READ
Surah An-Nisaa
اَلنِّسَآء
176 Ayaat مدنیۃ
فَكَیْفَ اِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ اُمَّةٍۭ بِشَهِیْدٍ وَّ جِئْنَا بِكَ عَلٰى هٰۤؤُلَآءِ شَهِیْدًاﳳ(۴۱)
تو کیسی ہوگی جب ہم ہر امت سے ایک گواہ لائیں (ف۱۲۳) اور اے محبوب! تمہیں ان سب پر گواہ اور نگہبان بناکر لائیں (ف۱۲۴)
ثم نبه- سبحانه- هؤلاء الكافرين إلى ما يكونون عليه من حال سيئة يوم القيامة إذا استمروا في كفرهم فقال: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.قال الفخر الرازي: وجه النظم هو أنه- تعالى- بين أن في الآخرة لا يجرى على أحد ظلم، وأنه- تعالى- يجازى المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه. فبين في هذه الآية- وهو قوله- تعالى- فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ أن ذلك يجرى بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسيء أبلغ. والتبكيت له أعظم. وحسرته أشد. ويكون سرور من قبل من الرسول وأظهر الطاعة أعظم. ويكون هذا وعيدا للكفار الذين قال الله فيهم إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ووعدا للمطيعين الذين قال فيهم «وإن تك حسنة يضاعفها» والفاء في قوله «فكيف» للإفصاح عن شرط مقدر نشأ من الكلام السابق وكيف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف.والتقدير: إذا أيقنت بما أخبرناك به أيها الرسول الكريم أو أيها السامع من أن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فكيف يكون حال هؤلاء الكفرة إذا ما جئنا من كل أمة من الأمم السابقة بشهيد يشهد عليهم بما ارتكبوه من سوء الصنيع وقبح الأعمال، وهذا الشهيد هو نبيهم الذي أرسله الله لهدايتهم، وجئنا بك يا محمد شهيدا على هؤلاء الذين بعثك الله لإخراجهم من الظلمات إلى النور فكذبوك واستحبوا العمى على الهدى.لا شك أن حالهم سيكون أسوأ حال، ومصيرهم سيكون أقبح مصير، بسبب كفرهم وبخلهم وريائهم واتباعهم للهوى والشيطان.ومن العلماء من يرى أن المراد بقوله- تعالى- وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً أى جئنا بك يا محمد شهيدا على هؤلاء الأنبياء بأنهم قد بلغوا رسالة الله ولم يقصروا في نصيحة أقوامهم.والذي نراه أولى هو أن شهادة النبي صلى الله عليه وسلم تشمل كل ذلك أى تشمل شهادته على قومه بأنه قد بلغهم رسالة الله، وشهادته للأنبياء السابقين بأنهم نصحوا لأقوامهم وبلغوا رسالة ربهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله تعالى- من المنزلة العالية ما لم يعط أحدا سواه.روى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ على شيئا من القرآن. فقلت يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أنزل قال: نعم. إنى أحب أن أسمعه من غيرى. فقرأت عليه سورة النساء: حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ.. الآية» فقال: حسبك الآن، فإذا عيناه تذرفان» .
