READ
Surah At-Tawbah
اَلتَّوْبَة
129 Ayaat مدنیۃ
بَرَآءَةٌ مِّنَ اللّٰهِ وَ رَسُوْلِهٖۤ اِلَى الَّذِیْنَ عٰهَدْتُّمْ مِّنَ الْمُشْرِكِیْنَؕ(۱)
بیزاری کا حکم سنانا ہے اللہ اور اس کے رسول کی طرف سے ان مشرکوں کو جن سے تمہارا معاہدہ تھا اور وہ قائم نہ رہے (ف۲)
تمهيد بين يدي تفسير سورة التوبةنقصد بهذا التمهيد- كما سبق أن بينا في تفسير السور السابقة- إعطاء القارئ صورة واضحة عن السورة التي سنفسرها قبل أن نبدأ في تفسيرها آية آية. فنقول:1- سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سور الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال.2- وعدد آياتها مائة وتسعة وعشرون آية عند الكوفيين. ومائة وثلاثون آية عند جمهور العلماء.3- أسماؤها:عرفت هذه السورة منذ العهد النبوي بجملة من الأسماء منها:(ا) التوبة: وسميت بهذا الاسم لتكرار الحديث فيها عن التوبة والتائبين ومن ذلك قوله- تعالى-: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... .وقوله- تعالى-: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ .وقوله- تعالى-: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .وقوله- تعالى-: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ .. .وقوله- تعالى-: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ... .إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تكررت في هذه السورة عن التوبة والتائبين.(ب) براءة: وسميت بذلك لافتتاحها بقوله- سبحانه-: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ....وهذان الاسمان- التوبة وبراءة- هما أشهر أسماء هذه السورة الكريمة.(ج) الفاضحة: وسميت بهذا الاسم لحديثها المستفيض عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم.. وفضيحتهم على رءوس الأشهاد.أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة قال: التوبة هي الفاضحة. ما زالت تنزل: ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أنها لن تبقى أحدا منهم إلا ذكر فيها .(د) المنقرة: وسميت بذلك، لأنها نقرت عما في قلوب المنافقين والمشركين فكشفت عنه، وأظهرته للناس.(ه) المثيرة: وسميت بهذا الاسم، لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم. أى: أخرجتها من الخفاء إلى الظهور.(و) المبعثرة: لأنها بعثرت أسرارهم. أى بينتها وعرفتها للمؤمنين.(ز) المدمرة: أى المهلكة لهم.إلى غير ذلك من الأسماء التي اشتهرت بها هذه السورة الكريمة .هذا، وليس في سور القرآن الكريم أكثر أسماء منها ومن سورة الفاتحة.4- زمان ومكان نزولها:قال ابن كثير: هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال البخاري ... » .وقال صاحب المنار: هي مدنية بالاتفاق. وقيل: إلا قوله- تعالى- ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ... الآية وذلك لما روى في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهى عن استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب- كما سيأتى تفصيله عند تفسيرها.ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين: مرة منفردة ومرة في أثناء السورة.واستثنى ابن الفرس قوله- تعالى- لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... إلى آخر الآيتين اللتين في آخرها فزعموا أنهما مكيتان.ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين من آخر ما نزل من القرآن، كما يرده أيضا قول الكثيرين من أن هذه السورة نزلت تامة.وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات، يجاب عنه بأن أكثر ما روى في أسباب النزول، كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا. أعنى أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام الاستدلال. وهذا لا يدل على نزولها وحدها، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه، كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة» .وقال بعض العلماء: ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية، ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته، ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك..يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة. ولكنها لم تنزل دفعة واحدة.ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل:المرحلة الأولى منها: كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام.والمرحلة الثانية: كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها.والمرحلة الثالثة: كانت بعد العودة منها.أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها، فقد نزلت متأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج من ذي القعدة أو في ذي الحجة.وهذا- على الإجمال- هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه .والذي نراه أن هذا القول هو الذي تسكن إليه النفس في الحديث عن زمان ومكان نزول السورة الكريمة لأن الذي يستعرض آياتها يراها- في مجموعها- ترسم للمؤمنين ما يجب أن تكون عليه علاقاتهم مع المشركين، ومع أهل الكتاب ومع المنافقين ومع غيرهم من الطوائف.كما يراها ترسم لهم الطريق الذي يجب عليهم أن يتخذوه أساسا لدولتهم. ومنهاجا لحياتهم، حتى تستمر عزتهم، وتبقى كلمتهم عالية قوية بعد أن فتح الله لهم مكة وأذل الشرك وأهله.كما يراها- أيضا- تتحدث باستفاضة عن أحداث قد وقعت خلال غزوة تبوك أو قبلها أو بعدها. وغزوة تبوك قد كانت في السنة التاسعة من الهجرة.5-لماذا لم تذكر البسملة في أول سورة التوبة؟.للإجابة على هذا السؤال ذكر العلماء أقوالا متعددة لخصها القرطبي تلخيصا حسنا فقال:واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة:الأول: - أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية، إذا كان بينهم وبين قوم عهد وأرادوا نقضه، كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب فقرأها عليهم في الموسم، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهود من ترك البسملة.وقول ثان: - روى النسائي قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال: حدثنا عوف، قال: حدثنا يزيد الرقاشي- وفي صحيح الترمذي يزيد الفارسي- قال: قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى «الأنفال» وهي من المثاني، وإلى «براءة» وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال فما حملكم على ذلك؟قال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وكانت «الأنفال» من أوائل ما أنزل- أى بعد الهجرة، و «براءة» من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم.وقول ثالث: روى عن عثمان أيضا. وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أولها سقط بسم الله الرحمن الرّحيم معه.وروى ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة «براءة» كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها: فلذلك لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم.وقال سعيد بن جبير: كانت مثل سورة البقرة.وقول رابع: - قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. قالوا: لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: براءة والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال إنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة، فرضي الفريقان معا، وثبت حجتاهما في المصحف.وقول خامس: قال عبد الله بن عباس: سألت على بن أبى طالب لماذا لم يكتب في براءة بسم الله الرّحمن الرحيم؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان.- وكذا قال المبرد: إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود، فلذلك لم تفتتح بالتسمية.ثم قال القرطبي والصحيح أن التسمية لم تكتب، لأن جبريل- عليه السلام- ما نزل بها في هذه السورة..» .هذا، وقول القرطبي: والصحيح أن التسمية لم تكتب ... إلخ، هو القول الذي نعتمده، وتطمئن إليه قلوبنا، وقد رجحه المحققون من العلماء.فقد قال الفخر الرازي- وقد ذكر ستة أوجه في سبب إسقاط التسمية من أولها-:الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحيا، وأنه حذف بسم الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحيا .وقال الجلال: ولم تكتب فيها البسملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك، كما يؤكد من حديث رواه الحاكم.أى أنه- كما يقول الجمل- لا مدخل لرأى أحد في الإثبات والترك، وإنما المتبع في ذلك هو الوحى والتوقيف وحيث لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تعين ترك التسمية، لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم» .وقال بعض العلماء: ولم تكتب في أولها البسملة لعدم أمره صلى الله عليه وسلم بكتابتها، إذ لم ينزل بها جبريل- عليه السلام- والأصل في ذلك التوقيف» .أما الأقوال الخمسة التي نقلناها عن القرطبي- منذ قليل- في سبب سقوط البسملة من أول سورة التوبة، فإننا لا نرى واحدا منها يعتمد عليه في هذا الأمر. لأن القول الأول الذي حكاه بقوله: قيل كان من شأن العرب ... إلخ. إنما هو تعليل عقلي على سبيل الاجتهاد لبيان الحكمة في عدم كتابة البسملة في أولها. ومثل هذا التعليل يقال في القول الخامس الذي حكاه ابن عباس، عن على بن أبى طالب.وأما القول الثاني- وهو الحديث الذي رواه النسائي والترمذي- فقد علق عليه أحد العلماء المحققين بقوله: «في إسناده نظر كثير، بل هو عندي ضعيف جدا، بل هو حديث لا أصل له. يدور إسناده في كل رواياته على «يزيد الفارسي» .. ويزيد الفارسي هذا اختلف فيه: أهو يزيد بن هرمز أم غيره.قال البخاري في التاريخ الكبير: «قال لي على: قال عبد الرحمن: يزيد الفارسي هو ابن هرمز. قال: فذكرته ليحيى فلم يعرفه، قال: «وكان يكون مع الأمراء» . وفي التهذيب:«قال ابن أبى حاتم: اختلفوا هل هو يعنى ابن هرمز يزيد الفارسي أو غيره ...فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولا، حتى شبه على مثل ابن مهدى وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره.ويذكره البخاري في الضعفاء، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي، قراءة وسماعا وكتابة في المصاحف. وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك.فلا علينا إذا قلنا إنه «حديث لا أصل له» تطبيقا للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث.قال السيوطي في تدريب الراوي في الكلام على أمارات الحديث الموضوع: أن «يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية، أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي» ... .وأما القول الثالث الذي يقول «إنه لما سقط أولها سقط معه بسم الله الرحمن الرحيم ... »فهو قول ساقط لا يعتد به، لأنه لا دليل عليه ولا سند له، ويؤدى الالتفات إليه إلى المساس بقداسة القرآن الكريم، حيث إن بعض سوره كانت طويلة ثم سقط منها ما سقط.وأما القول الرابع الذي يزعم قائلوه أن بعض الصحابة قال: «براءة والأنفال سورة واحدة ... » فهو قول ضعيف ولا يعتد به- أيضا- كسابقه، لأنه قد عرف واشتهر بأنهما سورتان مستقلتان منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.ولأن الذي يقرأ السورتين بإمعان وتدبر، يرى أن لكل منهما موضوعاتها الخاصة بها، والتي اهتمت بها أكثر من غيرها، فسورة الأنفال تحدثت باستفاضة عن غزوة بدر وما يتعلق بها..بينما سورة التوبة قد تحدثت باستفاضة عن غزوة تبوك أى في السنة التاسعة.قال الحاكم: استفاض النقل أنهما سورتان.وقال أبو السعود: اشتهارها- أى سورة التوبة- بهذه الأسماء المتقدمة- براءة والفاضحة ... إلخ- يقضى بأنها سورة مستقلة، وليست بعضا من سورة الأنفال ... » :وقال بعض العلماء: وهذه الأسماء وغيرها مما ثبت إطلاقه على السورة- أى سورة التوبة- من الصدر الأول، لم يعرف إطلاق واحد منها على السورة التي قبلها وهي سورة الأنفال، كما لم يعرف أنه أطلق اسم سورة الأنفال على هذه السورة. وبذلك احتفظت كل من السورتين منذ العهد الأول بما لها من اسم لم تشاركها فيه صاحبتها.وكما احتفظت كل من السورتين بما لها من اسم، احتفظت كل منهما بوقت نزولها، فسورة الأنفال نزلت بعد غزوة بدر. أى: في السنة الثانية من الهجرة. وسورة التوبة نزلت بعد غزوة تبوك، وبعد خروج أبى بكر على رأس المسلمين إلى الحج. أى: في أواخر السنة التاسعة.وكما احتفظت كل منهما بهذا وذاك، احتفظت كل منهما- أيضا- بهدفها الخاص.فسورة التوبة عالجت شئونا حدثت بعد زمن طويل من نزول سورة الأنفال، ومعرفتها باسم سورة الأنفال. وسورة الأنفال عالجت شئونا حدثت قبل نزول سورة التوبة ولم يرد لها ذكر فيها.ولا شك أن كل هذه الاعتبارات الواضحة المبينة والمحققة في السورتين من الصدر الأول، تدل دلالة واضحة على أنهما سورتان منفصلتان، وأن عدهما سورة واحدة رأى لا قيمة له، كما لا قيمة للاشتباه في استقلال كل منهما حتى يقال: تركت البسملة بينهما نظرا لاحتمال وحدتهما، وتركت بينهما فرجة نظرا لاحتمال انفصالهما.وقد عرف مع ترك التسمية بينهما أنهما سورتان مستقلتان من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.وقد جاءتا كذلك في المصاحف الأولى: مصحف عثمان، وعلى، وابن عباس، فلا معنى بعد هذا كله لإثارة شبهة قد تمس من قرب أو بعد قداسة تنظيم كتاب الله وترتيبه بناء على روايات ضعيفة أو موضوعة .والخلاصة أن القول بأنهما سورة واحدة، قول لا وزن له، ولا يعول عليه للأسباب التي ذكرناها آنفا.6- مناسبتها لسورة الأنفال:قال الآلوسى: ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما علمت، وفي هذه قسمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء الله.وفي الأولى- أيضا- ذكر العهود وهنا نبذها. وأنه- سبحانه- أمر في الأولى بالإعداد فقال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ونعى هنا على المنافقين عدم الإعداد بقوله:وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً.وأنه- سبحانه- ختم الأولى بإيجاب أن يوالى المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية، وصرح- جل شأنه- في هذه بهذا المعنى فقال: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...إلى غير ذلك من وجوه المناسبة .وقال صاحب المنار: وأما التناسب بينها وبين ما قبلها فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض، فهي- أى التوبة- كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيهما من أصول الدين وفروعه والسنن الإلهية والتشريع وأحكام المعاهدات.. فما بدئ به في الأولى أتم في الثانية، مثال ذلك.1- أن العهود ذكرت في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها، ولا سيما نبذها الذي قيد في الأولى بخوف خيانة الأعداء.2- تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب في كل منهما.3- ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام وأنهم ليسوا بأوليائه، وجاء في الثانية ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ....4- ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين، ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين. وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا .والحق أن الذي يقرأ السورتين بتأمل وتدبر يراهما تعطيانه ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وجهاده إلى أن أتم الله له نعمة النصر.فمثلا عند ما نقرأ سورة الأنفال نراها تتحدث عن حالة المسلمين قبل الهجرة كما في قوله- تعالى- وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ... الآية 26.كما تتحدث عن المكر السيئ الذي صدر عن المشركين والذي كان من أسباب الهجرة، كما في قوله- تعالى- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ الآية 30.ثم نراها تفيض في الحديث عن غزوة بدر، وتشير إلى ما ظهر من المنافقين فيها إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ. الآية 49. وإلى ما حدث من اليهود من نقض للعهود وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ الآية 58.أما سورة التوبة فنراها تذكر المسلمين بالنصر الذي منحه الله لهم في مواطن كثيرة قال- تعالى- لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ... «الآية 25» كما تصف بالتفصيل مواقف المنافقين في غزوة تبوك وغيرها.ولعل قيام السورتين الكريمتين بإعطاء القارئ ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة للدعوة الإسلامية هو الحكمة في وضعهما مقترنتين وفي تسميتهما بالقرينتين.قال القرطبي: كانتا تدعيان القرينتين فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي. .7- المقاصد الإجمالية لسورة التوبة:عند ما نقرأ سورة التوبة بتأمل وتدبر نراها في مطلعها تحدد تحديدا حاسما المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقتهم مع المشركين، وتبين بوضوح وجلاء الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى التزام هذا المنهاج.فهي في أولها تعلن براءة الله ورسوله من المشركين بسبب خيانتهم، وتمنحهم الأمان لمدة أربعة أشهر لكي يدبروا فيها أمر أنفسهم، وتعلن للناس عامة يوم الحج الأكبر أن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين، وأنها قد نبذت إليهم، وتستثني من هؤلاء المشركين أولئك الذين لم ينقضوا، فتأمر المؤمنين بأن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، فإذا ما انتهت مدة الأمان فعلى المؤمنين أن يقتلوا المشركين الناكثين حيث وجدوهم، وأن يؤمنوا من يطلب الأمان منهم حتى يسمع القرآن ويتدبره، ويطلع على حقيقة الإسلام. وبذلك لا يبقى له عذر.استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل هذه المعاني بأسلوبها البليغ الحاسم فتقول:بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ.ثم تسوق السورة بعد ذلك الأسباب التي دعت إلى البراءة من المشركين. والتي أوجبت على المؤمنين قتالهم، وحرضتهم على ذلك بأنواع من المشجعات فقالت:أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.ثم توجه السورة الكريمة خطابها إلى الذين شق عليهم القتال من المؤمنين، وتبين أن الحكمة في الأمر به، إنما هي الامتحان والتمحيص فتقول:أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.ثم تصرح السورة الكريمة بعد ذلك بأن المؤمنين وحدهم هم الذين من حقهم أن يعمروا مساجد الله ... أما المشركون فليس من حقهم ذلك بسبب كفرهم ونجاستهم.قال تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.فإذا ما وصلنا إلى الرابع الثاني من سورة التوبة رأيناها في أوائله توجه إلى المؤمنين نداء تأمرهم فيه أن يؤثروا محبة الله ورسوله على محبة الآباء والأبناء والأموال.. وتهدد من يخالف ذلك فتقول:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.ثم أخذت السورة الكريمة في تذكير المؤمنين بألوان من نعم الله عليهم، حيث نصرهم.سبحانه: على أعدائهم في مواطن كثيرة، وحيث أيدهم بعونه بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.قال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ.ثم وجهت إليهم نداء ثانيا نهتهم فيه عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام، وبشرتهم بأن الله- تعالى- سيغنيهم من فضله متى تابوا إليه وأطاعوه.قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الآية 28) .وإلى هنا نرى السورة الكريمة قد حددت تحديدا حاسما المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقاتهم مع المشركين، وأبرزت بصورة واضحة ومقنعة الأسباب المتنوعة التي أوجبت سلوك هذا المنهاج.وتلك عادة القرآن الكريم في تشريعاته، لا تكاد تجد تشريعا من تشريعاته إلا وقد صاحبته الحكمة التي كان لأجلها هذا التشريع، والتي من شأنها أن تدفع الناس إلى المسارعة في التنفيذ والامتثال.ثم بدأت السورة بعد ذلك في تحديد المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقاتهم مع المنحرفين من أهل الكتاب، وأبرزت، أيضا: الأسباب التي تدعو إلى التزام هذا المنهاج، فأمرت باستمرار قتالهم، وذكرت ما هم عليه من صفات سيئة تحمل المؤمنين على تأديبهم، وأرشدت إلى ما كان عليه رؤساؤهم من أكل لأموال الناس بالباطل، ومن صد عن سبيل الله، استمع إلى الآيات الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول:قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.ثم وجهت السورة نداء رابعا إلى المؤمنين، نعت فيه على المتثاقلين الذين دعوا إلى الجهاد فتكاسلوا عنه.. وحذرتهم من سوء عاقبة هذا التكاسل وذكرتهم بما كان من نصر الله- تعالى لنبيه وقت أن أحاط به المشركون وهو في الغار، وأمرتهم بالخروج للجهاد في حالتي اليسر والعسر والمنشط والمكره.قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ، أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ، فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.وبعد هذه الدعوة الحارة للمؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله بالنفس والأموال بدأت السورة الكريمة في الحديث عن المنافقين، فكشفت عن أصنافهم وأوصافهم، ورسمت أحوالهم النفسية والعملية، وفضحت مواقفهم في غزوة تبوك وما كان منهم قبلها وبعدها وأثناءها، وأظهرت حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم عن القتال، وأزاحت الستار عن أساليب نفاقهم وألوان فتنهم وتخذيلهم للمؤمنين، وحكت ما كانوا ينطقون به من سوء في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق أصحابه.وقد استغرق الحديث عن المنافقين زهاء نصف سورة التوبة- أى من أواخر الربع الثالث منها إلى نهاية الربع السابع.وقد تركتهم السورة الكريمة- بعد هذا الكشف السافر لأحوالهم: عراة من الخير أمام المؤمنين، منبوذين من جماعة المسلمين، مميزين بصفاتهم القبيحة التي فصلها القرآن تفصيلا يجعل العقلاء يعرفونهم ويحذرونهم.فمن صفاتهم الذميمة ومسالكهم الخبيثة التي تحدثت السورة عنها:(أ) الفرار من مواطن الجد والجهاد، والتعلل بالأعذار الكاذبة، والتستر بالأيمان الفاجرة، وقد حكت السورة عنهم ذلك في مواضع كثيرة منها.قال تعالى: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ:وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ.وقوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ:وقوله تعالى: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ.(ب) إشاعة الفتنة في صفوف الجيش الإسلامى متى وجدوا فيه، أى أن خلو الجيش منهم خير وبركة ووجودهم فيه شر وفتنة.قال تعالى لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.(ج) كراهتهم الخير للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، ومحبتهم السوء لهم.قال تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ.(د) تكاسلهم عن أداء الشعائر الدينية بسبب فسوقهم وكفرهم:قال تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ.(ه) تظاهرهم بالإسلام تقية وجبنهم عن التصريح بما هم عليه من كفر.قال تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ.(و) طعنهم على الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة الأموال وفي توزيع الصدقات بقصد إشاعة التهم الباطلة حوله.قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ.(ز) وصفهم للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أذن- أى يصدق كل ما يقال له بدون تثبت ...قال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.(ح) استهزاؤهم بتعاليم الإسلام فيما بينهم، واعتذارهم عن ذلك بأنهم لم يكونوا جادين فيما ينطقون به من سوء، وتكذيب الله لهم فيما اعتذروا عنه.قال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ، قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ.(ط) تعاطفهم فيما بينهم وتعاونهم على الإثم والعدوان لا على البر والتقوى.قال تعالى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ.(ى) سخريتهم من فقراء المؤمنين، لأنهم يتصدقون بالقليل الذي لا يملكون سواه.قال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.(ك) نقضهم للعهود، وبخلهم بما آتاهم الله من فضله.قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ.(ل) اتخاذهم مسجدا لهم لا من أجل العبادة، وإنما من أجل المضارة وإيذاء المسلمين ومحاولة تفريق كلمتهم، وتشتيت وحدتهم.قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.وهكذا نرى السورة الكريمة قد تتبعت المنافقين، فكشفت عن أصنافهم وأوصافهم وأحوالهم.. بصورة تجعل المؤمنين الصادقين يعرفونهم ويحذرونهم.بعد ذلك اتجهت السورة: في أواخرها بالحديث إلى المؤمنين الصادقين.(أ) فذكرتهم بالتعاقد الذي بينهم وبين خالقهم: عز وجل وبشرتهم برضوانه ومحبته متى وفوا بعهودهم فقال، تعالى:إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.(ب) وأعلمتهم بأن إيمانهم يحتم عليهم عدم الاستغفار لمن خالفهم في الدين مهما بلغت درجة قرابته.ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.(ج) وأمرتهم بأن يصحبوا رسولهم: صلى الله عليه وسلم: في جهاده للأعداء، وأن يكابدوا معه الشدائد والأهوال برغبة ونشاط لأن كل تعب يلحقهم معه مكتوب لهم في سجل حسناتهم.ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.(د) وأرشدتهم إلى أنه في حالة عدم خروج النبي صلى الله عليه وسلم معهم للجهاد، عليهم أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين: قسم يخرج للجهاد وقسم آخر يبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلم منه العلم ويحفظ عنه ما تجدد من أحكام.وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ:(ه) ثم ختم. سبحانه. هذه السورة الكريمة بهاتين الآيتين الدالتين على سابغ رحمته بعباده، حيث أرسل إليهم رسولا من أنفسهم حريصا على منفعتهم رحيما بهم، فقال تعالى:لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.أما بعد: فهذا عرض إجمالى لما اشتملت عليه سورة التوبة من موضوعات ومن هذا العرض يتبين لنا أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور معينة من أهمها ما يأتى:1- رسم المنهاج النهائى الذي يجب أن يسير عليه المسلمون في علاقاتهم مع مشركي العرب، ومع أهل الكتاب، ومع المنافقين، مع بيان الأسباب التي تدعو المسلمين إلى التزام هذا المنهاج.2- كشف الغطاء عن المنافقين وأصنافهم وأوصافهم، وعما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد، وعما سلكوه من مسالك خبيثة لمحاربة الدعوة الإسلامية، ومناوأة أتباعها الصادقين.وقد أفاضت السورة في الحديث عن ذلك إفاضة لا توجد في غيرها من سور القرآن الكريم.3- حددت السورة الكريمة معالم المجتمع الإسلامى بعد أن تم فتح مكة، وبعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا.فأثنت على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ووعدتهم بالفوز العظيم.قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.وحكمت على كل فريق من المتخلفين عن غزوة تبوك من أهل المدينة وما حولها بالحكم الذي يناسبه.قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ.وقال تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.وقال تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.وهكذا نرى السورة الكريمة قد وضحت الطوائف المتنوعة التي كان المجتمع الإسلامى يتكون منها عند نزولها، أى: بعد أن تم فتح مكة.4- يؤخذ من الحديث المستفيض الذي ساقته السورة عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم..أنهم بعد فتح مكة بدأت دولتهم تعود إلى الظهور في المجتمع الإسلامى بينما كانت قبيل الفتح قد أوشكت على التلاشى والاندثار.ولعل السبب في ذلك: أن كثيرا من الناس قد دخل في الإسلام بعد أن فتحت مكة، لأسباب دنيوية متنوعة، دون أن يستقر الإيمان بالله في قلوبهم، وإنما بقيت آثار الجاهلية لها وزنها في تحريك طباعهم واتجاهاتهم وأفكارهم.قال بعض العلماء: سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح، ويصف تكوينه العضوى، ومن هذه الصورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية، كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال، ومن النفاق والضعف، والتردد في الواجبات والتكاليف، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين المعسكر الإسلامى والمعسكرات الأخرى، وعدم المفاضلة الكاملة على أساس العقيدة، وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار، مما استدعى حملات مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير تفي بحاجة المجتمع إليها.وإن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح، لم تتم تربيتها، ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامى الأصيل .5- عرضت السورة لبيان كثير من الأحكام والإرشادات التي تحتاج إليها الدولة الناشئة، كحديثها عن مصارف الزكاة، وعن الجهاد وموجباته، وعن العهود وأحكامها، وعن الأشهر الحرم.. إلى غير ذلك من الأحكام.هذا، ولعلنا، بعد هذا التمهيد الذي سقناه بين يدي تفسير سورة التوبة نكون قد أعطينا القارئ الكريم فكرة واضحة عن أسماء هذه السورة، وعن زمان ومكان نزولها، وعن السبب في عدم ذكر البسملة في أولها، وعن مقاصدها وموضوعاتها الإجمالية.والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا الزلل والانحراف عن الطريق القويم.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،قال الإمام ابن كثير: أول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة «تبوك» وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق- رضى الله عنه- أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادى بالناس بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ..، فلما قفل أتبعه بعلى بن أبى طالب، ليكون مبلغا عنه صلى الله عليه وسلم لكونه عصبة له وقال محمد بن إسحاق: لما نزلت بَراءَةٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق- رضى الله عنه- ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله، لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال: «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتي» .ثم دعا على بن أبى طالب فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته.فخرج على بن أبى طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم «العضباء» حتى أدرك أبا بكر بالطريق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور. ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية.حتى إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته. فلم يحج بعد العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .وقال الفخر الرازي: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا الأراجيف، جعل المشركون ينقضون العهد، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد إليهم .هذه بعض الآثار التي ذكرها المفسرون في هذا المقام.وقوله- تعالى-: بَراءَةٌ مصدر برئ «كتعب» ، وأصل البراءة: التباعد عن الشيء والتخلص منه. تقول: برئت من هذا الشيء أبرأ براءة فأنا منه برىء، إذا أزلته عن نفسك، وقطعت الصلة بينك وبينه. ومنه قولهم: برئت من الدين أى تخلصت منه.ولفظ بَراءَةٌ مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتنوين فيه للتفخيم ومِنَ لابتداء الغاية، والعهد: العقد الموثق باليمين، والخطاب في قوله عاهَدْتُمْ للمسلمين.والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين بسبب نقضهم لعهودهم، وإصرارهم على باطلهم ...قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟.قلت: قد أذن الله في معاهدة المشركين أولا، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله- تعالى- النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما تجدد من ذلك فقيل لهم: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين.وروى أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب، فنكثوا إلا ناسا منهم، فنبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين..» .وقال بعض العلماء: والمعنى أن الله قطع ما بينه وبين المشركين من صلات فلا عهد ولا تعاهد ولا سلم ولا أمان، وتركهم تعمل فيهم سيوف المؤمنين حتى يقوموهم أو يبيدوهم. ولا يدخل في هذا التبري قطع رحمته العامة عنهم التي كتبها على نفسه من جهة أنه الخالق وأنهم المخلوقون ... فهو مع هذا التبري لا يزال من هذه الجهة يرحمهم بمنح الحياة وموارد الرزق، والتمكين من العمل حسب تقديره العام وسنته الشاملة في خلقه ولو أن التبري كان على إطلاقه لما عاش كافر طرفة عين، ولما استطاع كافر أن يقف في وجه مسلم.فالآية تقرر حكما تكليفيا للمسلمين في شأن معاملة المشركين..واعتبار أن الآية تقرر حكما شرعيا والمشرع هو الله أضيف صدور البراءة إليه- سبحانه- وعطف عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، لأنه هو المبلغ عنه، والمنفذ لما يبلغه..ولما كان التعاهد بين المؤمنين وغيرهم تنفيذا لأمر الله به، وأصله حق لجماعتهم، وإنما يقوم الإمام به نائبا عن الجماعة، أضيف- أى التعاهد- إلى جماعة المسلمين، فقيل:عاهَدْتُمْ.. وكثيرا ما ينسب القرآن الأحكام العامة لجماعة المؤمنين ...ويؤخذ من تقرير البراءة من المشركين في هذه الآية جواز نبذ العهود لمن كان بيننا وبينه عهد متى رأى الإمام مصلحة الأمة في ذلك، كأن خيف منهم خيانة، أو نقضوا شيئا من شروط المعاهدة، أو وضعت المعاهدة على غير شرط احترامها الشرعي، وذلك كله أخذا من هذا المقام، ومن قوله- تعالى- في سورة الأنفال: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ.كما يؤخذ أن عقد المعاهدات إنما هو حق للجماعة، يوافق عليه أصحاب الرأى والاختصاص في موضوع المعاهدة، وما هو في مصلحة الجماعة، ثم يباشرها
