد سمعت ما قلت. وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه» .قال القرطبي: وكذلك فعل زيد بن حارثة، عمد مما يحب إلى فرس له يقال له «سبل» وقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلى من فرسي هذه، فجاء بها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: هذا في سبيل الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأسامة بن زيد: أقبضه، فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله قد قبلها منك» .وأعتق عبد الله بن عمر نافعا مولاه، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار، قالت صفية بنت أبى عبيد: أظنه تأول قول الله- تعالى- لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.وقال الحسن البصري: إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون .وهكذا نرى أن السلف الصالح قد قدموا ما يحبون من أموالهم وغيرها تقربا إلى الله- تعالى- وشكرا له على نعمائه وعطائه، فرضي الله عنهم وأرضاهم.ثم عاد القرآن الكريم إلى الرد على اليهود الذين جادلوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في كثير من القضايا، بعد أن ذكر في الآيات السابقة طرفا من مسالكهم الخبيثة التي منها تواصيهم فيما بينهم بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره، وقد حكى هنا جدلهم فيما أحله الله وحرمه من الأطعمة فقال- تعالى-:
3:93
كُلُّ  الطَّعَامِ  كَانَ  حِلًّا  لِّبَنِیْۤ  اِسْرَآءِیْلَ  اِلَّا  مَا  حَرَّمَ  اِسْرَآءِیْلُ  عَلٰى  نَفْسِهٖ  مِنْ  قَبْلِ  اَنْ  تُنَزَّلَ  التَّوْرٰىةُؕ-قُلْ  فَاْتُوْا  بِالتَّوْرٰىةِ  فَاتْلُوْهَاۤ  اِنْ  كُنْتُمْ  صٰدِقِیْنَ(۹۳)
سب کھانے بنی اسرائیل کو حلال تھے مگر وہ جو یعقوبؑ نے اپنے اوپر حرام کرلیا تھا توریت اترنے سے پہلے تم فرماؤ توریت لاکر پڑھو اگر سچے ہو(ف۱۷۳)

ذكر بعض المفسرين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لليهود في معرض مناقشته لهم: أنا على ملة إبراهيم. فقال بعض اليهود: كيف تدعى ذلك وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله. فقالوا: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا، فأنزل الله هذه الآيات تكذيبا لهم».والطعام: مصدر بمعنى المطعوم، والمراد به هنا كل ما يطعم ويؤكل.وحلا: مصدر أيضا بمعنى حلالا، والمراد الإخبار عن أكل الطعام بكونه حلالا، لا نفس الطعام، لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات.وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم الصلاة والسلام-.والمعنى: كل أنواع الأطعمة كانت حلالا لبنى إسرائيل قبل نزول التوراة إلا شيئا واحدا كان محرما عليهم قبل نزولها وهو ما حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه، فإنهم حرموه على أنفسهم اقتداء به، فلما أنزل الله التوراة حرم عليهم فيها بعض الطيبات بسبب بغيهم وظلمهم.هذا هو الحق الذي لا شك فيه، فإن جادلوك يا محمد في هذه المسألة فقل لهم على سبيل التحدي: أحضروا التوراة فاقرءوها ليتبين الصادق منا من الكاذب، إن كنتم صادقين في زعمكم أن ما حرمه الله عليكم فيها كان محرما على نوح وإبراهيم- عليهما الصلاة والسلام-.فالآية الكريمة قد تضمنت أمورا من أهمها:أولا: إبطال حجتهم فيما يتعلق بقضية النسخ، إذ زعموا أن النسخ محال، واتخذوا من كون النسخ مشروعا في الإسلام ذريعة للطعن في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم فدحض القرآن مدعاهم وألزمهم الحجة عن طريق كتابهم.ولذا قال الإمام ابن كثير: الآية مشروع في الرد على اليهود، وبيان بأن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع، فإن الله- تعالى- قد نص في كتابهم التوراة أن نوحا- عليه السّلام- لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل وألبانها فاتبعه بنوه فيما حرم على نفسه، وجاءت التوراة بتحريم ذلك، وبتحريم أشياء زيادة على ذلك- عقوبة لهم بسبب بغيهم وظلمهم. وهذا هو النسخ بعينه» .وقد صرح ابن كثير وغيره من المفسرين أن ما حرمه إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها، وبذلك جاءت بعض الروايات عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان تحريمه لها تعبدا وزهادة وقهرا للنفس طلبا لمرضاة الله- تعالى-.وقيل إن ما حرمه على نفسه هو العروق. روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والسدى موقوفا عليهم.قالوا: كان يعتريه عرق النسا وهو عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ويسبب آلاما شديدة- فنذر إن عوفي منه لا يأكل عرقا، فلما شفاه الله ترك أكل العروق وفاء بنذره.ثانيا: تضمنت أيضا تكذيبهم في دعواهم أن ما حرم عليهم لم يكن سبب تحريمه ظلمهم أو بغيهم، وإنما كان محرما على غيرهم ممن سبقهم من الأمم.وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: «وهو- أى ما اشتملت عليه الآية- رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله- تعالى- فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وحيث أرادوا جحود ما غاظهم بسبب ما نطق به القرآن من أن تحريم الطيبات عليهم كان لأجل بغيهم وظلمهم فقالوا: لسنا بأول من حرمت عليه هذه الأشياء، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا.وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا. وما عدد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم الله عليهم نوعا من الطيبات عقوبة لهم».ثالثا: تضمنت الآية كذلك أمرا من الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يتحداهم بالتوراة ويبكتهم بما نطفت به، وذلك بقوله- تعالى- في الآية الكريمة قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.فكأنه- سبحانه- يقول لهم: ما دمتم- يا معشر اليهود- قد زعمتم أن ما حرم عليكم بسبب بغيكم وظلمكم ليس تحريما حادثا، وإنما هو تحريم قديم على الأمم قبلكم، فها هي ذي التوراة قريبة منكم فأحضروها واتلوها بإمعان وتدبر إن كنتم صادقين في مدعاكم.والتعبير ب «إن» يشير إلى عدم صدقهم، لأنها تدل على الشك في الشرط.أى: هم ليسوا صادقين فيما يزعمون، ولذلك لا يتلون ولا يقرءون، ولو جاءوا بها لكانت مؤيدة لما أخبر به القرآن الكريم، ولذلك لم يجسروا على إخراج التوراة، وبهتوا وانقلبوا صاغرين. وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم.وقوله إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مستثنى من اسم كان، والتقدير: كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فإنه قد حرم عليهم في التوراة، وليس منه ما زادوه من محرمات وادعوا صحة ذلك.
3:94
فَمَنِ افْتَرٰى عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ مِنْۢ بَعْدِ ذٰلِكَ فَاُولٰٓىٕكَ هُمُ الظّٰلِمُوْنَ(ؔ۹۴)
تو اس کے بعد جو اللہ پر جھوٹ باندھے (ف۱۷۴) تو وہی ظالم ہیں،

ثم توعدهم- سبحانه- على كذبهم وجحودهم فقال- تعالى-: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.افترى: من الافتراء وهو اختلاق الكذب، وأصله من فرى الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود.أى: فمن تعمد الكذب على الله- تعالى- بأن زعم بأن ما حرمته التوراة على بنى إسرائيل من المطاعم بسبب ظلمهم وبغيهم، كان محرما عليهم وعلى غيرهم قبل نزولها، فأولئك الذين قالوا هذا القول الكاذب هم المتناهون في الظلم: المتجاوزون للحدود التي شرعها الله- تعالى-، وسيعاقبهم- سبحانه- على هذا الظلم والافتراء عذابا أليما لا مهرب لهم منه ولا نصير.والفاء في قوله فَمَنِ افْتَرىللتفريع، ومِنْيحتمل أن تكون شرطية وأن تكون موصولة، وقد روعي في الآية الكريمة لفظها ومعناها.وقوله مِنْ بَعْدِ ذلِكَمتعلق بافترى، واسم الإشارة ذلك يعود إلى أمرهم بإحضار التوراة وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة.واسم الإشارة «أولئك» يعود إلى «من» وهو عبارة عن هؤلاء اليهود الذين جادلوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالباطل وافتروا على الله الكذب.ويحتمل أن يكون المشار إليه وهو مِنْعاما لكل كاذب ويدخل فيه اليهود دخولا أوليا.وقد أكد الله- تعالى- وصفهم بالظلم بضمير الفصل الدال على أنهم كاملون فيه، وموغلون في اقترافه والتمسك به.
3:95
قُلْ  صَدَقَ  اللّٰهُ۫-فَاتَّبِعُوْا  مِلَّةَ  اِبْرٰهِیْمَ  حَنِیْفًاؕ-وَ  مَا  كَانَ  مِنَ  الْمُشْرِكِیْنَ(۹۵)
تم فرماؤ اللہ سچا ہے، تو ابراہیم کے دین پر چلو (ف۱۷۵) جو ہر باطل سے جدا تھے اور شرک والوں میں نہ تھے،

ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوهم إلى اتباع ملة إبراهيم إن كانوا حقا يريدون اتباعها فقال- تعالى-: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أى: قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين جادلوك بالباطل ولكل من كان على شاكلتهم في الكذب والظلم، قل لهم جميعا: صدق الله فيما أخبرنا به في قوله- تعالى- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ وفي كل ما أخبرنا به في كتابه وعلى لسان رسوله. وأنتم الكاذبون في دعواكم.وإذ كنتم تريدون الوصول إلى الطريق القويم حقا فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أى فاتبعوا ملة الإسلام التي عليها محمد صلّى الله عليه وسلّم وعليها من آمن به، فهم المتبعون حقا لإبراهيم- عليه السلام- وهم أولى الناس به، لأن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما.أى كان متجها إلى الحق لا ينحرف عنه إلى غيره من الأديان أو الأقوال أو الأفعال الباطلة.وكان مسلما، أى كان مسلما وجهه الله، مفردا إياه بالعبادة والطاعة والخضوع ثم نفى الله- تعالى- عن إبراهيم كل لون من ألوان الشرك بأبلغ وجه فقال وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.أى ما كان إبراهيم في أى أمر من أموره من الذين يشركون مع الله آلهة أخرى، وإنما كان مخلصا عبادته الله وحده.وفي ذلك تعريض بشرك اليهود وغيرهم من أهل الكفر والضلال، وتنبيه إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه هم المتبعون حقا لإبراهيم، فقد أمر الله- محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يسير على طريقة أبيه إبراهيم فقال: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ .وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد حكت قضية من القضايا الكثيرة التي جادل اليهود فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد لقنت الآيات النبي صلّى الله عليه وسلّم الجواب الذي يخرس ألسنتهم، ويكشف عن كذبهم وافترائهم وظلمهم، ويرشدهم ويرشد كل من يتأتى له الخطاب إلى الملة القويمة إن كانوا حقا يريدون الاهتداء إلى الصراط المستقيم.ثم أخبر القرآن عن مسألة أخرى جادل اليهود فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي مسألة أفضلية المسجد الحرام على غيره من المساجد، وقد رد القرآن عليهم وعلى أمثالهم في الكفر والعناد بما يثبت أن المسجد الحرام الذي نازعوا في أفضليته هو أفضل المساجد على الإطلاق فقال تعالى:
3:96
اِنَّ  اَوَّلَ  بَیْتٍ  وُّضِعَ  لِلنَّاسِ   لَلَّذِیْ  بِبَكَّةَ  مُبٰرَكًا  وَّ  هُدًى  لِّلْعٰلَمِیْنَۚ(۹۶)
بیشک سب میں پہلا گھر جو لوگوں کی عبادت کو مقرر ہوا وہ ہے جو مکہ میں ہے برکت والا اور سارے جہان کا راہنما (ف۱۷۶)

قال الفخر الرازي ما ملخصه: في اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما وجوه:الأول: أن المراد منهما الجواب عن شبهة أخرى من شبهات اليهود في إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك لأنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته وقالوا: إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض المحشر، وقبلة جملة الأنبياء، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة إلى الكعبة باطلا، فأجاب الله عنه بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فبين- سبحانه- أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى» .والمراد بالأولية أنه أول بيت وضعه الله لعبادته في الأرض، وقيل المراد بها كونه أولا في الوضع وفي البناء، ورووا في ذلك آثارا ليس فيها ما يعتمد عليه.وبكة: لغة في مكة عند الأكثرين، والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيرا، ومنه النميط والنبيط فهما اسم لموضع. وقيل هما متغايران: فبكة موضع المسجد ومكة اسم البلد بأسرها.وأصل كلمة بكة من البك وهو الازدحام. يقال تباك القوم إذا تزاحموا، وكأنها سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها. والبك أيضا دق العنق، وكأنها سميت بكة لأن الجبابرة تندق أعناقهم إذا أرادوها بسوء. وقيل إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها، وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها.والمعنى: إن أول بيت وضعه الله- تعالى- للناس في الأرض ليكون متعبدا لهم، هو البيت الحرام الذي بمكة، حيث يزدحم الناس أثناء طوافهم حوله، وقد أتوا إليه رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم.روى الشيخان عن أبى ذر قال: «قلت يا رسول الله: أى مسجد وضع في الأرض أول؟قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أى؟ قال المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم قال: حيثما أدركتك الصلاة فصل. والأرض لك مسجد» .قالوا: وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال: معلوم أن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى، والذي بنى المسجد الحرام هو إبراهيم وابنه إسماعيل، وبينهما وبين سليمان أكثر من ألف سنة فكيف قال صلّى الله عليه وسلّم: إن بين بناء المسجدين أربعين سنة!والجواب أن الوضع غير البناء، فالذي أسس المسجد الأقصى ووضعه في الأرض بأمر الله سيدنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وبين إبراهيم ويعقوب هذه المدة التي جاءت في الحديث، أما سليمان فلم يكن مؤسسا للمسجد الأقصى أو واضعا له وإنما كان مجددا فلا إشكال ولا منافاة.وإذن فالبيت الحرام أسبق بناء من المسجد الأقصى، وأجمع منه للديانات السماوية، وهو- أى البيت الحرام- أول بيت جعل الله الحج إليه عبادة مفروضة على كل قادر على الحج، وجعل الطواف حوله عبادة، وتقبيل الحجر الأسود الذي هو ضمن بنائه عبادة.. ولا يوجد بيت سواه في الأرض له من المزايا والخصائص ما لهذا البيت الحرام.وبذلك ثبت كذب اليهود في دعواهم أن المسجد الأقصى أفضل من المسجد الحرام، وأن في تحول الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة في صلاته مخالفة للأنبياء قبله.ثم مدح الله- تعالى- بيته بكونه مُبارَكاً أى كثير الخير دائمه، من البركة وهي النماء والزيادة والدوام.أى أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه، أو طاف حوله، بسبب مضاعفة الأجر، وإجابة الدعاء، وتكفير الخطايا لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة الله رب العالمين.وإن هذا البيت في الوقت ذاته وفير البركات المادية والمعنوية.فمن بركاته المادية: قدوم الناس إليه من مشارق الأرض ومغاربها ومعهم خيرات الأرض، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى لمن يسكنون حول هذا البيت الحرام، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم حيث قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ومن بركاته المعنوية: أنه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهي فريضة الحج، وإليه يتجه المسلمون في صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم.وقوله مُبارَكاً حال من الضمير في «وضع» .ثم مدحه بأنه هُدىً لِلْعالَمِينَ أى بذاته مصدر هداية للعالمين، لأنه قبلتهم ومتعبدهم، وفي استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته.
3:97
فِیْهِ  اٰیٰتٌۢ  بَیِّنٰتٌ  مَّقَامُ  اِبْرٰهِیْمَ  ﳛ  وَ  مَنْ  دَخَلَهٗ  كَانَ  اٰمِنًاؕ-وَ  لِلّٰهِ  عَلَى  النَّاسِ   حِجُّ  الْبَیْتِ  مَنِ  اسْتَطَاعَ  اِلَیْهِ  سَبِیْلًاؕ-وَ  مَنْ  كَفَرَ  فَاِنَّ  اللّٰهَ  غَنِیٌّ  عَنِ  الْعٰلَمِیْنَ(۹۷)
اس میں کھلی نشانیاں ہیں (ف۱۷۷) ابراہیم کے کھڑے ہونے کی جگہ (ف۱۷۸) اور جو اس میں آئے امان میں ہو (ف۱۷۹) اور اللہ کے لئے لوگوں پر اس گھر کا حج کرنا ہے جو اس تک چل سکے (ف۱۸۰) اور جو منکر ہو تو اللہ سارے جہان سے بے پرواہ ہے (ف۱۸۱)