یَوْمَىٕذٍ یَّوَدُّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا وَ عَصَوُا الرَّسُوْلَ لَوْ تُسَوّٰى بِهِمُ الْاَرْضُؕ-وَ لَا یَكْتُمُوْنَ اللّٰهَ حَدِیْثًا۠(۴۲)
اس دن تمنا کریں گے وہ جنہوں نے کفر کیا اور رسول کی نافرمانی کی کاش انہیں مٹی میں دبا کر زمین برابر کردی جائے، اور کوئی بات اللہ سے نہ چھپاسکیں گے (ف۱۲۵)
وقوله تعالى- يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ استئناف مبين لحالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها بقوله فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً.والتنوين في قوله يَوْمَئِذٍ عوض عن الجملتين السابقتين أى مجيء الشهيد على كل أمة، ومجيء الرسول شهيدا على قومه.أى: يوم أن يشهد الرسل على أقوامهم بأنهم قد بلغوهم رسالة الله، ويوم أن تشهد أنت يا محمد على من كذبك من قومك بأنك قد أمرتهم بعبادة الله وحده يومئذ وهو يوم القيامة، يتمنى ويحب الذين كفروا وعصوا الرسول الذي جاء لهدايتهم لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أى يودون لو انشقت الأرض فبلعتهم لما يرون من هول الموقف ولما يحل بهم من الخزي والفضيحة والعذاب. أو يودون لو يدفنون فيها فتسوى عليهم كما تسوى على الموتى ويبقون على هذه الحال في باطنها بدون بعث أو نشور، حتى لا يصيبهم ما أعد لهم من عقاب بسبب سوء أعمالهم.والمقصود أنهم لشدة خوفهم وفزعهم يتمنون أن لو أخفتهم الأرض في باطنها بحيث لا يظهر شيء منهم عليها في أى وقت من الأوقات.وجملة لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ مفعول يَوَدُّ على أن لو مصدرية. أى: يودون أن يدفنوا وتسوى الأرض متلبسة بهم حتى لكأنهم جزء منها.وقوله وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً معطوف على يَوَدُّ أى أنهم يومئذ يودون لو تسوى بهم الأرض، ويعترفون لله تعالى بجميع ما فعلوه، لأنهم لو كتموا شيئا بألسنتهم لشهدت عليهم بقية جوارحهم.ويصح أن تكون الواو في قوله وَلا يَكْتُمُونَ للحال. أى: أنهم يومئذ يودون لو تسوى بهم الأرض والحال أنهم مع ذلك لا يكتمون عن الله- تعالى- حديثا من أحوالهم في الدنيا لأنهم لا يستطيعون هذا الكتمان.والمقصود أنهم مع شدة هلعهم وجزعهم لن يستطيعوا أن يفلتوا من عقاب الله، ولن يستطيعوا أن يكتموا شيئا مما ارتكبوه من جرائم.أخرج ابن جرير عن الضحاك أن نافع بن الأزرق- وكان ممن يسألون عن متشابه القرآن- أتى إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس: قال الله- تعالى- وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وقوله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ- كيف الجمع بينهما-؟ فقال له ابن عباس. إنى أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت: ألقى على ابن عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله- تعالى- يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد. فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده. فيقولون: تعالوا نجحد فيسألهم فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين.قال: فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين.فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثا» .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد أمرت بإخلاص العبادة لله- تعالى- وحده كما أمرت بالإحسان إلى الوالدين والأقربين، واليتامى والمساكين وإلى الجار القريب والبعيد، وإلى الصاحب والمسافر والمملوك، ونهت عن البخل والرياء وجحود الحق واتباع الشيطان.وبينت أن الله- تعالى- لا يظلم أحدا مثقال ذرة وأنه- سبحانه- يضاعف ثواب الحسنات، ويعطى المحسن من ألوان الخير ما لا يعلمه إلا هو- سبحانه- ونبهت الكافرين إلى سوء مصيرهم حتى يثوبوا إلى رشدهم ويسيروا في الطريق القويم من قبل أن يأتى يوم تنكشف فيه الحقائق وينالون فيه ما يستحقون من عقاب دون أن ينفعهم الندم أو التمني.ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الأحكام التي تتعلق بالصلاة وأرشدهم إلى ما يجب عليهم عند أدائها من تطهير بدني وروحي حتى يكونوا أهلا لرضا الله وحسن قبوله، فقال- تعالى-:
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا لَا تَقْرَبُوا الصَّلٰوةَ وَ اَنْتُمْ سُكٰرٰى حَتّٰى تَعْلَمُوْا مَا تَقُوْلُوْنَ وَ لَا جُنُبًا اِلَّا عَابِرِیْ سَبِیْلٍ حَتّٰى تَغْتَسِلُوْاؕ-وَ اِنْ كُنْتُمْ مَّرْضٰۤى اَوْ عَلٰى سَفَرٍ اَوْ جَآءَ اَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَآىٕطِ اَوْ لٰمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوْا مَآءً فَتَیَمَّمُوْا صَعِیْدًا طَیِّبًا فَامْسَحُوْا بِوُجُوْهِكُمْ وَ اَیْدِیْكُمْؕ-اِنَّ اللّٰهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُوْرًا(۴۳)
اے ایمان والو! نشہ کی حالت میں نماز کے پاس نہ جاؤ (ف۱۲۶) جب تک اتنا ہوش نہ ہو کہ جو کہو اسے سمجھو اور نہ ناپاکی کی حالت میں بے نہائے مگر مسافری میں (ف۱۲۷) اور اگر تم بیمار ہو (ف۱۲۸) یا سفر میں یا تم میں سے کوئی قضائے حاجت سے آیا ہو (ف۱۲۹) یا تم نے عورتو ں کو چھوا (ف۱۳۰) اور پانی نہ پایا (ف۱۳۱) تو پاک مٹی سے تیمم کرو (ف۱۳۲) تو اپنے منہ اور ہاتھوں کا مسح کرو (ف۱۳۳) بیشک اللہ معاف کرنے والا بخشنے والا ہے،