فَسِیْحُوْا فِی الْاَرْضِ اَرْبَعَةَ اَشْهُرٍ وَّ اعْلَمُوْۤا اَنَّكُمْ غَیْرُ مُعْجِزِی اللّٰهِۙ-وَ اَنَّ اللّٰهَ مُخْزِی الْكٰفِرِیْنَ(۲)
تو چا ر مہینے زمین پر چلو پھرو اور جان رکھو کہ تم اللہ کو تھکا نہیں سکتے (ف۳) اور یہ کہ اللہ کافروں کو رسوا کرنے والا ہے (ف۴)
وقوله- تعالى-: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ... بيان للمهلة التي منحها- سبحانه- للمشركين ليدبروا فيها أمرهم.والسياحة في الأصل: جريان الماء وانبساطه على موجب طبيعته، ثم استعملت في الضرب في الأرض والاتساع في السير والتجوال. يقال: ساح فلان في الأرض سيحا وسياحة وسيوحا إذا تنقل بين أرجائها كما يشاء.والخطاب للمؤمنين على تقدير القول. أى: فقولوا أيها المؤمنون للمشركين سيحوا في الأرض أربعة أشهر.ويجوز أن يكون الخطاب للمشركين أنفسهم على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الحضور، لقصد تهيئة خطابهم بالوعيد المذكور بعد ذلك في قوله- سبحانه- وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ.والمقصود بالأمر في قوله: فَسِيحُوا الإباحة والإعلام بحصول الأمان لهم في تلك المدة من أن يقتلوا أو يقاتلوا أو يعتدى عليهم..والمعنى: قولوا أيها المسلمون للمشركين- بعد هذه البراءة منهم، سيحوا في الأرض، أى: سيروا فيها مقبلين ومدبرين حيث شئتم وأنتم آمنون في هذه المدة.وفي التعبير بقوله فَسِيحُوا من الدلالة على كمال التوسعة، ما ليس في قوله سِيرُوا أو ما يشبهه، لأن لفظ السياحة يدل على الاتساع في السير والبعد عن المدن، وعن موضع العمارة.والحكمة في إعطائهم هذه المدة تمكينهم من النظر والتدبر في أمر أنفسهم حتى يختاروا ما فيه مصلحتهم، ويعلموا أنهم ليس أمامهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو السيف، ولكي لا ينسب إلى المسلمين الغدر ونبذ العهد دون إعلام أو إنذار.وهذا من سمو تعاليم الإسلام. تلك التعاليم التي لم تبح لأتباعها أن يأخذوا أعدى أعدائهم على غرة، بل منحت هؤلاء الأعداء مهلة كافية يدبرون فيها أمر أنفسهم وهم آمنون من أن يتعرض لهم أحد من المسلمين بأذى.ومتى كان ذلك؟ كان ذلك في الوقت الذي نقض فيه المشركون عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم، وفي الوقت الذي أرجف فيه المرجفون أن المسلمين لن يعودوا من تبوك سالمين، بل إن الروم سيأخذونهم أسرى، وفي الوقت الذي كانت المجتمعات فيه يغزو بعضها بعضا بدون إنذار أو إعلام ...فإن قيل: وما الحكمة في تقدير هذه المهلة بأربعة أشهر؟فالجواب- كما يقول الجمل- اقتصر على الأربعة- هنا لقوة المسلمين إذ ذاك، بخلاف صلح الحديبية فإنه كان لمدة عشر سنين لضعف المسلمين إذ ذاك، والحاصل أن المقرر في الفروع أنه إذا كان بالمسلمين ضعف جاز عقد الهدنة عشر سنين فأقل، وإذا لم يكن بهم ضعف لم تجز الزيادة على أربعة أشهر .وقال بعض العلماء: ولعل الحكمة في تقدير تلك المدة بأربعة أشهر، أنها هي المدة التي كانت تكفى- إذ ذاك بحسب ما يألفون- لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض، والتقلب في شبه الجزيرة على وجه يمكنهم من التشاور والأخذ والرد مع كل من يريدون أخذ رأيه في تكوين الرأى الأخير، وفيه فوق ذلك مسايرة للوضع الإلهى في جعل الأشهر الحرم من شهور السنة أربعة.على أنا نجد في القرآن جعل الأربعة الأشهر أمدا في غير هذا فمدة إيلاء الرجل من زوجه أربعة أشهر- وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر.ولعل ذلك- وراء ما يعلم الله- أنها المدة التي تكفى بحسب طبيعة الإنسان لتقليب وجوه النظر فيما يحتاج إلى النظر، وتبدل الأحوال على وجه تستقر فيه إلى ما يقصد فيه.ويؤخذ من تقرير الهدنة للأعداء في هذا المقام تقرر مبدأ الهدنة والصلح في الإسلام، طلبها العدو أم تقدم بها المسلمون، وأصل ذلك مع هدنة المشركين هذه قوله- تعالى- في سورة الأنفال.. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وأن مدتها تكون على حسب ما يرى الإمام وأرباب الشورى المقررة في قوله- تعالى- وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ .وقد اختلف المفسرون في ابتداء هذه الأشهر الأربعة فقال مجاهد والسدى وغيرهما: كان ابتداء هذه الأشهر الأربعة يوم الحج الأكبر من السنة التاسعة ونهايتها في العاشر من شهر ربيع الآخر من السنة العاشرة، وذلك لأن المشركين قد أعلموا بهذه المهلة يوم النحر من السنة التاسعة على لسان على بن أبى طالب- كما سبق أن بينا.وقيل كان ابتداء هذه الأشهر الأربعة يوم النحر لعشر من ذي القعدة من السنة التاسعة ونهايتها في اليوم العاشر من شهر ربيع الأول من السنة العاشرة، وذلك لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي ابتدعه المشركون.والرأى الأول أرجح وعليه الأكثرون، لأن معظم الآثار تؤيده. وكذلك اختلف المفسرون اختلافا كبيرا فيمن تنطبق عليهم هذه المهلة، فقال مجاهد هذا تأجيل للمشركين مطلقا، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها، ومن كانت أكثر حط إليها، ومن كان عهده بغير أجل حد بها. ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله، يقتل حيث أدرك، ويؤسر، إلا أن يتوب ويؤمن .وقال آخرون: كانت هذه الأربعة الأشهر مهلة لمن له عهد دون الأربعة الأشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت هذه المدة لقوله- تعالى- بعد ذلك: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ.وهذا القول قد اختاره ابن جرير وغيره، فقد قال ابن جرير- بعد أن ذكر عدة أقوال في ذلك:«وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم، ولم يظاهروا عليه، فإن الله- تعالى- أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، ثم قال: وبعد ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين بعث عليا ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادى به فيهم «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته» . وهو أوضح دليل على صحة ما قلنا.وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل، فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل، أو كان له عهد إلى أجل غير محدود، فأما من كان أجل عهده محدودا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا، وبذلك بعث مناديه في أهل الموسم من العرب..» .والذي يبدو لنا بعد مراجعة الأقوال المتعددة في شأن من تنطبق عليهم هذه المهلة من المشركين- أن ما اختاره ابن جرير هو خير الأقوال وأقواها، لأن النصوص من الكتاب والسنة تؤيده.ومن أراد معرفة هذه الأقوال بالتفصيل فليراجع ما كتبه المفسرون في ذلك.ثم بين- سبحانه- أن هذا الإمهال للمشركين لن ينجيهم من إنزال العقوبة بهم متى استمروا على كفرهم فقال- تعالى-: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ.أى: واعلموا- أيها المشركون- أنكم بسياحتكم في الأرض خلال تلك المهلة لن تعجزوا الله- تعالى- في طلبكم، فأنتم حيثما كنتم تحت سلطانه وقدرته، واعلموا كذلك أنه- سبحانه- مذل للكافرين، في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب المهين.فالآية الكريمة قد ذيلت بما يزلزل قلوب المشركين بالحقيقة الواقعة، وهي أن ذلك الإمهال لهم، وتلك السياحة في الأرض منهم، كل هذا لن يجعلهم في مأمن من عقاب الله، ومن إنزال الهزيمة بهم، لأنهم في قبضته.ومهما أعدوا خلال تلك المهلة من عدد وعدد لقتال المؤمنين، فإن ذلك لن ينفعهم، لأن سنته- سبحانه- قد اقتضت أن يجعل النصر والفوز للمؤمنين والخزي والسوء على الكافرين.قال الفخر الرازي ما ملخصه، وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ. المقصود منه: أنى أمهلتكم- أيها المشركون- وأطلقت لكم السياحة في الأرض- فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات، فإنكم لا تعجزون الله بل الله هو الذي يعجزكم، لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملكه وتحت سلطانه.. .
وَ اَذَانٌ مِّنَ اللّٰهِ وَ رَسُوْلِهٖۤ اِلَى النَّاسِ یَوْمَ الْحَجِّ الْاَكْبَرِ اَنَّ اللّٰهَ بَرِیْٓءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِیْنَ ﳔ وَ رَسُوْلُهٗؕ-فَاِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَیْرٌ لَّكُمْۚ-وَ اِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَاعْلَمُوْۤا اَنَّكُمْ غَیْرُ مُعْجِزِی اللّٰهِؕ-وَ بَشِّرِ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا بِعَذَابٍ اَلِیْمٍۙ(۳)
اور منادی پکار دیتا اللہ اور اس کے رسول کی طرف سے سب لوگوں میں بڑے حج کے دن (ف۵) کہ اللہ بیزار ہے، مشرکوں سے اور اس کا رسول تو اگر تم توبہ کرو (ف۶) تو تمہا را بھلا ہے اور اگر منہ پھیرو (ف۷) تو جان لو کہ اللہ کو نہ تھکا سکو گے (ف۸) اور کافروں کو خوشخبری سناؤ دردناک عذاب کی،
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة من المشركين حتى لا يكون لهم عذر بعد هذا الإعلان فقال- تعالى-:وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ....الأذان: الإعلام تقول: آذنته بالشيء إذا أعلمته به. ومنه الأذان للصلاة أى الإعلام بحلول وقتها. وهو بمعنى الإيذان كما أن العطاء بمعنى الإعطاء.قال الجمل: وهو مرفوع بالابتداء. ومِنَ اللَّهِ إما صفته أو متعلق به إِلَى النَّاسِ الخبر، ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف. أى: وهذه، أى: الآيات الآتي ذكرها إعلام من الله ورسوله ... .والمعنى: وهذه الآيات إيذان وإعلان من الله ورسوله إلى الناس عامة يوم الحج الأكبر بأن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين، وأن هذه العهود قد نبذت إليهم، بسبب إصرارهم على شركهم ونقضهم لمواثيقهم.وأسند- سبحانه- الأذان إلى الله ورسوله، كما أسندت البراءة إليهما، إعلاء لشأنه وتأكيدا لأمره:قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت: تلك إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت.فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت:لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم وأما الأذان فعام لجميع الناس «من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث » .واختير يوم الحج الأكبر لهذا الإعلام، لأنه اليوم الذي يضم أكبر عدد من الناس يمكن أن يذاع الخبر عن طريقهم في جميع أنحاء البلاد.وأصح ما قيل في يوم الحج الأكبر أنه يوم النحر. وقيل: هو يوم عرفة، وقيل: هو جميع أيام الحج.وقد رجح ابن جرير- بعد أن بسط الأقوال في ذلك- أن المراد بيوم الحج الأكبر: يوم النحر فقال. وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا: قول من قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر، لتظاهر الأخبار عن جماعة من الصحابة أن عليا نادى بما أرسله به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين يوم النحر، هذا مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر: «أتدرون أى يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر» .وقال بعض العلماء: قال ابن القيم: والصواب أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر، لأنه ثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعليا أذنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفة. وفي سنن أبى داود بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم الحج الأكبر يوم النحر» ، وكذا قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة.ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة.. ويكون فيه ذبح القرابين، وحلق الرءوس، ورمى الجمار، ومعظم أفعال الحج .وقد ساق ابن كثير جملة من الأحاديث التي حكت ما كان ينادى به على بن أبى طالب والناس يوم الحج الأكبر ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن محرز بن أبى هريرة عن أبيه قال: كنت مع على بن أبى طالب حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادى، فكان إذا صحل ناديت- أى كان إذا بح صوته وتعب من كثرة النداء ناديت- قلت: بأى شيء كنتم تنادون؟ قال:بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته .وسمى يوم النحر بالحج الأكبر، لأن العمرة كانت تسمى بالحج الأصغر ولأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج- كما قال ابن القيم.هذا، وللعلماء أقوال في إعراب لفظ وَرَسُولِهِ من قوله- تعالى- أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ. وقد لخص الشيخ الجمل هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال: قوله وَرَسُولِهِ بالرفع باتفاق السبعة وقرئ شاذا بالجر على المجاورة. أو على أن الواو للقسم وقرئ شاذا أيضا بالنصب على أنه مفعول معه، أو معطوف على لفظ الجلالة، وفي الرفع ثلاثة وجوه: أحدها أنه مبتدأ والخبر محذوف أى: ورسوله برىء منهم، وإنما حذف للدلالة عليه.والثاني أنه معطوف على الضمير المستتر في الخبر ... والثالث: أنه معطوف على محل اسم أن ... » .ثم أردف- سبحانه- هذا الإعلام بالبراءة من عهود المشركين بترغيبهم في الإيمان وتحذيرهم من الكفر والعصيان فقال: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ.أى: فإن تبتم أيها المشركون من كفركم، ورجعتم إلى الإيمان بالله وحده واتبعتم ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم فهو أى المتاب والرجوع إلى الحق خَيْرٌ لَكُمْ من التمادي في الكفر والضلال: وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن الإيمان، وأبيتم إلا الإقامة على باطلكم فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أى: فأيقنوا أنكم لا مهرب لكم من عقاب الله، ولا إفلات لكم من أخذه وبطشه، لأنكم أينما كنتم فأنتم في قبضته وتحت قدرته.وقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ تذييل قصد به تأكيد زجرهم عن التولي والإعراض عن الحق.أى: وبشر- يا محمد- هؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم بالعذاب الأليم في الآخرة بعد إنزال الخزي والمذلة بهم في الدنيا.ولفظ البشارة ورد هنا على سبيل الاستهزاء بهم، كما يقال: تحيتهم الضرب، وإكرامهم الشتم.
اِلَّا الَّذِیْنَ عٰهَدْتُّمْ مِّنَ الْمُشْرِكِیْنَ ثُمَّ لَمْ یَنْقُصُوْكُمْ شَیْــٴًـا وَّ لَمْ یُظَاهِرُوْا عَلَیْكُمْ اَحَدًا فَاَتِمُّوْۤا اِلَیْهِمْ عَهْدَهُمْ اِلٰى مُدَّتِهِمْؕ-اِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ الْمُتَّقِیْنَ(۴)
مگر وہ مشرک جن سے تمہارہ معاہدہ تھا پھر انہوں نے تمہارے عہد میں کچھ کمی نہیں کی (ف۹) اور تمہارے مقابل کسی کو مدد نہ دی تو ان کا عہد ٹھہری ہوئی مدت تک پورا کرو، بیشک اللہ پرہیزگاروں کو دوست رکھتا ہے،
وقوله- تعالى- بعد ذلك: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ استثناء من المشركين في قوله:بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.والمعنى: اعلموا. أيها المؤمنون أن الله ورسوله بريئان من عهود المشركين بسبب نقضهم لها، لكن الذين عاهدتموهم منهم ولم ينقضوا عهودهم، ولم ينقصوكم شيئا من شروط العهد، ولم يعاونوا عليكم أحدا من الأعداء، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ولا تعاملوهم معاملة الناكثين.فالآية الكريمة تدل على أن المراد بالمشركين الذين تبرأ الله ورسوله منهم وأعطوا مهلة الأربعة الأشهر، هم أولئك الذين عرفوا بنقض العهود.أما الذين عاهدوا ووفوا بعهودهم، فإن هؤلاء يجب إتمام عهدهم إلى مدتهم وفاء بوفاء، وكرامة بكرامة.وعبر- سبحانه- بثم في قوله: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادى المدة وتطاولها.وقراءة الجمهور يَنْقُصُوكُمْ بالصاد المهملة، وعليها يجوز أن يتعدى لواحد فيكون شيئا منصوبا على المصدرية أى: لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا، ويجوز أن يتعدى لاثنين فيكون شيئا مفعوله الثاني، أى: لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد بل أدوها بتمامها.وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وأبو زيد ثم لم ينقضوكم بالضاد المعجمة وهي على حذف مضاف أى: ثم لم ينقضوا عهدكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.وفي تنكير كلمة «شيئا» وكلمة «أحدا» دلالة على أن انتقاص المعاهدة ولو شيئا يسيرا، وأن معاونة الأعداء بأى وسيلة مهما قلت ... كل ذلك مبيح لنبذ العهد، لأن الخيانة الصغيرة كثيرا ما تؤدى إلى الخيانة الكبيرة.قالوا: والمراد بهؤلاء الذين أمر المسلمون بإتمام عهدهم معهم: بنو ضمرة وبنو مدلج وهم من قبائل بنى بكر وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر، ولم ينقضوا مواثيقهم.وقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال، والتنبيه على أن الوفاء بالعهد إلى نهايته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده ويحبهم بسببها.قال صاحب المنار: والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام مادام العهد معقودا، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره.فإن نقص شيئا ما من شروط العهد، وأخل بغرض ما من أغراضه عد ناقضا، لقوله- تعالى- ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً، ولفظ شيء أعم الألفاظ وهو نكرة في سياق النفي فيصدق بأدنى إخلال بالعهد.ومن الضروري أن من شروطه التي ينتقض بالإخلال بها، عدم مظاهرة أحد من أعدائنا وخصومنا علينا، وقد صرح بهذا للاهتمام به، وإلا فهو يدخل في عموم ما قبله، وذلك أن الغرض الأول من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر، أى معاونته ومساعدته على قتاله وما يتعلق به، كمباشرته للقتال بنفسه.يقال: ظاهره إذا عاونه، وظاهره عليه إذا ساعده عليه، وتظاهروا عليهم تعاونوا وكله من الظهر الذي يعبر به عن القوة، ومنه بعير ظهير أى قوى» .وقال بعض العلماء: ويؤخذ من هذا أن الإسلام يقرر في حالة نبذ العهود لزوم إعلان العدو بذلك النبذ، على وجه يمكن العدو من إيصال خبر النبذ إلى أطراف بلده وأنحاء مملكته.وفي ذلك يقول الكمال بن الهمام الفقيه الحنفي، وهو بصدد قوله، تعالى. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أنه لا يكفى مجرد إعلانهم، بل لا بد من مضى مدة يتمكن فيها ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته، ولا يجوز للمسلمين أن يغيروا على شيء من أطرافهم قبل مضى المدة.وذلك كله أثر من آثار وجوب رعاية العهد والبعد عن النكث بكل ما يستطاع .وبعد أن قررت السورة الكريمة براءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين، وأمرت بالوفاء لمن وفي بعهده منهم.. بعد كل ذلك أخذت في بيان كيفية معاملة المشركين بعد انتهاء المهلة الممنوحة لهم فقال- تعالى-:
فَاِذَا انْسَلَخَ الْاَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِیْنَ حَیْثُ وَجَدْتُّمُوْهُمْ وَ خُذُوْهُمْ وَ احْصُرُوْهُمْ وَ اقْعُدُوْا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍۚ-فَاِنْ تَابُوْا وَ اَقَامُوا الصَّلٰوةَ وَ اٰتَوُا الزَّكٰوةَ فَخَلُّوْا سَبِیْلَهُمْؕ-اِنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ(۵)
پھر جب حرمت والے مہینے نکل جائیں تو مشرکوں کو مارو (ف۱۰) جہاں پا ؤ (ف۱۱) اور انہیں پکڑو اور قید کرو اور ہر جگہ ان کی تاک میں بیٹھو پھر اگر وہ توبہ کریں (ف۱۲) اور نماز قائم رکھیں اور زکوٰة دیں تو ان کی راہ چھوڑ دو (ف۱۳) بیشک اللہ بخشنے والا مہربان ہے،
وقوله: انْسَلَخَ من السلخ بمعنى الكشط، يقال: سلخ الإهاب عن الشاة يسلخه ويسلخه سلخا إذا كشطه ونزعه عنها. أو بمعنى الإخراج من قولهم: سلخت الشاة عن الإهاب إذا أخرجتها منه، ثم استعير للانقضاء والانتهاء فانسلاخ الأشهر استعارة لانقضائها والخروج منها.قال الآلوسى: والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة وذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمال الجلد على الحيوان، وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة كالأيام والشهور والسنين، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه، وفي ذلك مزيد لطف لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهر كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدى المسلمين فنيط قتالهم بزوالها» .والمراد بالأشهر الحرم: أشهر الأمان الأربعة التي سبق ذكرها في قوله، تعالى، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وعليه فتكون أل في قوله الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ للعهد الذكرى.وسميت حرما لأنه. سبحانه. جعلها فترة أمان للمشركين، ونهى المؤمنين عن التعرض لهم فيها.ووضع- سبحانه- المظهر موضع المضمر حيث لم يقل فإذا انسلخت، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة، تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها.وقيل المراد بالأشهر الحرم هنا: الأشهر المعروفة وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر واختاره ابن جرير.قال ابن كثير: وفيه نظر، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفى عنه وبه قال مجاهد، وعمرو بن شعيب، وابن إسحاق، وقتادة والسدى وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أن المراد بها أشهر التيسير الأربعة المنصوص عليها بقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثم قال فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أى: إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم، وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم، لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتى بيان حكمها في آية أخرى وهي قوله- تعالى- إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ... .والمراد بالمشركين في قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أولئك الخائنون الذين انتهت مدة الأمان لهم، أما الذين لم يخونوا ولهم عهود مؤقتة بمدة معينة فلا يحل للمسلمين قتالهم، إلا بعد انتهاء هذه المدة، كما سبق أن بينا قبل قليل تفسير قوله- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ....والمعنى: فإذا انتهت هذه الأشهر الأربعة التي جعلها الله مهلة للخائنين، فاقتلوا- أيها المؤمنون- أعداءكم المشركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أى: في أى مكان تجدونهم فيه وَخُذُوهُمْ وهو كناية عن الأسر، وكانت العرب تعبر عن الأسير بالأخيذ، وَاحْصُرُوهُمْ أى: وامنعوهم من الخروج إذا كانت مصلحتكم في ذلك وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ والمرصد الموضع الذي يقعد فيه للعدو لمراقبته، يقال: رصدت الشيء أرصده رصدا ورصدا إذا ترقبته.والمعنى: واقعدوا لهم في كل موضع يجتازون منه في أسفارهم، حتى تسد السبل في وجوههم، وتضعف شوكتهم، وتذهب ريحهم، فيستسلموا لكم.والمتدبر لهذه الآية الكريمة يرى أن هذه الوسائل الأربع- القتل والأسر والمحاصرة والمراقبة- هي الوسائل الكفيلة بالقضاء على الأعداء، ولا يخلو عصر من العصور من استعمال بعضها أو كلها عند المهاجمة.وهكذا نرى تعاليم الإسلام تحض المسلمين على استعمال كل الوسائل المشروعة لكيد أعدائهم، والعمل على هزيمتهم..، ما دام هؤلاء الأعداء مستمرين في طغيانهم وعدوانهم وانتهاكهم لحدود الله- تعالى-.أما إذا فتحوا قلوبهم للحق واستجابوا له، فإن الآية الكريمة ترفع عنهم السيف، وتأمر المؤمنين بإخلاء سبيلهم.استمع إلى بقيتها حيث تقول: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.أى: عليكم- أيها المؤمنون- إذا ما انتهت أشهر الأمان الأربعة أن تقتلوا المشركين الناكثين لعهودهم أينما وجدتموهم وأن تأسروهم وتحبسوهم وتراقبوهم على كل طريق حتى تضعف شوكتهم فينقادوا لكم.. فَإِنْ تابُوا عن الشرك بأن دخلوا في الإسلام فاتركوا التعرض لهم، وكفوا عن قتالهم، وافتحوا المسالك والطرق في وجوههم.واكتفى- سبحانه- بذكر الصلاة والزكاة عن ذكر بقية العبادات، لكونهما الأساسين للعبادات البدنية والمالية.وقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل قصد به التعليل لوجوب إخلاء سبيلهم أى، إن فعلوا ذلك فخلوا سبيلهم، ولا تعاملوهم بما كان منهم من شرك، فإن الإسلام يجب ما قبله، وإن الله قد غفر لهم ما سلف من الكفر والغدر بفضله ورحمته.قال الإمام ابن كثير: وقد اعتمد الصديق- رضى الله عنه- في قتال ما نعى الزكاة على هذه الآية وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله- تعالى- وبعدها الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيرا ما يقرن الله الصلاة والزكاة.وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» .وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم» ورواه البخاري وغيره.وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ثم قال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه .وبذلك ترى هذه الآية قد جمعت في إرشادها بين الترغيب والترهيب فقد أمرت المؤمنين بأن يستعملوا مع أعدائهم كل الوسائل المشروعة لإرهابهم ثم أمرتهم في الوقت نفسه بإخلاء سبيلهم متى تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة..وبعد أن بين- سبحانه- حكم المصرين على الشرك وهو قتالهم وأخذهم، وحكم الراجعين عنه وهو إخلاء سبيلهم. بعد ذلك بين- سبحانه- حكم المشركين الذين يطلبون الأمان لمعرفة شرائع الإسلام فقال- تعالى-:
وَ اِنْ اَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِیْنَ اسْتَجَارَكَ فَاَجِرْهُ حَتّٰى یَسْمَعَ كَلٰمَ اللّٰهِ ثُمَّ اَبْلِغْهُ مَاْمَنَهٗؕ-ذٰلِكَ بِاَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا یَعْلَمُوْنَ۠(۶)
اور اے محبوب اگر کوئی مشرک تم سے پناہ مانگے (ف۱۴) تو اسے پناہ دو کہ وہ اللہ کا کلام سنے پھر اسے اس کی امن کی جگہ پہنچا دو (ف۱۵) یہ اس لیے کہ وہ نادان لوگ ہیں (ف۱۶)