ثم مدحه- ثالثا- بقوله: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ أى فيه علامات ظاهرات، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته، وعلو مكانته.وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه.ثم بين- سبحانه- بعض هذه الآيات البينات الدالة على عظمه وشرفه فقال: مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.فالآية الأولى الدالة على عظم وشرف البيت الحرام مَقامُ إِبْراهِيمَ أى المقام المعروف بهذا الاسم. وهو الموضع الذي كان يقوم فيه إبراهيم تجاه الكعبة لعبادة الله- تعالى- ولإتمام بناء الكعبة ومعنى أن في البيت مقام إبراهيم أى أنه في فنائه ومتصل به.قال ابن كثير: عن جابر- رضى الله عنه- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين. والمراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل بهذا الحجر ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ...ثم قال: وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك. وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى ناحية المشرق حيث هو الآن. ليتمكن الطائفون من الطواف، وليصلى المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين .وقوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ مبتدأ محذوف الخبر أى مقام إبراهيم منها أى من هذه الآيات البينات. أو خبر لمبتدأ محذوف أى فيه آيات بينات أحدها مقام إبراهيم.وقد رجح ابن جرير أن قوله- تعالى- مَقامُ إِبْراهِيمَ هو بعض الآيات البينات التي في البيت الحرام فقال: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: الآيات البينات منهن مقام إبراهيم. وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما فيكون الكلام مرادا فيه منهن فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها. فإن قال قائل: فهذا المقام من الآيات البينات فما سائر الآيات التي من أجلها قيل آياتٌ بَيِّناتٌ؟ قيل: منهن المقام، ومنهن الحجر، ومنهن الحطيم» .وقال ابن عطية: والراجح عندي أن المقام وأمن الداخلين جعلا مثالا لما في حرم الله من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم» .وأما الآية الثانية التي تدل على فضل هذا البيت وشرفه فقد بينها القرآن بقوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.أى من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال- تعالى-: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال- كما حكى القرآن عنه-: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ولا شك أن في أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله لأنه موضع أمان الناس في بيئة تغرى بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات.وفي الصحيحين- واللفظ لمسلم- عن أبى شريح العدوى أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة- يعنى لقتال عبد الله بن الزبير-: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغد من يوم الفتح، - سمعته أذناى ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي- حين تكلم به- : إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها- أى أخذ فيه بالرخصة- فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب.فقيل لأبى شريح: ما قال لك عمرو؟ فقال أبو شريح: قال لي يا أبا شريح أنا أعلم بذلك منك. إن الحرم لا يعيذ عاصيا- أى لا يجيره ولا يعصم دمه- ولا فارا بدم- أى أن الحرم لا يجير إنسانا هاربا إليه لسبب من الأسباب الموجبة للقتل- ولا فارا بخربة- أى بسبب سرقة أو خيانة .ولقد كان أهل الجاهلية يعظمون المسجد الحرام- وخصوصا أهل مكة- فلما جاء الإسلام أقر له هذه الميزة وزكاها، ووضع لها الضوابط والأحكام التي تضمن استعمالها في الوجوه التي شرعها الله.فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى في الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت في النفس أم فيما دونها.واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ إليه. فقال أبو حنيفة وابن حنبل: إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه فيقتص منه. وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه.وقال مالك والشافعى يقتص منه في الحرم لذلك كله كما يقتص منه في الحل.ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه.ثم أخبر- سبحانه- عن وجوب الحج على كل قادر عليه فقال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.أى أن الله- تعالى- فرض على الناس أن يحجوا بيته في أوقات معينة وبكيفية مخصوصة متى كان في استطاعتهم أداء هذه الفريضة.وَمَنْ كَفَرَ أى من جحد فرضية الحج وأنكرها، ولم يؤدها مع استطاعته وقدرته على أدائها فإن الله غنى عنه وعن حجه وعن الناس جميعا.قال صاحب الكشاف: وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد منها قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يعنى أنه حق واجب الله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد:أحدهما: أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له.والثاني: أن الإيضاح بعد الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين.ومنها قوله: وَمَنْ كَفَرَ مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهوديا أو نصرانيا ومنها ذكر الاستغناء عنه، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله: عَنِ الْعالَمِينَ ولم يقل عنه، لأن فيه الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط .وقوله: وَاللَّهُ خبر مقدم متعلق بمحذوف أى واجب. عَلَى النَّاسِ متعلق بهذا المحذوف. وقوله: حِجُّ الْبَيْتِ مبتدأ مؤخر.والناس عام مخصوص بالمستطيع، وقد خصص ببدل البعض في قوله: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا إذ هذه الجملة بدل من الناس بدل البعض من الكل. والضمير في البدل مقدر أى من استطاع منهم إليه سبيلا.و «من» في قوله: وَمَنْ كَفَرَ يحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، وعلى الاحتمالين استغنى فيما بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل ومن كفر فإن الله غنى عنه فاستغنى بالظاهر عن المضمر.قال ابن كثير: والجمهور يرى أن هذه الآية هي آية وجوب الحج. وقيل بل هي آية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ والأول أظهر. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقوائمه، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع فعن أبى هريرة قال: خطبنا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: «يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» .وعن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: «قام رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما السبيل يا رسول الله، فقال: الزاد والراحلة» :وبذلك تكون هاتان الآيتان والآيات التي قبلهما قد ردت على اليهود في دعواهم أن ما حرمه الله عليهم من طيبات لم يكن عقوبة لهم بسبب ظلمهم وبغيهم، وكذبتهم في دعواهم أن بيت المقدس أفضل من المسجد الحرام.وقد اشتمل هذا الرد على ما يثبت افتراءهم من واقع التاريخ، فقد أمر الله- تعالى- النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطالبهم بإحضار التوراة إن كانوا صادقين في دعواهم، فبهتوا وانقلبوا صاغرين، وأثبت القرآن أن البيت الحرام أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله، فهو يسبق بيت المقدس في أولوية الشرف والزمان. وإذن فجدال اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الأمور ما هو إلا نوع من عنادهم وجحودهم للحق، والمعاند والجاحد لا ينفع معهما دليل أو برهان.وبعد هذا الرد المفحم من القرآن على اليهود في هاتين القضيتين- قضية ما حرم عليهم من الأطعمة وقضية نزاعهم في أفضلية البيت الحرام- بعد كل ذلك ساق القرآن طرفا من مسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين عن طريق محاولتهم الدس والوقيعة وإثارة الفتنة بين المؤمنين. وقد حذر الله المؤمنين من شرورهم بعد أن وبخ اليهود على مكرهم، وتوعدهم بسوء المصير. استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه المعاني بأسلوبه الحكيم فيقول:
3:98
قُلْ  یٰۤاَهْلَ  الْكِتٰبِ  لِمَ  تَكْفُرُوْنَ  بِاٰیٰتِ  اللّٰهِ  ﳓ  وَ  اللّٰهُ  شَهِیْدٌ  عَلٰى  مَا  تَعْمَلُوْنَ(۹۸)
تم فرماؤ اے کتابیو! اللہ کی آیتیں کیوں نہیں مانتے (ف۱۸۲) اور تمہارے کام اللہ سامنے ہیں،

أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: مرشاس بن قيس- وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم- مر على نفر من الصحابة من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية.فقال: قد اجتمع ملأ بنى قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار.فأمر شابا من اليهود كان معه فقال له: اعمد إليهم فاجلس معهم، وذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقالوا فيه من الأشعار- وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج- ففعل. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب: أوس بن قيظى من الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج. فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة ، وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا، السلاح موعدكم الظاهرة- والظاهرة: الحرة- فخرجوا إليها وتحاور الناس. فانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم. فقال يا معشر المسلمين: الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس، وما صنع.فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ الآية وأنزل في أوس بن قيظى وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.. إلى قوله وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ - فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم-.وقوله- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أمر من الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يوبخ هؤلاء اليهود ومن لف لفهم على مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية، وإيذاء أتباعها ومحاولتهم صرف الناس عنها.أى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين كفروا بالحق بعد أن جاءتهم البينات: لم تعاندون الحق وتكفرون بآيات الله السمعية والعقلية الدالة على صدقى فيما أبلغه عن ربي، والحال أن الله مطلع عليكم وعالم علم المعاين المشاهد لأعمالكم الظاهرة والخفية، وسيجازيكم عليها بما تستحقونه من عقاب أليم.فالآية الكريمة قد تضمنت تأنيبهم على الكفر، وتهديدهم بالعقاب إذا استمروا في مسالكهم الأثيمة.ولكي يكون التأنيب أوجع، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يناديهم بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ، لأن علمهم بالكتاب يستلزم منهم الإيمان، والإذعان للحق، ولكنهم اتخذوا علمهم وسيلة للشرور والتضليل فكان مسلكهم هذا دليلا على فساد فطرتهم، وخبث طويتهم، وسوء طباعهم.
3:99
قُلْ  یٰۤاَهْلَ  الْكِتٰبِ  لِمَ  تَصُدُّوْنَ  عَنْ  سَبِیْلِ  اللّٰهِ  مَنْ  اٰمَنَ  تَبْغُوْنَهَا  عِوَجًا  وَّ  اَنْتُمْ  شُهَدَآءُؕ-وَ  مَا  اللّٰهُ  بِغَافِلٍ  عَمَّا  تَعْمَلُوْنَ(۹۹)
تم فرماؤ اے کتابیو! کیوں اللہ کی راہ سے روکتے ہو (ف۱۸۳) اسے جو ایمان لائے اسے ٹیڑھا کیا چاہتے ہو اور تم خود اس پر گواہ ہو (ف۱۸۴) اور اللہ تمہارے کوتکوں (برے اعمال، کرتوت) سے بے خبر نہیں،

وبعد أن أنبهم القرآن الكريم في هذه الآية على كفرهم وضلالهم، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم في آية ثانية أن يوبخهم على محاولتهم إضلال غيرهم فقال- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وقوله: تَصُدُّونَ من الصد وهو صرف الغير عن الشيء ومنعه منه. يقال: صد يصد صدودا، وصدا.وقوله: سَبِيلِ اللَّهِ أى طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام.وقوله: تَبْغُونَها عِوَجاً أى تطلبون لها العوج. يقال: بغيت له كذا أى طلبته والعوج- بكسر العين- الميل والزبغ في الدين والقول والعمل وكل ما خرج عن طريق الهدى إلى طريق الضلال فهو عوج. والعوج- بفتح العين- يكون في المحسوسات كالميل في الحائط والرمح وكل شيء منتصب قائم أى أن مكسور العين يكون في المعاني ومفتوحها في الأعيان.والمعنى: قل يا محمد لأهل الكتاب مرة أخرى مبالغة في تقريعهم وإزاحة لأعذارهم. لأى شيء تصرفون المؤمنين عن الإيمان الحق، وتمنعون من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم عن الاستمرار على اتباعه، وتثيرون الفتنة والوقيعة بين أصحابه.وقوله: تَبْغُونَها عِوَجاً أى تطلبون العوج والميل لسبيل الله الواضحة والميل بها عن القصد والاستقامة، وتريدون أن تكون ملتوية غير واضحة في أعين المهتدين، كما التوت نفوسكم، وانحرفت عقولكم.قال صاحب الكشاف: فإن قلت كيف قال تبغونها عوجا وهو محال؟ قلت: فيه معنيان:أحدهما: أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها اعوجاجا بقولكم إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتغييركم صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن وجهها وغير ذلك.والثاني: أنكم تتعبون أنفسكم في إخفاء الحق ابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم» .وقوله: مَنْ آمَنَ مفعول به لتصدون. والضمير المنصوب في قوله: تَبْغُونَها يعود إلى سبيل الله أى تبغون لها فحذفت اللام كما في قوله- تعالى-: وَإِذا كالُوهُمْ أى كالوا لهم.وقوله: عِوَجاً مفعول به لتبغون.وبعضهم جعل الضمير المنصوب في تَبْغُونَها وهو الهاء هو المفعول. وجعل عوجا حال من سبيل الله. أى تبغونها أن تكون معوجة وتريدونها في حال عوج واضطراب.وقوله: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ حال من فاعل تَصُدُّونَ أو تبغون.أى والحال أنكم تعلمون بأن سبيل الإسلام هي السبيل الحق علم من يعاين ويشاهد الشيء على حقيقته فجحودكم عن علم وكفركم ليس عن جهل، ولقد كان المتوقع منكم يا من ترون الحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم في كتابكم، أن تكونوا أول المساعين إلى الإيمان به، ولكن الحسد والعناد حالا بينكم وبين الانتفاع بالنور الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم.وقوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد لهم ووعيد على ضلالهم ومحاولتهم إضلال غيرهم، لأنه- سبحانه- ليس غافلا عن أعمالهم، بل هو سيجازيهم على هذه المسالك الخبيثة بالفشل والذلة في الدنيا، وبالعذاب والهوان في الآخرة ولما كان صدهم المؤمنين بطريق الخفية ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حياتهم، ببيان أن الله- تعالى- محيط بكل ما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال وليس غافلا عنها. بخلاف الآية الأولى فقد كان كفرهم بطريق العلانية إذ ختمت ببيان أن الله مشاهد لما يعملونه ولما يجاهرون به.
3:100
یٰۤاَیُّهَا  الَّذِیْنَ  اٰمَنُوْۤا  اِنْ  تُطِیْعُوْا  فَرِیْقًا  مِّنَ  الَّذِیْنَ  اُوْتُوا  الْكِتٰبَ  یَرُدُّوْكُمْ  بَعْدَ  اِیْمَانِكُمْ  كٰفِرِیْنَ(۱۰۰)
اے ایمان والو! اگر تم کچھ کتابیوں کے کہے پر چلے تو وہ تمہارے ایمان کے بعد کافر کر چھوڑیں گے(ف۱۸۵)

وبعد أن بين- سبحانه- في هاتين الآيتين أن اليهود قد جمعوا الخستين ضلال أنفسهم، ثم محاولتهم تضليل غيرهم، تركهم مؤقتا في طغيانهم يعمهون، ووجه نداء إلى المؤمنين يحذرهم فيه من دسائس اليهود وكيدهم، وينهاهم عن الركون إليهم، والاستماع إلى مكرهم فقال - تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ.والمعنى: إنكم أيها المؤمنون إن استمعتم إلى ما يلقيه بعض أهل الكتاب بينكم من دسائس ولنتم لهم، لا يكتفون بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم كما في الجاهلية، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولتهم إعادتكم إلى وثنيتكم القديمة وكفركم بالله بعد إيمانكم.وقد خاطب الله المؤمنين بذاته في هذه الآية بعد أن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يخاطب أهل الكتاب في الآيتين السابقتين، إظهارا لجلالة قدرهم، وإشعارا بأنهم الأحقاء بالمخاطبة من الله- تعالى-.وناداهم بصفة الإيمان لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان من فطنة ويقظة فالمؤمن ليس خبا ولكن الخب لا يخدعه.وفي التعبير «بإن» في قوله: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً إشارة إلى أن طاعتهم لليهود ليست متوقعة، لأن إيمانهم يمنعهم من ذلك.ووصف- سبحانه- الذين يحاولون الوقيعة بين المؤمنين بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب، إنصافا لمن لم يفعل ذلك منهم.ونعتهم بأنهم أُوتُوا الْكِتابَ للإشعار بأن تضليلهم متعمد وبأن تآمرهم على المؤمنين مقصود، فهم أهل كتاب وعلم، ولكنهم استعملوا علمهم في الشرور والآثام.وقوله: يَرُدُّوكُمْ أصل الرد الصرف والإرجاع، إلا أنه هنا مستعار لتغير الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشاعر:فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سوداأى: يصيروكم بعد إيمانكم كافرين. والكاف مفعوله الأول وكافرين مفعوله الثاني.وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في آية أخرى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ .
3:101
وَ  كَیْفَ  تَكْفُرُوْنَ  وَ  اَنْتُمْ  تُتْلٰى  عَلَیْكُمْ  اٰیٰتُ  اللّٰهِ  وَ  فِیْكُمْ  رَسُوْلُهٗؕ-وَ  مَنْ  یَّعْتَصِمْ  بِاللّٰهِ  فَقَدْ  هُدِیَ  اِلٰى  صِرَاطٍ  مُّسْتَقِیْمٍ۠(۱۰۱)
اور تم کیوں کر کفر کروگے تم پر اللہ کی آیتیں پڑھی جاتی ہیں اور تم میں اس کا رسول تشریف لایا اور جس نے اللہ کا سہارا لیا تو ضرور وہ سیدھی راہ دکھایا گیا،

ثم بين القرآن بعد ذلك أنه ما يسوغ للمؤمنين أن يطيعوا هذا الفريق من الذين أوتوا الكتاب، أو أن يكفروا بعد إيمانهم، أو أن يتفرقوا بعد وحدتهم فقال- تعالى-: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، الاستفهام في قوله: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ للإنكار، ولاستبعاد كفرهم في حال اجتمع لهم فيها كل الأسباب الداعية إلى الإيمان.أى: كيف يتصور منكم الكفر، أو يسوغ لكم أن تسيروا في أسبابه وآيات الله تقرا على مسامعكم غضة طرية صباح مساء، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين ظهرانيكم، يردكم إلى الصواب إن أخطأتم، ويزيح شبهكم إن التبس عليكم أمر.وفي هذا ما يومئ إلى إلقاء اليأس في قلوب هذا الفريق من اليهود من أن يصلوا إلى ما يبغونه بين المؤمنين في وقت يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤمنين بما ينفعهم ويحذرهم مما يؤذيهم ويضرهم.وفي توجيه الإنكار والاستبعاد إلى كيفية الكفر مبالغة، لأن كل موجود لا بد أن يكون وجوده على حال من الأحوال، فإذا أنكر ونفى في جميع الأحوال انتفى وجوده بالكلية بالطريق البرهاني.وقوله: وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ جملتان حاليتان من فاعل تَكْفُرُونَ وهو ضمير الجماعة. وهاتان الجملتان هما محط الإنكار والاستبعاد.أى أن كلا تلاوة آيات الله وإقامة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيهم، وازع لهم عن الكفر، ودافع لهم إلى التمسك بعرى الإيمان.ففي الآية الكريمة دلالة على عظمة قدر الصحابة، وأن لهم وازعين عن مواقعة الضلال:سماع القرآن، ومشاهدة أنوار الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإن وجوده عصمة من ضلالهم.قال قتادة: أما الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقد مضى إلى رحمة الله، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين إلى الوسيلة التي متى تمسكوا بها عصموا أنفسهم من مكر اليهود فقال- تعالى- وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.أى ومن يلتجئ إلى الله في كل أحواله ويتوكل عليه حق التوكل، ويتمسك بدينه، فقد هدى إلى الطريق الذي لا عوج فيه ولا انحراف.وفي هذا إشارة إلى أن التمسك بدين الله وبكتابه كفيل بأن يبعد المسلمين الذين لم يشاهدوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم عما يبيته لهم أعداؤهم من مكر وخداع.قال ابن جرير ما ملخصه: وأصل العصم: المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصمه، والممتنع به معتصم به ولذلك قيل للحبل: عصام، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته عصام، وأفصح اللغتين: إدخال الباء كما قال- عز وجل- وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وقد جاء اعتصمته .
3:102
یٰۤاَیُّهَا  الَّذِیْنَ  اٰمَنُوا  اتَّقُوا  اللّٰهَ  حَقَّ  تُقٰتِهٖ  وَ  لَا  تَمُوْتُنَّ  اِلَّا  وَ  اَنْتُمْ  مُّسْلِمُوْنَ(۱۰۲)
اے ایمان والو! اللہ سے ڈرو جیسا اس سے ڈرنے کا حق ہے اور ہرگز نہ مرنا مگر مسلمان،