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه أبو داود والنسائي عن على بن أبى طالب أنه كان هو وعبد الرحمن بن عوف ورجل آخر، قد شربوا الخمر. فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: قل يا أيها الكافرون. فخلط فيها. فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى.وروى الترمذي وابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر. فأخذت الخمر منا. وحضرت الصلاة. فقدموا فلانا. قال:فقرأ: قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون. فأنزل الله الآية.قال ابن كثير: وقد كان هذا النهى قبل تحريم الخمر. كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله- تعالى- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. الآية» فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة- وفي رواية لأبى داود: فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادى: لا يقربن الصلاة سكران- حتى نزل قوله- تعالى- في سورة المائدة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ. إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر: انتهينا.انتهينا) .والمراد بالصلاة عند كثير من العلماء: الهيئة المخصوصة من قراءة وقيام وركوع وسجود.والمراد بقربها: القيام إليها والتلبس بها، إلا أنه- سبحانه- نهى عن القرب منها مبالغة في النهى عن غشيانها وهم بحالة تتنافى مع جلالها والخشوع فيها.وقوله سُكارى جمع سكران.وأصل السكر في اللغة السد. ومنه قولهم سكرت الطريق أى سددته. ومنه قوله- تعالى- حكاية عن الكافرين وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أى: انسدت فصارت لا ينفذ إليها النور، ولا ندرك الأشياء على حقيقتها.والمراد بالسكر هنا الحالة التي تحصل لشارب الخمر والتي يفقد معها وعيه، ويسد ما بين المرء وعقله.والجنب: من أصابته الجناية بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما. وهذا اللفظ يستوي فيه- على الصحيح- الواحد، والمثنى، والجمع، والمذكر والمؤنث لجريانه مجرى المصدر، واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة.وعابر السبيل: مجتاز الطريق وهو المسافر. أو من يعبر الطريق من جانب إلى جانب.يقال: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا. ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه.والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن تؤدوا الصلاة وأنتم في حالة السكر. حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقولونه قبل أدائها، ولا في حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمموا لكي تؤدوها.ومن العلماء من يرى أن المراد بالصلاة هنا: مواضعها وهي المساجد. فالكلام مجاز مرسل بتقدير مضاف فهو من باب ذكر الحال وإرادة المحل.والمعنى عليه: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم سكارى، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا إلا أن تكونوا تريدون اجتيازها من باب إلى آخر من غير مكث فيها فإنه يجوز لكم ذلك.روى ابن جرير عن الليث قال: حدثنا يزيد بن أبى حبيب عن قول الله- تعالى-:وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء. ولا يجدون ممرا إلا في المسجد. فأنزل الله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ .وقال بعض العلماء: وبالجملة فالحال الأولى أعنى قوله وَأَنْتُمْ سُكارى تقوى بقاء الصلاة على معناها الحقيقي، من دون تقدير مضاف: وقوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يقوى تقدير المضاف. أى: لا تقربوا موضع الصلاة.ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهى- وهو قوله: وَأَنْتُمْ سُكارى يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي.وبعض قيود النهى- وهو قوله: إلا عابري سبيل- يدل على أن المراد مواضع الصلاة.ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه. ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد. وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى.ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب.وغاية ما يقال في هذا إنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز» .وفي ندائهم بصفة الإيمان، تحريك لحرارة العقيدة في قلوبهم، وتوجيه لنفوسهم إلى ما يستدعيه الإيمان من طاعة واستجابة لله رب العالمين.وقوله وَأَنْتُمْ سُكارى جملة حالية. أى لا تقربوها في حال السكر، لأن ذلك يتنافى مع الإيمان السليم، ومع ما تستحقه الصلاة من خشوع واستحضار للقلب. وإنما الذي يقتضيه إيمانكم وحياؤكم من الله أن تدخلوا في الصلاة وأنتم بكامل وعيكم، واستحضاركم لما يستلزمها من خشوع وأدب.ولا شك أن هذا كان قبل أن ينزل التحريم القاطع لشرب الخمر في جميع الأوقات كما سبق أن أشرنا.وقوله حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ غاية للنهى وإيماء إلى علته.وحتى هنا حرف جر بمعنى إلى، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة. وما في قوله ما تَقُولُونَ موصولة بمعنى الذي أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى تقولونه.