وقوله: استجارك، أى، طلب جوارك وحمايتك من الاعتداء عليه، وقد كان من الأخلاق الحميدة المتعارف عليها حماية الجار والدفاع عنه، حتى سمى النصير جارا، وعلى هذا المعنى جاء قوله، تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ «2» أى: نصير لكم.وإِنْ شرطية وأَحَدٌ مرفوع بفعل مضمر يفسره الفعل الظاهر وهو اسْتَجارَكَ والمعنى: وإن استأمنك- يا محمد- أحد من المشركين، وطلب جوارك وحمايتك بعد انقضاء مدة الأمان المحددة له، فَأَجِرْهُ أى: فأمنه وأجبه إلى طلبه، حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ أى: لكي يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه من تعاليم مقنعة للعقول السليمة بأن الشرك ظلم عظيم..واقتصر على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم، لأنهم من أهل الفصاحة والبلاغة، وقد كان سماع بعضهم لشيء من كلام الله سببا في هدايته.وقوله: ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ بيان لما يجب على المسلمين نحو هذا المشرك المستجير إذا ما استمع إلى كلام الله ثم بقي على شركه.أى: عليك- يا محمد- أن تجيره حتى يسمع كلام الله ويتدبره ولا يبقى له عذر في الإصرار على شركه، فإن آمن بعد سماعه صار من أتباعك، وإن بقي على شركه وأراد الرجوع إلى جماعته، فعليك أن تحافظ عليه حتى يصل إلى مكان أمنه واستقراره، وهو ديار قومه: ثم بعد ذلك يصبح حكمه كحكم المصرين على الشرك، ويعامل بما يعاملون به.واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ يعود إلى الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن.أى: ذلك الذي أمرناك به من إجارة المستجير من المشركين وإبلاغه مأمنه إذا لم يسلم، بسبب أنهم قوم لا يعلمون الإسلام ولا حقيقة ما تدعوهم إليه أى قوم يحتاجون إلى فترة من الوقت يسمعون كلام الله فيها وهم آمنون، وبهذا السماع منك ومن أصحابك لا يبقى لهم عذر أصلا في استمرارهم على الباطل.عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من المشركين إلى على بن أبى طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتى إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة: قتل؟فقال له على لا، لأن الله يقول وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ الآية .هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من الآية ما يأتى:1- أن المستأمن لا يؤذى، بل يجب على المسلمين حمايته في نفسه وماله وعرضه مادام في دار الإسلام، وقد حذر الإسلام أتباعه من الغدر أشد تحذير، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا برىء من القاتل وإن كان المقتول كافرا» .وروى الشيخان وأحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة» .2- يلحق بالمستجير الطالب لسماع كلام الله من كان طالبا لسماع الأدلة على كون الإسلام حقا، ومن كان طالبا للجواب على الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام، لأن هؤلاء وأمثالهم يطرقون باب الفهم والمعرفة ويبحثون عن الحق فعلينا أن نحميهم، وأن نبذل أقصى الجهود في تعليمهم وإرشادهم وإزالة الشبهات عنهم، لعل الله أن يشرح صدورهم للإسلام بسبب هذا التعليم والإرشاد.قال ابن كثير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش منهم عروة بن مسعود، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو وغيرهم واحدا بعد واحد، يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم، وأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم .3- على الإمام أو من يقوم مقامه أن يعطى المستأمن المهلة التي يراها كافية لفهمه حقائق الإسلام وأن يبلغه مأمنه بعد انقضاء حاجته، وأن لا يمكنه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته.قال الإمام الرازي: ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون، ولعله لا يعرف مقدارها إلا بالعرف، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه «3» .4- أخذ العلماء من هذه الآية وجوب التفقه في الدين، وعدم الاكتفاء بالظنون والتقليد للغير، وقد وضح الإمام الرازي هذا المعنى فقال:دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن وإما أن نقتلك. فلما لم يقل له ذلك- بل أمهل وأزيل الخوف عنه ووجب تبليغه مأمنه- علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين، وأنه لا بد من الحجة والدليل: فلذا أمهل ليحل له النظر والاستدلال» .5- تكلم العلماء عمن له حق إعطاء الأمان للمستأمن فقال القرطبي: «ولا خلاف بين كافة العلماء أن أمان السلطان جائز لأنه مقدم النظر والمصلحة. نائب عن الجميع في جلب المصالح ودفع المضار. واختلفوا في أمان غير الخليفة، فالحر يمضى أمانه عند كافة العلماء. وأما العبد فله الأمان في مشهور مذهب المالكية وبه قال الشافعى وأحمد.وقال أبو حنيفة: لا أمان له. والأول أصح لقوله صلى الله عليه وسلم «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم» .قالوا: فلما قال «أدناهم» جاز أمان العبد ... .وقال بعض العلماء: هذه الآية كانت أصلا عند الفقهاء في إباحة تأمين المشرك، وقد توسع الإسلام في باب الأمان فقرر به عصمة المستأمن، وأوجب على المسلمين حمايته مادام في دار الإسلام، وجعل للمسلمين حق إعطاء ذلك الأمان، ولم يشترط في ذلك إلا ما يضمن على المسلمين سلامتهم، بأن لا تظهر على المستأمن مظاهر الركون إلى التجسس على المسلمين.ولا ينسى الإسلام- وهو يعطى هذا الحق للأفراد- حق الإمام المهيمن على شئون المسلمين، بل جعل له بمقتضى هيمنته العامة، وتقديره لوجوه المصلحة، حق إبطال أى أمان لم يصادف محله، أو لم يستوف شروطه، كما له أن ينتزع ذلك الحق من الأفراد متى رأى المصلحة في ذلك.والإسلام يبيح بهذا الأمان التبادل التجارى والصناعى والثقافى، وفي سائر الشئون ما لم يتصل شيء منها بضرر الدولة «2» .6- هذه الآية الكريمة تشهد بسمو تعاليم الإسلام وسماحتها وحرصها على هداية الناس إلى الحق، وعلى صيانة دمائهم وأموالهم وأعراضهم من العدوان عليها.. حتى ولو كان هؤلاء الناس من أعداء الإسلام.وقد بسط هذا المعنى بعض العلماء فقال ما ملخصه: إن هذه الآية تعنى أن الإسلام حريص على كل قلب بشرى أن يهتدى وأن يثوب، وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان ذلك أنه في هذه الحالة آمن حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه، فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين، لعل قلوبهم أن تتفتح وتستجيب وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يصلوا إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم.ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان لهم في دار الإسلام.. ولكن قمة القمم هذه الحراسة للمشرك- عدو الإسلام والمسلمين- حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام.إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة، حتى وهو يتصدى لتأمين قاعدة الإسلام.إن هذا الدين إعلام لمن لا يعلمون، وإجارة لمن يستجيرون، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه وعاندوه.. .وبعد أن صرحت السورة الكريمة ببراءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين، وأمرت المؤمنين بإعطائهم مهلة يسيحون فيها في الأرض، ويتدبرون خلالها أمرهم، ثم بعد ذلك على المؤمنين أن يقتلوهم حيث وجدوهم، وأن يستعملوا معهم كل الوسائل المشروعة لإذلالهم، وأن يؤمنوا المشرك الذي يريد أن يسمع كلام الله، وأن يحافظوا عليه حتى يصل إلى مكان استقراره..بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة في بيان الأسباب التي أوجبت البراءة من عهود المشركين، والحكم التي من أجلها أمر الله بقتالهم والتضييق عليهم فقال- تعالى-:
كَیْفَ یَكُوْنُ لِلْمُشْرِكِیْنَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّٰهِ وَ عِنْدَ رَسُوْلِهٖۤ اِلَّا الَّذِیْنَ عٰهَدْتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِۚ-فَمَا اسْتَقَامُوْا لَكُمْ فَاسْتَقِیْمُوْا لَهُمْؕ-اِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ الْمُتَّقِیْنَ(۷)
مشرکوں کے لیے اللہ اور اس کے رسول کے پاس کوئی عہد کیونکر ہوگا (ف۱۷) مگر وہ جن سے تمہارا معاہدہ مسجد حرام کے پاس ہوا (ف۱۸) تو جب تک وہ تمہارے لیے عہد پر قائم رہیں تم ان کے لیے قائم رہو، بیشک پرہیزگار اللہ کو خوش آتے ہیں،
وقوله- سبحانه-: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ الاستفهام فيه للإنكار والاستبعاد لأن يكون للمشركين عهد. وهو إنكار للوقوع لا للواقع. أى تحذير للمؤمنين من أن يقع منهم ذلك في المستقبل.والمراد بالمشركين أولئك الذين نقضوا عهودهم، لأن البراءة إنما هي في شأنهم.والعهد: ما يتفق شخصان أو طائفتان من الناس على التزامه بينهما، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضى زيادة العناية بالوفاء به سمى ميثاقا، لاشتقاقه من الوثاق- بفتح الواو- وهو الحبل أو القيد. وإن أكداه باليمين خاصة سمى يمينا.وسمى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده.والمعنى: لا ينبغي ولا يجوز أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله لأن هؤلاء المشركين لا يدينون لله بالعبودية، ولا لرسوله بالطاعة، ولأنهم قوم دأبهم الخيانة. وعادتهم الغدر، ومن كان كذلك لا يكون له عهد عند الله ولا عند رسوله.قالوا: وفي توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته، لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال، فإذا انتفت جميع أحوال وجوده، فقد انتفى وجوده بالطريق البرهاني. وتكرير كلمة عِنْدَ للإيذان بعدم الاعتداد بعهودهم عند كل من الله- تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم على حدة.ويَكُونُ من الكون التام وكَيْفَ محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف.أو من الكون الناقص فيكون قوله عَهْدٌ اسمها، وقوله كَيْفَ خبرها وهو واجب التقديم، لأن الاستفهام له صدر الكلام.وقوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ..استثناء من المشركين الذين استنكرت الآية أن تكون لهم عهود عند الله وعند رسوله.والمراد بالمشركين الذين استثنوا هنا: أولئك الذين سبق الحديث عنهم في قوله- تعالى- قبل ذلك إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ...وهم- كما رجحه ابن جرير والخازن- بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة من قبائل بنى بكر، وكانوا قد وفوا بعهودهم مع المسلمين .وأعيد ذكر استثنائهم هنا، لتأكيد هذا الحكم وتقريره.والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم، فيكون الكلام على حذف مضاف.أى: عند قرب المسجد الحرام.والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام، لزيادة بيان أصحابها، وللإشعار بسبب وجوب الوفاء بها.والمعنى: لا ينبغي ولا يصح أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، لكن الذين عاهدتموهم- أيها المؤمنون- عند المسجد الحرام من المشركين ولم ينقضوا عهودهم فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ.أى: فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، فتكون ما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية.ويصح أن تكون شرطية وعائدها محذوف فيكون المعنى: فأى زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم، إذ لا يجوز أن يكون نقض العهد من جهتكم.وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال، وتبيين أن الوفاء بالعهد إلى مدته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده، ويحبهم بسبب تمسكهم بها.هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية: ان العهد المعتد به في شريعة الإسلام، هو عهد الأوفياء غير الناكثين، وأن من استقام على عهده عاملناه بمقتضى استقامته، وأن الالتزام بالعهود من تقوى الله التي يحبها لعباده.
كَیْفَ وَ اِنْ یَّظْهَرُوْا عَلَیْكُمْ لَا یَرْقُبُوْا فِیْكُمْ اِلًّا وَّ لَا ذِمَّةًؕ-یُرْضُوْنَكُمْ بِاَفْوَاهِهِمْ وَ تَاْبٰى قُلُوْبُهُمْۚ-وَ اَكْثَرُهُمْ فٰسِقُوْنَۚ(۸)
بھلا کیونکر (ف۱۹) ان کا حال تو یہ ہے کہ تم پر قابو پائیں تو نہ قرابت کا لحاظ کریں نہ عہد کا، اپنے منہ سے تمہیں راضی کرتے ہیں (ف۲۰) اور ان کے دلوں میں انکار ہے اور ان میں اکثر بے حکم ہیں (ف۲۱)
وقوله- سبحانه- كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ...لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، ولاستنكار ان يكون لهم عهد حقيق بالمراعاة، وبيان لما يكون عليه أمرهم عند ظهورهم على المؤمنين.وفائدة هذا التكرار للفظ كَيْفَ: التأكيد والتمهيد لتعداد الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى مجاهدتهم والإغلاظ عليهم، والحذر منهم.قال الآلوسى: وحذف الفعل بعد كيف هنا لكونه معلوما من الآية السابقة، وللإيذان بأن النفس مستحضرة له، مترقبة لورود ما يوجب استنكاره.وقد كثر الحذف للفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده. ومن ذلك قول كعب الغنوي يرثى أخاه أبا المغوار:وخبرتماني أنما الموت بالقرى ... فكيف وماتا هضبة وقليبيريد فكيف مات والحال ما ذكر.والمراد هنا: كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً .وقوله: يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يظفروا بكم ويغلبوكم. يقال: ظهرت على فلان أى:غلبته ومنه قوله- تعالى- فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أى:غالبين.وقوله: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ أى: لا يراعوا في شأنكم. يقال: رقب فلان الشيء يرقبه إذا رعاه وحفظه.. ورقيب القوم حارسهم.والإل: يطلق على العهد، وعلى القرابة، وعلى الحلف.قال ابن جرير- بعد أن ساق أقوالا في معنى الإل- وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: والإل: اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهي العهد والعقد، والحلف، والقرابة.. ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل:أفسد الناس خلوف خلفوا ... قطعوا الإل وأعراق الرحمأى قطعوا القرابة.ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى العهد قول القائل:وجدناهم كاذبا إلّهم ... وذو الإل والعهد لا يكذبوإذا كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يعم ذلك كما عم بها- جل ثناؤه- معانيها الثلاثة ...والذمة: كل أمر لزمك بحيث إذا ضيعته لزمك مذمة أو هي ما يتذمم به أى يجتنب فيه الذم.والمعنى: بأية صفة أو بأية كيفية يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، والحال المعهود منهم أنهم إن يظفروا بكم ويغلبوكم، لا يراعوا في أمركم لا عهدا ولا حلفا ولا قرابة ولا حقا من الحقوق.وقوله- تعالى-: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ زيادة بيان للأحوال القبيحة الملازمة لهؤلاء المشركين.أى: أن هؤلاء المشركين إن غلبوكم- أيها المؤمنون- فعلوا بكم الأفاعيل، وتفتنوا في إيذائكم من غير أن يقيموا ووزنا لما بينكم وبينهم من عهود ومواثيق، وقرابات وصلات ... أما إذا كانت الغلبة لكم فإنهم في هذه الحالة يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ أى: يعطونكم من ألسنتهم كلاما معسولا إرضاء لكم، وهم في الوقت نفسه تَأْبى قُلُوبُهُمْ المملوءة حقدا عليكم وبغضا لكم تصديق ألسنتهم، فهم كما وصفهم- سبحانه- في آية أخرى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ .وتقييد الإرضاء بالأفواه، للإشعار بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم.وقوله: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ أى: خارجون عن حدود الحق، منفصلون عن كل فضيلة ومكرمة، إذ الفسق هو الخروج والانفصال. يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها وفسق فلان إذا خرج عن حدود الشرع.وإنما وصف أكثرهم بالفسوق، لأن هؤلاء الأكثرين منهم، هم الناقضون لعهودهم، الخارجون على حدود ربهم، أما الأقلون منهم فهم الذين وفوا بعهودهم، ولم ينقصوا المؤمنين شيئا، ولم يظاهروا عليهم أحدا.وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد وصفت هؤلاء المشركين وصفا في نهاية الذم والقبح، لأنهم إن كانوا أقوياء فجروا وأسرفوا في الإيذاء، نابذين كل عهد وقرابة وعرف ... أما إذا شعروا بالضعف فإنهم يقدمون للمؤمنين الكلام اللين الذي تنطق به ألسنتهم، وتأباه قلوبهم الحاقدة الغادرة.أى أن الغدر ملازم لهم في حالتي قوتهم وضعفهم، لأنهم في حالة قوتهم لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً.وفي حالة ضعفهم يخادعون ويداهنون حتى تحين لهم الفرصة للانقضاض على المؤمنين.
اِشْتَرَوْا بِاٰیٰتِ اللّٰهِ ثَمَنًا قَلِیْلًا فَصَدُّوْا عَنْ سَبِیْلِهٖؕ -اِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوْا یَعْمَلُوْنَ(۹)
اللہ کی آیتوں کے بدلے تھو ڑے دام مول لیے (ف۲۲) تو اس کی راہ سے روکا (ف۲۳) بیشک وہ بہت ہی بڑے کام کرتے ہیں،
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك السبب الأصيل الذي جعل الغدر ديدنهم، والحقد على المؤمنين دأبهم فقال: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.والمراد بالاشتراء هنا الاستبدال والاستيعاض.والمراد بآيات الله: كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من آيات قرآنية، ومن تعاليم سامية تهدى إلى الخير والفلاح.والمعنى إن السبب الأصيل الذي حمل هؤلاء المشركين على الغدر، وعلى الفجور والطغيان عند القوة وعلى المداهنة والمخادعة عند الضعف. هو أنهم استبدلوا بآيات الله المتضمنة لكل خير وفلاح ... ثمنا قليلا. أى: عرضا حقيرا من أعراض الدنيا وزخارفها.وليس وصف الثمن بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات. بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات. لأن كل ثمن يؤخذ في مقابل آيات الله فهو قليل وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا وزينتها.وقوله: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ بيان لما ترتب على استبدالهم بآيات الله ثمنا قليلا.والصد: المنع والحيلولة بين الشيء وغيره، ويستعمل لازما فيقال: صد فلان عن الشيء صدودا بمعنى أعرض عنه. ويستعمل متعديا فيقال: صده عنه إذا صرفه عن الشيء.وهنا تصح إرادة المعنيين فيكون التقدير: أن هؤلاء المشركين قد اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، يترتب على ذلك أن أعرضوا عن طريق الله الواضحة المستقيمة التي جاء بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بهذا بل صرفوا غيرهم عنها، ومنعوه من الدخول فيها.وقوله: إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ تذييل قصد به بيان سوء عاقبتهم، وقبح أعمالهم.أى: إنهم ساء وقبح عملهم الذي كانوا يعملونه من اشترائهم بآيات الله ثمنا قليلا، ومن صدودهم عن الحق وصدهم لغيرهم عنه.. وسيجازيهم الله على ذلك بما يستحقونه عن عقاب شديد.
لَا یَرْقُبُوْنَ فِیْ مُؤْمِنٍ اِلًّا وَّ لَا ذِمَّةًؕ-وَ اُولٰٓىٕكَ هُمُ الْمُعْتَدُوْنَ(۱۰)
کسی مسلمان میں نہ قراب کا لحاظ کریں نہ عہد کا (ف۲۴) اور وہی سرکش ہیں،
ثم بين- سبحانه- أن عداوة هؤلاء المشركين ليست خاصة بالمؤمنين الذين يقيمون معهم، وإنما هي عداوة عامة شاملة لكل مؤمن مهما تباعد عنهم فقال- تعالى-:لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ.أى: أن هؤلاء المشركين لا يراعون في أمر مؤمن يقدرون على الفتك به عهدا يحرم الغدر، ولا قرابة تقتضي الود، ولا ذمة توجب الوفاء خشية الذم ... وإنما يبيتون الحقد والغدر والأذى لكل مؤمن، من غير أن يقيموا للعهود أو للفضائل وزنا.وهذه الآية الكريمة أعم من قوله- تعالى: قبل ذلك: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً لأن هذه بينت أن عدوانهم على المؤمنين مقيد بظهورهم عليهم، أما التي معنا فقد بينت أن عدوانهم ليس مقيدا بشيء، فهم متى وجدوا الفرصة اهتبلوها في الاعتداء على المؤمنين ولأن التي معنا بينت أن عداوتهم قد شملت كل مؤمن مهما كان موضعه.أما الآية السابقة فهي تخاطب المؤمنين الذين كان بينهم وبين المشركين الكثير من الحروب والدماء.وقوله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ تذييل قصد به ذمهم والتحقير من شأنهم.أى: وأولئك المشركون الموصوفون بتلك الصفات السيئة هم المتجاوزون لحدود الله والخارجون على كل فضيلة ومكرمة.
فَاِنْ تَابُوْا وَ اَقَامُوا الصَّلٰوةَ وَ اٰتَوُا الزَّكٰوةَ فَاِخْوَانُكُمْ فِی الدِّیْنِؕ-وَ نُفَصِّلُ الْاٰیٰتِ لِقَوْمٍ یَّعْلَمُوْنَ(۱۱)
پھر اگر وہ (ف۲۵) توبہ کریں اور نماز قائم رکھیں اور زکوٰة دیں تو وہ تمہارے دینی بھائی ہیں (ف۲۶) اور ہم آیتیں مفصل بیان کرتے ہیں جاننے والوں کے لیے (ف۲۷)
وبعد أن وضحت السورة الكريمة طبيعة هؤلاء المشركين بالنسبة لكل مؤمن، وبينت الأسباب التي جعلتهم بمعزل عن الحق والخير.. شرعت في بيان ما يجب أن يفعله المؤمنون معهم في حالتي إيمانهم وكفرهم فقال تعالى.فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ.أى: فإن تابوا عن شركهم وما يتبعه من رذائل ومنكرات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، على الوجه الذي أمر الله به فهم في هذه الحالة فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم وهذه الأخوة تجبّ ما قبلها من عداوات.وقوله: وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ جملة معترضة، جيء بها للحث والتحري على ما فصله- سبحانه- من أحكام المشركين، وعلى الالتزام بها.هذا ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء المشركين إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة..أما إن كانت الأخرى، أى إذا لم يتوبوا وأصروا على عداوتهم، فقد بين سبحانه. ما يجب على المؤمنين نحوهم في هذه الحالة فقال:
وَ اِنْ نَّكَثُوْۤا اَیْمَانَهُمْ مِّنْۢ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوْا فِیْ دِیْنِكُمْ فَقَاتِلُوْۤا اَىٕمَّةَ الْكُفْرِۙ-اِنَّهُمْ لَاۤ اَیْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُوْنَ(۱۲)
اور اگر عہد کرکے اپنی قسمیں توڑیں اور تمہارے دین پر منہ آئیں تو کفر کے سرغنوں سے لڑو (ف۲۸) بیشک ان کی قسمیں کچھ نہیں اس امید پر کہ شاید وہ باز آئیں (ف۲۹)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ.أى: وإن نقضوا عهودهم من بعد أن تعاقدوا معكم على الوفاء بها.وقوله: نَكَثُوا من النكث بمعنى النقض والحل. يقال نكث فلان الحبل إذا نقض فتله وحل خيوطه ومنه قوله- تعالى-: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً .وقوله: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ معطوف على ما قبله. أى: وعابوه وانتقصوه.وقوله: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أى: فقاتلوهم فهم أئمة الكفر، وحملة لوائه. فوضع- سبحانه- الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع الضمير على سبيل الذم لهم.وقيل: المراد بأئمة الكفر رؤساؤهم وصناديدهم الذين كانوا يحرضونهم على عداوة المؤمنين، ويقودونهم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.وعطف. سبحانه- قوله وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ على ما قبله مع أن نقض العهد كاف في إباحة قتالهم، لزيادة تحريض المؤمنين على مجاهدتهم والاغلاظ عليهم.وقوله: إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ تعليل للأمر بقتالهم أى قاتلوا هؤلاء المشركين بعزيمة صادقة، وقلوب ثابتة. لأنهم قوم لا أيمان ولا عهود لهم على الحقيقة، لأنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان.وقرأ ابن عامر إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ- بكسر الهمزة. على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء الأمان. أى إنهم لا أمان لهم فاحذروا الاغترار بهم. أو المراد الإيمان الشرعي. أى إنهم لا تصديق ولا دين لهم، ومن كان كذلك فلا وفاء له.وقوله: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلق بقوله فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.أى: ليكن مقصدكم من مقاتلتهم- بعد أن وجد منهم ما وجد من إيذائكم الرجاء في هدايتهم، والانتهاء عن كفرهم وخيانتهم.. واحذروا أن يكون مقصدكم من ذلك العدوان واتباع الهوى.هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات سوى ما سبق- ما يأتى:1- أن ما ذكرته الآيات من كون المشركين، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، يقرر حقيقة واقعة، ومن الأدلة على ذلك ما فعله التتار بالمسلمين- وخاصة مسلمي بغداد. سنة 656. وما فعله الوثنيون الهنود مع مسلمي باكستان، وما فعله الشيوعيون. في روسيا والصين وغيرها- مع المسلمين الذين كانوا يعيشون معهم .2- أن هؤلاء المشركين متى تابوا عن كفرهم، وأقلعوا عن شركهم، واندمجوا في جماعة المؤمنين.. صاروا إخوة لنا في الدين.وهذه الأخوة الدينية- كما يقول صاحب المنار- مما يحسدنا جميع أهل الملل عليها فهي لا تزال أقوى فينا منها فيهم برا وتعاونا. وعاصمة لنا من فوضى الشيوعية، وأثرة المادية وغيرها، على ما منيت به شعوبنا من الضعف واختلال النظام، واختلاف الجنسيات والأحكام. .3- قال القرطبي: استدل بعض العلماء بهذه الآية وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ- على وجوب قتل كل من طعن في الدين، إذ هو كافر. والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه.وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القتل. وممن قال بذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق والشافعى .4- أخذ بعضهم من قوله- تعالى- إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أن الكافر لا يمين له على الحقيقة.قال الفخر الرازي: وبه تمسك أبو حنيفة. رحمه الله. في أن يمين الكافر لا يكون يمينا.وعند الشافعى. رحمه الله- يمينهم يمين. ومعنى الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان أنه- سبحانه- وصفها بالنكث في قوله وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ.. ولو لم يكن منعقدا لما صح وصفها بالنكث .5- دل قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ على أن قتال المؤمنين للمشركين لا يراد به سلب أموالهم ولا هتك أعراضهم.. وإنما المراد به الرجاء في هدايتهم، والأمل في انتهائهم عن الكفر وسوء الأخلاق.قال صاحب الكشاف: قوله لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلق بقوله فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.أى: ليكن غرضكم في مقاتلتهم- بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم- أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد .وبعد أن بينت السورة الكريمة الأسباب الموجبة لقتال المشركين: شرعت في تحريض المؤمنين على مهاجمتهم ومقاتلتهم بأسلوب يثير الحمية في النفوس، ويحمل على الإقدام وعدم المبالاة بهم.. فقال تعالى:
اَلَا تُقَاتِلُوْنَ قَوْمًا نَّكَثُوْۤا اَیْمَانَهُمْ وَ هَمُّوْا بِاِخْرَاجِ الرَّسُوْلِ وَ هُمْ بَدَءُوْكُمْ اَوَّلَ مَرَّةٍؕ-اَتَخْشَوْنَهُمْۚ-فَاللّٰهُ اَحَقُّ اَنْ تَخْشَوْهُ اِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِیْنَ(۱۳)
کیا اس قوم سے نہ لڑو گے جنہوں نے اپنی قسمیں توڑیں (ف۳۰) اور رسول کے نکالنے کا ارادہ کیا (ف۳۱) حالانکہ انہیں کی طرف سے پہلی ہوتی ہے، کیا ان سے ڈرتے ہو تو اللہ کا زیادہ مستحق ہے کہ اس سے ڈرو اگر ایمان رکھتے ہو،
قال الآلوسى: قوله تعالى أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً ... تحريض على القتال بأبلغ وجه، لأن الاستفهام فيه للإنكار، والاستفهام الإنكارى في معنى النفي، وقد دخل هنا على نفى، ونفى النفي إثبات. وحيث كان الترك منكرا أفاد بطريق برهاني أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه، فيفيد الحث والتحريض عليه. بأقوى الأدلة، وأسمى الأساليب .وقد ذكر- سبحانه- هنا ثلاثة أسباب كل واحد منها يحمل المؤمنين على قتال المشركين بغلظة وشجاعة.أما السبب الأول فهو قوله تعالى: نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أى: نقضوا عهودهم وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها لتأكيد هذه العهود.ومن مظاهر ذلك أن هؤلاء المشركين الذين تعاهدوا معكم في صلح الحديبية على ترك القتال عشر سنين. قد نقضوا عهودهم بمساعدة حلفائهم بنى بكر على قتال حلفائكم بنى خزاعة عند أول فرصة سنحت لهم.والسبب الثاني قوله. سبحانه. وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ والهم: المقاربة من الفعل من غير دخول فيه.أى: وهموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة التي ولد فيها وعاش بها زمنا طويلا..لكنهم لم يستطيعوا ذلك، بل خرج باختيار. وبإذن الله له في الهجرة.وقد فصل سبحانه. ما هموا به في قوله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ .وإنما اقتصر، سبحانه، في الآية التي معنا على همهم بإخراجه. صلى الله عليه وسلم. من مكة، مع أن آية الأنفال قد بينت أنهم قد هموا بأحد أمور ثلاثة- لأن الإخراج هو الذي وقع أثره في الخارج بحسب الظاهر، أما القتل والحبس فلم يكن لهما أثر في الخارج.وقيل: إنه. سبحانه. قد اقتصر على الأدنى وهو الهم بالإخراج، ليعلم غيره بالطريق الأولى، إذ الإخراج أهون من القتل والحبس.وأما السبب الثالث فهو قوله. سبحانه. وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أى: وهم الذين كانوا بادئين بقتالكم في أول لقاء بينكم وبينهم وهو يوم بدر، كما كانوا بادئين بالعدوان عليكم في كل قتال بعد ذلك، كما حدث منهم في أحد والخندق وكما حدث منهم مع حلفائكم من بنى خزاعة.قال صاحب الكشاف: قوله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أى: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير، وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال. فهم البادئون بالقتال والبادئ أظلم، فما يمنعكم من أن تقابلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ .فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد ذكرت ثلاثة أمور كل واحد منها كفيل بحمل المؤمنين على قتال المشركين.. فكيف وقد توفرت هذه الأمور الثلاثة في هؤلاء المشركين؟.ولم تكتف الآية الكريمة بهذا التهييج والتحريض للمؤمنين على القتال، بل أمرتهم بأن تكون خشيتهم من الله وحده، فقال سبحانه أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.أى: أتتركون- أيها المؤمنون- قتال هؤلاء المشركين الذين نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ خشية منهم..؟ لا، إن هذا لا يليق بكم، وإنما الذي يليق بكم- إن كنتم مؤمنين حقا- أن تكون خشيتكم من الله وحده.قال الإمام الرازي: وهذا الكلام يقوى داعية القتال من وجوه:الأول: أن تعديد الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوى هذه الداعية.الثاني: أنك إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك؟ كان ذلك تحريكا لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من خصمه.الثالث: أن قوله: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ يفيد ذلك كأنه قيل: إن كنت تخشى أحدا فالله أحق أن تخشاه، لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة..الرابع: أن قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ معناه: إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا، وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة ومعناه: أنكم إذا لم تقدموا لا تكونوا كذلك، فثبت أن هذا الكلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد .
قَاتِلُوْهُمْ یُعَذِّبْهُمُ اللّٰهُ بِاَیْدِیْكُمْ وَ یُخْزِهِمْ وَ یَنْصُرْكُمْ عَلَیْهِمْ وَ یَشْفِ صُدُوْرَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِیْنَۙ(۱۴)
تو ان سے لڑو اللہ انہیں عذاب دیگا تمہارے ہاتھوں اور انہیں رسوا کرے گا (ف۳۲) اور تمہیں ان پر مدد دے گا (ف۳۳) اور ایمان والوں کا جی ٹھنڈا کرے گا،
ثم أمرهم- سبحانه- أمرا صريحا قاطعا بمقاتلة المشركين. ورتب على هذه المقاتلة خمسة أنواع من الفوائد فقال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ.أى: أقدموا على قتالهم وباشروه بشجاعة وإخلاص كما أمركم ربكم، فإنكم متى فعلتم ذلك يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بسبب ما تنزلونه بهم من قتل وأسر وجراحات بليغة، واغتنام للأموال.وأسند- سبحانه- التعذيب إليه، لأنه أمر زائد على أسبابه من الطعن والضرب وما يفضيان إليه من القتل والجرح.. والأسر. تلك هي الفائدة الأولى من قتالهم.أما الفائدتان الثانية والثالثة فتتجليان في قوله. تعالى. وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ.أى: ويخزهم بسبب ما ينزل بهم من هزيمة وهوان وهم يتفاخرون بقواتهم وبأسهم، وينصركم عليهم بأن يجعل كلمتكم هي العليا وكلمتهم هي السفلى.قال الإمام الرازي: فإن قالوا: لما كان حصول ذلك الخزي مستلزما لحصول هذا النصر، كان إفراده بالذكر عبثا؟فتقول: ليس الأمر كذلك، لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين، إلا أن المؤمنين قد تحصل لهم آفة لسبب آخر، فلما قال: وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر» .والفائدة الرابعة بينها- سبحانه- في قوله. وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ.أى: أنكم بقتالكم لهم وانتصاركم عليهم، تشفون قلوب جماعة من المؤمنين من غيظها المكظوم، لأن هذه الجماعة قد لقيت ما لقيت من أذى المشركين وظلمهم وغدرهم.. فكان انتصاركم عليهم شفاء لصدورهم.قالوا: والمراد بهؤلاء القوم بنو خزاعة الذين غدر بهم بنو بكر بمساعدة قريش.والأولى أن تكون الجملة الكريمة عامة في كل من آذاهم المشركون.أما الفائدة الخامسة فقد بينها- سبحانه. في قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ:
وَ یُذْهِبْ غَیْظَ قُلُوْبِهِمْؕ-وَ یَتُوْبُ اللّٰهُ عَلٰى مَنْ یَّشَآءُؕ-وَ اللّٰهُ عَلِیْمٌ حَكِیْمٌ(۱۵)
اور ان کے دلوں کی گھٹن دور فرمائے گا (ف۳۴) اور اللہ جس کی چاہے تو یہ قبول فرمائے (ف۳۵) اور اللہ علم و حکمت والا ہے،
أى:ويذهب غيظ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين ويزيل كربها وغمها، لأن الشخص الذي طال أذى خصمه له. ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإن هذا الشخص في هذه الحالة يعظم سروره، ويفرح قلبه، ويتحول غيظه السابق إلى غبطة وارتياح نفسي.قال الآلوسى: «وظاهر العطف أن إذهاب الغيط غير شفاء الصدور. ووجه بأن الشفاء يكون بقتل الأعداء وخزيهم، وإذهاب الغيظ يكون بالنصر عليهم ... وقيل إذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر، وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله به عليهم من تعذيبه لأعدائهم، ونصرته لهم عليهم، ولعل إذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه، فيكون ذكره من باب الترقي ... » .وقوله: تعالى- وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كلام مستأنف لبيان شمول قدرة الله- تعالى-، وواسع رحمته، وبالغ حكمته.أى: ويتوب الله على من يشاء أن يتوب عليه من عباده فيوفقه للإيمان، ويشرح صدره للإسلام، والله- تعالى عليم بسائر شئون خلقه، حكيم في كل أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته، فامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.قال الإمام الرازي ما ملخصه: وهذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله- تعالى- إيمانا حقيقيا لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة بالغضب وبالحمية من أجل الدين، ومن أجل الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين الصادقين.كما تدل على أنها من المعجزات، لأنه- تعالى- أخبر عن حصول هذه الأحوال، وقد وقعت كما أخبر فقد انتصر المؤمنون، وأسلم من المشركين أناس كثيرون- فيكون ذلك إخبارا عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجزة» .ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة التي حرضت المؤمنين على القتال أعظم تحريض، ببيان بعض الحكم التي من أجلها شرع الجهاد في سبيل الله، فقال- تعالى-:تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة بالغضب وبالحمية من أجل الدين، ومن أجل الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين الصادقين.كما تدل على أنها من المعجزات، لأنه- تعالى- أخبر عن حصول هذه الأحوال، وقد وقعت كما أخبر فقد انتصر المؤمنون، وأسلم من المشركين أناس كثيرون- فيكون ذلك إخبارا عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجزة» .ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة التي حرضت المؤمنين على القتال أعظم تحريض، ببيان بعض الحكم التي من أجلها شرع الجهاد في سبيل الله، فقال- تعالى-:
اَمْ حَسِبْتُمْ اَنْ تُتْرَكُوْا وَ لَمَّا یَعْلَمِ اللّٰهُ الَّذِیْنَ جٰهَدُوْا مِنْكُمْ وَ لَمْ یَتَّخِذُوْا مِنْ دُوْنِ اللّٰهِ وَ لَا رَسُوْلِهٖ وَ لَا الْمُؤْمِنِیْنَ وَلِیْجَةًؕ-وَ اللّٰهُ خَبِیْرٌۢ بِمَا تَعْمَلُوْنَ۠(۱۶)
کیا اس گمان میں ہو کہ یونہی چھوڑ دیئے جاؤ گے اور ابھی اللہ نے پہچان نہ کرائی ان کی جو تم میں سے جہاد کریں گے (ف۳۶) اور اللہ اور اس کے رسول اور مسلمانوں کے سوا کسی کو اپنا محرم راز نہ بنائیں گے (ف۳۷) اور اللہ تمہارے کاموں سے خبردار ہے،
و «أم» هنا للاستفهام الإنكارى. وحسب- كما يقول الراغب- مصدره الحسبان وهو أن يحكم الشخص لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله، فيحسبه ويعقد عليه الأصابع، ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك. ويقارب ذلك الظن، لكن الظن أن يخطر النقيضان بباله فيغلب أحدهما على الآخر .والواو في قوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ ... حالية، ولَمَّا للنفي مع توقع الحصول، ونفى العلم هنا مجاز عن نفى التبيين والإظهار والتمييز.وقوله: وَلِيجَةً أى، بطانة ومداخلة. من الولوج في الشيء أى الدخول فيه.يقال: ولج يلج ولوجا إذا دخل. وكل شيء أدخلته في شيء ولم يكن منه فهو وليجة.والمراد بالوليجة هنا: البطانة من المشركين الذين يطلعون على أسرار المؤمنين ويداخلونهم في أمورهم.قال ابن جرير: قوله: وَلِيجَةً هو الشيء يدخل في آخر غيره. يقال منه: ولج فلان في كذا يلجه فهو وليجة. وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين، نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم .والمعنى: أحسبتم- أيها المؤمنون- أن تتركوا دون أن تؤمروا بقتال المشركين، والحال أن الله- تعالى- لم يظهر الذين جاهدوا منكم بإخلاص ولم يتخذوا بطانة من أعدائكم.. ممن جاهدوا منكم بدون إخلاص؟لا. أيها المؤمنون، إن كنتم حسبتم ذلك فهو حسبان باطل، لأن سنة الله قد اقتضت أن يميز المخلص في جهاده من غيره، وأن يجعل من حكم مشروعية الجهاد الامتحان والتمحيص.قال ابن كثير: والحاصل أنه- تعالى- لما شرع الجهاد لعباده، بين أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه، وهو- تعالى- العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه، لا إله إلا هو ولا رب سواه، ولا راد لما قدره وأمضاه» .وقوله تعالى. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ بيان لشمول علمه- سبحانه لجميع شئون خلقه.أى: والله- تعالى- خبير بجميع أعمالكم، مطلع على نياتكم، فأخلصوا له العمل والطاعة، لتنالوا ثوابه ورضاه وعونه.وبذلك نرى السورة الكريمة من أولها إلى هنا قد أعلنت براءة الله ورسوله من عهود المشركين، وأعطتهم مهلة يتدبرون خلالها أمرهم، وأمرت المؤمنين بعد هذه المهلة- أن يقتلوا المشركين حيث وجدوهم.. ثم ساقت الأسباب التي تدعو إلى مجاهدتهم، والفوائد التي تترتب على هذه المجاهدة، والحكم التي من أجلها شرعت هذه المجاهدة.ثم أخذت السورة بعد ذلك في إعلان حكم آخر يتعلق بتعمير مساجد الله، فبينت أنه يحرم على المشركين أن يعمروا مساجد الله، وأن المستحقين لذلك هم المؤمنون الصادقون، فقال- تعالى-:
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِیْنَ اَنْ یَّعْمُرُوْا مَسٰجِدَ اللّٰهِ شٰهِدِیْنَ عَلٰۤى اَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِؕ-اُولٰٓىٕكَ حَبِطَتْ اَعْمَالُهُمْ ۚۖ-وَ فِی النَّارِ هُمْ خٰلِدُوْنَ(۱۷)
مشرکوں کو نہیں پہنچتا کہ اللہ کی مسجدیں آباد کریں (ف۳۸) خود اپنے کفر کی گواہی دے کر (ف۳۹) ان کا تو سب کیا دھرا اِکا رت ہے اور وہ ہمیشہ آگ میں رہیں گے (ف۴۰)
قال الجمل: وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر، منهم العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيرونهم بالشرك. وجعل على بن أبى طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم.فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقيل له: وهل لكم محاسن؟قال: نعم. ونحن أفضل منكم. إنا لنعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة- أى نخدمها-، ونسقى الحجيج، ونفك العاني- أى الأسير- فنزلت هذه الآية .وقال صاحب المنار: والمراد أن هذه الآية تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به العباس وغيره من كبراء المشركين، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك القول لأجل الرد عليه في أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم .وقوله: يَعْمُرُوا من العمارة التي هي نقيض الخراب. يقال: عمر فلان أرضه يعمرها عمارة إذا تعهدها بالخدمة والإصلاح والزراعة.والمراد بعمارة المساجد، هنا: ما يشمل إقامة العبادة فيها، وإصلاح بنائها وخدمتها، ونظافتها، واحترامها، وصيانتها عن كل مالا يتناسب مع الغرض الذي بنيت من أجله.وقوله: مَساجِدَ اللَّهِ قرأ أبو عمرو وابن كثير مسجد الله بالإفراد، فيكون المراد به المسجد الحرام: لأنه أشرف المساجد في الأرض، ولأنه قبلة المساجد كلها..فلا يجوز للمشركين دخوله أو الخدمة فيه.وقرأ الجمهور مَساجِدَ اللَّهِ بالجمع، فيكون المراد من المساجد جميعها لأنها جمع مضاف في سياق النفي فيعم سائر المساجد، ويدخل فيها المسجد الحرام دخولا أوليا، لأن تعميره مناط افتخارهم، وأهم مقاصدهم. وهذه القراءة آكد في النفي، لأن نفى الجمع يدل على النفي عن كل فرد، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، فإن قولك هذا أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.قوله: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حال من الواو في قوله يَعْمُرُوا.وفائدة المجيء بهذه الجملة: الإشعار بأن كفرهم كفر صريح، وأنهم يعترفون به اعترافا لا يملكون إنكاره، ولا يسعهم إلا إقراره.والمعنى: لا ينبغي ولا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله التي بنيت لعبادته وحده سبحانه. وذلك لأن هؤلاء المشركين قد شهدوا على أنفسهم بالكفر شهادة نطقت بها ألسنتهم، وأيدتها أعمالهم.فهم لا ينطقون بكلمة التوحيد، وإنما ينطقون بالكفر والإشراك. وهم لا يعملون أعمال المؤمنين، وإنما يعملون الأعمال القبيحة التي تدل على إصرارهم على باطلهم كسجودهم للأصنام عقب الطواف بالكعبة.قال الفخر الرازي: وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها:الأول- وهو الأصح: أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان، وتكذيب القرآن، وإنكار نبوة محمد- عليه الصلاة والسلام- وكل ذلك كفر فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كفرة.الثاني. قال السدى: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن يقول عابد الوثن أنا عابد الوثن.الثالث: أنهم كانوا يطوفون عراة وكلما طافوا شوطا سجدوا للأصنام. وكانوا يقولون:لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك .ثم بين- سبحانه: في ختام الآية سوء عاقبتهم فقال أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ:أى: أولئك المشركون الشاهدون على أنفسهم بالكفر قد فسدت أعمالهم التي كانوا يفتخرون بها مثل العمارة والحجابة والسقاية لأنها مع الكفر لا قيمة لها، وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ يوم القيامة بسبب كفرهم وإصرارهم على باطلهم.
اِنَّمَا یَعْمُرُ مَسٰجِدَ اللّٰهِ مَنْ اٰمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْیَوْمِ الْاٰخِرِ وَ اَقَامَ الصَّلٰوةَ وَ اٰتَى الزَّكٰوةَ وَ لَمْ یَخْشَ اِلَّا اللّٰهَ فَعَسٰۤى اُولٰٓىٕكَ اَنْ یَّكُوْنُوْا مِنَ الْمُهْتَدِیْنَ(۱۸)
اللہ کی مسجدیں وہی آباد کرتے ہیں جو اللہ اور قیامت پر ایمان لاتے اور نما ز قائم کرتے ہیں اور زکوٰة دیتے ہیں (ف۴۱) اور اللہ کے سوا کسی سے نہیں ڈرتے (ف۴۲) تو قریب ہے کہ یہ لوگ ہدایت والوں میں ہوں،
ثم بين. سبحانه. أن المؤمنين الصادقين هم الجديرون بعمارة مساجد الله، فقال: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ.أى: ليس المشركون أهلا لعمارة مساجد الله وإنما الذين هم أهل لذلك المؤمنون الصادقون الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، وآمنوا باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وآمنوا بما فرضه الله عليهم من فرائض فأدوها بالكيفية التي أرشدهم إليها نبيهم صلى الله عليه وسلم فهم في صلاتهم خاشعون وللزكاة معطون بسخاء وإخلاص.وهم بجانب ذلك لا يخشون أحدا إلا الله في تبليغ ما كلفوا بتبليغه من أمور الدين ولا يقصرون في العمل بموجب أوامر الله ونواهيه.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: لما علم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول. عليه الصلاة والسلام. لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين كأنهما شيء واحد.. انطوى تحت ذكر الإيمان بالله.تعالى. الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم فإن قلت: كيف قال: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها.قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف: وإذا اعترض أمران: أحدهما حق الله والآخر حق نفسه، آثر حق الله على حق نفسه .وقوله- تعالى- فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ تذييل قصد به حسن عاقبة المؤمنين الصادقين.أى: فعسى أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة من الإيمان بالله واليوم الآخر.. أن يكونوا من المهتدين إلى الجنة وما أعد فيها من خير عميم، ورزق كبير.قال الآلوسى: وإبراز اهتدائهم لذلك- مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة- في معرض التوقع، لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين. وهم من هم. إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى فكيف يقطع المشركون. وهم بيت المخازي والقبائح. أنهم مهتدون؟!.وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم، وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء .هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى:1- أن أعمال البر الصادرة عن المشركين. كإطعام الطعام، وإكرام الضيف.. إلخ.لا وزن لها عند الله، لاقترانها بالكفر والإشراك به- سبحانه-.قال. تعالى.: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً .2- أن عمارة مساجد الله من حق المؤمنين وحدهم، أما المشركون فإنهم لا يصح منهم ذلك بسبب كفرهم ونجاستهم.قال الجمل. لا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله بدخولها والقعود فيها. فإذا دخل الكافر المسجد بغير إذن من مسلم عزّر، وإن دخل بإذنه لم يعزر لكن لا بد من حاجة.فيشترط للجواز الإذن والحاجة. ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي صلى الله عليه وسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سوارى المسجد وهو كافر .3- التنويه بشأن بناء المساجد، والتعبد فيها، وإصلاحها، وخدمتها، وتنظيفها، والسعى إليها، واحترامها، وصيانتها عن كل ما يتنافى مع الغرض الذي بنيت من أجله، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى، ومن ذلك: ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عثمان بن عفان. رضى الله عنه. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى لله مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة» .وروى الشيخان. أيضا. عن أبى هريرة. رضى الله عنه. قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «من غدا إلى المسجد أو راح- أى سار قبل الزوال أو بعده لعبادة الله في المسجد- أعد الله له نزلا- أى مكانا طيبا في الجنة- كلما غدا أو راح» .وروى الترمذي عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» قال الله. تعالى-: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.. الآية.وروى أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة أو ينشد فيه شعر» . وروى مسلم في صحيحه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله تعالى. وقراءة القرآن» .إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت بشأن المساجد.ثم بين. سبحانه. بعد ذلك أنه لا يصلح أن يسوى بين هؤلاء المشركين- لمجرد سقايتهم الحجاج وعمارتهم المسجد الحرام. وبين المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمته فقال- سبحانه-:
اَجَعَلْتُمْ سِقَایَةَ الْحَآجِّ وَ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ اٰمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْیَوْمِ الْاٰخِرِ وَ جٰهَدَ فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِؕ-لَا یَسْتَوٗنَ عِنْدَ اللّٰهِؕ-وَ اللّٰهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّٰلِمِیْنَۘ(۱۹)
تو کیا تم نے حا جیوں کی سبیل اور مسجد حرام کی خدمت اس کے برابر ٹھہرا لی جو اللہ اور قیامت پر ایمان لایا اور اللہ کی راہ میں جہاد کیا، وہ اللہ کے نزدیک برابر نہیں، اور اللہ ظالموں کو راہ نہیں دیتا (ف۴۳)
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها: ما رواه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر النبي. صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل: ما أبالى أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج. وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله. تعالى.:أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ.. الآية وأخرج ابن جرير عن عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ..: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك. فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام. ونفك العاني، ونحجب البيت، ونسقى الحاج فأنزل الله. تعالى.: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ...وقال صاحب المنار، بعد أن ساق عددا من الروايات في سبب نزول هذه الآيات.:والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده، وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابه. من أعمال البر الهينة المستلذة. وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة وهي أشق العبادات البدنية والمالية .والسقاية والعمارة: مصدران من سقى وعمر. بتخفيف الميم.والمراد بسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان العباس. رضى الله عنه. هو الذي يتولى إدارة هذا العمل.قال الجمل: السقاية هي المحل الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم. كان يشترى الزبيب فينبذ في ماء زمزم ويسقى للناس، وكان يليها العباس جاهلية وإسلاما، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم له.. ويظهر أن المراد بها هنا المصدر. أى: إسقاء الحجاج وإعطاء الماء لهم «2» .والمراد بعمارة المسجد الحرام: ما يشمل العبادة فيه، وإصلاح بنائه، وخدمته، وتنظيفه.. كما سبق أن بينا.والهمزة في قوله. أَجَعَلْتُمْ للاستفهام الإنكارى المتضمن معنى النهى.والكلام على حذف مضاف، لأن العمارة والسقاية مصدران ولا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين حتى يتأتى التشبيه والمعنى: أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله؟ ويؤيده قراءة أجعلتم سقاة الحاج بضم السين. جمع ساق. وعمرة المسجد الحرام بفتح العين والميم جمع عامر.وعلى هذا المعنى يكون التقدير في جانب الصفة، ويجوز أن يكون التقدير في جانب الذات فيكون المعنى. أجعلتموهما، أى السقاية والعمارة. كإيمان من آمن وجهاد من جاهد؟والخطاب يشمل بعض المؤمنين الذين آثروا السقاية والعمارة على الجهاد كما جاء في حديث النعمان. كما يشمل المشركين الذين كانوا يتفاخرون بأنهم سقاة الحجيج، وعمار المسجد الحرام.والمقصود من الجملة الكريمة إنكار التسوية بين العملين وبين الفريقين. وقد جاء هذا الإنكار صريحا في قوله تعالى. لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ.أى: لا يساوى الفريق الأول الفريق الثاني في حكم الله، إذ أن الفريق الثاني له بفضل إيمانه الصادق. وجهاده الخالص الأجر الجزيل عند الله.فالجملة الكريمة مستأنفة لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده ثم ختم- سبحانه. الآية الكريمة بقوله. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.أى. والله تعالى. لا يوفق القوم الظالمين إلى معرفة الحق، وتمييزه من الباطل، لأنهم قد آثروا الشر على الخير والضلالة على الهداية.
اَلَّذِیْنَ اٰمَنُوْا وَ هَاجَرُوْا وَ جٰهَدُوْا فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِ بِاَمْوَالِهِمْ وَ اَنْفُسِهِمْۙ-اَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّٰهِؕ-وَ اُولٰٓىٕكَ هُمُ الْفَآىٕزُوْنَ(۲۰)
وہ جو ایمان لائے اور ہجرت کی اور اپنے مال و جان سے اللہ کی راہ میں لڑے، اللہ کے یہاں ان کا درجہ بڑا ہے (ف۴۴) اور وہی مراد کو پہنچے (ف۴۵)
وقوله. الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ..» استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد، وتكميلا له.أى: الَّذِينَ آمَنُوا بالله- تعالى- إيمانا حقا، وَهاجَرُوا من دار الكفر إلى دار الإيمان فرارا بدينهم، وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة الله بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ هؤلاء الذين توفرت فيهم هذه الصفات الجليلة أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أى: أعلى مقاما وأشرف منزلة في حكم الله وتقديره من أهل سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام ومن كل من لم يتصف بهذه الصفات الأربعة الكريمة وهي: الإيمان، والهجرة، والجهاد بالمال، والجهاد بالنفس.قال الفخر الرازي. فإن قيل: لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين. كما جاء في بعض روايات أسباب النزول. فكيف قال في وصفهم أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة.قلنا. الجواب عنه من وجوه. الأول أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله. سبحانه آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ .الثاني: أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بهذه الصفات، تنبيها على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات، فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.الثالث: أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة.والمراد منه ترجيح تلك الأعمال. ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنما بطل ثوابها في حق الكفار بسبب كفرهم .وقوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أى: وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة، هم الفائزون، بثواب الله الأعظم، وبرضائه الأسمى الذي لا يصل إليه، سواهم ممن لم يفعل فعلهم.
یُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَ رِضْوَانٍ وَّ جَنّٰتٍ لَّهُمْ فِیْهَا نَعِیْمٌ مُّقِیْمٌۙ(۲۱)
ان کا رب انہیں خوشی سنا تا ہے اپنی رحمت اور اپنی رضا کی (ف۴۶) اور ان باغوں کی جن میں انہیں دائمی نعمت ہے
ثم فصل- سبحانه- هذا الفوز فقال: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.أى يبشرهم ربهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم في الدنيا وعلى لسان الملائكة عند الموت بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أى: برحمة واسعة منه- سبحانه- وبرضائه التام عنهم، وبجنات عالية لهم فيها نعيم عظيم لا يزول ولا يبيد.