ثم أمر الله- تعالى- المؤمنين بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات، فقال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.وقوله حَقَّ تُقاتِهِ التقاة مصدر وهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها إذ الأصل: اتقوا الله التقاة الحق. أى: الثابتة، كقولك ضربت زيدا أشد الضرب تريد الضرب الشديد وقيل التقاة اسم مصدر من اتقى كالتؤدة من اتأد.والمعنى: بالغو أيها المؤمنون في التمسك بتقوى الله ومراقبته وخشيته حتى لا تتركوا منها شيئا ولا تكونن على ملة سوى ملة الإسلام إذا أدرككم الموت، وإنما عليكم أن تستمروا على دينكم القويم حتى يأتيكم الأجل الذي لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون.وقد ساق ابن كثير بعض الآثار التي وردت عن بعض السلف في تفسير هذه الآية الكريمة فمن ذلك ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى الآية اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ: أن يطاع فلا يعصى. وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر» .وروى عن أنس أنه قال: لا يتقى الله العبد حق تقاته حتى يخزن لسانه.وقوله وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هو نهى في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة.والمراد دوامهم على الإسلام وذلك أن الموت لا بد منه فكأنه قيل: دوموا على الإسلام إلى أن يدرككم الموت فتموتوا على هذه الملة السمحاء وهي ملة الإسلام، لكي تفوزوا برضا الله وحسن ثوابه.والجملة الكريمة في محل نصب على الحال من ضمير الجماعة في اتَّقُوا.والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال: أى لا تموتن على حالة من الأحوال إلا على هذه الحالة الحسنة التي هي حالة المداومة على التمسك بالإسلام وتعاليمه وآدابه.وقال صاحب الكشاف: قوله وَلا تَمُوتُنَّ معناه ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، وذلك كأن تقول لمن تستعين به على لقاء العدو: لا تأتنى إلا وأنت على حصان، فأنت لا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان» .
3:103
وَ  اعْتَصِمُوْا  بِحَبْلِ  اللّٰهِ  جَمِیْعًا  وَّ  لَا  تَفَرَّقُوْا۪-وَ  اذْكُرُوْا  نِعْمَتَ  اللّٰهِ  عَلَیْكُمْ  اِذْ  كُنْتُمْ  اَعْدَآءً  فَاَلَّفَ  بَیْنَ  قُلُوْبِكُمْ  فَاَصْبَحْتُمْ  بِنِعْمَتِهٖۤ  اِخْوَانًاۚ-وَ  كُنْتُمْ  عَلٰى  شَفَا  حُفْرَةٍ  مِّنَ  النَّارِ  فَاَنْقَذَكُمْ  مِّنْهَاؕ-كَذٰلِكَ  یُبَیِّنُ  اللّٰهُ  لَكُمْ  اٰیٰتِهٖ  لَعَلَّكُمْ  تَهْتَدُوْنَ(۱۰۳)
اور اللہ کی رسی مضبوط تھام لو (ف۱۸۶) سب مل کر اور آپس میں پھٹ نہ جانا (فرقوں میں نہ بٹ جانا) (ف۱۸۷) اور اللہ کا احسان اپنے اوپر یاد کرو جب تم میں بیر تھا اس نے تمہارے دلوں میں ملاپ کردیا تو اس کے فضل سے تم آپس میں بھائی ہوگئے (ف۱۸۸) اور تم ایک غار دوزخ کے کنارے پر تھے (ف۱۸۹) تو اس نے تمہیں اس سے بچادیا (ف۱۹۰) اللہ تم سے یوں ہی اپنی آیتیں بیان فرماتا ہے کہ کہیں تم ہدایت پاؤ،

وبعد أن أمرهم- سبحانه- بمداومة خشيته، والاستمرار على دينه أتبع ذلك بأمرهم بالاعتصام بدينه وبكتابه فقال- تعالى- وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.فهذه الآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من مداومة التقوى والطاعة الله رب العالمين.والاعتصام: افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أى يمنع من السقوط والوقوع.وأصل الحبل: ما يشد به للارتقاء أو التدلي أو للنجاة من غرق أو نحوه، أو للوصول إلى شيء معين.والمراد بحبل الله هنا: دينه أو عهده، أو كتابه، لأن التمسك بهذه الأشياء يوصل إلى النجاة والفلاح.والمعنى: كونوا جميعا مستمسكين بكتاب الله وبدينه وبعهوده، ولا تتفرقوا كما كان شأنكم في الجاهلية بضرب بعضكم رقاب بعض، بل عليكم أن تجتمعوا على طاعة الله وأن تكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. وبذلك تفوزون وتسعدون وتنتصرون على أعدائكم.ففي الجملة الكريمة استعارة تمثيلية حيث شبه- سبحانه- الحالة الحاصلة من تمسك المؤمنين بدينه وبكتابه وبعهوده وبوحدة كلمتهم، بالحالة الحاصلة من تمسك جماعة بحبل وثيق مأمون الانقطاع ألقى إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط أو نحوهما.وإضافة الحبل إلى الله- تعالى- قرينة على هذا التمثيل.وقوله جَمِيعاً حال من ضمير الجماعة في قوله وَاعْتَصِمُوا.فالجملة الكريمة تأمر المسلمين جميعا أن يعتصموا بعهود الله وبدينه. وبكتابه، وأن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وأن ينبذوا التفرق والاختلاف الذي يؤدى إلى ضعفهم وفشلهم.قال الفخر الرازي عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: واعلم أن كل من يمشى على طريق دقيق يخاف أن ينزلق رجله، فإنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف. ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلقت أرجل كثير من الخلق عنه، فمن اعتصم بدلائل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف فكان المراد من الحبل هنا: كل شيء يمكن التوصل به إليه الحق في طريق الدين، وهو أنواع كثيرة فمنهم من قال المراد به عهد الله..ومنهم من قال المراد به القرآن، فقد جاء في الحديث «هو حبل الله المتين» ومنهم من قال المراد به طاعة الله.. وهذه الأقوال كلها متقاربة والتحقيق ما ذكرنا من أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعةالمؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط في جهنم، جعل ذلك حبلا الله وأمروا بالاعتصام به . ثم أمرهم- سبحانه- بتذكر نعم الله عليهم فقال: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها.قوله شَفا حُفْرَةٍ الشفا طرف الشيء وحرفه مثل شفا البئر، وشفا الحفرة ومنه يقال: فلان أشفى على الشيء إذا أشرف عليه، كأنه بلغ شفاه أى حده وحرفه.والمعنى: واذكروا أيها المؤمنون وتنبهوا بعقولكم وقلوبكم إلى نعمة الله عليكم بتأليف نفوسكم ورأب صدوعكم، فقد كنتم في الجاهلية أعداء متقاتلين متنازعين، فألف بين قلوبكم بأخوة الإسلام فأصبحتم متحابين متناصحين متوادين وكنتم على وشك الوقوع في النار بسبب اختلافكم وضلالكم فمن الله عليكم وأنقذكم من التردي فيها بهدايتكم إلى الحق عن طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين. إذا فمن الواجب عليكم وفاء لهذه النعم أن تشكروا الله عليها وأن تطيعوا رسولكم صلّى الله عليه وسلّم وأن تتمسكوا بعرى المحبة والمودة والأخوة فيما بينكم.قال ابن كثير: قوله- تعالى- وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً.. إلخ. هذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام. فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها إذ هداهم للإيمان وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم في القسمة بما رآه، فخطبهم فقال يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟ فكانوا كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ» .وفي هذه الآية الكريمة تصوير بديع مؤثر لحالة المسلمين قبل الإسلام وحالتهم بعد الإسلام.فقد صور- سبحانه- حالهم وترديهم في الكفر والاختلاف والتقاتل قبل أن يدخلوا في الإسلام بحال من يكون على حافة حفرة من النار يوشك أن يقع فيها.وصور هدايته لهم إلى سبيل الحق والمحبة والإخاء بدخولهم في الإسلام عن طريق محمد صلّى الله عليه وسلّم بحالة من يبعد غيره عن الترديفي النار وينقذه من الوقوع فيها.قال صاحب الكشاف: «والضمير المجرور في قوله فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها يعود للحفرة أو للنار أو للشفا، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة- فاكتسب التأنيث من المضاف إليه- كما قال: كما شرقت صدر القناة من الدم.. وشفا الحفرة وشفتها: حرفها بالتذكير والتأنيث.فإن قلت: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت: لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار «فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها، مشفين- أى مشرفين- على الوقوع فيها» .ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.أى كهذا البيان الواضح الذي سمعتموه في هذه الآيات، يبين الله لكم دائما من آياته ودلائله وحججه ما يسعدكم في الدنيا والآخرة، وما يأخذ بيدكم إلى وسائل الهداية وأسبابها، رجاء أن تكونوا ممن رضى الله عنهم وأرضاهم بسبب اهتدائهم إلى الصراط المستقيم.
3:104
وَ  لْتَكُنْ  مِّنْكُمْ  اُمَّةٌ  یَّدْعُوْنَ  اِلَى  الْخَیْرِ  وَ  یَاْمُرُوْنَ  بِالْمَعْرُوْفِ  وَ  یَنْهَوْنَ  عَنِ  الْمُنْكَرِؕ-وَ  اُولٰٓىٕكَ  هُمُ  الْمُفْلِحُوْنَ(۱۰۴) 
اور تم میں ایک گروہ ایسا ہونا چاہئے کہ بھلائی کی طرف بلائیں اور اچھی بات کا حکم دیں اور بری سے منع کریں (ف۱۹۱) اور یہی لوگ مراد کو پہنچے (ف۱۹۲)

وبعد أن أمرهم- سبحانه- بتكميل أنفسهم عن طريق خشيته وتقواه والاعتصام بدينه وبكتابه، عقب ذلك بأمرهم بالعمل على تكميل غيرهم وإصلاح شأنه عن طريق دعوته إلى الخير وإبعاده عن الشر فقال- تعالى- وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.الأمة: الجماعة التي تؤم وتقصد لأمر ما وتطلق على أتباع الأنبياء كما تقول: نحن من أمة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وعلى الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به كقوله- تعالى- إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً . وعلى الدين والملة كقوله- تعالى- إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وعلى الحين والزمان كقوله- تعالى-: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ.والمراد بالأمة هنا الطائفة من الناس التي تصلح لمباشرة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.والمراد بالخير ما فيه صلاح للناس ديني أو دنيوى.والمراد بالمعروف ما حسنه الشرع وتعارف العقلاء على حسنه والمنكر ضد ذلك.والمعنى: ولتكن منكم أيها المؤمنون طائفة قوية الإيمان عظيمة الإخلاص، تبذل أقصى طاقتها وجهدها في الدعوة إلى الخير الذي يصلح من شأن الناس، وفي أمرهم بالتمسك بالتعاليم وبالأخلاق التي توافق الكتاب والسنة والعقول السليمة، وفي نهيهم عن المنكر الذي يأباه شرع الله، وتنفر منه الطباع الحسنة.وقوله: وَلْتَكُنْ صيغة وجوب من الله- تعالى- على كل من يصلح لمهمة الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.وتكن إما من كان التامة أى: ولتوجد منكم أمة. فيكون قوله: أُمَّةٌ فاعلا لتكن وجملة يَدْعُونَ صفة لأمة، ومِنْكُمْ متعلق بتكن.وإما من كان الناقصة فيكون قوله: أُمَّةٌ اسمها، وجملة يَدْعُونَ خبرها، وقوله مِنْكُمْ متعلق بكان الناقصة، أو بمحذوف وقع حالا من أمة.ومن في قوله- تعالى- وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يرى أكثر العلماء أنها للتبعيض.أى: ليكن بعض منكم أمة أى طائفة تبذل جهدها في تبليغ رسالات الله وفي دعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.وفي هذا التبعيض وتنكير أمة تنبيه على قلة العاملين بذلك وأنه لا يخاطب به إلا الخواص.ومن هذا الأسلوب قوله- تعالى-: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ فقد وجه الخطاب إلى نفس منكرة تنبيها على قلة الناظر في معاده.وعلى هذا فكأن الآية الكريمة قد اشتملت على طلبين:أحدهما: وجه إلى الأمة كلها يطالبها بأن تعد طائفة من بينها لهذه المهمة السامية وهي دعوة الناس إلى الخير وأن تزود هذه الطائفة الصالحة لهذه المهمة بكل ما يمكنها من أداء مهمتها.وثانيهما: موجه إلى تلك الطائفة الصالحة لهذه المهمة، بأن تخلص فيها، وتؤديها على الوجه الأكمل الذي يرضى الله- تعالى- ويرى بعض العلماء أن «من» في قوله- تعالى- وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ بيانية.فيكون المعنى أن الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا على سبيل الفرض الكفائى، بل على سبيل الفرض العيني.أى: لتكونوا أيها المؤمنون جميعا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فمن هنا ليس المراد بها التبعيض على هذا الرأى بل المراد بها البيان، وذلك كقولك: لفلان من أولاده جند، وللأمير من غلمانه عسكر، تريد بذلك جميع أولاده وغلمانه.ويبدو لنا أن الرأى الأول وهو أن «من» للتبعيض أقرب إلى الصواب، لأن الأمة كلها برجالها ونسائها وشبابها وشيوخها لا تصلح لهذه المهمة السامية، وإنما يصلح لها من يجيدها ويحسنها بأن تكون عنده القدرة العقلية، والعلمية، والنفسية، والخلقية، لأدائها.ولذا قال صاحب الكشاف مرجحا أن «من» للتبعيض: قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ من للتبعيض، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات، لأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر. وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، أو على من الإنكار عليه عبث.وقيل «من» للتبيين، بمعنى: وكونوا أمة تأمرون، كقوله- تعالى- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ .وقوله- تعالى- وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ معطوف على قوله: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ من باب عطف الخاص على العام.وفائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا على هذين الوجهين وهما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لأنهما أشرف ألوان الدعوة إلى الخير.وقوله: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ المفعول فيه محذوف وكذلك في قوله: يَأْمُرُونَ ويَنْهَوْنَ والتقدير يدعون الناس إلى الخير ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر.وحذف المفعول للإيذان بظهوره. أو للقصد إلى إيجاد نفس الفعل. أى يفعلون الدعاء إلى الخير، أو لقصد التعميم أى يدعون كل من تتأتى له الدعوة.وقد ختم- سبحانه- الآية الكريمة بتبشير هؤلاء الداعين إلى الخير بالفلاح فقال وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ والفلاح هو الظفر وإدراك البغية.أى: وأولئك القائمون بواجب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هم الكاملون في الفلاح والنجاح، ولا يمكن أن يفلح سواهم ممن لم يقم بهذا الواجب الذي هو مناط عزة الجماعات والأفراد، وأساس رفعتهم وقوتهم وسعادتهم.قال بعض العلماء: في الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يرتفع سنامها ويكمل نظامها.وقال الإمام الغزالي: في هذه الآية بيان الإيجاب. فإن قوله: وَلْتَكُنْ أمر. وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوط به. إذ حصر وقال: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قام به البعض سقط الفرض عن الآخرين، إذ لم يقل كونوا كلكم آمرين بالمعروف، بل قال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ وإن تقاعد عنه الخلق جميعا عم الإثم كافة القادرين عليه لا محالة .هذا وقد وردت أحاديث متعددة في فضل الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفي بيان العاقبة السيئة التي تترتب على ترك هذا الواجب، ومن ذلك:ما رواه مسلم والترمذي وابن ماجة والنسائي عن أبى سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله.وروى الشيخان عن جرير بن عبد الله قال: بايعت النبي صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة فلقننى فيما استطعت والنصح لكل مسلم.وروى أبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي عن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» .
3:105
وَ  لَا  تَكُوْنُوْا  كَالَّذِیْنَ  تَفَرَّقُوْا  وَ  اخْتَلَفُوْا  مِنْۢ  بَعْدِ  مَا  جَآءَهُمُ  الْبَیِّنٰتُؕ-وَ  اُولٰٓىٕكَ  لَهُمْ  عَذَابٌ  عَظِیْمٌۙ(۱۰۵)
اور ان جیسے نہ ہونا جو آپس میں پھٹ گئے اور ان میں پھوٹ پڑگئی (ف۱۹۳) بعد اس کے کہ روشن نشانیاں انہیں آچکی تھیں (ف۱۹۴) اور ان کے لیے بڑا عذاب ہے،

وبعد أن أمر الله- تعالى- بالمواظبة على الدعوة إلى الخير، عقب ذلك بنهيهم عن التفرق والاختلاف فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ.أى: ولا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك اليهود والنصارى وغيرهم من الذين تفرقوا شيعا وأحزابا، وصار كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ واختلفوا فيما بينهم اختلافا شنيعا، وقد ترتب على ذلك أن كفر بعضهم بعضا، وقاتل بعضهم بعضا، وزعم كل فريق منهم أنه على الحق وغيره على الباطل، وأنه هو وحده الذي يستطيع أن يدرك ما في الكتب السماوية من حقائق، وهو وحده الذي يستطيع تفسيرها تفسيرا سليما.ولقد كان تفرقهم هذا واختلافهم «من بعد ما جاءهم البينات» أى الآيات والحجج والبراهين الدالة على الحق، والداعية إلى الاتحاد والوثام لا إلى التفرق والاختلاف.وقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا معطوف على قوله وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ ويرجع إلى قوله من قبل وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا لما فيه من تمثيل حال التفرق في أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أحوال اليهود وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يفضى إلى التفرق والاختلاف إذ يترتب على هذا الترك أن تكثر المنازعات والأهواء والمظالم، وتنشق الأمة بسبب ذلك انشقاقا شديدا.والمقصود بهذا النهى إنما هو التفرق والاختلاف في أصول الدين وأسسه، أما الفروع التي لا يصادم الخلاف فيها نصا صحيحا من نصوص الدين فلا تندرج تحت هذا النهى، فنحن نرى أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم والتابعين من بعدهم قد اختلفوا فيما بينهم في بعض المسائل التي لا تخالف نصا صحيحا من نصوص الشريعة وتأولها كل واحد أو كل فريق منهم على حسب فهمه الذي أداه إليه اجتهاده.ومن الأحاديث التي ذمت الاختلاف في الدين ما رواه أبو داود والإمام أحمد عن أبى عامر عبد الله بن يحيى قال: «حججنا مع معاوية بن أبى سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى الظهر فقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة- يعنى الأهواء- كلها في النار إلا واحدة- وهي الجماعة- وأنه سيخرج في أمتى أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه.لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاءكم به نبيكم صلّى الله عليه وسلّم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به».ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان سوء عاقبة المتفرقين، والمختلفين في الحق فقال وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أى وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الذميمة لهم عذاب عظيم بسبب تفرقهم واختلافهم الباطل.فأنت ترى أن القرآن الكريم قد نهى المؤمنين عن التفرق والاختلاف بأبلغ تعبير وألطف إشارة، وذلك بأن بين لهم حسن عاقبة المعتصمين بحبل الله دون أن يتفرقوا، وما بشر به - سبحانه- المواظبين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أنهم هم المفلحون الفائزون.ثم بين لهم بعد ذلك سوء عاقبة التفرقة والاختلاف الذي وقع فيه من سبقهم من اليهود والنصارى وكيف أنه ترتب على تفرقهم واختلافهم أن كفر بعضهم بعضا. وقاتل بعضهم بعضا، ورمى بعضهم بعضا بالزيغ والضلال.هذا في الدنيا، أما في الآخرة فلهؤلاء المتفرقين والمختلفين العذاب العظيم من الله- تعالى- فالقرآن قد أتى بالأوامر ومعها الأسباب التي تدعو إلى الاستجابة لها، وأتى بالنواهى ومعها كذلك الأسباب التي تحمل على البعد عنها.وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت مسلكا من مسالك اليهود الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين، ووبختهم على ذلك توبيخا موجعا، وفضحتهم على مر العصور والدهور، وحذرت المؤمنين من شرورهم، وأرشدتهم إلى ما يعصمهم من كيدهم. وذكرتهم بنعم الله الجليلة عليهم، وأمرتهم بالمواظبة على الدعوة إلى الخير. ونهتهم عن التفرق والاختلاف لكي يسعدوا في دينهم ودنياهم.ثم حذر الله- تعالى- الناس من أهوال يوم القيامة، وأمرهم بأن يتسلحوا بالإيمان وبالعمل الصالح حتى ينجوا من عذابه فقال:
3:106
یَّوْمَ  تَبْیَضُّ   وُجُوْهٌ  وَّ  تَسْوَدُّ  وُجُوْهٌۚ-فَاَمَّا  الَّذِیْنَ  اسْوَدَّتْ  وُجُوْهُهُمْ۫-اَكَفَرْتُمْ  بَعْدَ  اِیْمَانِكُمْ  فَذُوْقُوا  الْعَذَابَ  بِمَا  كُنْتُمْ  تَكْفُرُوْنَ(۱۰۶)
جس دن کچھ منہ اونجالے ہوں گے اور کچھ منہ کالے تو وہ جن کے منہ کالے ہوئے (ف۱۹۵) کیا تم ایمان لاکر کافر ہوئے (ف۱۹۶) تو اب عذاب چکھو اپنے کفر کا بدلہ،