أى: حتى تعلموا ما تقولونه علما يقينيا لا غلط معه ولا تخليط، بأن تعقلوا ما اشتملت عليه الصلاة من تكبير وقراءة وتسبيح ودعاء وغير ذلك مما تقتضيه الصلاة.قال الآلوسى: وقد روى أنهم كانوا بعد ما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون» .وقوله وَلا جُنُباً معطوف على قوله وَأَنْتُمْ سُكارى إذ الجملة في موضع النصب على الحال. والاستثناء في قوله إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مفرغ من أعم الأحوال.وقوله حَتَّى تَغْتَسِلُوا بيان لغاية المنع بالنسبة للجنب.والاغتسال: تعميم الجسد كله بالماء. وهو بعد الجنابة طهارة حسية وتنشيط للبدن بعد أن أصابه بعض التعب بسبب الأفعال التي أدت إلى الجنابة. وهو كذلك طهارة نفسية، لأنه يبعث في الإنسان حسن الاستعداد لذكر الله ولأداء الصلاة بعد أن استحكمت الشهوة وسيطرت على صاحبها لفترة من الوقت. فبالاغتسال بعد قضاء الشهوة يتجدد للبدن نشاطه، وللروح صفاؤها وحسن استعدادها لطاعة الله.ثم شرع- سبحانه- في بيان الأعذار التي تبيح التيمم عند العجز عن الماء فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى، أَوْ عَلى سَفَرٍ، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ، فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً والمراد بالمرض في قوله- تعالى-: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى: المرض الذي يمنع من استعمال الماء مطلقا، كأن يكون استعمال الماء يزيد المرض شدة، أو يبطئ البرء، فإن الله- تعالى- قد أباح للمريض في هذه الأحوال وأمثالها أن يتيمم بدل الوضوء أو الغسل. كما أباح له- أيضا- أن يتيمم عند فقد الماء أو ما في حكم ذلك.وقوله: أَوْ عَلى سَفَرٍ في محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله: مَرْضى.أى: وكذلك أباح الله لكم التيمم عند السفر إذا لم تجدوا ماء، أو كان معكم من الماء ما أنتم في حاجة شديدة إليه، أو كان هناك ما يمنع من استعمال الماء.وقوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ معطوف على قوله: كُنْتُمْ.والغائط من الغيط. وهو المكان المنخفض من الأرض. وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت على أن من يريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس.وفي إسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين، سمو في الخطاب، حيث تحاشى- سبحانه- التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو ما يستهجن التصريح به.أى وكذلك أباح الله لكم التيمم إن كنتم محدثين ولم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث.أو تجدونه ولكن هناك ما يمنعكم من استعماله.والمراد بالملامسة في قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ الجماع عند بعض الفقهاء قال الآلوسى ما ملخصه: قوله- تعالى- أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يريد- سبحانه-: أو جامعتم النساء.إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع، لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحيى منه. وإليه ذهب ابن عباس والحسن وغيرهما.وعن ابن مسعود أن المراد بالملامسة ما دون الجماع. أى ماسستم بشرتهن ببشرتكم. وبه استدل الشافعى على أن اللمس ينقض الوضوء.وقال مالك: إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا....وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة ... » والفاء في قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى. والضمير في قوله تَجِدُوا يعود لكل من تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس. وفيه تغليب للخطاب على الغيبة. وذلك أنه تقدم ضمير الغيبة في قوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ بينما تقدم ضمير المخاطب في قوله كُنْتُمْ أَوْ لامَسْتُمُ.والمراد بعدم الوجدان هنا ما هو أعم من الوجود الحسى. أى أن قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا، إذ أن الشيء المتعذر استعماله كالمعدوم.وقوله فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً جواب الشرط وهو قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ.والمعنى: وإن كنتم أيها المؤمنون في حالة مرض أو على سفر أو كنتم محدثين أو لامستم النساء فلم تجدوا في تلك الأحوال ما تستعملونه لطهارتكم، أو وجدتم ماء ولكن منعكم مانع من استعماله، فعليكم أن تتيمموا صعيدا طيبا، بدلا من الماء، فان الله- تعالى- ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.ومنهم من يرى أن الضمير في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً يعود إلى الجمع ما عدا المرضى، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله.وعلى هذا الرأى يكون المراد بعدم الوجدان. عدم الوجدان الحسى.والتيمم لغة: القصد. يقال تيممت الشيء أى قصدته.ويطلق في الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به.وأما الصعيد- بوزن فعيل- فيطلق على وجه الأرض البارز، ترابا كان أو غيره. وقيل يطلق على التراب خاصة.والطيب: الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر.أى: إذا لم تجدوا ماء للتطهر به أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله فاقصدوا ترابا طاهرا بارزا على وجه الأرض لكي تستعملوه في طهارتكم عوضا عن الماء.وقوله فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ بيان لكيفية التيمم.أى: اقصدوا ترابا على ظاهر الأرض طاهرا فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم.وقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تذييل قصد به بيان أنه- سبحانه- متصف بالعفو فلا يختار لعباده إلا السهل اليسير الذي يسهل عليهم أداؤه من غير مشقة مرهقة، وأنه هو الغفار الذي يغفر للمقصرين والمخطئين ذنوبهم متى تابوا إليه واستغفروه مما صدر عنهم من ذنوب.هذا ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:1- أن من الواجب على المسلم عند ما يتهيأ للصلاة أن يتجنب كل ما يتعارض مع الخشوع فيها، لأن الصلاة مناجاة ووقوف بين يدي الله- تعالى-، ومن شأن المناجى لله- تعالى- أن يتفرغ لذلك، وأن يكون على درجة من العلم والفهم تمكنه من الوقوف الخاشع بين يدي الله رب العالمين.2- أن الصلاة محرمة على السكران حال سكره حتى يصحو. فإذا أداها حال سكره تكون باطلة، وكذلك الحكم بالنسبة للمحدث أو الجنب حتى يتطهر.3- استدل بهذه الآية- من قال بأن المراد بالصلاة مواضعها- على أنه يحرم على السكران دخول المسجد، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول، ويقاس عليه كل ذي نجاسة يخشى معها التلويث والسباب ونحوه.4- استدلوا بقوله- تعالى-: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ على أن المسلم منهى عن الصلاة حال النعاس أو ما يشبهه، لأنه في هذه الحالة لا يعلم ما يقول ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم. فان أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يستغفر فيسب نفسه) .وروى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ) .قال الفخر الرازي ما ملخصه: ويرى الضحاك أنه ليس المراد من لفظ سُكارى السكر من الخمر، وإنما المراد منه سكر النوم. لأن لفظ السكر يستعمل في النوم فكان هذا اللفظ محتملا له....ثم قال الرازي: واعلم أن القول الصحيح هو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وهو أن المراد من لفظ سُكارى السكر من الخمر، لأن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة ... ، ولأن جميع المفسرين قد اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر ... )5- استدلوا بقوله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، إلا أنه يجوز له المرور فيه.قال ابن كثير ما ملخصه: قال ابن عباس في قوله وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل. أى: تمر به مرا ولا تجلس.وروى ابن جرير عن يزيد بن أبى حبيب في قوله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون مرورا إلا في المسجد. فأنزل الله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ويشهد لصحة ذلك ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبى بكر ... )وبهذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضا متى أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور ...ثم قال ابن كثير: وقوله حَتَّى تَغْتَسِلُوا دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعى من أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله. وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد، لما روى من أن صحابة كانوا يفعلون ذلك. وعن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنون إذا توضأوا وضوء الصلاة. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم) .6- ظاهر قوله- تعالى- فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا يفيد أن التيمم لا يصح مع وجود الماء، لأن الآية الكريمة قد رتبت الأمر بالتيمم على نفى وجود الماء.ولكن هذا الظاهر غير مراد، لأنه يقتضى أنه حتى لو وجدنا ماء، وكنا في حاجة شديدة إليه، أو لا نقدر على استعماله فإنه لا يجوز لنا أن نتيمم، وهذا يتعارض مع سماحه الشريعة الإسلامية ويسرها، قال- تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال- تعالى-: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.ويتعارض كذلك مع ما شرع من أجله التيمم وهو التيسير على الناس، والتيسير على الناس لا يتأتى بإلزامهم أن يفقدوا ما معهم من الماء في الطهارة ليقعوا في العنت بسبب العطش أو الجوع. أو بإلزامهم استعمال الماء في طهارتهم مع أن في استعماله مضرة بهم.لذا قال العلماء: إن التيمم مشروع للمسلم عند فقده للماء، أو عند وجود الماء ولكن هناك عارض يمنعه من استعماله كمرض أو نحوه.ولقد ورد في السنة النبوية الشريفة ما يشهد بأنه يجوز للمسلم أن يتيمم مع وجود الماء متى كان هناك ما يمنع من استعماله.ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والدارقطني عن جابر قال: خرجنا في سفر. فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه فقال هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا:ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه، قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده» .