خٰلِدِیْنَ فِیْهَاۤ اَبَدًاؕ-اِنَّ اللّٰهَ عِنْدَهٗۤ اَجْرٌ عَظِیْمٌ(۲۲)
ہمیشہ ہمیشہ ان میں رہیں گے، بیشک اللہ کے پاس بڑا ثواب ہے،
خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى: ماكثين في تلك الجنات مكثا أبديا.إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره لهؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.قال الآلوسى: ذكر أبو حيان أنه- تعالى- لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة، والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث: الرحمة، والرضوان، والجنة.وبدأ- سبحانه- بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه، ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو السابق.وثنى- سبحانه- بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي هو بذل الأنفس والأموال.وثلث بالجنات في مقابلة الهجرة وترك الأوطان، إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها- في سبيله أعطاهم بدلها دارا عظيمة دائمة وهي الجنات.وفي الحديث الصحيح يقول الله- سبحانه-: «يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك؟ فيقول- سبحانه- لكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه: أحل لكم رضائى فلا أسخط عليكم بعده أبدا» .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت أنه لا تصح المساواة بين المؤمنين الصادقين الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وبين غيرهم ممن لم يفعل فعلهم، ولم يجاهد جهادهم ...وبعد أن بين- سبحانه- ما أعده من عطاء عظيم للمؤمنين الصادقين، الذين هاجروا وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم ... أتبع ذلك بتوجيه نداء إليهم، حثهم فيه على أن يجردوا أنفسهم لعقيدتهم، وأن يقاطعوا أعداءهم في الدين مهما بلغت درجة قرابتهم منهم، وأن يؤثروا حب الله ورسوله على كل شيء من زينة الحياة الدنيا فقال- تعالى-:
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا لَا تَتَّخِذُوْۤا اٰبَآءَكُمْ وَ اِخْوَانَكُمْ اَوْلِیَآءَ اِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْاِیْمَانِؕ-وَ مَنْ یَّتَوَلَّهُمْ مِّنْكُمْ فَاُولٰٓىٕكَ هُمُ الظّٰلِمُوْنَ(۲۳)
اے ایمان والو! اپنے باپ اور اپنے بھائیوں کو دوست نہ سمجھو اگر وہ ایمان پر کفر پسند کریں، اور تم میں جو کوئی ان سے دوستی کرے گا تو وہی ظالم ہیں (ف۴۷)
والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ المشركين أَوْلِياءَ وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم، وتطلعونهم على ما لا يجوز اطلاعهم عليه من شئونكم، وتلقون إليهم بالمودة.. فإن ذلك يتنافى مع الإيمان الحق، ومع الإخلاص للعقيدة وإيثارها على كل ما سواها من زينة الحياة.والمراد النهى لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة أى فرد من أفراد المشركين، لأن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، كما في قوله- تعالى- وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ قال القرطبي: وخص- سبحانه- الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان.ولم يذكر الأبناء في هذه الآية، إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان والهبة مستثناة من الولاية. قالت أسماء: يا رسول الله إن أمى قدمت على راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال نعم. «صلى أمك» .وقوله- سبحانه-: إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ قيد في النهى عن اتخاذهم أولياء. والاستحباب: طلب المحبة: يقال: استحب له بمعنى أحبه كأنه طلب محبته.أى: لا تتخذوهم أولياء إن اختاروا الكفر على الإيمان وأصروا على شركهم وباطلهم..أما إذا أقلعوا عن ذلك ودخلوا في دينكم، فلا حرج عليكم من اتخاذهم أولياء وأصفياء.وقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل قصد به الوعيد والتهديد لمن يفعل ذلك.أى: ومن يتولهم منكم في حال استحبابهم الكفر على الإيمان، فأولئك الموالون لهم هم الظالمون لأنفسهم، لأنهم وضعوا الموالاة في غير موضعها، وتجاوزوا حدود الله التي نهاهم عن تجاوزها، وسيجازيهم- سبحانه- على ذلك بما يستحقونه من عقاب.
قُلْ اِنْ كَانَ اٰبَآؤُكُمْ وَ اَبْنَآؤُكُمْ وَ اِخْوَانُكُمْ وَ اَزْوَاجُكُمْ وَ عَشِیْرَتُكُمْ وَ اَمْوَالُ اﰳقْتَرَفْتُمُوْهَا وَ تِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَ مَسٰكِنُ تَرْضَوْنَهَاۤ اَحَبَّ اِلَیْكُمْ مِّنَ اللّٰهِ وَ رَسُوْلِهٖ وَ جِهَادٍ فِیْ سَبِیْلِهٖ فَتَرَبَّصُوْا حَتّٰى یَاْتِیَ اللّٰهُ بِاَمْرِهٖؕ-وَ اللّٰهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفٰسِقِیْنَ۠(۲۴)
تم فرماؤ اگر تمہارے باپ اور تمہارے بیٹے اور تمہارے بھائی اور تمہاری عورتیں اور تمہارا کنبہ اور تمہاری کمائی کے مال او ر وہ سودا جس کے نقصان کا تمہیں ڈر ہے اور تمہارے پسند کا مکان یہ چیزیں اللہ اور اس کے رسول اور اس کی راہ میں لڑے سے زیاد ہ پیاری ہوں تو راستہ دیکھو یہاں تک کہ اللہ اپنا حکم لائے (ف۴۸) اور اللہ فاسقوں کو راہ نہیں دیتا،
ثم أمر- سبحانه- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس هذه الحقيقة: وهي أن محبة الله ورسوله يجب أن تفوق كل محبة لغيرهما فقال- تعالى-: قُلْ يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الذين أنتم بضعة منهم، وَأَبْناؤُكُمْ الذين هم قطعة منكم وَإِخْوانُكُمْ الذين تربطكم بهم وشيجة الرحم وَأَزْواجُكُمْ اللائي جعل الله بينكم وبينهن مودة ورحمة وَعَشِيرَتُكُمْ أى: أقاربكم الأدنون الذين تربطكم بهم رابطة المعاشرة والعصبة وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أى: اكتسبتموها فهي عزيزة عليكم.وأصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجر، والجلدة عن الجرح ثم استعير الاقتراف للاكتساب مطلقا:وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها أى: تخافون بوارها وعدم رواجها بسبب اشتغالكم بغيرها من متطلبات الإيمان.يقال: كسد الشيء من باب نصر وكرم. كسادا وكسودا، إذا قل رواجه وربحه.وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أى: ومنازل تعجبكم الإقامة فيها.قل لهم يا محمد: إن كان كل ذلك- من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، والأموال، والتجارة، والمساكن- أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ.أى: إن كانت هذه الأشياء أحسن في نفوسكم وأقرب إلى قلوبكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق، فانتظروا حتى يحكم الله فيكم، وهو العذاب العاجل أو العقاب الآجل.فالجملة الكريمة تهديد وتخويف لمن آثر محبة الآباء والأبناء ... على محبة الله ورسوله، وعلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الدين.وقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تذييل قصد به تأكيد التهديد السابق أى:والله- تعالى- قد اقتضت حكمته أن لا يوفق القوم الخارجين عن حدود دينه وشريعته إلى ما فيه مثوبته ورضاه.هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى:(1) تحريم موالاة الكافرين مهما بلغت درجة قرابتهم، واعتبار هذه الموالاة من الكبائر، لوصف فاعلها بالظلم: قال- تعالى-: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.(2) قوة إيمان الصحابة، وسرعة امتثالهم لأوامر الله، فإنهم في سبيل عقيدتهم قاطعوا أقرب الناس إليهم ممن خالفوهم في الدين، بل وحاربوهم وقتلوهم.قال ابن كثير: روى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبى عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه. فلما أكثر الجراح، قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية- التي بآخر سورة المجادلة- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ، أَوْ أَبْناءَهُمْ، أَوْ إِخْوانَهُمْ، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .(3) إن المؤمن لا يتم إيمانه إلا إذا كانت محبته لله ورسوله مقدمة على كل محبوب، وقد وردت عدة أحاديث في هذه المعنى، ومن ذلك ما أخرجه البخاري والإمام أحمد عن أبى عقيلزهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر: فأنت والله أحب إلى من نفسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الآن يا عمر» .(4) في الآية الثانية دليل على أنه إذا تعارضت مصلحة من مصالح الدين مع مهمات الدنيا، وجب ترجيح جانب الدين على الدنيا ليبقى الدين سليما، وهذا عمل لا يستطيعه إلا الأتقياء.. ولذا قال الإمام الزمخشري: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها. كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين. فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دينه، ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟ .(5) قال بعض العلماء: وليس المطلوب. من قوله- تعالى- قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ ... إلخ. أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة، ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة.. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يفرغ لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة الحاكمة، وهي المحركة الدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة، على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع، وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الحياة؟ فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة والعشيرة والزوج.. ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن. ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق. في غير سرف ولا مخيلة.بل إن المتاع حينئذ لمستحب، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده. وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بلغت درجة قرابتهم، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله.. انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم. حيث نصرهم- سبحانه- في حنين بعد أن ولوا مدبرين دون أن تنفعهم كثرتهم وقوتهم فقال- تعالى-:
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّٰهُ فِیْ مَوَاطِنَ كَثِیْرَةٍۙ-وَّ یَوْمَ حُنَیْنٍۙ-اِذْ اَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَیْــٴًـا وَّ ضَاقَتْ عَلَیْكُمُ الْاَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّیْتُمْ مُّدْبِرِیْنَۚ(۲۵)
بیشک اللہ نے بہت جگہ تمہاری مدد کی (ف۴۹) اور حنین کے دن جب تم اپنی کثرت پر اترا گئے تھے تو وہ تمہارے کچھ کام نہ ا ٓئی (ف۵۰) اور زمین اتنی وسیع ہوکر تم پر تنگ ہوگئی (ف۵۱) پھر تم پیٹھ دے کر پھرگئے،
قال ابن كثير. هذه أول آية نزلت من براءة يذكر- تعالى- المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وأن ذلك من عنده- تعالى-: وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم، ونبههم إلى أن النصر من عنده سواء قل الجمع أم كثر، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم ... ثم أنزل الله نصره على رسوله والمؤمنين.وقد كانت واقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة: وذلك أنه لما فرغ صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، وتمهدت أمورها، وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه، ومعهم ثقيف بكمالها وبنو سعد بن بكر.فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين.فسار بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العدو، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين، فكانت فيه الموقعة في أول النهار في غلس الصبح.انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم، ورشقوا بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد.. فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه من أصحابه قريب من مائة.ثم أمر صلى الله عليه وسلم عمه العباس- وكان جهير الصوت- أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة- أى شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه- فجعل ينادى بهم.. فجعلوا يقولون: لبيك لبيك.وانعطف الناس فتراجعوا.. فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .هذه خلاصة لغزوة حنين التي اجتمع فيها للمسلمين- للمرة الأولى- جيش تعداده اثنا عشر ألفا، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة.. أصيبوا بالهزيمة في أول معركة.. ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئا إذا لم يكن عون الله معهم.فقوله- تعالى-: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم حتى يداوموا على طاعته ومحبته. وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت.والمواطن: جمع موطن. وهو المكان الذي يقيم فيه الإنسان. يقال: استوطن فلان بمكان كذا، إذا جعله وطنا له.والمراد بالمواطن هنا: الأماكن التي حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم.قال الآلوسى: وقوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز.. وأوجب الزمخشري كون يَوْمَ منصوبا بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة.أى: «ونصركم يوم حنين..» .وقوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بدل من يوم حنين، أو عطف بيان له.وأعجبتكم: من الإعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه. وسبب هذا الإعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا عشر ألفا، وعدد أعدائهم كان أربعة آلاف.وقوله: فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً بيان للأثر السيئ الذي أعقب الإعجاب بالكثرة، وأن سرورهم بهذه الكثرة لم يدم طويلا، بل تبعه الحزن والهزيمة.وقوله: تُغْنِ من الغناء بمعنى النفع. تقول: ما يغنى عنك هذا الشيء، أى:ما يجزئ عنك وما ينفعك وقوله: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ بيان لشدة خوفهم وفزعهم.قال القرطبي: والرحب- بضم الراء- السعة. تقول منه: فلان رحب الصدر.والرحب- بالفتح- الواسع. تقول منه: بلد رحب وأرض رحبة.وقيل: الباء بمعنى مع، أى: وضاقت عليكم الأرض مع رحبها. وقيل بمعنى على. أى:على رحبها. وقيل المعنى برحبها فتكون «ما» مصدرية .والمعنى: اذكروا- أيها المؤمنون- نعم الله عليكم، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة، ومن مظاهر هذه النعم أنه- سبحانه- قد نصركم على أعدائكم مع قلتكم. في مواقف حروب كثيرة كغزوة بدر، وغزوة بنى قينقاع والنضير ... كما نصركم. أيضا. في يوم غزوة حنين، وهو اليوم الذي راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم: لن نغلب اليوم من قلة ...ولكن هذه الكثرة التي أعجبتم بها لم تنفعكم شيئا من النفع في أمر العدو بل انهزمتم أمامه في أول الأمر، وضاقت في وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم، فكنتم كما قال الشاعر:كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفّة حابلوقوله: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم.ووليتم: من التولي بمعنى الإعراض. ومدبرين: من الإدبار بمعنى الذهاب إلى الخلف.أى: ثم وليتم الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شيء.وهكذا، نرى الآية الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين في غزوة حنين تصويرا بديعا معجزا.. فهي تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم، وتقفل في وجوههم، إلى تصوير حركاتهم الحسية المتمثلة في تولية الأدبار، والنكوص على الأعقاب.
ثُمَّ اَنْزَلَ اللّٰهُ سَكِیْنَتَهٗ عَلٰى رَسُوْلِهٖ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِیْنَ وَ اَنْزَلَ جُنُوْدًا لَّمْ تَرَوْهَا وَ عَذَّبَ الَّذِیْنَ كَفَرُوْاؕ-وَ ذٰلِكَ جَزَآءُ الْكٰفِرِیْنَ(۲۶)
پھر اللہ نے اپنی تسکین اتا ری اپنے رسول پر (ف۵۲) اور مسلمانوں پر (ف۵۳) اور وہ لشکر اتارے جو تم نے نہ دیکھے (ف۵۴) اور کافروں کو عذاب دیا (ف۵۵) اور منکروں کی یہی سزا ہے،
وبعد هذا الخوف الشديد الذي أصاب المؤمنين في مبدأ لقائهم بأعدائهم في غزوة حنين، يجيء نصر الله الذي عبر عنه- سبحانه- بقوله: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ...والسكينة: الطمأنينة والرحمة والأمنة وهي فعيلة من السكون: وهو ثبوت الشيء بعد التحرك. أو من السكن وهو كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيرهم.أى: ثم أنزل الله- تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين رحمته التي تسكن إليها القلوب، وتطمئن بها اطمئنانا يستتبع النصر القريب.وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى هذه السكينة لأنه مع شجاعته وثباته ووقوفه في وجه الأعداء كالطود الأشم. أصابه الحزن والأسى لفرار هذا العدد الكبير من أصحابه عنه.وكان المؤمنون الذين ثبتوا من حوله في حاجة إلى هذه السكينة ليزدادوا ثباتا على ثباتهم، وإيمانا على إيمانهم.وكان الذين فروا في حاجة إلى هذه السكينة، ليعود إليهم ثباتهم، فيقبلوا على قتال أعدائهم بعد أن دعاهم رسولهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.وقوله: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها بيان لنعمة أخرى سوى إنزال السكينة.أى: وأنزل مع هذه السكينة جنودا من الملائكة لم تروها بأبصاركم، ولكنكم وجدتم أثرها في قلوبكم، حيث عاد إليكم ثباتكم وإقدامكم.وقوله: وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، بيان لنعمة ثالثة سوى السابقتين.أى: أنزل سكينته وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا بأن سلطكم عليهم فقتلتم منهم من قتلتم، وأسرتم من أسرتم.وقوله وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أى وذلك الذي نزل بهؤلاء الكافرين من التعذيب جزاء لهم على كفرهم، وصدهم عن سبيل الله.
ثُمَّ یَتُوْبُ اللّٰهُ مِنْۢ بَعْدِ ذٰلِكَ عَلٰى مَنْ یَّشَآءُؕ-وَ اللّٰهُ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ(۲۷)
پھر اس کے بعد اللہ جسے چاہے گا توبہ دے گا (ف۵۶) اور اللہ بخشنے والا مہربان ہے،
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر قدرته ورحمته بعباده فقال- تعالى- ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.أى: ثم يتوب الله- تعالى- من بعد هذا التعذيب للذين كفروا في الدنيا، على من يشاء أن يتوب عليه منهم، بأن يوفقه للدخول في الإسلام، والله- تعالى- واسع المغفرة، عظيم الرحمة، لا يحاسب الكافرين بعد إيمانهم على ما حصل منهم من كفر.قال- تعالى-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ .قال ابن كثير: وقوله: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ ... قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا، وقدموا عليه مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير، ما بين صبي وامرأة فرده عليهم: وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناسا من الطلقاء لكي يتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة مائة من الإبل، وكان من جملة من أعطاهم مائة من الإبل مالك بن عوف النضري واستعمله على قومه .وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد ذكرت المؤمنين بجانب من نعم الله عليهم. ومن رحمته بهم، وأرشدتهم إلى أن النصر لا يتأتى لمن أعجبوا بكثرتهم فانشغلوا بها عن الاعتماد عليه- سبحانه- وإنما النصر يتأتى لمن أخلصوا لله سرائرهم وعلانيتهم. وباشروا الأسباب التي شرعها- سبحانه- للوصول إلى الفوز والظفر.قال ابن القيم: افتتح الله- تعالى- غزوات العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، لهذا يقرن بين هاتين بالذكر، فقال بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين.. وبهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فالأولى خوفتهم وكسرت من حدتهم، والثانية استفرغت قواهم، واستنفدت سهامهم، وأذلت جمعهم، حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله .وبعد هذا التذكير والتوجيه من الله- تعالى- لعباده المؤمنين.. وجه- سبحانه- إليهم نداء أمرهم فيه بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام، ووعدهم بالعطاء الذي يغنيهم، فقال:
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْۤا اِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلَا یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هٰذَاۚ-وَ اِنْ خِفْتُمْ عَیْلَةً فَسَوْفَ یُغْنِیْكُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهٖۤ اِنْ شَآءَؕ-اِنَّ اللّٰهَ عَلِیْمٌ حَكِیْمٌ(۲۸)
اے ایمان والو! مشرک نرے ناپاک ہیں (ف۵۷) تو اس برس کے بعد وہ مسجد حرام کے پاس نہ آنے پائیں (ف۵۸) اور اگر تمہاری محتاجی کا ڈر ہے (ف۵۹) تو عنقریب اللہ تمہیں دولت مند کردے گا اپنے فضل سے اگر چاہے (ف۶۰) بیشک اللہ علم و حکمت والا ہے،
وقوله: نَجَسٌ بالتحريك- مصدر نجس الشيء ينجس فهو نجس إذا كان قذرا غير نظيف، وفعله من باب «تعب» وفي لغة من باب «قتل» .قال صاحب الكشاف: النجس: مصدر. يقال نجس نجسا وقذر قذرا، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم. أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها .قيل: وجوز أن يكون لفظ «نجس» صفة مشبهة- وإليه ذهب الجوهري ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظا مجموع معنى، ليصح الإخبار به عن الجمع. أى جنس نجس ونحوه .وقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فيه ما فيه من التعبير البديع المصور المجسم لهم، حتى لكأنهم بأرواحهم وماهيتهم وكيانهم: النجس يمشى على الأرض فيتحاشاه المتطهرون، ويتحاماه الأتقياء من الناس.وقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا تفريع على نجاستهم والمراد النهى عن الدخول إلا أنه عبر عنه بالنهى عن القرب مبالغة في إبعادهم عن المسجد الحرام.والنهى وإن كان موجها إلى المشركين، إلا أن المقصود منه نهى المؤمنين عن تمكينهم من ذلك، والمراد بقوله: بَعْدَ عامِهِمْ هذا العام الذي حصل فيه النداء بالبراءة من المشركين، وبعدم طوافهم بالمسجد الحرام.. وهو العام التاسع من الهجرة.قال ابن كثير: أمر الله عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا- عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية. وكان نزولها في سنة تسع.ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبى بكر رضى الله عنهما- عامئذ، وأمره أن ينادى في المشركين: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا .وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ بشارة من الله تعالى للمؤمنين بأن سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المشركين.والعيلة: الفقر والفاقة: يقال: عال الرجل يعيل عيلة فهو عائل إذا افتقر، ومنه قول الشاعر:وما يدرى الفقير متى غناه ... وما يدرى الغنى متى يعيلوقرئ «عائلة» بمعنى المصدر كالعافية: اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أى: حالا عائلة.قال ابن جرير- بعد أن ساق روايات في سبب نزول الآية-: عن عطية العوفى قال: لما قيل «ولا يحج بعد العام مشرك» قالوا: قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم، قال فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... الآية .والمعنى: لا تمكنوا أيها المؤمنون. المشركين من دخول المسجد الحرام بعد هذه السنة، لأنهم نجس.. ولا تخشوا الفقر والفاقة بسبب عدم تمكينهم، حيث إنكم تتبادلون معهم التجارات والمبايعات.. لأن الله- تعالى- قد وعدكم أن يغنيكم من فضله بالعطايا والخيرات التي تكفيكم أمر معاشكم..وقد أنجز الله- تعالى- لهم وعده، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وفتح لهم البلاد، فكثرت بين أيديهم الغنائم وألوان الخيرات، ودخل في دين الله من هم أيسر حالا وأغنى مالا من هؤلاء المشركين..قال صاحب الكشاف: قوله: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أى: من عطائه أو من تفضله بوجه آخر، فأرسل عليهم السماء مدرارا، فأغزر بها خيرهم، وأكثر مسيرهم. وأسلم أهل تبالة وجرس فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به: فكان أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته»والتقييد بالمشيئة في قوله: إِنْ شاءَ ليس للتردد، بل هو لتعليم المؤمنين رعاية الأدب مع الله- تعالى- كما في قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. ولبيان أن هذا الإغناء بإرادته- سبحانه- وحده، فعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه، وتضرعهم إليه لا إلى غيره، وللتنبيه على أن عطاءه سبحانه لهم، هو من باب التفضل لا الوجوب، لأنه لو كان واجبا ما قيده بالمشيئة.ولما كانت مشيئته- سبحانه- تجرى حسب مقتضى علمه وحكمته، فقد ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.أى: إن الله عليم بأحوالكم ومصالحكم، وبما يكون عليه أمر حاضركم ومستقبلكم حكيم فيما شرعه لكم. فاستجيبوا له لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.هذا، ومن الأحكام والآداب التي استنبطها العلماء من هذه الآية ما يأتى:1- أن المراد بالمشركين في الآية ما يتناول عبدة الأوثان وغيرهم من أهل الكتاب. كما هو مقتضى ظاهر اللفظ، وكما يدل عليه قوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. .أى: لا يغفر أن يشرك به بأى لون من ألوان الشرك.ويرى كثير من الفقهاء أن المراد بالمشركين هنا عبدة الأوثان فحسب، لأن الحديث خاص بهم من أول السورة إلى هنا.2- يرى جمهور الفقهاء أن نجاسة المشركين مرجعها إلى خبث بواطنهم لعبادتهم سوى الله- تعالى- أما أبدانهم فطاهرة.وقد بسط صاحب المنار القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه: «قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين، ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل.حكى هذا القول عن ابن عباس والحسن البصري.. وجمهور الظاهرية..ويرى جمهور السلف والخلف وأصحاب المذاهب الأربعة أن أعيانهم طاهرة. لأنه من المعلوم أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم. ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسل شيء مما أصابته أبدانهم.. بل الثابت أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وأكل من طعام اليهود ... وأطعم هو وأصحابه وفدا من الكفار ولم يأمر بغسل الأوانى التي أكلوا وشربوا فيها..وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله، فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك علينا ... » .3- اختلف الفقهاء في المراد بالمسجد الحرام في قوله- تعالى- فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا....فقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء: المراد به الحرم كله فيشمل المسجد الحرام ومكة، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله. وعليه فالكافر يمنع من دخول الحرم كله..ويرى الشافعى أن المراد المسجد الحرام بخصوصه أخذا بظاهر اللفظ.قال القرطبي: وقال الشافعى: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد» .ويرى الإمام مالك أن المراد المسجد الحرام بالنص وبقية المساجد تقاس عليه، لأن العلة- وهي النجاسة- موجودة في المشركين، والحرمة موجودة في كل مسجد.وعليه فلا يجوز تمكينهم لا من المسجد الحرام ولا من غيره من المساجد.ويرى الأحناف أن المراد بالمسجد الحرم كله، إلا أن النهى هنا ليس منصبا على دخوله وإنما هو منصب على المنع من الحج والعمرة. ومن الحج إليه أى: لا تمكنوا- أيها المؤمنون- المشركين من الطواف بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا.قال الآلوسى: ويؤيده قوله- تعالى- بَعْدَ عامِهِمْ هذا، فإن تقييد النهى يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام. أى: لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة.. ويدل عليه نداء على- كرم الله وجهه- يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، وكذا قوله- سبحانه- وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أى: فقرا بسبب منعهم، لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى.ثم قال: والحاصل أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهى عليه، ولا يمنعون عنده من دخول المسجد الحرام ومن دخول سائر المساجد» .4- قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز، وليس ذلك بمناف للتوكل، وإن كان الرزق مقدرا، ولكنه علقه بالأسباب لتظهر القلوب التي تتعلق بالأسباب، من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب وقد تقدم أن السبب لا ينافي التوكل، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» - أى: تغدو صباحا وهي جياع، وتعود عشية وهي ممتلئة البطون-.هذا، وبتدبر آيات السورة الكريمة- من أولها إلى هنا- نراها قد وضحت العلاقات النهائية بين المسلمين وعبدة الأوثان، وفصلت كثيرا من الأحكام التي تخص الفريقين، ومن ذلك أنها قررت:1- براءة الله ورسوله من عهود المشركين الذين مردوا على نقض المواثيق.2- إعطاءهم مهلة مقدارها أربعة أشهر يتدبرون خلالها أمرهم، دون أن يتعرض المسلمون لهم بسوء.3- إعلان الناس جميعا يوم الحج الأكبر بهذه البراءة..4- أمر المؤمنين بإتمام مدة العهد لمن حافظ من المشركين على عهده.5- بيان ما يجب على المؤمنين فعله إذا ما انقضت أشهر الأمان التي أعطيت للمشركين.6- إرشاد المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم تأمين المشرك المستجير بهم حتى يسمع كلام الله، ويطلع على حقيقة الإسلام.. ثم توصيله إلى موضع أمنه إن لم يسلم.7- بيان الأسباب التي تدعو إلى قتال المشركين، وإلى وجوب البراءة منهم.8- بيان بعض الحكم والأسرار التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام.9- بيان أن المشركين ليسوا أهلا لعمارة مساجد الله.. وأن الذين هم أهل لذلك:المؤمنون الصادقون.10- توجيه المؤمنين إلى أن إيمانهم يحتم عليهم أن يؤثروا محبة الله ورسوله على أى شيء آخر، من الآباء والأبناء والإخوان.11- تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم حيث نصرهم في مواطن كثيرة ونصرهم يوم غزوة حنين، بعد أن هزموا في أول المعركة دون أن تنفعهم كثرتهم التي أعجبوا بها.12- نهيهم عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام، وإزالة الوساوس التي قد تخطر ببالهم بسبب هذا النهى، بأن وعدهم- سبحانه- بأنه سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المكاسب التي تأتيهم عن طريق تبادل المنافع مع المشركين في موسم الحج.هذه أهم الموضوعات التي تعرضت لها سورة التوبة في ثمان وعشرين آية من أولها إلى هنا.وهي موضوعات وضحت. كما أسلفنا. الأحكام النهائية في علاقات المسلمين بالمشركين عبدة الأوثان.ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك سبع آيات بينت فيها ما يجب أن يكون عليه موقف المسلمين من المنحرفين من أهل الكتاب، كما حكت بعض أقوالهم الذميمة، وأفعالهم القبيحة، التي تدعو المسلمين إلى قتالهم حتى يخضعوا لسلطان الإسلام، وقد بدئت هذه الآيات بقوله- تعالى-