قوله- تعالى- يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ: بياض الوجوه وسوادها محمولان على الحقيقة عند جمهور العلماء. وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يوجب ترك هذه الحقيقة فوجب الحمل على ذلك.قال الآلوسى: قال بعضهم يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفا لهم وإظهارا لآثار أعمالهم في ذلك الجمع. ويوسم أهل الباطل بضد ذلك.والظاهر أن الابيضاض والاسوداد يكونان لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه، وهو أشرف أعضائه واختلف في وقت ذلك فقيل: وقت البعث من القبور وقيل وقت قراءة الصحف» .ويرى بعض العلماء أن بياض الوجوه هنا المراد منه لازمه وهو الفرح والسرور، كما أن سوادها المراد منه لازمه أيضا وهو الحزن والغم وعليه يكون التعبير القرآنى محمولا على المجاز لا على الحقيقة.قال الفخر الرازي ما ملخصه: وهذا مجاز مشهور قال- تعالى- وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ويقال: لفلان عندي يد بيضاء وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه: ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل ... ويقال لمن وصل إليه مكروه: اربد وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته.. وعلى هذا فمعنى الآية: أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه، فإن رأى ما يسره ابيض وجهه بمعنى أنه استبشر بنعم الله وفضله، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة عليه اسود وجهه بمعنى أنه يشتد حزنه وغمه» .والظرف «يوم» في قوله يَوْمَ تَبْيَضُّ إلخ منصوب على أنه مفعول به بفعل محذوف والتقدير: اذكر يوم تبيض وجوه وتسود وجوه والمراد الاعتبار والاتعاظ ويجوز أن يكون العامل فيه قوله عَظِيمٌ في قوله قبل ذلك وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. أى أولئك الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات لهم عذاب في هذا اليوم الهائل الشديد الذي تبيض فيه وجوه المؤمنين وتسود فيه وجوه الكافرين والفاسقين.وفي وصف هذا اليوم بأنه تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه تهويل لأمره. وتعظيم لشأنه وتشويق لما يرد بعد ذلك من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضة وأصحاب الوجوه المسودة، وترغيب للمؤمنين في الإكثار من التزود بالعمل الصالح وترهيب للكافرين من التمادي في كفرهم وضلالهم.والتنكير في قوله وُجُوهٌ للتكثير. أى تبيض وجوه عدد كثير من المؤمنين وتسود وجوه كثيرة للكافرين.وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ وقوله- تعالى- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ .قال صاحب الكشاف: «البياض من النور والسواد من الظلمة. فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته، وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده، واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب. نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمة الباطل وأهله» .ثم بين- سبحانه- حال الذين اسودت وجوههم وسوء عاقبتهم فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة فيقال لهم أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وحذف هذا القول المقدر والذي هو جواب أما لدلالة الكلام عليه، ومثله كثير في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا . أى قائلين ربنا أبصرنا وسمعنا وقوله تعالى- وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ . أى قائلين لهم: سلام عليكم.والاستفهام في قوله: أَكَفَرْتُمْ للتوبيخ والتعجب من حالهم.قال الآلوسى والظاهر من السياق أن هؤلاء هم أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم، هو كفرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الإيمان به قبل مبعثه. وقيل هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة، وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله- تعالى-، وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم» .وقوله فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أى فادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب وآلامه بسبب استمراركم على الكفر وموتكم عليه.والأمر في قوله فَذُوقُوا للإهانة والإذلال، وهو من باب الاستعارة في فَذُوقُوا استعارة تبعية تخييلية. وفي العذاب استعارة مكنية: حيث شبه العذاب بشيء يدرك بحاسة الأكل والذوق تصويرا له بصورة ما يذاق، وأثبت له الذوق تخييلا- وهو قرينة المكنية.وأل في العذاب للعهد أى فذوقوا العذاب المعهود الموصوف بالعظم، والذي سبق أن حذركم الله- تعالى- منه، ولكنكم لم تعيروا التحذير انتباها، بل تماديتم في كفركم وضلالكم حتى أدرككم الموت وأنتم على هذه الحال الشنيعة.
3:107
وَ  اَمَّا  الَّذِیْنَ  ابْیَضَّتْ  وُجُوْهُهُمْ  فَفِیْ  رَحْمَةِ  اللّٰهِؕ-هُمْ  فِیْهَا  خٰلِدُوْنَ(۱۰۷)
اور وہ جن کے منہ اونجالے ہوئے (ف۱۹۷) وہ اللہ کی رحمت میں ہیں وہ ہمیشہ اس میں رہیں گے،

ثم بين- سبحانه- حال الذين ابيضت وجوههم وحسن عاقبتهم فقال: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ببركة إيمانهم وعملهم الصالح فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أى ففي جنته. والتعبير عن الجنة بالرحمة من باب التعبير بالحال عن المحل فتكون الظرفية حقيقة. وإذا أريد برحمة الله ثوابه وجزاؤه تكون الظرفية مجازية.وفي التعبير عن الجنة بالرحمة إشعار بأن دخولها إنما هو بمحض فضل الله- تعالى- فهو- سبحانه- المالك لكل شيء، والخالق لكل شيء.وقوله هُمْ فِيها خالِدُونَ بيان لما خصهم الله- تعالى- من خلود في هذا النعيم الذي لا يحد بحد، ولا يرسم برسم، ولا تبلغ العقول مداه. أى هم في الرحمة باقون دائمون فقد أعطاهم الله- تعالى- عطاء غير مجذوذ.وقد بدأ- سبحانه- كلامه عن الفريقين بالذين ابيضت وجوههم ثم قدم الحديث عن حال الذين اسودت وجوههم على الذين ابيضت وجوههم، ليكون ابتداء الكلام واختتامه عن هؤلاء السعداء بما يسر القلب ويشرح الصدر ويغرى الناس بالتمسك بعرى الإيمان وبالإكثار من العمل الصالح الذي يوصلهم إلى رحمة الله ورضاه.ووصف- سبحانه- الذين ابيضت وجوههم بأنهم خالدون في رحمته، ولم يصف الذين اسودت وجوههم بالخلود في العذاب للتصريح في غير هذا الموضع بخلودهم في هذا العذاب كما في قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ .وللإشعار بأن باب رحمته- سبحانه- مفتوح أمام هؤلاء الضالين فعليهم أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يقلعوا عن الكفر إلى الإيمان والعمل الصالح حتى ينجوا من عذاب الله وسخطه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.وبعد أن أفاض- سبحانه- في الحديث عن أحوال السعداء وأحوال الأشقياء وعن رذائل الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم ممن أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وبعد أن ساق- سبحانه- من التوجيهات الحكيمة، والإرشادات النافعة ما يشفى الصدور ويهدى النفوس، بعد كل ذلك، خاطب- سبحانه- نبيه صلّى الله عليه وسلّم بقوله:تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ.والمراد بالآيات ما سبق ذكره في هذه السورة وغيرها من آيات قرآنية تهدى إلى الرشد وتشهد بوحدانية الله- تعالى- وبصدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عنه.وكانت الإشارة بتلك الدالة على البعد للإشعار بعلو شأن هذه الآيات وسمو منزلتها وعظم قدرها.ومعنى نَتْلُوها نقرؤها عليك يا محمد شيئا فشيئا قراءة واضحة جلية لتبلغها للناس على مكث وتدبر وروية.وأسند- سبحانه- التلاوة إليه مع أن التالي في الحقيقة جبريل- عليه السّلام- للتنبيه على شرف هذه الآيات المتلوة، ولأن تلاوة جبريل إنما هي بأمر منه- سبحانه-.
3:108
تِلْكَ  اٰیٰتُ  اللّٰهِ  نَتْلُوْهَا  عَلَیْكَ  بِالْحَقِّؕ-وَ  مَا  اللّٰهُ  یُرِیْدُ  ظُلْمًا  لِّلْعٰلَمِیْنَ(۱۰۸)
یہ اللہ کی آیتیں ہیں کہ ہم ٹھیک ٹھیک تم پر پڑھتے ہیں، اور اللہ جہاں والوں پر ظلم نہیں چاہتا(ف۱۹۸)

وقال- سبحانه- تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها فأظهر لفظ الجلالة ولم يقل تلك آياتنا نتلوها، ليكون التصريح باسمه- سبحانه- مربيا في النفوس المهابة والإجلال له، إذ هو المستحق وحده لوصف الألوهية فلا إله سواه ولا معبود بحق غيره، وهو ذو الجلال والإكرام، وهو المنشئ الموجد لهذا الكون وما فيه ومن فيه.فالتصريح باسمه- تعالى- يزيد البيان جلالا ويبعث في النفوس الخشية والمراقبة والبعد عما يوجب العقاب والإقبال على ما يوصل إلى الثواب.وقوله بِالْحَقِّ في موضع الحال المؤكدة من الفاعلي أو المفعول.أى نتلوها عليك متلبسة بالحق أو متلبسين بالصدق أو العدل في كل ما دلت عليه هذه الآيات ونطقت به، مما لا تختلف فيه العقول السليمة، والمدارك القويمة.وقوله- تعالى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ نفى للظلم بأبلغ وجه فإنه- سبحانه- لم ينف فقط الظلم عن ذاته بل نفى عن ذاته إرادة الظلم إذ هو أمر لا يليق به- سبحانه- ولا يتصور وقوعه منه.وكيف يريد الظلم من منح هذا العالم كله الوجود، وخلق هذا الكون برحمة وقدرته وعدله؟والظلم- كما يقول الراغب- وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بزيادة أو بنقصان وإما بعدول عن وقته ومكانه، ومن هذا يقال: ظلمت السقاء إذا تناولته في غير وقته، وظلمت الأرض إذا حفرتها ولم تكن موضعا للحفر.قال بعض الحكماء: الظلم ثلاثة أنواع:الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله- تعالى- وأعظمه الكفر والشرك والنفاق وإياه قصد- سبحانه- بقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.والثاني: ظلم بينه وبين الناس وإياه قصد بقوله: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ.والثالث: ظلم بينه وبين نفسه وإياه قصد بقوله: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ والظلم الذي نفى إرادته- سبحانه- عن ذاته عام لا يخص نوعا دون نوع، إذ من المعروف عند علماء اللغة أن النكرة في سياق النفي تعم، وهنا جاء لفظ الظلم منكرا في سياق النفي وهو ما.قال الجمل واللام في قوله لِلْعالَمِينَ زائدة لا تعلق لها بشيء زيدت في مفعول المصدر وهو «ظلم» والفاعلي محذوف. وهو في التقدير ضمير البارئ- سبحانه- والمعنى ما الله يريد أن يظلم العالمين، فزيدت اللام تقوية للعامل كقوله فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ .
3:109
وَ  لِلّٰهِ  مَا  فِی  السَّمٰوٰتِ  وَ  مَا  فِی  الْاَرْضِؕ-وَ  اِلَى  اللّٰهِ  تُرْجَعُ  الْاُمُوْرُ۠(۱۰۹)
اور اللہ ہی کا ہے جو کچھ آسمانوں میں ہے اور جو کچھ زمین میں ہے، اور اللہ ہی کی طرف سب کاموں کی رجوع ہے،

ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أنه هو المالك لكل شيء وأنه هو وحده الذي إليه تصير الأمور فقال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أى له- سبحانه- وحده ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا.وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أى إلى حكمه وفضائه تعود أمور الناس وشئونهم فيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى، لأنه- سبحانه- منه المبدأ وإليه المآب فيجازى كل إنسان على حسب اعتقاده وعمله بدون ظلم أو محاباة.وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حذرت الناس من أهوال يوم القيامة الذي تبيض فيه وجوه وتسود وجوه وبينت الأسباب التي أدت إلى فوز من فاز وإلى شقاء من شقي، ونوهت بشأن الآيات التي أنزلها الله- تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم لتكون هداية للناس وصرحت بأن الله- تعالى- هو الخالق لكل شيء وإليه مرجع الأمور ومصيرها فيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.وبعد أن أمر الله- تعالى- المؤمنين بالدعوة إلى الخير ونهاهم عن التفرق والاختلاف المفضى إلى العذاب العظيم يوم القيامة، وبين لهم أن مصير الأمور إليه بعد كل ذلك ساق لهم ما يقوى إيمانهم ويثبت يقينهم، بأن بشرهم بحسن العقبى متى استقاموا على أمره، وأمروا بالمعروفونهوا عن المنكر، وأنذر الكافرين من أهل الكتاب بالهزيمة في الدنيا، وبغضب الله- تعالى- في الآخرة فقال- تعالى:
3:110
كُنْتُمْ  خَیْرَ  اُمَّةٍ  اُخْرِجَتْ  لِلنَّاسِ   تَاْمُرُوْنَ  بِالْمَعْرُوْفِ  وَ  تَنْهَوْنَ  عَنِ  الْمُنْكَرِ  وَ  تُؤْمِنُوْنَ  بِاللّٰهِؕ-وَ  لَوْ  اٰمَنَ  اَهْلُ  الْكِتٰبِ  لَكَانَ  خَیْرًا  لَّهُمْؕ-مِنْهُمُ  الْمُؤْمِنُوْنَ  وَ  اَكْثَرُهُمُ  الْفٰسِقُوْنَ(۱۱۰)
تم بہتر ہو (ف۱۹۹) ان امتوں میں جو لوگوں میں ظاہر ہوئیں بھلائی کا حکم دیتے ہو اور برائی سے منع کرتے ہو اور اللہ پر ایمان رکھتے ہو، اور اگر کتابی ایمان لاتے (ف۲۰۰) تو ان کا بھلا تھا، ان میں کچھ مسلمان ہیں (ف۲۰۱) اور زیادہ کافر،

وقوله- تعالى- كُنْتُمْ يصح أن تكون من كان التامة التي بمعنى وجد وهي لا تحتاج إلى خبر فيكون المعنى وجدتم خير أمة أخرجت للناس، ويكون قوله خَيْرَ أُمَّةٍ بمعنى الحال.وبهذا الرأى قال جمع من المفسرين.ويصح أن تكون من كان الناقصة التي هي- كما يقول الزمخشري- عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ فيكون المعنى: قدرتم في علم الله- تعالى- خير أمة أخرجت للناس.ويجوز أن تكون بمعنى صار. أى تحولتم يا معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبي صلّى الله عليه وسلّم من جاهليتكم إلى أن صرتم خير أمة.وقيل: إن «كان» هنا زائدة، والتقدير: أنتم خير أمة. ورد هذا القول بأن كان لا تزاد في أول الكلام.والظاهر أن الرأى الأول الذي يقول إن كُنْتُمْ هنا من كان التامة هو أقرب الأقوال إلى الصواب «ويليه الرأى الثاني الذي يرى أصحابه أن «كنتم» هنا من «كان» الناقصة إلا أنها هنا تدل على تحقق شيء بصفة في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابق أو لا حق.والخطاب في هذه الآية الكريمة بقوله- تعالى- كُنْتُمْ للمؤمنين الذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم ولمن أتى بعدهم واتبع تعاليم الإسلام إلى يوم الدين.ولذا قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة. كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم الذين يلونهم، كما قال- سبحانه- في الآية الأخرى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.وقد وردت أحاديث متعددة في فضل هذه الأمة الإسلامية، منها: ما جاء في مسند الإمام أحمد وفي سنن الترمذي وابن ماجة من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله- تعالى-» .والمعنى: وجدتم يا معشر المسلمين العاملين بتعاليم الإسلام وآدابه وسنته وشريعته خير أمة أخرجت وأظهرت للناس، من أجل إعلاء كلمة الحق وإزهاق كلمة الباطل، ونشر الإصلاح والنفع في الأرض.وقوله خَيْرَ أُمَّةٍ خبر كنتم على أنها من كان الناقصة.وجملة أُخْرِجَتْ صفة لأمة، وقوله لِلنَّاسِ متعلق بأخرجت، وحذف الفاعلي من أُخْرِجَتْ للعلم به أى: خرجها الله- تعالى- لنفع الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.فالجملة الكريمة تنوه بشأن الأمة الإسلامية وتعلى من قدرها، فهل تعى الأمة الإسلامية هذا التنويه من شأنها وذلك الإعلاء من قدرها فتقوم بدورها الذي اختاره الله لها، وهو نشر كلمة التوحيد في الأرض وإحقاق الحق وإبطال الباطل شكرا الله- تعالى- على جعله إياها خير أمة أخرجت للناس؟؟.إن واقع المسلمين المليء بالضعف والهوان، والفسوق والعصيان يدمى قلوب المؤمنين الصادقين، ويحملهم على أن يبلغوا رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه حتى تكون كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.ثم بين- سبحانه- الأسباب التي جعلت الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس فقال:تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.والمعروف: هو كل قول أو عمل حسنه الشرع، وأيدته العقول السليمة، والمنكر بعكسه.والمعنى: وجدتم خير أمة أخرجت للناس، لأنكم تأمرون بالمعروف أى بالقول أو الفعل الجميل المستحسن في الشرائع والعقول. وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أى كل قول أو فعل قبيح تستنكره الشرائع ويأباه أهل الإيمان القويم، والعقل السليم.وتُؤْمِنُونَ بالله أى تصدقون وتذعنون بأنه لا معبود بحق سواه، وتخلصون له العبادة والخضوع، وتطيعونه في كل ما أمركم به أو نهاكم عنه على لسان رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم.فأنت ترى أن الخيرية للأمة الإسلامية منوطة بتحقيق أصلين أساسيين:أولهما: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهما سياج الدين، ولا يمكن أن يتحقق بنيان أمة على الخير والفضيلة إلا بالقيام بهما، فهما من الأسباب التي استحق بنو إسرائيل اللعنة من أجل تركهما، فقد أخرج أبو داود في سننه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال صلّى الله عليه وسلّم لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثم قال: «كلا والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا- ولتحملنه على اتباع الحق حملا- أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم» .وثانيهما: الإيمان بالله- تعالى- وبجميع ما أمره الله- تعالى- بالإيمان به.هذان هما الأمران اللذان يجب أن يتحققا لتكون هذه الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لأن الأمة التي تهمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا تؤمن بالله لا يمكن أن تكون خير أمة بل لا توصف بالخيرية قط، لأنه لا خير إلا في الفضائل والحق والعدل، ولا تقوم هذه الأمور إلا مع وجود الإيمان بالله وكثرة الدعاة إلى الخير والناهين عن الشر، ويكون لدعوتهم آثارها القوية التي تحيا معها الفضائل وتزول بها الرذائل.وكأنه- سبحانه- قد أخر «الإيمان بالله» عن «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» ليكون كالباعث عليهما لأنه لا يصبر على تكاليفهما ومتاعبهما إلا مؤمن يبتغى وجه الله ويركن في كفاحه إليه. فهذا الإيمان بالله هو الباعث للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، على أن يبلغوا رسالات الله، دون أن يخشوا أحدا سواه.وقيل: إنما أخر الإيمان على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر، لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فهما أظهر في الدلالة على الخيرية للأمة الإسلامية.وجملة تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يجوز أن تكون حالية من ضمير الخطاب في كُنْتُمْ ويجوز أن تكون مستأنفة للتعليل، وهذا ما ذهب إليه الفخر الرازي، فقد قال:«واعلم أن هذا كلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية، كما تقول. زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فههنا حكم الله- بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة. ثم ذكر عقيب هذا الحكم هذه الطاعات أعنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبارات .وقال الإمام ابن كثير- بعد أن ساق بضعة عشر حديثا في فضل هذه الأمة: فهذه الأحاديث في معنى قوله- تعالى- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح، كما قال قتادة، بلغنا أن عمر بن الخطاب رأى من الناس دعة في حجة حجها فقرأ هذه الآية. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ثم قال: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها» ، رواه ابن جرير ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ الآية .وبعد أن مدح- سبحانه- هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال- تعالى-: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أى بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أى لكان إيمانهم خيرا لهم في دنياهم وآخرتهم ولنالوا الخيرية التي ظفرت بها الأمة الإسلامية ولكنهم لم يؤمنوا فامتنع الخير فيهم لامتناع الإيمان الصحيح منهم، ولإيثارهم الضلالة على الهداية فهذه الجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ.. ومرتبطة بها.ولم يذكر متعلق آمَنَ هنا لأن المراد لو اتصفوا بالإيمان الذي هو لقب وشعار للإيمان بدين الإسلام الذي أتى به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي منه أطلقت صفة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة.وقال- سبحانه- لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أى: لو آمنوا لكان إيمانهم خيرا لهم بدون تفصيل لهذه الخيرية لتذهب نفوسهم كل مذهب في الرجاء والإشفاق.ثم أخبر- سبحانه- بأن قلة من أهل الكتاب اختاروا الإيمان على الكفر فقال- تعالى- مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ.أى: من أهل الكتاب أمة آمنت بالله وصدقت رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم واتبعت ما جاء به من الحق وأكثرهم معرضون عن الإيمان بالله وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم وخارجون عن الطريق المستقيم الذي أمرت باتباعه الشرائع والعقول السليمة.فالجملة الكريمة إنصاف للقلة المؤمنة التي آمنت من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره ممن دخل في الإسلام. وذم لأكثر أهل الكتاب الذين جحدوا الحق. وخرجوا عن الطريق القويم.وقوله مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، فهي جواب للجملة الشرطية التي قبلها. فكأنه قيل: هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر؟ فكان الجواب: منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.وعبر عن كفرهم بالفسق، للإشعار بأنهم قد فسقوا في دينهم أيضا فهم ليسوا عدولا فيه، وبذلك يكونون قد خرجوا عن الإسلام وعما أوجبته عليهم كتبهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
3:111
لَنْ  یَّضُرُّوْكُمْ  اِلَّاۤ  اَذًىؕ-وَ  اِنْ  یُّقَاتِلُوْكُمْ  یُوَلُّوْكُمُ  الْاَدْبَارَ۫-ثُمَّ  لَا  یُنْصَرُوْنَ(۱۱۱)
وہ تمہارے کچھ نہ بگاڑیں گے مگر یہی ستانا (ف۲۰۲) اور اگر تم سے لڑیں تو تمہارے سامنے سے پیٹھ پھیر جائیں گے (ف۲۰۳) پھر ان کی مدد نہ ہوگی،

ثم بشر الله- تعالى- المؤمنين، بأن هذه الكثرة الفاسقة من أهل الكتاب التي عتت عن أمر ربها وناصبت المؤمنين العداء، لن تضرهم ضررا بليغا له أثر مادام أهل الإيمان مستمسكين بدينهم ومنفذين لتعاليمه وآدابه، فقال- سبحانه- لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أى «لن يضركم أهل الكتاب يا معشر المؤمنين إلا ضررا يسيرا، كأن يؤذوكم بألسنتهم ويلقوا الشبه بينكم ليصدوا من ضعف إيمانه عن الحق، وفي هذا تثبيت للمؤمنين، وطمأنينة لقلوبهم، إذ الضرر الذي يصيب الأمة الإسلامية من أعدائها على قسمين: أولهما: ضرر يؤدى إلى هدم كيان الأمة، وإضعاف قوتها وإهدار كرامتها وجعل أمورها في أيدى أعدائها تصرفها كيف تشاء.وثانيهما: ضرر لا يؤثر في كيان الأمة، ولا يؤدى إلى اضمحلال قوتها كالأذى بالقول، أو محاولة التأثير في ضعاف الإيمان.وقد نفى- سبحانه- أن يلحق المؤمنين ضرر يأتى على كيانهم من جهة أهل الكتاب فقال:لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً فأوقع الفعل المضارع في حيز لن المفيدة للنفي- للإشارة إلى أن ذلك لا يكون في المستقبل.ولكن هذا النفي لهذا النوع من الضرر مشروط بمحافظة الأمة الإسلامية على الأصلين السابقين وهما «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان بالله» .فإذا أرادت أمة الإسلام ألا تصاب من جهة أهل الكتاب بما يأتى على كيانها، فعليا أن تخلص العبادة لربها، وأن تعمل بسنة نبيها، وأن تتقيد بأحكام كتابها، وأن تباشر الأسباب التي شرعها خالقها للنصر على أعدائها.أما إذا تركت أمة الإسلام ما أمرها الله- تعالى- به وتجاوزت ما نهاها عنه فإنها في هذه الحالة قد تصاب من أعدائها بما يؤثر في كيانها وتكون هي الجانية على نفسها بمخالفتها لأوامر الله ونواهيه.هذا، وأكثر العلماء على أن الاستثناء في قوله لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً متصل وأنه استثناء مفرغ من المصدر العام كأنه قيل: لن يضروكم ضررا ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به من كلمة سوء ونحوها.وقيل هو استثناء منقطع لأن الأذى ليس من الضرر: أى لن يضروكم بقتال وغلبة لكن بكلمة أذى ونحوها.ورجح الأول، لأن الكلام إذا أمكن حمله على الاستثناء الحقيقي لم يجز صرفه عن ذلك إلى الاستثناء المنقطع وهنا الأذى مهما قل هو نوع من الضرر وإن لم يترك أثرا.ثم بشر الله- تعالى- المؤمنين ببشارة أخرى فقال: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ.تولية الأدبار: كناية عن الهزيمة لأن المنهزم يحول ظهره ودبره إلى جهة الذي هزمه هربا إلى ملجأ يلجأ إليه ليدفع عن نفسه القتل أو الأسر.والمعنى، إن أهل الكتاب لن يضروكم يا معشر المؤمنين إلا ضررا يسيرا لا يبقى أثره فيكم - مادمتم مستمسكين بدينكم-، فإن قاتلوكم وأنتم على هذه الحال، أمدكم الله بنصره، وألقى في قلوبهم الرعب فيولونكم الأدبار انهزاما منكم، ثم لا ينصرون عليكم بل تنصرون أنتم عليهم.والتعبير عن الهزيمة بتولية الأدبار، فيه إشارة إلى جبنهم وأنهم يفرون فرارا شديدا بذعر وهلع.وهكذا كان الشأن في قتال المسلمين الأولين لأعداء الله وأعدائهم، فلقد قاتل المؤمنون اليهود من بنى قينقاع والنضير وقريظة وأهل خيبر فانتصر المسلمون عليهم انتصارا باهرا.وقاتلوا جموع الروم في بلاد الشام وفي مصر، فكان النصر المؤزر حليفا للمسلمين مع قلتهم وكثرة أعدائهم.وقوله ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ احتراس. أى: يولونكم الأدبار تولية المنهزم، لا تولية المتحرف لقتال أو المتحيز إلى فئة أو المتأمل في الأمر.والتعبير بثم لإفادة التراخي في المرتبة: لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الأدبار.وهذه الجملة خبرية وهي معطوفة على جملتي الشرط وجزائه معا، للإشعار بأن هذا ديدنهم، وأنهم لن ينتصروا على المسلمين لا في قتال ولا في غيره، مادام المسلمون مستقيمين على الطريقة التي رسمها الله- تعالى- لهم.وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: فإن قلت: هلا جزم المعطوف في قوله ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ قلت: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون.فإن قلت: فأى فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ قلت لو جزم لكان النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفى النصر وعدا مطلقا كأنه قال. ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر، وكان كما أخبر من حال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع ويهود خيبر فإن قلت: فما الذي عطف عليه هذا الخبر؟ قلت: جملة الشرط والجزاء كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت فما معنى التراخي في ثم؟ قلت:التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار فإن قلت: ما موقع الجملتين، أعنى مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ولَنْ يَضُرُّوكُمْ قلت هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ولذلك جاءا من غير عطف» .فأنت ترى الآية الكريمة قد بشرت المؤمنين الصادقين ببشارات ثلاث:أولها: أنهم في مأمن من الضرر البليغ الذي يؤثر في كيانهم وعزتهم وكرامتهم من جهة أهل الكتاب.ثانيها: أن أهل الكتاب لو قاتلوهم، فإن المؤمنين سيكون لهم النصر عليهم.ثالثها: أنهم بعد نصرهم عليهم لن تكون لأهل الكتاب- وعلى رأسهم اليهود- شوكة أو قوة للأخذ بثأرهم بعد ذلك.وقد تحققت هذه البشارات، وكانت كما أخبر الله- تعالى- فإن المسلمين الأولين الذين كانوا متمسكين بتعاليم دينهم نصرهم الله- تعالى- على أهل الكتاب وعلى غيرهم من أعدائهم نصرا مؤزرا- كما سبق أن أشرنا- فإن قال قائل: ولكن الذي نراه الآن أن اليهود الذين لا يمارى أحد في جبنهم وفي حرصهم على الحياة قد انتصروا على المسلمين وأقاموا لهم دولة في بقعة من أعز بقاع البلاد الإسلامية وهي فلسطين فهل يخلف وعد الله؟والجواب على ذلك. أن وعد الله- تعالى- لا يخلف ولن يتخلف وقد حققه- سبحانه- لأسلافنا الصالحين الذي آمنوا به حق الإيمان. ولكن المسلمين في هذا العصر هم الذين تغيرت أحوالهم، فقد فرطوا في دينهم وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وتفرقوا شيعا وأحزابا وتنكبوا الطريق القويم ولم يباشروا الأسباب التي شرعها الله- تعالى- لبلوغ النصر، ولم يحسنوا الشعور بالمسئولية.فلما فعلوا ذلك تبدل حالهم من الخير إلى الشر، ومن القوة إلى الضعف. وسلط الله عليهم من لا يخافهم ولا يرحمهم، لأنه- سبحانه- لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.وإذا ما عاد المسلمون إلى دينهم فطبقوا أوامره ونواهيه على أنفسهم تطبيقا كاملا، فإن الله- تعالى- سيعيد لهم كرامتهم وعزتهم وقوتهم وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ .ومن هنا نعلم أن الشرط في نفى الضرر الذي يؤثر في الأمة الإسلامية، هو أن تكون مؤمنة بربها حق الإيمان متبعة لهدى رسولها محمد صلّى الله عليه وسلّم.
3:112
ضُرِبَتْ  عَلَیْهِمُ  الذِّلَّةُ  اَیْنَ  مَا  ثُقِفُوْۤا  اِلَّا  بِحَبْلٍ  مِّنَ  اللّٰهِ  وَ  حَبْلٍ  مِّنَ  النَّاسِ   وَ  بَآءُوْ  بِغَضَبٍ  مِّنَ  اللّٰهِ  وَ  ضُرِبَتْ  عَلَیْهِمُ  الْمَسْكَنَةُؕ-ذٰلِكَ  بِاَنَّهُمْ  كَانُوْا  یَكْفُرُوْنَ  بِاٰیٰتِ  اللّٰهِ  وَ  یَقْتُلُوْنَ  الْاَنْۢبِیَآءَ  بِغَیْرِ  حَقٍّؕ-ذٰلِكَ  بِمَا  عَصَوْا  وَّ  كَانُوْا  یَعْتَدُوْنَۗ(۱۱۲)
ان پر جمادی گئی خواری جہاں ہوں امان نہ پائیں (ف۲۰۴) مگر اللہ کی ڈور (ف۲۰۵) اور آدمیوں کی ڈور سے (ف۲۰۶) اور غضب الٰہی کے سزاوار ہوئے اور ان پر جمادی گئی محتاجی (ف۲۰۷) یہ اس لئے کہ وہ اللہ کی آیتوں سے کفر کرتے اور پیغمبروں کو ناحق شہید کرتے، یہ اس لئے کہ نا فرمانبردار اور سرکش تھے،

ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بعض العقوبات التي عاقب بها اليهود بسبب كفرهم وظلمهم فقال: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ.وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة يقال ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها، وتفرعت عن هذا المعنى معان مجازية أخرى ترجع إلى شدة اللصوق.والذلة على وزن فعلة من قول القائل: ذل فلان يذل ذلة وذلا. والمراد بها الصغار والهوان والحقارة.فضرب الذلة عليهم كناية عن لزومها لهؤلاء اليهود، وإحاطتها بهم، كما يحيط السرادق بمن يكون في داخله.قال صاحب الكشاف: جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم كمن يكون في القبة من ضربت عليه، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه. فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة» .وثُقِفُوا أى وجدوا، أو ظفر بهم. يقال: ثقفه أى صادفه أو ظفر به أو أدركه. وهذه المادة تدل على التمكن من أخذ الشيء ومن التصرف فيه بشدة ومنها سمى الأسير ثقافا.والثقاف آلة تكسر بها أغماد الرماح.والحبل: هو ما يربط بين شيئين ويطلق على العهد لأن الناس يرتبطون بالعهود: كما يقع الارتباط الحسى بالحبال، وهذا الإطلاق هو المراد هنا.ولذا قال ابن جرير: وأما الحبل الذي ذكره الله- تعالى- في هذا الموضوع، فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام.والمعنى: أن هؤلاء اليهود أحاطت بهم الذلة في جميع أحوالهم أينما وجدوا وحيثما حلوا إلا في حال اعتصامهم بعهد من الله أو بعهد من الناس.وقد فسر العلماء عهد الله بعقد الجزية الذي يربط بينهم وبين المسلمين.وإنما كان عقد الجزية عهدا من الله لهم، لأنه- سبحانه- هو الذي شرعه، وما شرعه الله فالوفاء به واجب.وكان عهدا من المسلمين لهم، لأنهم أحد طرفيه، فهم الذين باشروه مع اليهود وبمقتضاه يحفظون حقوقهم ودماءهم وأموالهم ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وعلى المسلمين حمايتهم، وصون أموالهم لقاء مقدار من المال يدفع لهم كل عام وهو المسمى بالجزية.وأما عهد الناس، فهو العهود التي يعيشون بمقتضاها في أى أمة من أمم الأرض مسلمة كانت هذه الأمة أو كافرة.فإن كانت العهود صادرة من المسلمين، جاز أن يطلق عليها عهد الله- أيضا- باعتبار أن الله هو الذي شرعها.وإن كانت من غير المسلمين فهي عهود من الناس سواء أوافقت شريعة الله تعالى- أم لا.والمعنى الإجمالى للآية: أن اليهود قد ضرب الله- تعالى- عليهم الذلة والمسكنة في كل زمان ومكان بسبب كفرهم وطغيانهم، وسلب عنهم السلطان والملك، فهم يعيشون في بقاع الأرض في حماية غيرهم من الأمم الأخرى، بمقتضى عهود يعقدونها معهم وقد تكون هذه العهود موافقة لشرع الله- تعالى- وقد لا تكون موافقة.فإن قال قائل: إنهم الآن أصحاب جاه وسلطان، بعد أن أنشأوا دولتهم بفلسطين!! والجواب: أنهم مع قيام هذه الدولة يعيشون تحت حماية غيرهم من دول الكفر الكبرى.فهي التي تحميهم وتمدهم بأسباب الحياة والقوة، فينطبق على هذه الحالة- أيضا- أنها بحبل من الناس. فاليهود لا سلطان لهم، ولا عزة تكمن في نفوسهم، ولكنهم مأمورون مسخرون أن يعيشوا في تلك البقعة من الأرض لتكون مركزا لتلك الأمم التي تعهدت بحمايتهم ليقفزوا منها إلى محاربة المسلمين، إذا أتيحت لهم فرصة.ولو أن المسلمين غيروا ما بأنفسهم، وتمسكوا بشريعتهم، واجتمعت قلوبهم، وتوحدت أهدافهم، وأحسنوا الشعور بالمسئولية نحو دينهم وأنفسهم وأوطانهم، وأعدوا ما استطاعوا من قوة لقتال أعداء الله وأعدائهم..لو أنهم فعلوا ذلك لما كان حالهم كما ترى الآن من ضعف وتخاذل وتفرق والأمل كبير في أن يتنبه المسلمون إلى ما يحيط بهم من أخطار فيعملوا على دفعها ويعتصموا بحبل الله لتعود لهم قوتهم وهيبتهم.هذا، وقوله: أَيْنَ ما اسم شرط، وهو ظرف مكان و «ما» مزيدة فيها للتأكيد.وقوله ثُقِفُوا في محل جزم بها.وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أى: أينما ثقفوا غلبوا أو ذلوا.ويجوز أن يكون جواب الشرط قوله ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ عند من يجوز تقديم جواب الشرط على الشرط.والاستثناء في قوله إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ مفرغ من عموم الأحوال أى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس.ثم ذكر- سبحانه- عقوبتين أخريين أنزلهما بهم جزاء كفرهم وتعديهم لحدوده فقال تعالى:وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ.قال ابن جرير: قوله- تعالى- وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أى انصرفوا ورجعوا. ولا يقال باؤوا، إلا موصولا إما بخير وإما بشر. يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء. ومنه قوله- تعالى- إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يعنى تنصرف متحملهما، وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط» .والمسكنة: مفعلة من السكون، ومنها أخذ لفظ المسكين. لأن الهم قد أثقله فجعله قليل الحركة والنهوض لما به من الفاقة والفقر.والمراد بها في الآية الكريمة الضعف النفسي، والفقر القلبي الذي يستولى على الشخص فيجعله يحس بالهوان مهما تكن لديه من أسباب القوة.والفرق بينها وبين الذلة: أن الذلة تجيء أسبابها من الخارج. كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو.أما المسكنة فهي تنشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق، واستيلاء المطامع والشهوات وحب الدنيا عليها.والمعنى: أن هؤلاء اليهود يجانب ضرب الذلة عليهم حيثما حلوا، قد صاروا في غضب من الله، وأصبحوا أحقاء به، وضربت عليهم كذلك المسكنة التي تجعلهم يحسون بالصغار مهما ملكوا من قوة ومال.ثم ذكر- سبحانه- الأسباب التي جعلتهم أحقاء بهذه العقوبات فقال- تعالى-:ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.فاسم الإشارة ذلك يعود إلى تلك العقوبات العادلة التي عاقبهم الله بها بسبب كفرهم وفسقهم.والآيات: تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله- تعالى- وربوبيته وتطلق ويراد بها النصوص التي تشتمل عليها الكتب السماوية، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل- عليهم الصلاة والسلام- فيما يبلغون عن الله- تعالى-، وهي التي يسميها علماء التوحيد بالمعجزات.وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع يَكْفُرُونَ.أى: ذلك الذي أصابهم من عقوبات رادعة، سببه أنهم كانوا يكفرون بآيات الله وأدلته الدالة على وحدانيته وعلى صدق رسله- عليهم الصلاة والسلام- وتلك هي جريمة بنى إسرائيل الأولى.أما جريمتهم الثانية فقد عبر عنها- سبحانه- بقوله وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أى أنهم لم يكتفوا بالكفر، بل امتدت أيديهم الأثيمة إلى دعاة الحق وهم أنبياء الله- تعالى- الذين أرسلهم لهدايتهم فقتلوهم بدون أدنى شبهة تحمل على الإساءة إليهم فضلا عن قتلهم.وقال- سبحانه- بِغَيْرِ حَقٍّ مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبدا. لإفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر في شريعتهم لأنها تحرمه.قال- تعالى- مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً .فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم، وتخليد مذمتهم، وتقبيح إجرامهم حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ في الفهم، أو تأويل في الحكم أو شبهة في الأمر، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا، ومخالفون لشرع الله عن تعمد وإصرار.ولذا قال صاحب الكشاف: فإن قلت: قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق، فما فائدة ذكره؟ قلت: معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم.فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل عندهم وقال الفخر الرازي ما ملخصه: فإن: قيل: قال هنا: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وقال في سورة البقرة وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فما الفرق؟ قلت: إن الحق المعلوم بين المسلمين الذي يوجب القتل يتجلى في حديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق» . فالحق المذكور في سورة البقرة إشارة إلى هذا.وأما الحق المنكر هنا فالمراد به تأكيد العموم أى لم يكن هناك أى حق يستندون إليه، لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة .ونسب- سبحانه- القتل إلى أولئك اليهود المعاصرين للعهد النبوي مع أن القتل قد صدر عن أسلافهم، لأن أولئك المعاصرين كانوا راضين بفعل آبائهم وأجدادهم، فصحت نسبة القتل إليهم، ولأن بعض أولئك المعاصرين قد همّ بقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم فكف الله- تعالى- أيديهم الأثيمة عنه.ثم سجل الله- تعالى- جريمتهم الثالثة بقوله ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.العصيان: الخروج عن طاعة الله، والاعتداء: تجاوز الحد الذي حده الله- تعالى- لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه.وللمفسرين في مرجع اسم الإشارة ذلِكَ في قوله ذلِكَ بِما عَصَوْا رأيان:أولهما: أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم لأنبيائه، وعليه يكون المعنى:إن هؤلاء اليهود قد ألفوا العصيان لخالقهم والتعدي لحدوده بجرأة وعدم مبالاة، فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه، وباشروا تلك الكبائر بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة.والجملة الكريمة على هذا الرأى تفيد أن التردي في المعاصي، وارتكاب ما نهى الله عنه، وتجاوز الحدود المشروعة، يؤدى إلى الانتقال من صغير الذنوب إلى كبيرها ومن حقيرها إلى عظيمها لأن هؤلاء اليهود حين استمرءوا المعاصي، هانت على نفوسهم الفضائل، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا فكذبوا بآيات الله تكذيبا، وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق.وثانيهما: أن اسم الإشارة ذلِكَ في قوله ذلِكَ بِما عَصَوْا يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإشارة الأول وهو قوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ.وتكون الحكمة في تكرار الإشارة هو تمييز المشار إليه، حرصا على معرفته، ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم واستحقاقهم لغضب الله كما أشرنا من قبل.والإشارة حينئذ من قبيل التكرير المغني عن العطف كما في قوله- تعالى- أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.والمعنى: أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا وقتلهم أنبياءنا وخروجهم عن طاعتنا، وتعديهم حدودنا.وعلى هذا الرأى يكون ذكر أسباب العقوبة التي حلت بهم في الدرجة العليا من حسن الترتيب فقد بدأ- سبحانه- بما فعلوه في حقه وهو كفرهم بآياته. ثم ثنى بما يتلوه في العظم وهو قتلهم لأنبيائه، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته، ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء وتخطى الحدود، وعدم المبالاة بالعهود.وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم في سوق الأحكام مشفوعة بعللها وأسبابها.وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد بدأت حديثها بمدح الأمة الإسلامية بأنها خير أمة أخرجت للناس، ثم ثنت بدعوة أهل الكتاب إلى الإسلام وبإخبار المؤمنين بأن أعداءهم لن يضروهم ضررا يؤثر في كيانهم ماداموا معتصمين بتعاليم دينهم، ثم ختمت حديثها ببيان العقوبات التي حلت باليهود بسبب كفرهم وبغيهم.وبعد هذا الحديث الحكيم عن أهل الكتاب، وعن العقوبات التي أنزلها- سبحانه- باليهود بسبب فسقهم وظلمتهم، بعد كل ذلك ساق- سبحانه- آيات كريمة تمدح من يستحق المدح من أهل الكتاب إنصافا لهم وتكريما لذواتهم فقال- تعالى:
3:113
لَیْسُوْا  سَوَآءًؕ-مِنْ  اَهْلِ  الْكِتٰبِ  اُمَّةٌ  قَآىٕمَةٌ  یَّتْلُوْنَ  اٰیٰتِ  اللّٰهِ  اٰنَآءَ  الَّیْلِ  وَ  هُمْ  یَسْجُدُوْنَ(۱۱۳)
سب ایک سے نہیں کتابیوں میں کچھ وہ ہیں کہ حق پر قائم ہیں (ف۲۰۸) اللہ کی آیتیں پڑھتے ہیں رات کی گھڑیوں میں اور سجدہ کرتے ہیں (ف۲۰۹)

فالضمير في قوله- تعالى- لَيْسُوا سَواءً يعود لأهل الكتاب الذين تقدم الحديث عنهم وهو اسم ليس، وخبرها قوله سَواءً والجملة مستأنفة للثناء على من يستحق الثناء منهم بعد أن وبخ القرآن من يستحق التوبيخ منهم.قال ابن كثير: والمشهور عند كثير من المفسرين أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم. أى لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب، وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال- تعالى- لَيْسُوا سَواءً أى ليسوا كلهم على حد سواء بل منهم المؤمن ومنهم المجرم .وقوله- تعالى- مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من إيهام.أى: ليس أهل الكتاب متساوين في الكفر وسوء الأخلاق، بل منهم طائفة قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه مستقيمة على طريقته ثابتة على الحق ملازمة له، لم تتركه كما تركه الأكثرون من أهل الكتاب وضيعوه.فمعنى قائمة. مستقيمة عادلة من قولك أقمت العود فقام بمعنى استقام.أو معناها: ثابتة على التمسك بالدين الحق، ملازمة له غير مضطربة في التمسك به، كما في قوله- تعالى- إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أى ملازما لمطالبته يحقك. ومنه قوله- تعالى- شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ أى ملازما له.والمراد بهذه الطائفة من أهل الكتاب التي وصفها الله- تعالى- بأنها أُمَّةٌ قائمة أولئك الذين أسلموا منهم واستقاموا على أمر الله وأطاعوه في السر والعلن، كعبد الله بن سلام، وأصحابه، والنجاشيّ ومن آمن معه من النصارى. فهؤلاء قد آمنوا بكل ما يجب الإيمان به، ولم يفرقوا بين أنبياء الله ورسله، فمدحهم الله على ذلك وأثنى عليهم.ثم تابع القرآن حديثه عن أوصافهم الكريمة فقال يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.وقوله يَتْلُونَ من التلاوة وهي القراءة، وأصل الكلمة من الإتباع، فكأن التلاوة هي إتباع اللفظ اللفظ.والمراد بآيات الله هنا: ما أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم من قرآن.وقوله: آناءَ اللَّيْلِ أى أوقاته وساعاته. والآناء جمع إنى- كمعا وأمعاء- أو جمع أنى- كعصا-، أو جمع أنى وإنى وإنو. فالهمزة في آناء منقلبة عن ياء كرداء: أو عن واو ككساء.والمراد بالسجود في قوله: وَهُمْ يَسْجُدُونَ الصلاة لأن السجود لا قراءة فيه وإنما فيه التسبيح، فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنى نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم» .والمعنى: ليس أهل الكتاب متساوين في الاتصاف بما ذكر من القبائح، بل منهم قوم سلموا منها، وهم الذين استقاموا على الحق ولزموه، وأكثروا من تلاوة آيات الله في صلاتهم التي يتقربون بها إلى الله- تعالى- آناء الليل وأطراف النهار.قال الآلوسى ما ملخصه. والمراد بصلاتهم هذه التهجد- على ما ذهب إليه البعض-.وعلل هذا بأنه أدخل في المدح وفيه تتيسر لهم التلاوة، لأنها في المكتوبة وظيفة الإمام.والذي عليه بعض السلف أنها صلاة العتمة. واستدل عليه بما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود قال أخر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: «أما إنه لا يصلى هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب» . وعبر عن الصلاة بالسجود، لأنه أدل على كمال الخضوع والصلاة تسمى سجودا وسجدة، وركوعا وركعة .
3:114
یُؤْمِنُوْنَ  بِاللّٰهِ  وَ  الْیَوْمِ  الْاٰخِرِ  وَ  یَاْمُرُوْنَ  بِالْمَعْرُوْفِ  وَ  یَنْهَوْنَ  عَنِ  الْمُنْكَرِ  وَ  یُسَارِعُوْنَ  فِی  الْخَیْرٰتِؕ-وَ  اُولٰٓىٕكَ  مِنَ  الصّٰلِحِیْنَ(۱۱۴)
اللہ اور پچھلے دن پر ایمان لاتے ہیں اور بھلائی کا حکم دیتے اور برائی سے منع کرتے ہیں (ف۲۱۰) اور نیک کاموں پر دوڑتے ہیں، اور یہ لوگ لائق ہیں،

ثم وصفهم- سبحانه- بصفات أخرى كريمة فقال: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والمراد بهذا الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول الذي نطق به الشرع، وجاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم.وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أى ويؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب وجنة ونار وقوله:وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إشعار بأنهم لم يكتفوا بتكميل أنفسهم بالفضائل التي من أشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر، والإكثار من إقامة الصلاة ومن تلاوة القرآن، بل أضافوا إلى ذلك إرشاد غيرهم إلى الخير الذي أمر الله به، ونهيه عن الباطل الذي يبغضه الله، وتستنكره العقول السليمة.وقوله- تعالى- وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أى يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات التي ترفع درجاتهم عند الله- تعالى- بدون تردد أو تقصير.وقال- سبحانه-: وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ولم يقل إلى الخيرات للإشعار بأنهم مستقرون في كل أعمالهم في طريق الخير، فهم ينتقلون من خير إلى خير في دائرة واحدة هي دائرة الخير، ينتقلون بين زواياها وأقطارها ولا يخرجون منها. فهم لا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير، وإنما ينتقلون مسارعين من خير إلى خير وهذا هو سر التعبير بفي المفيدة للظرفية.والمسارعة في الخير هي فرط الرغبة فيه، لأن من رغب في الأمر يسارع في توليه وفي القيام به، واختيار صيغة المفاعلة «يسارعون» للمبالغة في سرعة نهوضهم لهذا العمل الجامع لفنون الخير، وألوان البر.قال صاحب الكشاف. وقوله: يَتْلُونَ ويُؤْمِنُونَ في محل الرفع صفتان لأمة. أى:قائمة تالون مؤمنون. وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين، ومن الإيمان بالله، لأن إيمانهم به كلا إيمان، لإشراكهم به عزيزا، وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض: ومن الإيمان باليوم الآخر، لأنهم يصفونه بخلاف صفته. ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لأنهم كانوا مداهنين. ومن المسارعة في الخيرات، لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها» .واسم الإشارة في قوله: وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ يعود إلى الموصوفين بتلك الصفات السابقة من تلاوة الكتاب ومن إيمان بالله واليوم الآخر..أى وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة الشأن من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم، واستحقوا ثناءه عليهم.وفي التعبير بقوله: مِنَ الصَّالِحِينَ إشارة إلى أنهم بهذه المزايا وتلك الصفات، قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله- تعالى- ووصفهم بأن أكثرهم من الفاسقين.فهم بسبب إيمانهم وأفعالهم الحميدة قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين.قال الفخر الرازي: واعلم أن وصفهم بالصلاح في غاية المدح، ويدل عليه القرآن والمعقول. أما القرآن، فهو أن الله- تعالى- مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء، فقال بعد ذكر إدريس وإسماعيل وذي الكفل وغيرهم وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.وذكر حكاية عن سليمان أنه قال: «وأدخلنى برحمتك في عبادك الصالحين» . وأما المعقول، فهو أن الصلاح ضد الفساد، وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء أكان ذلك في العقائد أم في الأعمال، فإذا كان كل ما حصل من باب ما ينبغي أن يكون فقد حصل الصلاح، فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات .
3:115
وَ  مَا  یَفْعَلُوْا  مِنْ  خَیْرٍ  فَلَنْ  یُّكْفَرُوْهُؕ-وَ  اللّٰهُ  عَلِیْمٌۢ  بِالْمُتَّقِیْنَ(۱۱۵)
اور وہ جو بھلائی کریں ان کا حق نہ مارا جائے گا اور اللہ کو معلوم ہیں ڈر والے (ف۲۱۱)

ثم بين- سبحانه- أنه لن يضيع شيئا مما قدموه من أعمال صالحة، بل سيكافئهم على ذلك بما هو أفضل وأبقى فقال: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أى أن هؤلاء الذين وصفهم بتلك الصفات الطيبة لن يضيع الله شيئا مما قدموه من عمل صالح، وإنما سيجازيهم بما هم أهله من ثواب جزيل، وأجر كبير بدون أى نقصان أو حرمان.وما في قوله: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ شرطية. وفعل الشرط قوله: يَفْعَلُوا وجوابه قوله: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ.ومِنْ في قوله: مِنْ خَيْرٍ لتأكيد العموم أى ما يفعلوا من أى خير سواء أكان قليلا أم كثيرا فلن يحرموا ثوابه.وأصل الكفر: الستر والتغطية. وقد صح تعدية الفعل كفر إلى مفعولين لأنه هنا بمعنى حرم.ولذا قال صاحب الكشاف: فإن قلت لم عدى إلى مفعولين، وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول: شكر النعمة وكفرها؟ قلت: ضمن معنى الحرمان فكأنه قيل: فلن يحرموه بمعنى: فلن يحرموا جزاءه» .وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ تذييل مقرر لمضمون ما قبله. أى هو- سبحانه- عليم بأحوال عباده وسيجازى المتقين بما يستحقون من ثواب، وسيجازى الكافرين بما يستحقون من عقاب.فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد أنصفت المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب، ووصفتهم بجملة من الصفات الطيبة.وصفتهم بأنهم طائفة ثابتة على الحق. وأنهم يتلون آيات آناء الليل وأطراف النهار، وأنهم مكثرون من التضرع إلى الله في صلواتهم وسجودهم، وأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وأنهم يأمرون بالمعروف، وأنهم ينهون عن المنكر، وأنهم يسارعون في الخيرات، وأنهم من الصالحين.ثم بشرهم- سبحانه- بعد وصفهم بهذه الصفات الكريمة بأن ما يقدموه من خير فلن يحرموا ثوابه، لأنه- سبحانه- عليم بأحوال عباده ولن يضيع أجر من أحسن عملا.وبعد هذا الحديث المؤثر عن أحوال المؤمنين من أهل الكتاب وبيان ما أعده الله لهم من ثواب جزيل، أتبعه بالحديث عن الكافرين وعن سوء عاقبتهم وعن أهم الأسباب التي أدت إلى جحودهم وفسوقهم فقال- تعالى-:
3:116
اِنَّ  الَّذِیْنَ  كَفَرُوْا  لَنْ  تُغْنِیَ  عَنْهُمْ  اَمْوَالُهُمْ  وَ  لَاۤ  اَوْلَادُهُمْ  مِّنَ  اللّٰهِ  شَیْــٴًـاؕ-وَ  اُولٰٓىٕكَ  اَصْحٰبُ  النَّارِۚ-هُمْ  فِیْهَا  خٰلِدُوْنَ(۱۱۶)
وہ جو کافر ہوئے ان کے مال اور اولاد (ف۲۱۲) ان کو اللہ سے کچھ نہ بچالیں گے اور وہ جہنمی ہیں ان کو ہمیشہ اس میں رہنا (ف۲۱۳)