قَاتِلُوا الَّذِیْنَ لَا یُؤْمِنُوْنَ بِاللّٰهِ وَ لَا بِالْیَوْمِ الْاٰخِرِ وَ لَا یُحَرِّمُوْنَ مَا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُوْلُهٗ وَ لَا یَدِیْنُوْنَ دِیْنَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِیْنَ اُوْتُوا الْكِتٰبَ حَتّٰى یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَّدٍ وَّ هُمْ صٰغِرُوْنَ۠(۲۹)
لڑو ان سے جو ایمان نہیں لاتے اللہ پر اور قیامت پر (ف۶۱) اور حرام نہیں مانتے اس چیز کو جس کو حرام کیا اللہ اور اس کے رسول نے (ف۶۲) اور سچے دین (ف۶۳) کے تابع نہیں ہوتے یعنی وہ جو کتاب دیے گئے جب تک اپنے ہاتھ سے جزیہ نہ دیں ذلیل ہوکر (ف۶۴)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه لما ذكر- سبحانه- حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام.. ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد .وقال ابن كثير ما ملخصه: هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب- اليهود والنصارى. وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة، فندبهم فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة. ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدب، ووقت قيظ حر. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلميريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، ونزل بها، وأقام بها قريبا من عشرين يوما، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامه ذلك لضيق الحال، وضعف الناس....» .وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ.... أمر منه- سبحانه- للمؤمنين بقتال أهل الكتاب، وبيان للأسباب التي اقتضت هذا الأمر، وهي أنهم:أولا: لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ لأنهم لو كانوا مؤمنين به إيمانا صحيحا، لاتبعوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ولأن منهم من قال: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ومنهم من قال: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.وقولهم هذا كفر صريح، لأنه- سبحانه- منزه عما يقولون.قال- تعالى- قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.وثانيا: أنهم «لا يؤمنون باليوم الآخر» على الوجه الذي أمر الله- تعالى- به، ومن كان كذلك كان إيمانه. على فرض وجوده. كلا إيمان.قال الجمل ما ملخصه: فإن قلت: اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف نفى الله عنهم ذلك؟قلت: إن إيمانهم بهما باطل لا يفيد، بدليل أنهم لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما لم يؤمنوا به كان إيمانهم بالله واليوم الآخر كالعدم فصح نفيه في الآية ولأن إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين، وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه، والنصارى يعتقدون الحلول، ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن بالله بل هو مشرك.وأيضا فإن إيمانهم باليوم الآخر ليس كإيمان المؤمنين، وذلك لأنهم يعتقدون بعث الأرواح دون الأجساد، وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون- أى أنهم يرون نعيم الجنة وعذاب النار يتعلقان بالروح فقط ولا شأن للجسد بذلك. ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن .وثالثا: أنهم لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أى: أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، وفضلا عن ذلك فهم لا يلتزمون ما حرمته شريعتهم على ألسنة رسلهم، وإنما غيروا وبدلوا فيها على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم.أى أنهم لا يحرمون ما حرمه الله لا في شريعتنا ولا في شريعتهم.فاليهود- بجانب كفرهم بشريعتنا- لم يطيعوا شريعتهم، بدليل أنهم استحلوا أكل أموال الناس بالباطل مع أنها. أى شريعتهم. نهتهم عن ذلك.قال- تعالى- وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ... .والنصارى- بجانب كفرهم- أيضا- بشريعتنا- لم يطيعوا شريعتهم بدليل أنهم ابتدعوا الرهبانية مع أن شريعتهم لم تشرع لهم ذلك.قال- تعالى- ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ، وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها .ورابعا: لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. وقوله: يَدِينُونَ بمعنى يعتقدون ويطيعون.يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده وأطاع أوامره ونواهيه.والمراد بدين الحق: دين الإسلام الناسخ لغيره من الأديان.أى: أنهم لا يتخذون دين الإسلام دينا لهم، مع أنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده، والذي لا يقبل- سبحانه- دينا سواه. قال- تعالى-: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ... .وقال- تعالى-: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ .ويصح أن يكون المراد بدين الحق. ما يشمل دين الإسلام وغيره من الأديان السماوية التي جاء بها الأنبياء السابقون.أى: ولا يدينون بدين من الأديان التي أنزلها الله على أنبيائه، وشرعها لعباده، وإنما هم يتبعون أحبارهم ورهبانهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم.وعبر عنهم في قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.. بالاسم الموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال.أى أن العلة في الأمر بقتالهم، كونهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق.وقوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان للمتصفين بهذه الصفات الأربعة وهم اليهود والنصارى لأن الحديث عنهم، وعن الأسباب التي توجب قتالهم.والمراد بالكتاب: جنسه الشامل للتوراة والإنجيل.أى: قاتلوا من هذه صفاتهم، وهم اليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإنجيل- عن طريق موسى وعيسى- عليهما السلام- ولكنهم لم يعملوا بتعاليمهما وإنما عملوا بما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم.والمقصود بقوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ تميزهم عن المشركين عبدة الأوثان في الحكم، لأن حكم هؤلاء قتالهم حتى يسلموا، أما حكم أهل الكتاب فهو القتال، أو الإسلام، أو الجزية:وقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ غاية لإنهاء القتال.أى: قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن طوع وانقياد، فإن فعلوا ذلك فاتركوا قتالهم.والجزية: ضرب من الخراج يدفعه أهل الكتاب للمسلمين وهي- كما يقول القرطبي:- من جزى يجزى- مجازاة- إذا كافأ من أسدى إليه. فكأنهم أعطوها للمسلمين جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالقعدة والجلسة، ومن هذا المعنى قول الشاعر:يجزيك أو يثنى عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزىوالمراد بإعطائها في قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، التزام دفعها وإن لم يذكر الوقت المحدد لذلك.واليد هنا: يحتمل أن تكون كناية عن الاستسلام والانقياد. أى: حتى يعطوا الجزية عن خضوع وانقياد.ويحتمل أن تكون كناية و «عن» الدفع نقدا بدون تأجيل. أى: حتى يعطوها نقدا بدون تسويف أو تأخير.ويحتمل أن تكون على معناها الحقيقي، و «عن» بمعنى الباء أى: حتى يعطوها بيدهم إلى المسلمين لا أن يبعثوا بها بيد أحد سواهم.وهذه المعاني لليد إنما تتأتى إذا أريد بها يد المعطى. أى: يد الكتابي.أما إذا أردنا بها اليد الآخذة- وهي يد الحاكم المسلم- ففي هذه الحالة يكون معناها القوة والقهر والغلبة.أى: حتى يعطوها عن يد غالبة قوية لا قبل لهم بالوقوف أمامها.ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال: قوله: «عن يد» إما أن يراد يد المعطى أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطى حتى يعطوها عن يده، أى عن يد مؤاتية غير ممتنعة إذ أن من أبى وامتنع لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى بيده، إذا انقاد وأصحب- أى: سهل بعد صعوبة- ألا ترى إلى قولهم: نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة عن عنقه.أو المعنى: حتى يعطوها عن يد إلى نقدا غير نسيئة، لا مبعوثا بها على يد أحد، ولكن يد المعطى إلى يد الآخذ.ومعناه على إرادة يد الآخذ: حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية- وهي يد المسلمين- أو حتى يعطوها عن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم، وترك أرواحهم لهم، نعمة عظيمة عليهم» .وقوله: وَهُمْ صاغِرُونَ من الصغار بمعنى الذل والهوان. يقال: صغر فلان يصغر صغرا وصغارا إذا ذل وهان وخضع لغيره.والمعنى: قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يدفعوا لكم الجزية عن طواعية وانقياد. وهم أذلاء خاضعون لولايتكم عليهم ... فإن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرمه الله ورسوله. ولا يتخذون الدين الحق دينا لهم. يستحقون هذا الهوان في الدنيا، أما في الآخرة فعذابهم أشد وأبقى.هذا. ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:1- إن هذه الآية أصل في مشروعية الجزية، وأنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عند كثير من الفقهاء- لأن أهل الكتاب هم الذين يخيرون بين الإسلام أو القتال أو الجزية، أما غيرهم من مشركي العرب فلا يخيرون إلا بين الإسلام أو القتال.قال القرطبي ما ملخصه: وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية فقال الشافعى:لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة، عربا كانوا أو عجما لهذه الآية: فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم، لقوله- تعالى- في شأن المشركين:فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ولم يقل: حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب.وقال الشافعى: وتقبل من المجوس لحديث «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» أى: في أخذ الجزية منهم.وبه قال أحمد وأبو ثور. وهو مذهب الثوري وأبى حنيفة وأصحابه وقال الأوزاعى: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب.وكذلك مذهب مالك: فإنه يرى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربيا أو عجميا تغلبيا أو قرشيا كائنا من كان إلا المرتد..» .2- أن أخذ الجزية منهم إنما هو نظير ما ينالهم، وكفنا عن قتالهم، ومساهمة منهم في رفع شأن الدولة الإسلامية التي أمنتهم وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم، ومقدساتهم.. وإقرار منهم بالخضوع لتعاليم هذه الدولة وأنهم متى التزموا بدفعها وجب علينا حمايتهم، ورعايتهم، ومعاملتهم بالعدل والرفق والرحمة..وفي تاريخ الإسلام كثير من الأمثلة التي تؤيد هذا المعنى، ومن ذلك، ما جاء في كتاب الخراج لأبى يوسف أنه قال في خطابه لهارون الرشيد «وينبغي يا أمير المؤمنين- أيدك الله- أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ظلم من أمتى معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه» .وكان فيما تكلم عمر بن الخطاب عند وفاته: أوصى الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم» .وجاء في كتاب «أشهر مشاهير الإسلام» أن جيوش التتار، لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ثم خضد المسلمون شوكة التتار، ودان ملوكهم بالإسلام، خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية، أمير التتار بإطلاق الأسرى فسمح له بالمسلمين وأبى أن يسمح بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام: لا بد من إطلاق جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فأطلقهم له» .وجاء في كتاب «الإسلام والنصرانية» للأستاذ الإمام محمد عبده ما ملخصه:« ... الإسلام كان يكتفى من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه، ثم يترك الناس وما كانوا عليه من دين. ثم يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عونا على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في ديارهم، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار، لا يضايقون في عمل، ولا يضامون في معاملة.خلفاء المسلمين كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديرة للعبادة، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على القتال.جاءت السنة بالنهى عن إيذاء أهل الذمة، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين، «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» و «من آذى ذميا فليس منا» .واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام. ولست أبالى إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عند ما بدأ الضعف في أبناء الإسلام فضيق الصدر من طبع الضعيف.ثم قال: أما المسيحية فترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله، وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم- بعد العجز عن إخراجهم من دينهم- طردتهم عن ديارهم، وغسلت الديار من آثارهم، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا.ولا يمنع غير المسيحي من تعدى المسيحي إلا كثرة العدد أو شدة العضد، كما شهد التاريخ، وكما يشهد كاتبوه.ثم قال: فأنت ترى الإسلام يكتفى من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها، بشيء من المال، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء، لا يعكرون معه صفو الدولة، ولا يخلون بنظام السلطة العامة، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم» .وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه: قال السيوطي: استدل بقوله- تعالى- وَهُمْ صاغِرُونَ من قال إنها تؤخذ بإهانة، بأن يجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه، ويحنى ظهره، ويقبض الآخذ لحيته ... إلخ.وقد رد الإمام ابن القيم على هذا القائل بقوله: هذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو من مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه.والصواب في الآية، أن الصغار: هو التزامهم بجريان أحكام الله عليهم، وإعطاء الجزية، فإن ذلك هو الصغار، وبه قال الشافعى .والذي نراه أن ما قاله الإمام ابن القيم في رده هو عين الصواب، وأن ما نقله السيوطي عن بعضهم ... يتنافى مع سماحة الإسلام وعدله ورحمته بالناس.هذا، وهناك أحكام أخرى تتعلق بالجزية لا مجال لذكرها هنا، فليرجع إليها من شاء في بعض كتب الفقه والتفسير .وبعد أن بين- سبحانه- بعض رذائل أهل الكتاب على سبيل الإجمال، اتبع ذلك بتفصيل هذه الرذائل، فحكى أقوالهم الباطلة، وأفعالهم الذميمة، ونواياهم السيئة فقال- تعالى-:
وَ قَالَتِ الْیَهُوْدُ عُزَیْرُ ﰳابْنُ اللّٰهِ وَ قَالَتِ النَّصٰرَى الْمَسِیْحُ ابْنُ اللّٰهِؕ-ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِاَفْوَاهِهِمْۚ- یُضَاهِــٴُـوْنَ قَوْلَ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا مِنْ قَبْلُؕ-قٰتَلَهُمُ اللّٰهُۚ-اَنّٰى یُؤْفَكُوْنَ(۳۰)
اور یہودی بولے عزیر اللہ کا بیٹا ہے (ف۶۵) اور نصرانی بولے مسیح اللہ کا بیٹا ہے، یہ باتیں وہ اپنے منہ سے بکتے ہیں (ف۶۶) اگلے کافرو ں کی سی بات بناتے ہیں، اللہ انہیں مارے، کہاں اوندھے جاتے ہیں (ف۶۷)
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى. وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك- يا محمد- وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله، فأنزل الله في ذلك: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.. الآية .و «عزير» كاهن يهودي سكن بابل سنة 457 ق م تقريبا، ومن أعماله أنه جمع أسفار التوراة وأدخل الأحرف الكلدانية عوضا عن العبرانية القديمة، وألف أسفار: الأيام، وعزرا، ونحميا.وقد قدسه اليهود من أجل نشره لكثير من علوم الشريعة، وأطلقوا عليه لقب «ابن الله» .قال البيضاوي: وإنما قالوا ذلك- أى: عزير ابن الله- لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة «بختنصر» - سنة 586 ق م ه من يحفظ التوراة. وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما هذا إلا لأنه ابن الله» .وقال صاحب المنار ما ملخصه: جاء في دائرة المعارف اليهودية الإنكليزية- طبعة 1903- أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره، وعبق شذا ورده. وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة..» .وقد ذكر المفسرون هنا أقوالا متعددة في الأسباب التي حملت اليهود على أن يقولوا «عزير ابن الله» وأغلب هذه الأقوال لا يؤيدها عقل أو نقل، ولذا فقد ضربنا عنها صفحا.وقد نسب- سبحانه- القول إلى جميع اليهود مع أن القائل بعضهم، لأن الذين لم يقولوا ذلك لم ينكروا على غيرهم قولهم، فكانوا مشاركين لهم في الإثم والضلال، وفيما يترتب على ذلك من عقاب.وأما قول النصارى «المسيح ابن الله» فهو شائع مشهور، ومن أسبابه أن الله- تعالى- قد خلق عيسى بدون أب على خلاف ما جرت به سنته في التوالد والتناسل، فقالوا عنه «ابن الله» .وقد حاجهم- سبحانه- في سورة آل عمران بأن آدم قد خلقه الله من غير أب أو أم، فكان أولى بنسبة البنوة إليه، لكنهم لم ينسبوا إليه ذلك، فينبغي أن يكون عيسى كآدم.قال- تعالى- إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.وقوله: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ذم لهم على ما نطقوا به من سوء يمجه العقل السليم، والفكر القويم.أى: ذلك الذي قالوه في شأن «عزير والمسيح» قول تلوكه ألسنتهم في أفواههم بدون تعقل، ولا مستند لهم فيما زعموه سوى افترائهم واختلاقهم، فهو من الألفاظ الساقطة التي لا وزن لها ولا قيمة، فقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على استحالة أن يكون لله ولد أو والد أو صاحبة أو شريك.قال- تعالى- وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً .ولقد أنذر، سبحانه، الذين نسبوا إليه الولد بالعقاب الشديد فقال: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً وأسند، سبحانه، القول إلى الأفواه مع أنه لا يكون إلا بها، لاستحضار الصورة الحسية الواقعية، حتى لكأنها مسموعة مرئية ولبيان أن هذا القول لا وجود له في عالم الحقيقة والواقع، وإنما هو قول لغو ساقط وليد الخيالات والأوهام، ولزيادة التأكيد في نسبة هذا القول إليهم، أى: أنه قول صادر منهم وليس محكيا عنهم.قال صاحب الكشاف، فإن قلت: كل القول يقال بالفم فما معنى قوله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ؟.قلت: فيه وجهان: أحدهما- أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ يفوهون به، فارغ من أى معنى تحته، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم، لا تدل على معان.وذلك أن القول الدال على معنى، لفظه مقول بالفم، ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له مقول بالفم لا غير.والثاني- أن يراد بالقول: المذهب، كقولهم «قول أبى حنيفة» يريدون مذهبه وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة، حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد» .وقوله: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ذم آخر لهم على تقليدهم لمن سبقوهم بدون تعقل أو تدبر.قال الجمل ما ملخصه: قرأ العامة يُضاهِؤُنَ بضم الهاء بعدها واو-. وقرأ عاصم «يضاهئون» بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة- فقيل هما بمعنى واحد وهو المشابهة، وفيه لغتان: ضاهأت وضاهيت ... » .والمراد بالذين كفروا من قبل: قيل، أهل مكة وأمثالهم من المشركين السابقين الذين قالوا، الملائكة بنات الله وقيل، المراد بهم قدماء أهل الكتاب، أى، أن اليهود والنصارى المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم يشابه قولهم في العزير وعيسى قول آبائهم الأقدمين، - أى المعاصرين للعهد النبوي- قد ورثوا الكفر كابرا عن كابر.والأولى من هذين الوجهين أن يكون المراد بالذين كفروا من قبل. جميع الأمم التي ضلت وانحرفت عن الحق، وأشركت مع الله في العبادة آلهة أخرى.قال صاحب المنار، وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث، كانت معروفة عند البراهمة في الهند وفي الصين واليابان وقدماء المصريين وقدماء الفرس.وهذه الحقيقة التاريخية- والتي بينها القرآن في هذه الآية- من معجزاته لأنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم، بل لم تظهر إلا في هذا الزمان» .والمعنى. أن هؤلاء الضالين الذين قال بعضهم «عزير ابن الله» وقال البعض الآخر «المسيح ابن الله» ليس لهم على قولهم الباطل هذا دليل ولا برهان، ولكنهم يشابهون ويتابعون فيه قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم «فهم على آثارهم يهرعون» .وقوله. قاتَلَهُمُ اللَّهُ تعجيب من شناعة قولهم، ودعاء عليهم بالهلاك فإن من قاتله الله لا بد أن يقتل، ومن غالبه لا بد أن يغلب.وعن ابن عباس، أن معنى قاتَلَهُمُ اللَّهُ لعنهم الله وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن .وقوله: أَنَّى يُؤْفَكُونَ تعجيب آخر من انصرافهم الشديد عن الحق الواضح إلى الباطل المظلم المعقد.وأَنَّى بمعنى كيف. ويُؤْفَكُونَ من الإفك بمنى الانصراف عن الشيء والابتعاد عنه، يقال، أفكه عن الشيء يأفكه أفكا، أى، صرفه عنه وقلبه. ويقال، أفكت الأرض أفكا، أى: صرف، عنها المطر.والمعنى: قاتل الله هؤلاء الذين قالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ والذين قالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ لأنهم بقولهم هذا محل مقت العقلاء وعجبهم، إذ كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، بعد وضوح الدليل على استحالة أن يكون له- تعالى- ولد أو والد أو صاحبة أو شريك..؟!.إن ما قالوه ظاهر البطلان وهو محل عجب العقلاء واستنكارهم وغضبهم.
اِتَّخَذُوْۤا اَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ اَرْبَابًا مِّنْ دُوْنِ اللّٰهِ وَ الْمَسِیْحَ ابْنَ مَرْیَمَۚ-وَ مَاۤ اُمِرُوْۤا اِلَّا لِیَعْبُدُوْۤا اِلٰهًا وَّاحِدًاۚ-لَاۤ اِلٰهَ اِلَّا هُوَؕ-سُبْحٰنَهٗ عَمَّا یُشْرِكُوْنَ(۳۱)
انہوں نے اپنے پادریوں اور جوگیوں کو اللہ کے سوا خدا بنالیا (ف۶۸) اور مسیح بن مریم کو (ف۶۹) اور انہیں حکم نہ تھا (ف۷۰) مگر یہ کہ ایک اللہ کو پوجیں اس کے سوا کسی کی بندگی نہیں، اسے پاکی ہے ان کے شرک سے،
وقوله- سبحانه اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ بيان للون آخر من ألوان انحراف اليهود والنصارى عن الحق إلى الباطل، وتقرير لما سبقت حكايته عنهم من أقوال فاسدة، وأفعال ذميمة.والضمير في قوله اتَّخَذُوا يعود إلى الفريقين اللذين حكت الآية السابقة ما قالوه من باطل وبهتان.والأحبار: علماء اليهود جمع حبر، بكسر الحاء وفتحها- وهو الذي يحسن القول ويتقنه، مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين، ومنه ثوب محبر أى جمع الزينة والحسن، والرهبان: علماء النصارى جمع راهب وهو الزاهد في متع الدنيا، المنعزل عن الناس مأخوذ من الرهبة بمعنى الخشية والخوف من الله- تعالى.والمراد باتخاذهم لأحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، أنهم أطاعوهم فيها أحلوه لهم، وفيما حرموه عليهم، ولو كان هذا التحليل والتحريم مخالفا لشرع الله.وهذا التفسير مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدى بن حاتم أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام: وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومها، ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها، فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدى المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنق عدى صليب من فضة، وكان الرسول يقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ...قال عدى: فقلت، إنهم لم يعبدوهم، فقال، بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم.قال ابن كثير: وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية:أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.وقال السدى: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .وقال الآلوسى: وقيل اتخاذهم أربابا بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا لله، تعالى، وحينئذ فلا مجاز، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله وسنة رسوله، لكلام علمائهم ورؤسائهم، والحق أحق بالاتباع، فمتى ظهر الحق فعلى المسلم اتباعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده» .وقوله: وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ معطوف على قوله أَحْبارَهُمْ والمفعول الثاني بالنسبة إليه محذوف أى: اتخذوه ربا وإلها.قال صاحب المنار ما ملخصه: جمع- سبحانه. بين اليهود والنصارى في اتخاذ رجال دينهم أربابا بأن أعطوهم حق التشريع فيهم: وذكر بعد ذلك ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه واليهود لم يعبدوا عزيرا، ولم يؤثر عمن قال منهم إنه ابن الله، أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح: إنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد» .وقوله: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة حالية أى: اتخذ هؤلاء المفترون على الله الكذب من اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، بأن أطاعوهم فيما يحلونه لهم وفيما يحرمونه عليهم ولو كان ذلك مخالفا لشرع الله وكذلك اتخذ النصارى المسيح ابن مريم ربا وإلها.والحال أنهم جميعا ما أمروا على ألسنة رسلهم إلا بعبادة الله وحده، فهو المعبود الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا يكون الاعتماد إلا عليه، وكل ما سواه فهو مخلوق له.وقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لقوله إِلهاً. أو هو استئناف بيانى لتعليل الأمر بعبادة الله وحده، وأنه- سبحانه- هو المستحق لذلك شرعا وعقلا.وقوله: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له عن الشرك والشركاء إثر الأمر بإخلاص العبادة له.أى: تنزه الله- عز وجل- وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، فهو رب العالمين، وخالق الخلائق أجمعين..قال صاحب الظلال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: ومن النص القرآنى الواضح الدلالة، ومن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم للآية وهو فصل الخطاب، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار وهي: أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابا بمعنى الاعتقاد في ألوهيتهم، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم ... ومع هذا فقد حكم الله، سبحانه، عليهم بالشرك في هذه الآية، وبالكفر في آية تالية في السياق لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها- فهذا وحده دون الاعتقاد والشعائر يكفى لاعتبار من يفعله مشركا بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين، ويدخله في عداد الكافرين.إن النص القرآنى يسوى في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقادا وقدموا إليه الشعائر في العبادة .
یُرِیْدُوْنَ اَنْ یُّطْفِـٴُـوْا نُوْرَ اللّٰهِ بِاَفْوَاهِهِمْ وَ یَاْبَى اللّٰهُ اِلَّاۤ اَنْ یُّتِمَّ نُوْرَهٗ وَ لَوْ كَرِهَ الْكٰفِرُوْنَ(۳۲)
چاہتے ہیں کہ اللہ کا نور (ف۷۱) اپنے منہ سے بُجھا دیں اور اللہ نہ مانے گا مگر اپنے نور کا پورا کرنا (ف۷۲) پڑے برا مانیں کافر،
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما يهدف إليه أهل الكتاب من وراء أقاويلهم الكاذبة، ودعاواهم الباطلة فقال: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.والمراد بنور الله: دين الإسلام الذي ارتضاه. سبحانه- لعباده دينا وبعث به رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأعطاه من المعجزات والبراهين الدالة على صدقه، وعلى صحته ما جاء به مما يهدى القلوب، ويشفى النفوس، ويجعلها لا تدين بالعبادة والطاعة إلا لله الواحد القهار.وقيل المراد بنور الله: حججه الدالة على وحدانيته- سبحانه- وقيل المراد به، القرآن، وقيل المراد به: نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكلها معان متقاربة.والمراد بإطفاء نور الله: محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه، كإثارتهم للشبهات من حول تعاليمه، وكتحريضهم لأتباعهم وأشياعهم على الوقوف في وجهه، وعلى محاربته.والمراد بأفواههم. أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التي تنطق بما لا وزن له ولا قيمة.والمعنى: يريد هؤلاء الكافرون بالحق من أهل الكتاب أن يقضوا على دين الإسلام، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التي جاء بها نبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنطبق عليه، أو أصل تستند إليه، وإنما هي أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذي لا وزن له ولا قيمة ...قال الآلوسى ما ملخصه: في الكلام استعارة تمثيلية، حيث شبه- سبحانه- حال أهل الكتاب في محاولة إبطال نبوة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق تكذيبهم له، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم مثبت في الآفاق ليطفئه بنفخه..وروعي في كل من المشبه والمشبه به معنى الإفراط والتفريط، حيث شبه الإبطال والتكذيب بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله- تعالى- العظيم الشأن.ومن شأن النور المضاف إليه- سبحانه- أن يكون عظيما، فكيف يطفأ بنفخ الفم ..؟!!وقوله: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ بشارة منه- سبحانه- للمؤمنين، وتقرير لسنته التي لا تتغير ولا تتبدل في جعل العاقبة للحق وأتباعه.والفعل يَأْبَى هنا بمعنى لا يريد أو لا يرضى- أى: أنه جار مجرى النفي، ولذا صح الاستثناء منه.قال أبو السعود: وإنما صح الاستثناء المفرغ- وهو قوله إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. من الموجب، وهو قوله وَيَأْبَى اللَّهُ- لكونه بمعنى النفي، ولوقوعه في مقابلة قوله:يُرِيدُونَ، وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفى الإرادة، أى: لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه، فضلا عن الإطفاء.وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافا إلى ضميره- سبحانه- زيادة اعتناء بشأنه، وتشريف له على تشريف، وإشعار بعلة الحكم» .وجواب لَوْ في قوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ محذوف لدلالة ما قبله عليه.والمعنى: يريد أعداء الله أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والحال أن الله- تعالى- لا يريد إلا إتمام هذا النور، ولو كره الكافرون هذا الإتمام لأتمه- سبحانه- دون أن يقيم لكراهتهم وزنا.فالآية الكريمة وعد من الله، تعالى للمؤمنين بإظهار دينهم وإعلاء كلمتهم لكي يمضوا قدما إلى تنفيذ ما كلفهم الله به بدون إبطاء أو تثاقل، وهي في الوقت نفسه تتضمن في ثناياها الوعيد لهؤلاء الضالين وأمثالهم.