والمراد بالذين كفروا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا جميع الكفار، لأن اللفظ عام، ولا دليل بمقتضى تخصيصه بفريق من الكافرين دون فريق. والمراد من الإغناء في قوله: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً الدفع وسد الحاجة يقال: أغنى فلان فلانا عن هذا الأمر، إذا كفاه مؤنته، ورفع عنه ما أثقله منه.أى: إن الذين كفروا بما يجب الإيمان به، واغتروا بأموالهم وأولادهم في الدنيا، لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا- ولو يسيرا- من عذاب الله الذي سيحيق بهم يوم القيامة بسبب كفرهم وجحودهم.وقد أكد- سبحانه- عدم إغناء أموالهم ولا أولادهم عنهم شيئا- في وقت هم في أشد الحاجة إلى من يعينهم ويدفع عنهم- بحرف «لن» المفيد لتأكيد النفي وخص الأموال والأولاد بالذكر، لأن الكفار كانوا أكثر ما يكونون اغترارا بالأموال والأولاد، وقد حكى القرآن غرورهم هذا بأموالهم وأولادهم في كثير من الآيات، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ولأن من المتعارف عليه بين الناس أن الإنسان يلجأ إلى ماله وولده عند الشدائد، إذ المال يدفع به الإنسان عن نفسه في الفداء وما يشبهه من المغارم، والأولاد يدافعون عن أبيهم لنصرته ممن يعتدى عليه.وكرر حرف النفي مع المعطوف في قوله: وَلا أَوْلادُهُمْ، لتأكيد عدم غناء أولادهم عنهم، ولدفع توهم ما هو متعارف من أن الأولاد لا يقعدون عن الذب عن آبائهم.فالمقصود من الجملة الكريمة نفى الانتفاع بالأموال والأولاد في حالة اجتماعهما، وفي حالة انفراد أحدهما عن الآخر، لأن المال قد يكون أكثر نفعا في مواضع خاصة، والأولاد قد يكونون أكثر نفعا من المال في مواطن أخرى، فبتكرار النفي تأكد عدم انتفاع الكفار بهذين النوعين في أية حال من الأحوال.فإن قيل: لقد نص القرآن على أن الكفار لا تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة، مع أن المؤمنين كذلك لا تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم فلماذا خص الكافرين بالذكر؟.فالجواب أن الكافرين هم الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم، وهم الذين اعتقدوا أنهم سينجون من العقاب بسبب ذلك، أما المؤمنون فإنهم لم يعتقدوا هذا الاعتقاد، ولم يغتروا بما منحهم الله من نعم، وإنما اعتقدوا أن الأموال والأولاد فتنة، ولم يعتمدوا في نجاتهم من عقاب الله يوم القيامة إلا على فضله ورحمته، وعلى إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح.ومِنَ في قوله: مِنَ اللَّهِ ابتدائية، والجار والمجرور متعلق بتغنى.وقوله: شَيْئاً منصوب على أنه مفعول مطلق أى: لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا من الإغناء والدفع. وتنكير شَيْئاً للتقليل.وقوله: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تذييل قصد به بيان سوء عاقبتهم، وما أعد لهم من عذاب شديد.أى وأولئك الكافرون المغترون بأموالهم وأولادهم، هم أصحاب النار الذين سيلازمونها ويصلون سعيرها، ولن يصرفهم من عذاب الله أى ناصر من أموال أو أولاد أو غيرهما.وقد أكد- سبحانه- هذا الحكم العادل بعدة مؤكدات منها: التعبير باسم الإشارة المتضمن السلب من كل قوة كانوا يعتزون بها، ومنها: ذكر مصاحبتهم للنار وخلودهم فيها أى ملازمتهم لها ملازمة أبدية، ومنها: ما اشتملت عليه الجملة الكريمة من معنى القصر أى أولئك أصحاب النار الذين يلازمونها ولا يخرجون منها إلى غيرها بل هم خالدون فيها.
3:117
مَثَلُ  مَا  یُنْفِقُوْنَ  فِیْ  هٰذِهِ  الْحَیٰوةِ  الدُّنْیَا  كَمَثَلِ  رِیْحٍ  فِیْهَا  صِرٌّ  اَصَابَتْ  حَرْثَ  قَوْمٍ  ظَلَمُوْۤا  اَنْفُسَهُمْ  فَاَهْلَكَتْهُؕ-وَ  مَا  ظَلَمَهُمُ  اللّٰهُ  وَ  لٰكِنْ  اَنْفُسَهُمْ  یَظْلِمُوْنَ(۱۱۷)
کہاوت اس کی جو اس دنیا میں زندگی میں (ف۲۱۴) خرچ کرتے ہیں اس ہوا کی سی ہے جس میں پالا ہو وہ ایک ایسی قوم کی کھیتی پر پڑی جو اپنا ہی برا کرتے تھے تو اسے بالکل مارگئی (ف۲۱۵) اور اللہ نے ان پر ظلم نہ کیا ہاں وہ خود اپنی جانوں پر ظلم کرتے ہیں،

ثم ضرب- سبحانه- مثلا لبطلان ما كان ينفقه هؤلاء الكافرون من أموال في الدنيا فقال: مثل ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْياأى من أموال في وجوه الخير المختلفة، كمواساة البائسين، ودفع حاجة المحتاجين.وا موصولة، والعائد محذوف، والتقدير، مثل ما ينفقونه.َثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّأى كمثل ريح فيها برد شديد قاتل للنبات. وقيل: الصر. الحر الشديد، وقيل الصر: صوت لهيب النار التي تحرق الثمار.وذكر- سبحانه- الصر على أنه في الريح، وأنها مشتملة عليه، وهي له ظرف وهو مظروف، للاشعار بأنها ريح لا تحمل عوامل النماء للزرع، وإنما هي تحمل معها ما يهلكه.وقوله: صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُأى أصابت زرع قوم ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصي فدمرته وأهلكت ما فيه من ثمار وهم أحوج ما يكونون إلى هذا الزرع وتلك الثمار.والحرث هنا مصدر بمعنى المحروث، وأصل كلمة حرث: فلح الأرض وإلقاء البذر فيها، ثم أطلقت على ما هو نتيجة لذلك وهو الزرع.وفي التعبير بقوله: لَمُوا أَنْفُسَهُمْتذكير للسامعين، وبعث لهم على ترك الظلم، حتى لا يصابوا بمثل ما أصيب به أولئك الذين ظلموا أنفسهم من عقوبات رادعة، وأضرار فادحة.ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَأى أن الله- تعالى- ما ظلمهم حين لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بإيثارهم الكفر على الإيمان، ومن كان كذلك فلن يقبل الله منه شيئا لأن الله تعالى، إنما يتقبل من المتقين.والضمائر في هذه الجملة الكريمة تعود على أولئك الكافرين الذين ينفقون أموالهم مقرونة بالوجوه المانعة من قبولها.وفي هذه الآية الكريمة تشبيه بليغ، فقد شبه- سبحانه- حال ما ينفقه الكفار في الدنيا- على سبيل القربة أو المفاخرة- شبه ذلك في ضياعه وذهابه وقت الحاجة إليه في الآخرة من غير أن يعود عليهم بفائدة، بحال زرع لقوم ظالمين، أصابته ريح مهلكة فاستأصلته، ولم ينتفع أصحابه منه بشيء، وهم أحوج ما يكونون إليه.قال صاحب الانتصاف: أصل الكلام- والله أعلم- مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا، كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم، فأصابته ريح فيها صر فأهلكته.ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة. وهي تقديم ما هو أهم لأن الريح التي هي مثل العذاب، ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث.فقدمت عناية بذكرها، واعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه ومثل هذا في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة قوله- تعالى-: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما ومثله- أيضا- أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه. والأصل أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت. وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة» .وبعد أن بين- سبحانه- سوء عاقبة الكافرين أكمل بيان وأحكمه، حذر المؤمنين من أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ممن لا يريدون للإسلام إلا الشرور والمضار فقال- تعالى-:
3:118
یٰۤاَیُّهَا  الَّذِیْنَ  اٰمَنُوْا  لَا  تَتَّخِذُوْا  بِطَانَةً  مِّنْ  دُوْنِكُمْ  لَا  یَاْلُوْنَكُمْ  خَبَالًاؕ-وَدُّوْا  مَا  عَنِتُّمْۚ-قَدْ  بَدَتِ  الْبَغْضَآءُ  مِنْ  اَفْوَاهِهِمْ ﭕ وَ  مَا  تُخْفِیْ  صُدُوْرُهُمْ  اَكْبَرُؕ-قَدْ  بَیَّنَّا  لَكُمُ  الْاٰیٰتِ  اِنْ  كُنْتُمْ  تَعْقِلُوْنَ(۱۱۸)
اے ایمان والو! غیروں کو اپنا راز دار نہ بناؤ (ف۲۱۶) وہ تمہاری برائی میں کمی نہیں کرتے ان کی آرزو ہے، جتنی ایذا پہنچے بیَر ان کی باتوں سے جھلک اٹھا اور وہ (ف۲۱۷) جو سینے میں چھپائے ہیں اور بڑا ہے، ہم نے نشانیاں تمہیں کھول کر سنادیں اگر تمہیں عقل ہو (ف۲۱۸)

قال الفخر الرازي ما ملخصه: اختلفوا في الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم؟فقيل هم اليهود، لأن بعض المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان فيهم من الرضاع والحلف. وقيل هم المنافقون، وذلك لأن بعض المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوالهم فيفشون إليهم الأسرار والصحيح أن المراد بهم جميع أصناف الكفار، والدليل عليه قوله تعالى:بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين، فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار» .والبطانة في الأصل: داخل الثوب، وجمعها بطائن. قال- تعالى-: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ . وظاهر الثوب يسمى الظهارة، والبطانة- أيضا- الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر ويسمى الشعار، وما فوقه الدثار وفي الحديث «الأنصار شعار والناس دثار» .ثم أطلقت البطانة على صديق الرجل وصفيه الذي يطلع على شئونه الخفية تشبيها ببطانة الثياب في شدة القرب من صاحبها. قال الشاعر:أولئك خلصائى نعم وبطانتى ... وهم عيبتي من دون كل قريبوقوله: مِنْ دُونِكُمْ أى من غير أهل ملتكم.والمعنى: لا يجوز لكم- أيها المؤمنون- أن تتخذوا من غير أهل ملتكم أصفياء وأولياء تلقون إليهم بأسراركم التي لا يصح لكم أن تطلعوهم عليها، لأنكم لو فعلتم ذلك لأصابكم الضرر في دينكم ودنياكم.قال القرطبي: «نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء ويسندون إليهم أمورهم. وفي سنن أبى داود عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» . وقيل لعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين» .ثم قال القرطبي- رحمه الله: قلت وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء. روى البخاري عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه. وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه، والمعصوم من عصمه الله» .وصدر- سبحانه- النداء بوصف الإيمان، للإشعار بأن مقتضى الإيمان يوجب عليهم ألا يأمنوا من يخالفهم في عقيدتهم على أسرارهم، وألا يتخذوا أعداء الله وأعداءهم أولياء يلقون إليهم بالمودة، وألا يطلعوهم على ما يجب إخفاؤه من شئون وأمور خاصة بالمؤمنين وقوله: مِنْ دُونِكُمْ يجوز أن يكون صفة لبطانة فيكون متعلقا بمحذوف، أى لا تتخذوا بطانة كائنة من غيركم. ويجوز أن يكون متعلقا بقوله: لا تَتَّخِذُوا أى لا تتخذوا من غير أهل ملتكم بطانة تصافونهم وتطلعونهم على أسراركم.ثم ذكر- سبحانه- جملة من الأسباب التي تجعل المؤمنين يمتنعون عن مصافاة هؤلاء الذين يخالفونهم في عقيدتهم فقال في بيان أول هذه الأسباب: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وأصل «الألو» :التقصير. يقال: ألا في الأمر- كغزا- يألو ألوا وألوا، إذا قصر فيه، ومنه قول امرئ القيس:وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آلأراد ولا مقصر، وهو- أى الفعل «يألو» من الأفعال اللازمة التي تتعدى إلى المفعول بالحرف، وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين كما في قولهم: لا آلوك نصحا، على تضمين الفعل معنى المنع. أى لا أمنعك ذلك.والخبال: الشر والفساد. وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطرابا.يقال خبله وخبله فهو خابل. والجمع الخبل ورجل مخبل إذا أصيب بمرض أورثه اضطرابا وفسادا في قواه العقلية والفكرية.والمعنى: أنهاكم- أيها المؤمنون- عن أن تتخذوا أولياء وأصفياء لكم من غير إخوانكم المؤمنين، لأن هؤلاء الأولياء من غير إخوانكم المؤمنين، لا يقصرون في جهد يبذلونه في إفساد أمركم، وفيما يورثكم شرا وضرا. أو لا يمنعونكم خبالا، أى أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون شيئا منه عندهم، بل يبذلون قصارى جهدهم في إلحاق الضرر بكم في دينكم ودنياكم.وقوله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى اجتنابهم. أو صفة لقوله:بِطانَةً.وقوله: خَبالًا منصوب على أنه المفعول الثاني ليألونكم لتضمينه معنى يمنعونكم.ويصح أن يكون منصوبا بنزع الخافض أى لا يقصرون لكم عن جهد فيما يورثكم شرا وفسادا.أما السبب الثاني الذي يحمل المؤمنين على اجتناب هؤلاء الضالين فقد بينه- سبحانه- بقوله: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ.وقوله: وَدُّوا من الود وهو المحبة. يقال: وددت كذا أى أحببته.وقوله: عَنِتُّمْ من العنت وهو شدة الضرر والمشقة. ومنه قوله- تعالى-: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أى لأوقعكم فيما يشق عليكم.وما في قوله: ما عَنِتُّمْ هي ما المصدرية. أى: أن هؤلاء الذين تصافونهم وتفشون إليهم أسراركم مع أنهم ليسوا على ملتكم، بجانب أنهم لا يألون جهدا في إفساد أمركم، فإنهم يحبون عنتكم ومشقتكم وشدة ضرركم، وتفريق جمعكم، وذهاب قوتكم.فالجملة الأولى وهي قوله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا بمنزلة المظهر والنتيجة، وهذه. أى قوله تعالى: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ بمنزلة الباعث والدافع.فهم لا يودون للمسلمين الخير والاطمئنان والأمان، وإنما يودون لهم الشقاء والشرور والخسران. وليس بعاقل ذلك الذي يطلع من يريد له الشرور على أسراره ودخائله.وأما السبب الثالث الذي يدعو المؤمنين إلى اجتنابهم فقد بينه الله- تعالى- بقوله: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ.والبغضاء مصدر كالسراء والضراء، وهي البغض الشديد المتمكن في النفوس، والثابت في القلوب.أى: قد ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم، وطفح البغض الباطن في قلوبهم لكم حتى خرج من أفواههم، ولاح على صفحات وجوههم، وقد قيل: كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان. ومع هذا فإن ما تخفيه نفوسهم المريضة لكم من أحقاد وإحن، أكبر مما نطقت به ألسنتهم من بغضاء، إذ أن ما نطقوا به إنما هو بمثابة الرشح الذي ظهر من مسام أجسادهم وقلوبهم، أما ما يبيتونه لكم من شرور وآثام فهو أكبر من ذلك بكثير.وخص الأفواه بالذكر دون الألسنة. للإشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم الباطلة، فهم أشد جرما من المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه.ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان مظهر من مظاهر فضله على المؤمنين حيث كشف لهم عن أحوال أعدائهم، وعن سوء نواياهم وعن الأسباب التي تدعو إلى الحذر منهم فقال- تعالى-: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.أى قد بينا لكم العلامات الواضحات، والآيات البينات التي تعرفون بها أعداءكم، وتميزون عن طريقها بين الصديق وبين العدو، إن كنتم من أهل العقل والفهم.والمقصود من الجملة الكريمة حضهم على استعمال عقولهم بتأمل وتدبر في هذه الآيات التي بينها الله لهم فضلا منه وكرما، وحتى لا يتخذوا بطانة من غير إخوانهم في العقيدة والدين.وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه، والتقدير: إن كنتم تعقلون ذلك فلا تباطنوهم ولا تفشوا لهم أسراركم.
3:119
هٰۤاَنْتُمْ  اُولَآءِ  تُحِبُّوْنَهُمْ  وَ  لَا  یُحِبُّوْنَكُمْ  وَ  تُؤْمِنُوْنَ  بِالْكِتٰبِ  كُلِّهٖۚ-وَ  اِذَا  لَقُوْكُمْ  قَالُوْۤا  اٰمَنَّا  ﳒ  وَ  اِذَا  خَلَوْا  عَضُّوْا  عَلَیْكُمُ  الْاَنَامِلَ  مِنَ  الْغَیْظِؕ-قُلْ  مُوْتُوْا  بِغَیْظِكُمْؕ-اِنَّ  اللّٰهَ  عَلِیْمٌۢ  بِذَاتِ  الصُّدُوْرِ(۱۱۹)
سنتے ہو یہ جو تم ہو تم تو انہیں چاہتے ہو (ف۲۱۹) اور وہ تمہیں نہیں چاہتے (ف۲۲۰) اور حال یہ کہ تم سب کتابوں پر ایمان لاتے ہو (ف۲۲۱) اور وہ جب تم سے ملتے ہیں کہتے ہیں ہم ایمان لائے (ف۲۲۲) اور اکیلے ہوں تو تم پر انگلیاں چبائیں غصہ سے تم فرمادو کہ مرجاؤ اپنی گھٹن (قلبی جلن) میں (ف۲۲۳) اللہ خوب جانتا ہے دلوں کی بات،

ثم ذكر- سبحانه- أمورا أخرى من شأنها أن تجعل المؤمنين يقلعون عن مباطنة ومصافاة أعدائهم في الدين فقال: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ أى ها أنتم أولاء أيها المؤمنون تحبون هؤلاء الذين يخالفونكم في عقيدتكم، وتتمنون لهم الهداية والخير، بينما هم لا يحبونكم ولا يريدون لكم إلا الشرور والهزائم والضعف.وفي هذه الجملة الكريمة عتاب ولوم للمؤمنين الذين يلقون إلى أعدائهم بالمودة، ويكشفون لهم عن أسرارهم ودخائلهم.وها حرف تنبيه، وقوله: أَنْتُمْ مبتدأ وقوله: أُولاءِ خبره، وقوله: تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ كلام مستأنف لبيان خطئهم في موالاتهم ومحبتهم لمن يبغضونهم ويخالفونهم في الدين.وبعضهم جعل أَنْتُمْ مبتدأ، وقوله: أُولاءِ منادى حذف منه حرف النداء، وقوله:تُحِبُّونَهُمْ هو الخبر عن المبتدأ.وبعضهم جعل جملة تُحِبُّونَهُمْ في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة الذي هو الخبر.والمراد بالكتاب في قوله: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ جنس الكتب السماوية التي أنزلها الله على أنبيائه.أى أنتم أيها المؤمنون تحبونهم وهم لا يحبونكم، وأنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية التي أنزلها الله على أنبيائه وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم الذي أنزله الله على نبيكم محمد صلّى الله عليه وسلّم وما دام الأمر كذلك فكيف تتخذونهم بطانة من دون إخوانكم المؤمنين؟ لا شك أن من يفعل ذلك يكون بعيدا عن الطريق القويم، والعقل السليم.ثم بين- سبحانه- سببا ثالثا يدل على قبيح مخالطتهم ومصافاتهم فقال- تعالى-: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ.والعض هو الإمساك بالأسنان أى تحامل الأسنان بعضها على بعض. يقال: عض يعض عضا وعضيضا إذا تحامل بأسنانه على الشيء.والأنامل جمع أنملة، وهي أطراف الأصابع. وقيل هي الأصابع.والغيظ: أشد الغضب. وعضهم الأنامل كناية عن شدة غضبهم وتحسرهم وحنقهم على المؤمنين.أى أن هؤلاء الذين يواليهم بعضكم أيها المؤمنون بلغ من نفاقهم وسوء ضمائرهم أنهم إذا لقوكم قالوا آمنا بدينكم وبنبيكم محمد صلّى الله عليه وسلّم وإذا خلوا، أى خلا بعضهم ببعض أكل الحقد قلوبهم عليكم، وسلقوكم بألسنة حداد، وتمنوا لكم المصائب، وأظهروا فيما بينهم أشد ألوان الغيظ نحوكم بسبب ما يرونه من ائتلافكم، واجتماع كلمتكم، وعجزهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفي منكم. وإلحاق الاضرار بين صفوفكم.ومن كان كذلك في كفره ونفاقه، كان من الواجب على كل مؤمن أن يحتقره وأن يبتعد عنه لأنه لا يريد للمؤمنين إلا شرا.ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يكبت هؤلاء المنافقين ويبقى حسرتهم فقال: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ولكل مؤمن من أتباعه لتحريضه على مقاطعة هؤلاء الذين لا يريدون إلا الشر.أى: قل لهم دوموا على غيظكم واستمروا عليه إلى أن تموتوا. فإن قوة الإسلام وعزة أهله التي جعلتكم تبغضون المؤمنين ستبقى وستستمر، وإن أحقادكم على المسلمين لن تنقص من قوتهم وعلو كلمتهم شيئا.فالمراد الدعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، وهذا يستلزم أن يستمر ما يغيظهم ويكبتهم وهو نجاح الإسلام وقوته.والباء في قوله: بِغَيْظِكُمْ للملابسة، أى موتوا متلبسين بغيظكم وحقدكم.وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أى محيط بما خفى فيها، ومطلع على ما يبيته هؤلاء المنافقون للمسلمين، وسيحاسبهم عليه حسابا عسيرا. ويعذبهم بسبب ذلك عذابا أليما.قال الجمل: وهذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفة، أخبر الله- تعالى- بذلك. لأنهم كانوا يخفون غيظهم ما أمكنهم، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد. ويحتمل أن تكون من جملة المقول، أى قل لهم كذا وكذا فتكون في محل نصب بالقول، ومعنى قوله: بِذاتِ الصُّدُورِ أى بالمضمرات ذوات الصدور. فذات هنا تأنيث ذي بمعنى صاحبة الصدور. وجعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها وعدم انفكاكها عنها، نحو أصحاب الجنة وأصحاب النار وفي هذه الجملة الكريمة تطييب لقلب النبي صلّى الله عليه وسلّم ولقلوب أصحابه. حيث بين- سبحانه- لهم أنه ناصرهم، وأنه كاشف لهم أمر أعدائهم متى أطاعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، ولم يجعلوا من أولئك الأعداء الذين يضمرون لهم كل شر وضغينة بطانة لهم.
3:120
اِنْ  تَمْسَسْكُمْ  حَسَنَةٌ  تَسُؤْهُمْ٘-وَ  اِنْ  تُصِبْكُمْ  سَیِّئَةٌ  یَّفْرَحُوْا  بِهَاؕ-وَ  اِنْ  تَصْبِرُوْا  وَ  تَتَّقُوْا  لَا  یَضُرُّكُمْ  كَیْدُهُمْ  شَیْــٴًـاؕ-اِنَّ  اللّٰهَ  بِمَا  یَعْمَلُوْنَ  مُحِیْطٌ۠(۱۲۰)
تمہیں کوئی بھلائی پہنچے تو انہیں برا لگے (ف۲۲۴) اور تم کہ برائی پہنچے تو اس پر خوش ہوں، اور اگر تم صبر اور پرہیزگاری کیے رہو (ف۲۲۵) تو ان کا داؤ تمہارا کچھ نہ بگاڑے گا، بیشک ان کے سب کام خدا کے گھیرے میں ہیں،

ثم ذكر- سبحانه- لونا آخر من ألوان بغض هؤلاء الكافرين للمؤمنين فقال- سبحانه-:إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها والمس: أصله الجس باليد. أطلق على كل ما يصل إلى الشيء على سبيل التشبيه، فيقال: فلان مسه النصب أو التعب، أى أصابه.والمراد بالحسنة هنا منافع الدنيا على اختلاف ألوانها، كصحة البدن، وحصول النصر، ووجود الألفة والمحبة بين المؤمنين.أى إن تمسسكم- أيها المؤمنون- حسنة كنصركم على أعدائكم. وإصلاح ذات بينكم، تَسُؤْهُمْ أى تحزنهم وتملأ قلوبهم غيظا عليكم، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ كنزول مصيبة بكم، يفرحوا بها. أى يبتهجوا بها، وتستطار ألبابهم سرورا وحبورا بسبب ما نزل بكم من مكاره.فالجملة الكريمة بيان لفرط عداوة هؤلاء المنافقين للمؤمنين، حيث يحسدونهم على ما ينالهم من خير، ويشمتون بهم عند ما ينزل بهم شر.وعبر في جانب الحسنة بالمس، وفي جانب السيئة بالإصابة، للإشارة إلى تمكن الأحقاد من قلوبهم، بحيث إن أى حسنة حتى ولو كان مسها للمؤمنين خفيفا وليس غامرا عاما فإن هؤلاء المنافقين يحزنون لذلك، لأنهم يستكثرون كل خير للمؤمنين حتى ولو كان هذا الخير ضئيلا.أما بالنسبة لما يصيب المؤمنين من مكاره، فإن هؤلاء المنافقين لا يفرحون بالمصيبة التي تمس المؤمنين مسا خفيفا، فإنها لا تشفى غيظهم وحقدهم، وإنما يفرحون بالمصائب الشديدة التي تؤذى المؤمنين في دينهم ودنياهم أذى شديدا ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بإرشاد المؤمنين إلى الدواء الذي يتقون به كيد أعدائهم وأعدائه فقال- تعالى-: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.وقوله: تَصْبِرُوا من الصبر وهو حبس النفس على ما يقتضيه الشرع والعقل.وقوله: وَتَتَّقُوا من التقوى وهي صيانة الإنسان نفسه عن محارم الله.وقوله: كَيْدُهُمْ من الكيد وهو أن يحتال الشخص ليوقع غيره في مكروه.والمعنى: وَإِنْ تَصْبِرُوا أيها المؤمنون على طاعة الله، فتضبطوا أنفسكم ولا تنساقوا في محبة من لا يستحق المحبة، وتتحملوا بعزيمة صادقة مشاق التكاليف التي كلفكم الله بها، وتقاوموا العداوة بمثلها وَتَتَّقُوا الله- تعالى- في كل ما نهاكم عنه، وتمتثلوا أمره في كل ما أمركم به، إن فعلتم ذلك لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ وتدبيرهم السيئ شَيْئاً من الضرر ببركة هاتين الفضيلتين: الصبر والتقوى، فإنهما جامعتان لمحاسن الطاعات، ومكارم الأخلاق.وإن لم تفعلوا ذلك أصابكم الضرر، واستمكنوا منكم بكيدهم ومكرهم. قال الجمل ما ملخصه: وقوله: لا يَضُرُّكُمْ وردت فيه قراءتان سبعيتان:إحداهما: بضم الضاد وضم الراء مع التشديد- من ضر يضر.والثانية: لا يَضُرُّكُمْ- بكسر الضاد وسكون الراء- من ضار يضير. والفعل في كليهما مجزوم جوابا للشرط، وجزمه على القراءة الثانية «يضركم» ظاهر، وعلى القراءة الأولى «يضركم» يكون مجزوما بسكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الإتباع للتخلص من التقاء الساكنين، وأصل الفعل يضرركم- بوزن ينصركم- نقلت حركة الراء الأولى إلى الضاد ثم أدغمت في الثانية، وحركت الثانية بالضم اتباعا لحركة الضاد» .وقوله: شَيْئاً نصب على المصدرية. أى لا يضركم كيدهم شيئا من الضرر لا قليلا ولا كثيرا بسبب اعتصامكم بالصبر والتقوى.وقوله: إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ تذييل قصد به إدخال الطمأنينة على قلوب المؤمنين، والرعب في قلوب أعدائهم.. أى إنه- سبحانه- محيط بأعمالهم وبكل أحوالهم، ولا تخفى عليه خافية منها، وسيجازيهم عليها بما يستحقونه من عذاب أليم بسبب نياتهم الخبيثة، وأقوالهم الذميمة. وأفعالهم القبيحة.وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين بأسلوب بليغ حكيم عن مصافاة من يخالفونهم في الدين، وذكرت لهم من صفات وأحوال هؤلاء المخالفين ما يحملهم على منابذتهم والحذر منهم والبعد عنهم، وأرشدتهم إلى ما يعينهم على النصر عليهم وعلى التخلص من آثار مكرهم وكيدهم.وإنها لوصايا حكيمة وتوجيهات سديدة، وإرشادات عالية، ما أحوج المسلمين في كل زمان ومكان إلى العمل بها لكي يفلحوا في دنياهم وآخرتهم.تدبر معى- أخى القارئ- هذه الآيات مرة أخرى فماذا ترى؟إنك تراها توجه إلى المؤمنين نداء محببا إلى نفوسهم، محركا لحرارة العقيدة في قلوبهم..حيث نادتهم بصفة الإيمان، ونهتهم في هذا النداء عن اتخاذ أولياء وأصفياء لهم من غير إخوانهم المؤمنين. ولكن هل اكتفت بهذا النهى مع أنه كفيل بحجز المؤمنين عما نهتهم عنه؟كلا، إنها لم تكتف بذلك، بل ساقت لهم صورة كاملة السمات لأحوال أعدائهم، صورة ناطقة بدخائل نفوسهم، وبمشاعرهم الظاهرة والخفية، وبانفعالاتهم القلبية والجسدية، وبحركاتهم الذاهبة والآية، صورة ناطقة بحالهم عند ما يلتقون بالمؤمنين، وبحالهم عند ما يفارقونهم ويخلون بأنفسهم، أو عند ما يلتقون بأمثالهم من الضالين. صورة ناطقة بسرورهم عند ما تصيب المسلمين مصيبة، وبحزنهم عند ما يرون المؤمنين في نعمة يسيرة.صورة ناطقة بموقف المؤمنين منهم وبموقفهم هم من المؤمنين ثم بعد رسم هذه الصورة العجيبة المتكاملة لهم، يسوق القرآن للمؤمنين أسمى وأحكم ألوان التوجيه والإرشاد الذي يجعلهم في مأمن من كيدهم ومكرهم وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً.أرأيت- يا أخى- كيف ربي القرآن أتباعه أكمل تربية وأحكمها وأسماها؟ إنه نهاهم أولا عن مباطنة أعدائهم، ثم ساق لهم بعد ذلك من أوصافهم وأحوالهم ما يقنعهم ويحملهم على البعد عنهم، ثم أرشدهم إلى الدواء الذي ينجيهم من مكرهم.فما أحكمه من توجيه. وما أسماه من إرشاد، وإن ذلك ليدل على أن هذا القرآن من عند الله وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً .وإلى هنا تكون سورة آل عمران قد حدثتنا- من بين ما حدثتنا- في مائة وعشرين آية منها، عن بعض الأدلة على وحدانية الله- تعالى-، وعن مظاهر قدرته ورحمته، وعن كتبه التي أنزلها على أنبيائه لسعادة الناس وهدايتهم وعن حب الناس للشهوات وعما هو أسمى وأفضل من هذه الشهوات الزائلة، وعن المجادلات التي حدثت بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين أهل الكتاب فيما يتعلق بوحدانية الله- تعالى- وبصحة دين الإسلام، وعن جوانب من قصة آل عمران وما اشتملت عليه من عظات وعبر، وعن الشبهات التي أثارها اليهود حول الدعوة الإسلامية والمسالك الخبيثة التي سلكوها في حربهم لها وكيف رد القرآن عليهم بما يفضحهم ويكشف عن كذبهم، ويجعل المؤمنين يزدادون إيمانا على إيمانهم.والخلاصة أن السورة الكريمة من مطلعها إلى هنا قد ساقت- من بين ما ساقت- ألوانا من الحرب النفسية التي شنها أهل الكتاب على الدعوة الإسلامية، وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم، ويبصرهم بالحق- إن كانوا طلاب حق- وساقت للمؤمنين من التوجيهات والعظات، ما يهدى قلوبهم، ويصلح بالهم ويكفل لهم النصر على أعدائهم.وبعد هذا السبح الطويل في الحديث عما دار بين المسلمين وبين أعدائهم من حرب كلامية وفكرية ونفسية ... انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن حروب السيف والسنان، وما صاحبها من أفكار وأقوال وأفعال.فقد حدثتنا السورة الكريمة في حوالى ستين آية عن جوانب متعددة من غزوة «أحد» تلك الغزوة التي كانت لها آثارها الهامة في حياة المسلمين وأحوالهم.ولعل من الخير- قبل أن نبدأ في تفسير الآيات الكريمة التي وردت في سورة آل عمران بشأن هذه الغزوة- أن نسوق خلاصة تاريخية لهذه الغزوة تعين على فهم الآيات المتعلقة بها، فتقول:كانت غزوة بدر من الغزوات المشهورة في تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد انتصر المسلمون فيها انتصارا مؤزرا على كفار قريش.وصمم المشركون على أن يأخذوا بثأرهم من المسلمين، فجمعوا جموعهم، وخرجوا في جيش كبير، ومعهم بعض نسائهم حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال في القتال.ووصل مشركو قريش ومعهم حلفاؤهم إلى أطراف المدينة في أوائل شوال من السنة الثالثة، وكان عددهم يربو على ثلاثة آلاف رجل.واستشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه في شأن هؤلاء المشركين الزاحفين إلى المدينة.فكان رأى بعضهم- ومعظمهم من الشباب- الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة.وكان من رأى فريق آخر من الصحابة، استدراج المشركين إلى أزقة المدينة ومقاتلتهم بداخلها، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يميل إلى رأى هذا الفريق، إلا أنه آثر الأخذ برأى الفريق الأول الذي يرى أصحابه الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة، نظرا لكثرة عدد القائلين بذلك.ثم دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم بيته، ثم خرج منه وقد لبس آلة حربه، وشعر بعض المسلمين أنهم قد استكرهوا النبي صلّى الله عليه وسلّم على القتال، فأظهروا له الرغبة في النزول على رأيه، إلا أنه لم يستجب لهم، وقال كلمته التي تعلم الناس الحزم وعدم التردد: «ما ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، لقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس. وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه» .ثم خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في ألف مقاتل من المسلمين حتى نزل قريبا من جبل «أحد» إلا أن «عبد الله بن أبى بن سلول» انسحب في الطريق بثلث الناس محتجا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأخذ برأيه، بل أخذ برأى غيره.وعسكر المسلمون بالشعب من أحد، جاعلين ظهرهم إلى الجبل، ورسم النبي صلّى الله عليه وسلّم الخطة لكسب المعركة، فجاءت خطة محكمة رائعة. فقد وزع الرماة على أماكنهم- وكانوا خمسين راميا-، وقال لهم: «انضحوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا. إن كانت لنا أو علينا فالزموا أماكنكم لا نؤتين من قبلكم» .وفي رواية أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: احموا ظهورنا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا» .وأخيرا التقى الجمعان، وأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأتباعه أن يجالدوا أعداءهم، وأظهر المسلمون أسمى صور البطولة والإقدام، وكان شعارهم في هذا الالتحام «أمت أمت» .وما هي إلا جولات في أوائل المعركة، حتى ولى المشركون المسلمين الأدبار، ولم يغن عن المشركين شيئا ما كانت تقوم به نسوتهم من تحريض واستنهاض للعزائم.قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله- تعالى- نصره، وصدق وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها.ورأى الرماة الهزيمة وهي تحل بقريش، فتطلعت نفوسهم إلى الغنائم، وحاول أميرهم، عبد الله بن جبير أن يمنعهم من ترك أماكنهم عملا بوصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أن معظمهم تركوا أماكنهم ونزلوا إلى ساحة المعركة ليشاركوا في جمع الغنائم والأسلاب.وأدرك خالد بن الوليد- وكان ما زال مشركا- أن ظهور المسلمين قد انكشفت بترك الرماة لأماكنهم، فاهتبل الفرصة على عجل، واستدار بمن معه من خيل المشركين خلف المسلمين فأحدق بهم، وأخذ في مهاجمتهم من مكان ما كانوا ليظنوا أنهم سيهاجمون منه، فقد كانوا يعتمدون على الرماة في حماية ظهورهم.وعاد المشركون المنهزمون إلى مقاتلة المسلمين، بعد أن رأوا ما فعله خالد ومن معه.واضطربت صفوف المسلمين للتحول المفاجئ الذي حدث لهم، إلا أن فريقا منهم أخذ يقاتل ببسالة وصبر. واستشهد عدد كبير منهم وهم يحاولون شق طريقهم.وأصيب النبي صلّى الله عليه وسلّم خلال ذلك بجروح بالغة، وأشيع أنه قد قتل، إلا أنه صلّى الله عليه وسلّم جعل يصيح بالمسلمين: إلى عباد الله، إلى عباد الله.. فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا، ودافعوا عنه دفاع الأبطال المخلصين..ومرت على المسلمين ساعة من أحرج الساعات في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد كان المشركون يهاجمون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بعناد وحقد، وكان المسلمون مستميتين في الدفاع عن رسولهم صلّى الله عليه وسلّم وعن أنفسهم.وكان لهذه الاستماتة آثارها في تراجع المشركين، وقد ظنوا أنهم قد أخذوا بثأرهم من المسلمين ...وخشي النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون تراجع المشركين من أجل مهاجمة المدينة، فقال لعلى بن أبى طالب: «اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة. وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فهم يريدون المدينة. فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنهم فيها» .قال على: فخرجت في آثارهم فرأيتهم جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، واتجهوا إلى مكة.وعند ما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم لرجل من أصحابه: قل له: نعم بيننا وبينك موعد.وانتهت غزوة أحد باستشهاد حوالى سبعين صحابيا من بينهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب ابن عمير، وسعد بن الربيع. وغيرهم من الأبطال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.وهذه خلاصة لأحداث غزوة أحد كما روتها كتب السيرة.والآن فلنول وجوهنا شطر القرآن الكريم، لنتدبر حديثه الحكيم عن هذه الغزوة، ولنستمع إليه بقلوب واعية، وآذان متفتحة، وهو يبدأ حديثه عنها فيقول:
  FONT
  THEME
  TRANSLATION
  • English | Ahmed Ali
  • Urdu | Ahmed Raza Khan
  • Turkish | Ali-Bulaç
  • German | Bubenheim Elyas
  • Chinese | Chineese
  • Spanish | Cortes
  • Dutch | Dutch
  • Portuguese | El-Hayek
  • English | English
  • Urdu | Fateh Muhammad Jalandhry
  • French | French
  • Hausa | Hausa
  • Indonesian | Indonesian-Bahasa
  • Italian | Italian
  • Korean | Korean
  • Malay | Malay
  • Russian | Russian
  • Tamil | Tamil
  • Thai | Thai
  • Farsi | مکارم شیرازی
  TAFSEER
  • العربية | التفسير الميسر
  • العربية | تفسير الجلالين
  • العربية | تفسير السعدي
  • العربية | تفسير ابن كثير
  • العربية | تفسير الوسيط لطنطاوي
  • العربية | تفسير البغوي
  • العربية | تفسير القرطبي
  • العربية | تفسير الطبري
  • English | Arberry
  • English | Yusuf Ali
  • Dutch | Keyzer
  • Dutch | Leemhuis
  • Dutch | Siregar
  • Urdu | Sirat ul Jinan
  HELP

اٰلِ عِمْرَان
اٰلِ عِمْرَان
  00:00



Download

اٰلِ عِمْرَان
اٰلِ عِمْرَان
  00:00



Download