هُوَ الَّذِیْۤ اَرْسَلَ رَسُوْلَهٗ بِالْهُدٰى وَ دِیْنِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهٗ عَلَى الدِّیْنِ كُلِّهٖۙ-وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُوْنَ(۳۳)
وہی ہے جس نے اپنا رسول (ف۷۳) ہدایت اور سچے دین کے ساتھ بھیجا کہ اسے سب دینوں پر غالب کرے (ف۷۴) پڑے برا مانیں مشرک،
- ثم أكد- سبحانه- وعده بإتمام نوره، وبين كيفية هذا الإتمام فقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.والمراد بالهدى: القرآن الكريم المشتمل على الإرشادات السامية، والتوجيهات القويمة، والأخبار الصادقة، والتشريعات الحكيمة.والمراد بدين الحق: دين الإسلام الذي هو خاتم الأديان.وقوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ من الإظهار بمعنى الإعلاء والغلبة بالحجة والبرهان، والسيادة والسلطان.والجملة تعليلية لبيان سبب هذا الإرسال والغاية منه.والضمير في لِيُظْهِرَهُ يعود على الدين الحق أو الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى: هو الله- سبحانه- الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن الهادي للتي هي أقوم، وبالدين الحق الثابت الذي لا ينسخه دين آخر، وكان هذا الإرسال لإظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان بالحجة والغلبة، ولإظهار رسوله صلى الله عليه وسلم على أهل الأديان كلها، بما أوحى إليه- سبحانه- من هدايات، وعبادات، وتشريعات، وآداب ... في اتباعها سعادة الدنيا والآخرة.وختم- سبحانه- هذه الآية بقوله: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ وختم التي قبلها بقوله:وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ للإشعار بأن هؤلاء الذين قالوا: «عزير ابن الله والمسيح ابن الله» قد جمعوا بسبب قولهم الباطل هذا، بين رذيلتي الكفر والشرك، وأنه، سبحانه، سيظهر أهل دينه على جميع أهل الأديان الأخرى.هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التي تؤيد ذلك، منها: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله زوى لي الأرض من مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها» .وروى الإمام أحمد عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة» .وروى أيضا عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، يعز عزيزا ويذل ذليلا، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر» . وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الشرف والخير والعز، ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية.وأخرج أيضا عن عدى بن حاتم قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عدى أسلم تسلم» ، فقلت يا رسول الله: إنى من أهل دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني منى؟ قال نعم، ألست من الركوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك» .قلت: بلى. قال: «فإن هذا لا يحل لك في دينك» .ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أما إنى أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، ومن رمتهم العرب، أتعرف الحيرة» ؟قلت: لم أرها وقد سمعت بها.قال: «فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر، حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز» .قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «نعم. كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد» .قال عدى بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد.ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها .وإلى هنا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد كذبت أهل الكتاب في قولهم «عزير ابن الله والمسيح ابن الله» ، وأرشدتهم إلى الطريق الحق الواضح المستقيم ليسيروا عليه، ووبختهم على تشبههم في هذه الأقوال الباطلة بمن سبقهم من الضالين، وعلى انقيادهم لأحبارهم ورهبانهم بدون تعقل أو تدبر، وبشرت المؤمنين بظهور دينهم الذي ارتضاه الله لهم على الأديان كلها.ثم ختم- سبحانه- الحديث عن أهل الكتاب بتوجيه نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الرذائل التي انغمس فيها الأحبار والرهبان، وكيف جمعوا بين ضلال أنفسهم وإضلال أتباعهم، حيث أمروا هؤلاء الأتباع بالانقياد لهم فيما يأتون ويذرون ... فقال- تعالى-:
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْۤا اِنَّ كَثِیْرًا مِّنَ الْاَحْبَارِ وَ الرُّهْبَانِ لَیَاْكُلُوْنَ اَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَ یَصُدُّوْنَ عَنْ سَبِیْلِ اللّٰهِؕ-وَ الَّذِیْنَ یَكْنِزُوْنَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لَا یُنْفِقُوْنَهَا فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِۙ-فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ اَلِیْمٍۙ(۳۴)
اے ایمان والو! بیشک بہت پادری اور جوگی لوگوں کا مال ناحق کھا جاتے ہیں (ف۷۵) اور اللہ کی راہ سے (ف۷۶) روکتے ہیں، اور وہ کہ جوڑ کر رکھتے ہیں سونا اور چاندی اور اسے اللہ کی راہ میں خرچ نہیں کرتے (ف۷۷) انہیں خوشخبری سناؤ دردناک عذاب کی،
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس، تنبيها على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر، أخذ أموال الناس بالباطل.ولعمري من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم، وفي شرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعى أنه لا يلتفت إلى الدنيا، ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات، وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله .والمراد بالأكل في قوله لَيَأْكُلُونَ مطلق الأخذ والانتفاع.وعبر عن ذلك بالأكل، لأنه المقصود الأعظم من جمع الأموال، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، على سبيل المجاز المرسل، بعلاقة العلية والمعلولية. وأكلهم أموال الناس بالباطل، يتناول ما كانوا يأخذونه من سفلتهم عن طريق الرشوة والتدليس أو التحايل أو الفتاوى الباطلة. كما يتناول ما سوى ذلك مما كانوا يأخذونه بغير وجه حق.وأسند- سبحانه- هذه الجريمة- وهي أكل أموال الناس بالباطل- إلى كثير من الأحبار والرهبان ولم يسندها إلى جميعهم، إنصافا للعدد القليل منهم الذي لم يفعل ذلك، فإن كل طائفة أو جماعة لا تخلو من وجود أفراد من بينها يتعففون عن الحرام، ويقيدون أنفسهم بالحلال.قال صاحب المنار: وإسناد هذه الجريمة المزرية إلى الكثيرين منهم دون جميعهم من دقائق تحرى الحق في عبارات الكتاب العزيز، فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها أو فسقهم أو ظلمهم، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر، أو يطلق اللفظ العام ثم يستثنى منه.فمن الأول قوله- تعالى- في اليهود: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ .ومن الثاني قوله- تعالى- في اليهود أيضا: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ.ومن الثالث قوله- سبحانه- في شأن المحرفين للكلم الطاعنين في الإسلام من اليهود- أيضا-: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا .وقد نبهنا في تفسير هذه الآيات وأمثالها على العدل الدقيق في أحكام القرآن على البشر وإنما نكرره لعظيم شأنه ... » .وقوله: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ جريمة من جرائمهم الكثيرة.والصد: المنع والصرف عن الشيء.. وسبيل الله: دينه وشريعته.أى، أن هؤلاء الكثيرين من الأحبار والرهبان لا يكتفون بأكل أموال الناس بالباطل، بل إنهم يضيفون إلى ذلك جريمة ثانية من جرائمهم المتعددة وهي أنهم ينصرفون عن الدين الحق وهو دين الإسلام انقيادا لأحقادهم وشهواتهم، ويصرفون أتباعهم عنه بشتى الوسائل، كأن يصفوه لهم بأنه دين باطل، أو بأن رسوله صلى الله عليه وسلم ليس هو الرسول الذي بشرت به الكتب السماوية السابقة ... إلى غير ذلك من وسائلهم المتنوعة في صرف الناس عن الحق.والاسم الموصول في قوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. يرى بعضهم أن المراد به أولئك الأحبار والرهبان، لأن الكلام مسوق في ذمهم، وتكون هذه الجملة ذما لهم على رذيلة ثالثة هي الحرص والبخل، بعد ذمهم على رذيلتي أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله.ويرى آخرون أن المراد بهم البخلاء من المسلمين، وأن الجملة مستأنفة لذم مانعي الزكاة بقرينة قوله: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ويكون نظمهم مع أهل السوء من الأحبار والرهبان من باب التحذير والوعيد والإشارة إلى أن الأشحاء المانعين لحقوق الله، مصيرهم كمصير الأحبار والرهبان في استحقاق البشارة بالعذاب.وترى طائفة ثالثة من العلماء أن المراد به كل من كنز المال، ولم يخرج الحقوق الواجبة فيه، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم، لأن اللفظ مطلق، فيجب إجراؤه على إطلاقه وعمومه، إذ لم يرد ما يقيده أو يخصصه.وقوله: يَكْنِزُونَ من الكنز، وأصله في اللغة العربية: الضم والجمع.يقال: كنزت التمر في الوعاء إذا جمعته فيه. وكل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض أو على ظهرها فهو كنز، وجمعه كنوز.وخص الذهب والفضة بالذكر، لأنهما الأصل الغالب في الأموال ولأنهما اللذان يقصدان بالكنز أكثر من غيرهما.وقال الفخر الرازي ما ملخصه: ذكر- سبحانه- شيئين هما الذهب والفضة ثم قال:وَلا يُنْفِقُونَها- وكان الظاهر أن يقول «ولا ينفقونهما» والجواب من وجهين:الأول: أن الضمير عائد إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله- تعالى- وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..أو أن يكون التقدير: والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونها في سبيل الله، فيكون الضمير عائد إلى الكنوز المدلول عليها بالفعل يَكْنِزُونَ.الثاني: أن يكون الضمير عائد إلى اللفظ، ويكون ذكر أحدهما يغنى عن ذكر الآخر،كقوله- تعالى- وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها جعل الضمير للتجارة ... .وقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر الموصول.والتعبير بالبشارة من باب التهكم بهم، والسخرية منهم، فهو كقولهم: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم.وقوله: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ..تفصيل لهذا العذاب الأليم، وبيان لميقاته، حتى يقلع البخلاء عن بخلهم، والأشحاء عن شحهم ...والظرف يَوْمَ منصوب بقوله: بِعَذابٍ أَلِيمٍ أو بفعل محذوف يدل عليه هذا القول.أى: يعذبون يوم يحمى عليها، أو بفعل مقدر أى: اذكر يوم يحمى عليها.
یَّوْمَ یُحْمٰى عَلَیْهَا فِیْ نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوٰى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَ جُنُوْبُهُمْ وَ ظُهُوْرُهُمْؕ-هٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِاَنْفُسِكُمْ فَذُوْقُوْا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُوْنَ(۳۵)
جس دن تپایا جائے گا جہنم کی آ گ میں (ف۷۸) پھر اس سے داغیں گے ان کی پیشانیاں اور کروٹیں اور پیٹھیں (ف۷۹) یہ ہے وہ جو تم نے اپنے لیے جوڑ کر رکھا تھا اب چکھو مزا اس جوڑنے کا،
وقوله يُحْمى يجوز أن يكون من حميت وأحميت- ثلاثيا ورباعيا- يقال: حميت الحديدة وأحميتها، أى: أوقدت عليها لتحمى.وقوله: عَلَيْها جار ومجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل. ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل مضمرا، أى: يحمى الوقود أو الجمر عليها.قال الآلوسى: وأصله تحمى بالنار من قولك: حميت الميسم وأحميته فجعل الإحماء للنار مبالغة لأن النار في ذاتها ذات حمى، فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها. ثم حذفت النار، وحول الإسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. فإذا طرحت القصة وأسند الفعل إلى الجار والمجرور قلت: رفع إلى الأمير، وقرأ ابن عامر تحمى بالتاء بإسناده إلى النار كأصله» . والمعنى: بشر- يا محمد- أولئك الذين يكنزون الأموال في الدنيا ولا ينفقونها في سبيل الله، بالعذاب الأليم يوم الحساب يوم تحمى النار المشتعلة على تلك الأموال التي لم يؤدوا حق الله فيها فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ أى: فتحرق بها جباههم التي كانوا يستقبلون بها الناس، والتي طالما ارتفعت غرورا بالمال المكنوز، وتحرق بها- أيضا- «جنوبهم» التي كثيرا ما انتفخت من شدة الشبع وغيرها جائع، وتحرق بها كذلك «ظهورهم» التي نبذت وراءها حقوق الله بجحود وبطر ...قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم خصت هذه الأعضاء بالكي؟قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم- حيث لم ينفقوها في سبيل الله- إلا الأغراض الدنيوية، من وجاهة عند الناس، وتقدم، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم، يتلقون بالجميل ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك، هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطر ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذهب أهل الدثور بالأجر كله» .وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوه ظهورهم..» .وقوله: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ مقول لقول محذوف.والتفسير: تقول لهم ملائكة العذاب على سبيل التبكيت والتوبيخ، وهي تتولى حرق جباههم وجنوبهم وظهورهم: هذا العذاب الأليم النازل بكم في الآخرة هو جزاء ما كنتم تكنزونه في الدنيا من مال لمنفعة أنفسكم دون أن تؤدوا حق الله فيه. فذوقوا وحدكم وبال كنزكم. وتجرعوا غصصه، وتحملوا سوء عاقبته فأنتم الذين جنيتم على أنفسكم، لأنكم لم تشكروا الله على هذه الأموال. بل استعملتموها في غير ما خلقت له.هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.1- التحذير من الانقياد لدعاة السوء، ومن تقليدهم في رذائلهم وقبائحهم ووجوب السير على حسب ما جاء به الإسلام من تعاليم وتشريعات ...ولذا قال ابن كثير عند تفسيره للآية الأولى: والمقصود التحذير من علماء السوء، وعباد الضلال، كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من أحبار اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من رهبان النصارى.وفي الحديث الصحيح: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» ؟ وفي رواية: فارس والروم؟ قال: «فمن الناس إلا هؤلاء» والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم .هذا، ونص الحديث الصحيح الذي ذكره الإمام ابن كثير- كما رواه الشيخان- هكذا عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟قال: فمن؟ .أما الحديث الذي جاء فيه حذو القذة بالقذة، فقد أخرجه الإمام أحمد عن شداد بن أوس ونصه: «ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم. أهل الكتاب، حذو القذة بالقذة» .2- يرى جمهور العلماء أن المقصود بالكنز في قوله، تعالى، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها.. ألخ المال الذي لم تؤد زكاته، أما إذا أديت زكاته فلا يسمى كنزا، ولا يدخل صاحبه تحت الوعيد الذي اشتملت عليه الآية.وقد وضح الإمام القرطبي هذه المسألة فقال: واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أولا؟.فقال قوم: نعم. رواه أبو الضحى عن جعدة بن هبيرة عن على قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته،،،، ولا يصح.وقال قوم: ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز، قال ابن عمر: ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.ومثله عن جابر، وهو الصحيح.وروى البخاري عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه- يعنى شدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك..» .وفيه أيضا عن أبى ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «والذي نفسي بيده، ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم، لا يؤدى حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس» .فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى. قال له أعرابى: أخبرنى عن قول الله. تعالى- وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ..الآية فقال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال.وروى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ.. كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال صلى الله عليه وسلم «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم» قال: فكبر عمر. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته» .3- أخذ بعض الصحابة من هذه الآية تحريم اكتناز الأموال التي تفيض عن حاجات الإنسان الضرورية.قال ابن كثير: كان من مذهب أبى ذر- رضى الله عنه- تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك، ويحثهم عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان، وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة- وهي بلدة قريبة من المدينة- وبها مات- رضى الله عنه- في خلافة عثمان.وروى البخاري في تفسير هذه الآية عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا بأبى ذر، فقلت له: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. فقال معاوية: ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب. قال: قلت: إنها لفينا وفيهم.ثم قال ابن كثير: وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى ذر: «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر على ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين» فهذا- والله أعلم- هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا» .وقال الشيخ القاسمى: قال ابن عبد البر: وردت عن أبى ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك.وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابى حيث قال: هل على غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع» .وحديث طلحة الذي أشار إليه ابن عبد البر، قد جاء في صحيح البخاري ونصه: عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل على غيرها؟:قال: «لا.. إلا أن تطوع» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام رمضان» قال: هل على غيره؟قال: «لا إلا أن تطوع» ، قال. وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال. هل على غيرها؟ قال «لا إلا أن تطوع» .قال، فأدبر الرجل وهو يقول. والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص. فقال، رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفلح إن صدق».هذا ومما استدل به جمهور الصحابة ومن بعدهم من العلماء، على عدم حرمة اقتناء الأموال التي تفيض عن الحاجة- مادام قد أدى حق الله فيها- ما يأتى:(أ) أن قواعد الشرع لا تحرم ذلك، وإلا لما شرع الله المواريث لأنه لو وجب إنفاق كل ما زاد عن الحاجة، لما كان لمشروعية المواريث فائدة.(ب) ثبت في الحديث الصحيح أن سعد بن أبى وقاص عند ما كان مريضا، وزاره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا رسول الله: أأوصى بمالي كله؟ قال: «لا. قال سعد: فالشطر؟قال: لا. قال سعد: فالثلث؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: فالثلث والثلث كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ... » .ولو كان جمع المال واقتناؤه محرما، لأقر النبي صلى الله عليه وسلم سعدا على التصدق بجميع ماله، ولأمر المسلمين أن يحذوا حذو سعد، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، بل قال لسعد: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس..» .وقد كان في عهده صلى الله عليه وسلم من الصحابة من يملكون الكثير من الأموال- كعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما- ومع هذا فلم يأمرهم بإنفاق كل ما زاد عن حاجتهم الضرورية.قال القرطبي: قرر الشرع ضبط الأموال وأداء حقها، ولو كان ضبط المال ممنوعا، لكان حقه أن يخرج كله، وليس في الأمة من يلزم هذا. وحسبك حال الصحابة وأموالهم- رضوان الله عليهم- وأما ما ذكر عن أبى ذر فهو مذهب له .(ج) ما ورد من آثار في ذم الكنز والكانزين كان قبل أن تفرض الزكاة أو هو في حق من امتنع عن أداء حق الله في ماله.قال صاحب الكشاف. فإن قلت فما تصنع في قوله صلى الله عليه وسلم «من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها» .قلت. كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأما بعد فرضيتها، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه، ويؤدى عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه.ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه، ولكل شيء حد » .4- أن الإسلام وإن كان قد أباح للمسلم اقتناء المال- بعد أداء حق الله فيه- إلا أنه أمر أتباعه أن يكونوا متوسطين في حبهم لهذا الاقتناء، حتى لا يشغلهم حب المال عن طاعة الله.ورحم الله الإمام الرازي، فقد قال عند تفسيره لهذه الآيات ما ملخصه، اعلم أن الطريق الحق أن يقال، الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع. فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى.أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فلوجوه منها:أن كثرة المال سبب لكثرة الحرص في الطلب، والحرص متعب للروح والنفس والقلب..والعاقل هو الذي يحترز عما يتعب روحه ونفسه وقلبه. وأن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى في تعب الحفظ وأن كثرة الجاه والمال تورث الطغيان، كما قال- تعالى- إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى .هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث في ذم التكثر من الذهب والفضة، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حسان بن عطية قال:كان شداد بن أوس- رضى الله عنه- في سفر، فنزل منزلا فقال لغلامه: ائتنا بالسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه ذلك. فقال ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها عنى واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إنى أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، واسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم. إنك أنت علام الغيوب .وبعد: فهذه سبع آيات عن أهل الكتاب، بدأت- بقوله تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وانتهت بقوله تعالى: فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.وقد بينت هذه الآيات ما يجب أن يكون عليه موقف المؤمنين منهم، وكشفت عن أقوالهم الباطلة، وعن جحود رؤسائهم للحق، وعن انقياد: عامتهم للضلال، وعن استحلال كثير من أحبارهم ورهبانهم لمحارم الله ...ثم عادت السورة بعد ذلك إلى تكلمة الحديث عن أحوال المشركين السيئة، وعن وجوب مقاتلتهم، فقال تعالى.
اِنَّ عِدَّةَ الشُّهُوْرِ عِنْدَ اللّٰهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِیْ كِتٰبِ اللّٰهِ یَوْمَ خَلَقَ السَّمٰوٰتِ وَ الْاَرْضَ مِنْهَاۤ اَرْبَعَةٌ حُرُمٌؕ-ذٰلِكَ الدِّیْنُ الْقَیِّمُ ﳔ فَلَا تَظْلِمُوْا فِیْهِنَّ اَنْفُسَكُمْ وَ قَاتِلُوا الْمُشْرِكِیْنَ كَآفَّةً كَمَا یُقَاتِلُوْنَكُمْ كَآفَّةًؕ-وَ اعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِیْنَ(۳۶)
بیشک مہینوں کی گنتی اللہ کے نزدیک بارہ مہینے ہے (ف۸۰) اللہ کی کتاب میں (ف۸۱) جب سے اس نے آسمان اور زمین بنائے ان میں سے چار حرمت والے ہیں (ف۸۲) یہ سیدھا دین ہے، تو ان مہینوں میں (ف۸۳) اپنی جان پر ظلم نہ کرو اور مشرکوں سے ہر وقت لڑو جیسا وہ تم سے ہر وقت لڑتے ہیں، اور جان لو کہ اللہ پرہیزگاروں کے ساتھ ہے (ف۸۴)
قال صاحب المنار، هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين، وما يشرع من معاملاتهم بعد الفتح، وسقوط عصبية الشرك، وكان الكلام قبل هاتين الآيتين- في قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهى به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم، وقد ختم الكلام في أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية، التي هي وسيلة العظمة الدنيوية والشهوات الحيوانية، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة وجعل هذا الإنذار موجها إلينا وإليهم جميعا..» .والعدة- في قوله. إن عدة الشهور-: على وزن فعله من العدد وهي بمعنى المعدود. قال الراغب: العدة: هي الشيء المعدود، قال- تعالى وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أى: وما جعلنا عددهم إلا فتنة للذين كفروا..والشهور: جمع شهر. والمراد بها هنا: الشهور التي تتألف منها السنة القمرية وهي شهور. المحرم. وصفر. وربيع الأول.. إلخ.وهذه الشهور عليها مدار الأحكام الشرعية، وبها يعتد المسلمون في عبادتهم وأعيادهم وسائر أمورهم.والمراد بقوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: الوقت الذي خلقهما فيه، وهو ستة أيام كما جاء في كثير من الآيات، ومن ذلك قوله- تعالى- إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ.والمعنى: إن عدد الشهور «عند الله» أى: في حكمه وقضائه اثْنا عَشَرَ شَهْراً هي الشهور القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية.وقوله فِي كِتابِ اللَّهِ، أى: في اللوح المحفوظ.قال القرطبي: وأعاده بعد أن قال عِنْدَ اللَّهِ لأن كثيرا من الأشياء يوصف بأنه عند الله، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله، كقوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.وقيل معنى «في كتاب الله» أى فيما كتبه- سبحانه- وأثبته وأوجب على عباده العمل به منذ خلق السموات والأرض.قال الجمل: وقوله. فِي كِتابِ اللَّهِ صفة لاثنى عشر، وقوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ متعلق بما تعلق به الظرف قبله من معنى الثبوت والاستقرار، أو بالكتاب، إن جعل مصدرا.والمعنى: أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة أى: أن المقصود من هذه الآية الكريمة، بيان أن كون الشهور كذلك حكم أثبته- سبحانه- في اللوح المحفوظ منذ أوجد هذا العالم، وبينه لأنبيائه على هذا الوضع.. فمن الواجب اتباع ترتيب الله لهذه الشهور، والتزام أحكامها ونبذ ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقديم بعض الشهور أو تأخيرها أو الزيادة عليها، أو انتهاك حرمة المحرم منها.وقوله، حُرُمٌ جمع حرام- كسحب جمع سحاب- مأخوذ من الحرمة وذلك لأن الله تعالى- أوجب على الناس احترام هذه الشهور، ونهى عن القتال فيها:وقد أجمع العلماء على أن المراد بها ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.فقد أخرج البخاري عن أبى بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» .وسماه صلى الله عليه وسلم رجب مضر، لأن بنى ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبا وكانت قبيلة مضر تحرم رجبا نفسه، لذا قال صلى الله عليه وسلم فيه «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» .قال ابن كثير. وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة: ثلاثة سرد. وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل الحج شهرا وهو ذو القعدة يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون بأداء المناسك، وحرم بعده شهرا آخر هو المحرم، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا.واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعود إلى ما شرعه الله- تعالى من أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا، ومن أن منها أربعة حرم.والقيم: القائم الثابت المستقيم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج أى: ذلك الذي شرعناه لكم من كون عدة الشهور كذلك، ومن كون منها أربعة حرم: هو الدين القويم، والشرع الثابت الحكيم، الذي لا يقبل التغيير أو التبديل.. لا ما شرعه أهل الجاهلية لأنفسهم من تقديم بعض الشهور وتأخير بعضها استجابة لأهوائهم وشهواتهم، وإرضاء لزعمائهم وسادتهم.والضمير المؤنث في قوله فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ يرى ابن عباس أنه يعود على جميع الشهور أى: فلا تظلموا في الشهور الاثنى عشر أنفسكم، بأن تفعلوا فيها شيئا مما نهى الله عن فعله، ويدخل في هذا النهى هتك حرمة الأشهر الأربعة الحرم دخولا أوليا.ويرى جمهور العلماء أن الضمير يعود إلى الأشهر الأربعة الحرم، لأنه إليها أقرب لأن الله تعالى قد خص هذه الأربعة بمزيد من الاحترام تشريفا لها.وقد رجح ابن جرير ما ذهب إليه الجمهور فقال ما ملخصه: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظم حرمتها.وعن قتادة: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالى ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم.. فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فقد يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة.قيل: ليس ذلك كذلك، بل ذلك حرام علينا في كل وقت ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على سائر شهور السنة: فخص الذنب فيهن، بالتعظيم كما خصهن بالتشريف، وذلك نظير قوله- تعالى- حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى، ولكنه تعالى- زادها تعظيما، وعلى المحافظة عليها توكيدا، وفي تضييعها تشديدا، فكذلك في قوله مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.وقد كانت الجاهلية تعظم هذه الأشهر الحرم وتحرم القتال فيهن، حتى لو لقى الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يهجه.وقال القرطبي: لا يقال كيف جعلت بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض فإنا نقول:للباري- تعالى- أن يفعل ما شاء، ويخص بالفضيلة ما يشاء ليس لعمله علة، ولا عليه حجر، بل يفعل ما يريد بحكمته، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى.وقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً تحريض للمؤمنين على قتال المشركين بقلوب مجتمعة، وعزيمة صادقة.وكلمة كَافَّةً مصدر في موضع الحال من ضمير الفاعل في قاتِلُوا أو من المفعول وهو لفظ المشركين، ومعناها: جميعا.وقالوا: وهذه الكلمة من الكلمات التي لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها أل ولا تعرب إلا حالا فهي ملتزمة للإفراد والتأنيث مثل: عامة وخاصة .أى: قاتلوا- أيها المؤمنون- المشركين جميعا، كما يقاتلونكم هم جميعا، بأن تكونوا في قتالكم لهم مجتمعين متعاونين متناصرين، لا مختلفين ولا متخاذلين.وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ تذييل قصد به إرشادهم إلى ما ينفعهم في قتالهم لأعدائهم بعد أمرهم به.أى: واعلموا- أيها المؤمنون أن الله تعالى- مع عباده المتقين بالعون والنصر والتأييد، ومن كان الله معه فلن يغلبه شيء فكونوا- أيها المؤمنون من عباد الله المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما نهى عنه لتنالوا عونه وتأييده.
اِنَّمَا النَّسِیْٓءُ زِیَادَةٌ فِی الْكُفْرِ یُضَلُّ بِهِ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا یُحِلُّوْنَهٗ عَامًا وَّ یُحَرِّمُوْنَهٗ عَامًا لِّیُوَاطِــٴُـوْا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّٰهُ فَیُحِلُّوْا مَا حَرَّمَ اللّٰهُؕ-زُیِّنَ لَهُمْ سُوْٓءُ اَعْمَالِهِمْؕ-وَ اللّٰهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الْكٰفِرِیْنَ۠(۳۷)
ان کا مہینے پیچھے ہٹانا نہیں مگر اور کفر میں بڑھنا (ف۸۵) اس سے کافر بہکائے جاتے ہیں ایک برس اسے حلال (ف۸۶) ٹھہراتے ہیں اور دوسرے برس اسے حرام مانتے ہیں کہ اس گنتی کے برابر ہوجائیں جو اللہ نے حرام فرمائی (ف۸۷) اور اللہ کے حرام کیے ہوئے حلال کرلیں، ان کے برے کا م ان کی آنکھوں میں بھلے لگتے ہیں، اور اللہ کافروں کو راہ نہیں دیتا،
ثم نعى- سبحانه- على ما كانوا يفعلون من تحليل وتحريم للشهور على حسب أهوائهم.. فقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ.. والنسيء: مصدر بزنة فعيل مأخوذ من نسأ الشيء إذا أخره. ومنه نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها عنه. ومنه: أنسأ الله في أجل فلان، أى: أخره والمراد به: تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر.وقد أشار صاحب الكشاف إلى الأسباب التي جعلت المشركين يحلون الأشهر الحرم فقال:«كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر- وكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها- حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم فكانوا يحرمون من شتى شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أى ليوافقو العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين.والمعنى: إنما النسيء الذي يفعله المشركون، من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر، زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أى: زيادة في كفرهم لأنهم قد ضموا إلى كفرهم بالله كفرا آخر، هو تحليلهم لما حرمه الله وتحريمهم لما أحله وبذلك يكونون قد جمعوا بين الكفر في العقيدة والكفر في التشريع.قال القرطبي: وقوله: زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعا من الكفر، فإنها أنكرت وجود الباري- تعالى- فقالت: وَمَا الرَّحْمنُ في أصح الوجوه.وأنكرت البعث فقالت مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، وأنكرت بعثة الرسل فقالوا:أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهوانها فأحلت ما حرمه الله: ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون».وقوله يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأه الكوفيون بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول.أى: يوقع الذين كفروا بسبب ارتكابهم للنسيء في الضلال والموقع لهم في هذا الضلال كبراؤهم وشياطينهم.وقرأه أهل الحرمين وأبو عمرو يضل بفتح الياء وكسر الضاد بالبناء للفاعل.أى: يضل الله الذين كفروا، بأن يخلق فيهم الضلال بسبب مباشرتهم لما أدى إليه وهو ارتكابهم للنسيء.ويصح أن يكون الفاعل هو الذين كفروا أى يضل الذين كفروا عن الحق بسبب استعمالهم للنسيء الذي هو لون من ألوان استحلال محارم الله.وقوله: يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً بيان وتفسير لكيفية ضلالهم.والضمير المنصوب في يُحِلُّونَهُ ويُحَرِّمُونَهُ يعود إلى النسيء، أى الشهر المؤخر عن موعده.والمعنى أن هؤلاء الكافرين من مظاهر ضلالهم، أنهم يحلون الشهر المؤخر عن وقته عاما من الأعوام، ويحرمون مكانه شهرا آخر ليس من الأشهر الحرم، وأنهم يحرمونه أى: يحافظون على حرمة الشهر الحرام عاما آخر، إذا كانت مصلحتهم في ذلك.والمواطأة: الموافقة. يقال: واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه بدون مخالفته.والمعنى: فعل المشركون ما فعلوه من التحليل والتحريم للأشهر على حسب أهوائهم، ليوافقوا بما فعلوه عدة الأشهر الحرم، بحيث تكون أربعة في العدد وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة في شريعة الله.قال ابن عباس: ما أحل المشركون شهرا من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الأشهر الحلال. وما حرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الأشهر الحرام، لكي يكون عدد الأشهر الحرم أربعة..وقوله: فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ تفريع على ما تقدم.أى: فيحلوا بتغييرهم الشهور المحرمة، ما حرمه الله في شرعه. فهم وإن كانوا وافقوا شريعة الله في عدد الشهور المحرمة، إلا أنهم خالفوه في تخصيصها فقد كانوا- مثلا- يستحلون شهر المحرم ويحرمون بدله شهر صفر.وقوله: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ ذم لهم على انتكاس بصائرهم، وسوء تفكيرهم.أى: زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، فجعلهم يرون العمل القبيح عملا حسنا. وقوله:وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ تذييل قصد به التنفير والتوبيخ للكافرين.أى: والله تعالى. اقتضت حكمته أن لا يهدى القوم الكافرين إلى طريقه القويم، لأنهم بسبب سوء اختيارهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا طريق الغي على طريق الرشاد..فكان أمرهم فرطا.هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.1- أن السنة اثنا عشر شهرا، وأن شهور السنة القمرية هي المعول عليها في الأحكام لا شهور السنة الشمسية.قال الفخر الرازي، اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثنى عشر شهرا من الشهور القمرية، والدليل عليه هذه الآية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ الآية، وقوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.. فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر.وأيضا قوله. تعالى: (يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج..) .ثم قال، واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية، وهذا الحكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل. عليهما السلام. فأما عند اليهود والنصارى، فليس الأمر كذلك..) .وقال الجمل: قوله (اثنا عشر شهرا) هذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل، وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم. وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما. والسنة الشمسية عبارة عن دوران الشمس في الفلك دورة تامة، وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما.وربع يوم. فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف) .هذا، وقد تكلم بعض المفسرين عن الشهور القمرية، وعن سبب تسميتها بما سميت به فارجع إليه إن شئت.2- وجوب التقيد بما شرعه الله من أحكام بدون زيادة أو نقصان عليها.قال القرطبي ما ملخصه: وضع- سبحانه- هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة، وهو معنى قوله:إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً. وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها، وتقديم المقدم في الاسم منها.والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها.ولذا قال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات الأرض» .ثم قال القرطبي كانوا يحرمون شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه. فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض».3- أخذ بعضهم من قوله تعالى- فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت لم ينسخ، وأنه لا يصح القتال فيها إلا أن يكون دفاعا.قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبى رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها.وذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ، بدليل أن الله- تعالى- بعد أن نهى المؤمنين عن أن يظلموا أنفسهم بالقتال فيها أمرهم بقتال المشركين من غير تقيد بزمن فقال وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فدل ذلك على أن القتال في الأشهر الحرم مباح.وبدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة.قال ابن كثير: ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى هوازن في شوال، فلما كسرهم.. لجئوا إلى الطائف، فعمد صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما، وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام- أى. في شهر ذي القعدة.ثم قال ما ملخصه: وأما قوله- تعالى- وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف، ويكون من باب التهييج للمؤمنين على قتال أعدائهم.. ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال أعدائهم في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم-. أى من الأعداء: كما قال: - تعالى- الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وكما قال- تعالى- وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها، فإنهم الذين بدءوا القتال للمسلمين.. فعند ذلك قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين، وقتلوا جماعة منهم.. واستمر حصار المسلمين لهم أربعين يوما، وكان ابتداؤه في شهر حلال، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم، لأنه يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء، وهذا أمر مقرر.ومن كلام ابن كثير. رحمه الله- نستنتج أنه يميل إلى القول بأن المنهي عنه هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم، لا إتمام القتال فيها متى بدأ الأعداء ذلك وهو قريب من قول القائل: لا يحل القتال فيها ولا في الحرم إلا أن يكون دفاعا.وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، لأنه لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ أعداءه القتال في الأشهر الحرم، وإنما الثابت أن الأعداء هم الذين ابتدءوا قتال المسلمين فيها، فكان موقف المسلمين هو الدفاع عن أنفسهم:4- ذكر المفسرون روايات في أول من أخر حرمة شهر إلى آخر، فعن مجاهد قال: كان رجل من بنى كنانة يأتى كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول: أيها الناس: إنى لا أعاب ولا أخاب ولا مرد لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم.وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا رجل من بنى كنانة يقال له «القلمس» وكان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام. يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمد إليه يده. فلما كان هو قال لقوله: اخرجوا بنا- أى للقتال-. فقالوا له:هذا المحرم. قال: ننسئه العام، هما العام صفران. فإذا كان العام القابل قضينا.. جعلناهما محرمين.قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: لا تغزوا في صفر. حرموه مع المحرم. هما محرمان» .وقد كان بعض أهل الجاهلية يتفاخر بهذا النسيء، ومن ذلك قول شاعرهم:ومنا ناسئ الشهر القلمس قال آخر:ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراماوقد أبطل الإسلام كل ذلك، وأمر بترتيب الشهور على ما رتبها- سبحانه- عليه يوم خلق السموات والأرض.وبعد: فهذه سبع وثلاثون آية من أول السورة إلى هنا، نراها- في مجموعها كما سبق أن بينا- قد حددت العلاقات النهائية بين المسلمين وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، كما نراها قد أبرزت الأسباب التي دعت إلى هذا التحديد بأسلوب حكيم مؤثر، يقنع العقول، ويشبع العواطف.ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث متنوعة.. وقد استغرق هذا الحديث معظم آيات السورة، لا سيما فيما يتعلق بهتك أستار المنافقين، والتحذير منهم.وقد بدأت السورة حديثها عن غزوة تبوك بتوجيه نداء إلى المؤمنين نعت فيها على المتثاقلين عن الجهاد، وحرضت عليه بشتى ألوان التحريض قال تعالى:
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا مَا لَكُمْ اِذَا قِیْلَ لَكُمُ انْفِرُوْا فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِ اثَّاقَلْتُمْ اِلَى الْاَرْضِؕ-اَرَضِیْتُمْ بِالْحَیٰوةِ الدُّنْیَا مِنَ الْاٰخِرَةِۚ-فَمَا مَتَاعُ الْحَیٰوةِ الدُّنْیَا فِی الْاٰخِرَةِ اِلَّا قَلِیْلٌ(۳۸)
اے ایمان والو! تمہیں کیا ہوا جب تم سے کہا جائے کہ خدا کی راہ میں کوچ کرو تو بوجھ کے مارے زمین پر بیٹھ جاتے ہو (ف۸۸) کیا تم نے دنیا کی زندگی آخرت کے بدلے پسند کرلی اور جیتی دنیا کا اسباب آخرت کے سامنے نہیں مگر تھوڑا (ف۸۹)
قال الإمام ابن كثير: هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر، وحمارة القيظ، .وتبوك: اسم لمكان معروف في أقصى بلاد الشام من ناحية الجنوب، ويبعد عن المدينة المنورة من الجهة الشمالية بحوالى ستمائة كيلو متر.وكانت غزوة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة، وهي آخر غزوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.وكان السبب فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أن الروم قد جمعوا له جموعا كثيرة على أطراف الشام، وأنهم يريدون أن يتجهوا إلى الجنوب لمهاجمة المدينة.فاستنفر صلى الله عليه وسلم الناس إلى قتال الروم، وكان صلى الله عليه وسلم قلما يخرج إلى غزوة إلا ورى بغيرها حتى يبقى الأمر سرا.ولكنه في هذه الغزوة صرح للمسلمين بوجهته وهي قتال الروم، وذلك لبعد المسافة، وضيق الحال، وشدة الحر، وكثرة العدو.وقد لبى المؤمنون دعوة رسولهم صلى الله عليه وسلم لقتال الروم، وصبروا على الشدائد، والمتاعب وبذلوا الكثير من أموالهم، ولم يتخلف منهم إلا القليل.أما المنافقون وكثير من الأعراب، فقد تخلفوا عنها، وحرضوا غيرهم على ذلك، وحكت السورة- في كثير من آياتها الآتية- ما كان منهم من جبن ومن تخذيل الناس عن القتال، ومن تحريض لهم على القعود وعدم الخروج.وبعد أن وصل الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى تبوك، لم يجدوا جموعا للروم. فأقاموا هناك بضع عشرة ليلة، ثم عادوا إلى المدينة» .وقوله- سبحانه-: انْفِرُوا من النفر وهو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لسبب من الأسباب الداعية لذلك.يقال: نفر فلان إلى الحرب ينفر وينفر نفرا ونفورا، إذا خرج بسرعة ويقال: استنفر الإمام الناس، إذا حرضهم على الخروج للجهاد. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: وإذا استنفرتم فانفروا أى: وإذا دعاكم الإمام إلى الخروج معه للجهاد فاخرجوا معه بدون تثاقل.واسم القوم الذين يخرجون للجهاد: النفير والنفرة والنفر.ويقال: نفر فلان من الشيء، إذا فزع منه، وأدبر عنه، ومنه قوله- تعالى- وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً .وقوله: اثَّاقَلْتُمْ: من الثقل ضد الخفة. يقال: تثاقل فلان عن الشيء، إذا تباطأ عنه ولم يهتم به.. ويقال: تثاقل القوم: إذا لم ينهضوا لنجدة المستجير بهم. وأصل اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم، فأبدلت التاء ثاء ثم أدغمت فيها، ثم اجتلبت همزة الوصل من أجل التوصل للنطق بالساكن.والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أى: ما الذي جعلكم تباطأتم عن الخروج إلى الجهاد، حين دعاكم رسولكم صلى الله عليه وسلم إلى قتال الروم، وإلى النهوض لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه؟وقد ناداهم- سبحانه- بصفة الإيمان، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم، وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان الصادق من طاعة لله ولرسوله. والاستفهام في قوله:ما لَكُمْ لإنكار واستبعاد صدور هذا التثاقل منهم، مع أن هذا يتنافى مع الإيمان والطاعة.قال الجمل: و «ما» مبتدأ، و «لكم» خبر، وقوله «اثاقلتم» حال. وقوله: «إذا قيل لكم» ظرف لهذه الحال مقدم عليها.والتقدير: أى شيء ثبت لكم من الأعذار. حال كونكم متثاقلين في وقت قول الرسول لكم: انفروا في سبيل الله .وقوله. «إلى الأرض» متعلق بقوله: «اثاقلتم» على تضمينه معنى الميل إلى الراحة،والإخلاد إلى الأرض، ولذا عدى بإلى.أى: اثاقلتم مائلين إلى الراحة وإلى شهوات الدنيا الفانية، وإلى الإقامة بأرضكم ودياركم، وكرهتم الجهاد مع أنه ذروة سنام الإسلام.وإن التعبير بقوله، سبحانه، اثَّاقَلْتُمْ لفي أسمى درجات البلاغة، وأعلى مراتب التصوير الصادق، لأنه بلفظه وجرسه يمثل الجسم المسترخى الثقيل الذي استقر على الأرض.. والذي كلما حاول الرافعون أن يرفعوه عاد إليه ثقله فسقط من بين أيديهم، وأخلد إلى الأرض.وذلك لأن ما استولى عليه من حب للذائذ الدنيا وشهواتها، أثقل بكثير من حبه لنعيم الآخرة وخيراتها.وقوله، سبحانه،: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ إنكار آخر لتباطئهم عن الجهاد، وتعجب من ركونهم إلى الدنيا مع أن إيمانهم يتنافى مع ذلك.وقوله. فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ بيان لحقارة متاع الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة الدائم.والمعنى: أى شيء حال بينكم، أيها المؤمنون، وبين المسارعة إلى الجهاد عند ما دعاكم رسولكم صلى الله عليه وسلم إليه. أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذائذها الناقصة.إن كان أمركم كذلك، فقد أخطأتم الصواب، لأن متاع الحياة الدنيا مهما كثر فهو قليل مستحقر بجانب متاع الآخرة الباقي، ونعيمها الخالد.قال الآلوسى ما ملخصه: «في» من قوله فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ تسمى بفي القياسية. لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به. وفي ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها، ويستدعى الرغبة فيها، وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها.وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المستورد، أخى بنى فهر، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع» .وقال الفخر الرازي: اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال، لأنه، سبحانه، نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، ولو لم يكن الجهاد واجبا لما كان هذا التثاقل منكرا. وليس لقائل أن يقول: الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه، لأنه عليه السلام، ما كان يخاف هجوم الروم عليه، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم..وأيضا هو واجب على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. والخطاب في الآية للمؤمنين الذين تقاعسوا في الخروج إلى غزوة تبوك مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .
اِلَّا تَنْفِرُوْا یُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا اَلِیْمًا ﳔ وَّ یَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَیْرَكُمْ وَ لَا تَضُرُّوْهُ شَیْــٴًـاؕ-وَ اللّٰهُ عَلٰى كُلِّ شَیْءٍ قَدِیْرٌ(۳۹)
اگر نہ کوچ کرو گے (ف۹۰) انہیں سخت سزا دے گا اور تمہاری جگہ اور تمہاری جگہ اور لوگ لے آئے گا (ف۹۱) اور تم اس کا کچھ نہ بگا ڑ سکوگے، اور اللہ سب کچھ کرسکتا ہے،
ثم هددهم، سبحانه، بالعذاب الأليم، إن لم ينفروا للجهاد في سبيله فقال إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً.أى: إِلَّا تَنْفِرُوا، أيها المؤمنون، للجهاد كما أمركم رسولكم يُعَذِّبْكُمْ الله عَذاباً أَلِيماً في الدنيا بإنزال المصائب، بكم، وفي الآخرة بنار جهنم.وقوله: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أى: ويستبدل بكم قوما يطيعون رسوله في العسر واليسر، والمنشط والمكره.. كما قال،: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ.قال صاحب المنار: قيل المراد بهؤلاء القوم: أهل اليمن، وقيل أهل فارس وليس في محله، فإن الكلام للتهديد، والله يعلم أنه لا يقع الشرط ولا جزاؤه.وإنما المراد يطيعونه- سبحانه- ويطيعون رسوله، لأنه قد وعده بالنصر وإظهار دينه، فإن لم يكن هذا الإظهار بأيديكم. فلا بد أن يكون بأيدى غيركم وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ.وقد مضت سنته- تعالى- بأنه لا بقاء للأمم التي تتثاقل عن الدفاع عن نفسها وحفظ حقيقتها وسيادتها، ولا تتم فائدة القوة الدفاعية والهجومية إلا بطاعة الإمام، فكيف إذا كان الإمام والقائد هو النبي الموعود من ربه بالنصر.. .والضمير في قوله وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً يعود إلى الله، تعالى.أى: إن تباطأتم «أيها المؤمنون» عن الجهاد، يعذبكم الله عذابا أليما ويستبدل بكم قوما سواكم لنصرة نبيه، ولن تضروا الله شيئا من الضرر بسبب تقاعسكم. لأنكم أنتم الفقراء إليه، وهو، سبحانه، الغنى الحميد.وقيل: الضمير يعود للرسول، صلى الله عليه وسلم أى: ولا تضروا الرسول شيئا ما من الضرر بسبب تثاقلكم عن الجهاد، لأن الله قد وعده بالنصر ووعده كائن لا محاله.وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما قبله.أى: والله، تعالى: على كل شيء من الأشياء قدير، ولا يعجزه أمر، ولا يحول دون نفاذ مشيئته حائل، فامتثلوا أمره لتفوزوا برضوانه.فأنت ترى أن هذه الآية وسابقتها قد اشتملت على أقوى الأساليب التي ترغب في الجهاد، وترهب من النكوص عنه، وتبعث على الطاعة لله ولرسوله.
اِلَّا تَنْصُرُوْهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّٰهُ اِذْ اَخْرَجَهُ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا ثَانِیَ اثْنَیْنِ اِذْ هُمَا فِی الْغَارِ اِذْ یَقُوْلُ لِصَاحِبِهٖ لَا تَحْزَنْ اِنَّ اللّٰهَ مَعَنَاۚ-فَاَنْزَلَ اللّٰهُ سَكِیْنَتَهٗ عَلَیْهِ وَ اَیَّدَهٗ بِجُنُوْدٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِیْنَ كَفَرُوا السُّفْلٰىؕ-وَ كَلِمَةُ اللّٰهِ هِیَ الْعُلْیَاؕ-وَ اللّٰهُ عَزِیْزٌ حَكِیْمٌ(۴۰)
اگر تم محبوب کی مدد نہ کرو تو بیشک اللہ نے ان کی مدد فرمائی جب کافروں کی شرارت سے انہیں باہر تشریف لے جانا ہوا (ف۹۲) صرف دو جان سے جب وہ دونوں (ف۹۳) غار میں تھے جب اپنے یار سے (ف۹۴) فرماتے تھے غم نہ کھا بیشک اللہ ہمارے ساتھ ہے تو اللہ نے اس پر اپنا سکینہ اتارا (ف۹۵) اور ان فوجوں سے اس کی مدد کی جو تم نے نہ دیکھیں (ف۹۶) اور کافروں کی بات نیچے ڈالی (ف۹۷) اللہ ہی کا بول بالا ہے اور اللہ غالب حکمت والا ہے،
ثم ذكرهم، سبحانه، بما يعرفونه من حال الرسول صلى الله عليه وسلم حيث نصره الله. تعالى، على أعدائه بدون عون منهم، وأيده بجنود لم يروها فقال، إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ.قال ابن جرير. هذا إعلام من الله لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه، وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكير منه لهم بأنه فعل ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدو في كثرة فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة .والمعنى: إنكم، أيها المؤمنون، إن آثرتم القعود والراحة على الجهاد وشدائده، ولم تنصروا رسولكم الذي استنفركم للخروج معه. فاعلموا أن الله سينصره بقدرته النافذة، كما نصره، وأنتم تعلمون ذلك، وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة ثانِيَ اثْنَيْنِ أى: أحد اثنين.والثاني: أبو بكر الصديق، رضى الله عنه.يقال. فلان ثالث ثلاثة، أو رابع أربعة.. أى: هو واحد من الثلاثة أو من الأربعة.فإذا قيل: فلان رابع ثلاثة أو خامس أربعة، فمعناه أنه صير الثلاثة أربعة بإضافة ذاته إليهم، أو صير الأربعة خمسة.وأسند سبحانه الإخراج إلى المشركين مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خرج بنفسه بإذن من الله، تعالى، لأنهم السبب في هذا الخروج حيث اضطروه إلى ذلك، بعد أن تآمروا على قتله.قيل: وجواب الشرط في قوله، إِلَّا تَنْصُرُوهُ محذوف وقوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ تعليل لهذا المحذوف.والتقدير: إلا تنصروه ينصره الله في كل حال. فَقَدْ نَصَرَهُ سبحانه وقت أن أخرجه الكافرون من بلده ولم يكن معه سوى رجل واحد.وقال صاحب الكشاف: فإن قلت. كيف يكون قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جوابا للشرط؟.قلت «فيه وجهان» أحدهما: إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد. ولا أقل من الواحد، فدل بقوله. فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت.والثاني. أنه أوجب له النصرة وجعله منصورا في ذلك الوقت، فلن يخذل من بعده، .وقوله: ثانِيَ اثْنَيْنِ حال من الهاء في قوله أَخْرَجَهُ أى أخرجه الذين كفروا حال كونه منفردا عن جميع الناس إلا أبا بكر الصديق- رضى الله عنه-.وقوله: إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من قوله إِذْ أَخْرَجَهُ.والغار: النقب العظيم يكون في الجبل. والمراد به هنا: غار جبل ثور. وهو جبل في الجهة الجنوبية لمكة، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام.وقوله: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بدل ثان من قوله إِذْ أَخْرَجَهُ.أى. إلا تنصروه فقد نصره الله وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة، ووقت أن كان هو وصاحبه أبو بكر في الغار، ووقت أن كان صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه الصديق: لا تحزن إن الله معنا بتأييده ونصره وحمايته.وذلك أن أبا بكر وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، أحس بحركة المشركين من فوق الغار، فخاف خوفا شديدا لا على حياته هو، وإنما على حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك، أخذ في تسكين روعه وجزعه وجعل يقول له: لا تحزن إن الله معنا.أخرج الشيخان عن أبى بكر قال. نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رءوسنا، فقلت. يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال:«يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا» .وقوله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها.. بيان لما أحاط الله به نبيه- صلى الله عليه وسلم- من مظاهر الحفظ والرعاية.والسكينة: من السكون، وهو ثبوت الشيء بعد التحرك. أو من السكن- بالتحريك- وهو كل ما سكنت إليه نفسك، واطمأنت به من أهل وغيرهم.والمراد بها هنا: الطمأنينة التي استقرت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فجعلته لا يبالى بجموع المشركين المحيطين بالغار، لأنه واثق بأنهم لن يصلوا إليه.والمراد بالجنود المؤيدين له. الملائكة الذين أرسلهم- سبحانه- لهذا الغرض: والضمير في قوله: عَلَيْهِ يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم.أى. فأنزل الله سكينته وطمأنينته وأمنه على رسوله صلى الله عليه وسلم وأيده وقواه بجنود من الملائكة لم تروها أنتم، كان من وظيفتهم حراسته وصرف أبصار المشركين عنه.ويرى بعضهم أن الضمير في قوله عَلَيْهِ يعود إلى أبى بكر الصديق، لأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هنا هو الصاحب ولأن الرسول لم يكن في حاجة إلى السكينة. وإنما الذي كان في حاجة إليها هو أبو بكر، بسبب ما اعتراه من فزع وخوف.وقد رد أصحاب الرأى الأول على ذلك بأن قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها الضمير فيه لا يصح إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو معطوف على ما قبله فوجب أن يكون الضمير في قوله عَلَيْهِ عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يحصل تفكك في الكلام.أما نزول السكينة فلا يلزم منه أن يكون لدفع الفزع والخوف، بل يصح أن يكون لزيادة الاطمئنان، وللدلالة على علو شأنه صلى الله عليه وسلم.قال ابن كثير قوله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أى. تأييده ونصره عليه أى. على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين. وقيل. على أبى بكر.قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة. وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال، ولهذا قال: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أى: الملائكة .وقوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا بيان لما ترتب على إنزال السكينة والتأييد بالملائكة.والمراد بكلمة الذين كفروا. كلمة الشرك، أو كلمتهم التي اجتمعوا عليها في دار الندوة وهي اتفاقهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.والمراد بكلمة الله: دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو دين الإسلام، وما يترتب على اتباع هذا الدين من نصر وحسن عاقبة، أى: كانت نتيجة إنزال السكينة والتأييد بالملائكة، أن جعل كلمة الشرك هي السفلى، أى. المقهورة الذليلة. وكلمة الحق والتوحيد المتمثلة في دين الإسلام هي العليا أى: هي الثابتة الغالبة النافذة.وقراءة الجمهور برفع. كَلِمَةَ على الابتداء. وقوله هِيَ مبتدأ ثان: وقوله:الْعُلْيا خبرها، والجملة خبر المبتدأ الأول.ويجوز أن يكون الضمير هِيَ ضمير فصل، وقوله الْعُلْيا هو الخبر وقرأ الأعمش ويعقوب وَكَلِمَةُ اللَّهِ بالنصب عطفا على مفعول جعل وهو كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا.أى: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وجعل كلمة الله هي العليا.قالوا: وقراءة الرفع أبلغ وأوجه، لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت، ولأن الجعل لم يتطرق إلى الجملة الثانية وهي قوله: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا لأنها في ذاتها عالية ثابتة، بدون جعلها كذلك في حادثة معينة. بخلاف علو غيرها فهو غير ذاتى، وإنما هو علو مؤقت في حالة معينة، ثم مصيرها إلى الزوال والخذلان بعد ذلك.وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله.أى: والله- تعالى- عَزِيزٌ لا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر، ولا ينصر من عاقبه ناصر، حَكِيمٌ في تصريفه شأن خلقه، لا قصور في تدبيره، ولا نقص في أفعاله.هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية: الدلالة على فضل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- وعلى علو منزلته، وقوة إيمانه، وشدة إخلاصه لله- تعالى- ولرسوله صلى الله عليه وسلم.ومما يشهد لذلك، أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند ما أذن الله له بالهجرة، لم يخبر أحدا غيره لصحبته في طريق هجرته إلى المدينة.ولقد أظهر الصديق- رضى الله عنه- خلال مصاحبته للرسول صلى الله عليه وسلم الكثير من ألوان الوفاء والإخلاص وصدق العقيدة .قال الآلوسى ما ملخصه: واستدل بالآية على فضل أبى بكر.. فإنها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا بكر.. فعن الحسن قال: عاتب الله جميع أهل الأرض غير أبى بكر فقال:إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ الآية.ولأن فيها النص على صحبته للرسول صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ذلك لأحد من الصحابة: لأنه هو المراد بالصاحب في قوله إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ وهذا مما وقع عليه الإجماع.ومن هنا قالوا: من أنكر صحبة أبى بكر فقد كفر، لإنكار كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة .وقد ساق الإمام الرازي، والشيخ رشيد رضا، عند تفسيرهما لهذه الآية اثنى عشر وجها في فضل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، فارجع إليهما إن شئت .
- English | Ahmed Ali
- Urdu | Ahmed Raza Khan
- Turkish | Ali-Bulaç
- German | Bubenheim Elyas
- Chinese | Chineese
- Spanish | Cortes
- Dutch | Dutch
- Portuguese | El-Hayek
- English | English
- Urdu | Fateh Muhammad Jalandhry
- French | French
- Hausa | Hausa
- Indonesian | Indonesian-Bahasa
- Italian | Italian
- Korean | Korean
- Malay | Malay
- Russian | Russian
- Tamil | Tamil
- Thai | Thai
- Farsi | مکارم شیرازی
- العربية | التفسير الميسر
- العربية | تفسير الجلالين
- العربية | تفسير السعدي
- العربية | تفسير ابن كثير
- العربية | تفسير الوسيط لطنطاوي
- العربية | تفسير البغوي
- العربية | تفسير القرطبي
- العربية | تفسير الطبري
- English | Arberry
- English | Yusuf Ali
- Dutch | Keyzer
- Dutch | Leemhuis
- Dutch | Siregar
- Urdu | Sirat ul Jinan