وروى أبو داود والدارقطني عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك. فتيممت. ثم صليت بأصحابى الصبح. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عمرو صليت بأصحابى وأنت جنب» ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إنى سمعت الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا» .قال القرطبي- بعد أن ساق هذا الحديث والذي قبله-: فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف من المرض- عند استعمال الماء-: وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم، وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين. وهذا أحد القولين عندنا. وهو الصحيح الذي أقره مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات .وقال ابن كثير: وقد استنبط كثير من الفقهاء من الآية أنه لا يجوز التيمم لعدم الماء إلا بعد طلب الماء. فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم. وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع ... » .7- أخذ الشافعية والحنابلة من قوله- تعالى- فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً: أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب» ولأنه ثبت في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا. وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» قالوا:فخصص الطهور بالتراب في مقام الامتنان. فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه.ويرى الإمام أبو حنيفة أن التيمم يجوز بالتراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض متى كان طاهرا. قالوا: لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض وهذه الصفة لا تختص بالتراب.وتوسع الإمام مالك فذهب إلى أن التيمم يجوز بكل ما سبق وبغيره كالشجر والحجر والنبات لأن الصعيد عنده كل ما صعد على وجه الأرض.قال القرطبي عند حديثه عن اختلاف الفقهاء في ذلك: وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع فيما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا منصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره. ومنع وهو مذهب الشافعى وغيره....» .8- أفاد قوله- تعالى- فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أن الواجب في التيمم هو مسح الوجه واليدين فقط سواء أكان التيمم بدلا عن الوضوء أم عن الغسل.قال القرطبي: وروى التيمم إلى المرفقين عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبد الله، وابن عمر وبه كان يقول: قال الدارقطني: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: كان ابن عمر يقول: إلى المرفقين. وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان: إلى المرفقين.ثم قال: وقالت طائفة يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان. روى ذلك عن على بن أبى طالب والأوزاعى وعطاء والشعبي في رواية. وبه قال أحمد ابن حنبل، والطبري.وقال مكحول: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال الزهري: المسح إلى الآباط.وقال ابن أبى الجهم: التيمم بضربة واحدة، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري .9- ذكر المفسرون في سبب مشروعية التيمم روايات منها ما أخرجه البخاري عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره: حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه. وليسوا على ماء. وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبى بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. قالت عائشة: فعاتبنى أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. فجعل يطعننى بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء. فأنزل الله آية التيمم. فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبى بكر.قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته» .قال الحافظ ابن كثير عند ذكره هنا لسبب مشروعية التيمم، وإنما ذكرنا ذلك هاهنا، لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة في النزول على آية سورة المائدة وبيانه: أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر. والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير، في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبنى النضير. وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ولا سيما صدرها. فناسب أن يذكر السبب هنا ..10- تكلم بعض العلماء عن حكمة مشروعية التيمم عوضا عن الطهارة بالماء فقال:والتيمم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي- فذكر منها- وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» .والتيمم بدل جعله الشرع عن الطهارة. ولم أر لأحد من العلماء بيانا في حكمة جعل التيمم عوضا عن الطهارة بالماء، وكان ذلك من همي زمنا طويلا وقت الطلب. ثم انفتح لي حكمة ذلك.وأحسب أن حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين. وتقرير حرمة الصلاة وترفيع شأنها في نفوسهم. فلم تترك لهم حالة يعدون فيها أنفسهم مصلين بدون طهارة تعظيما لمناجاة الله- تعالى- فلذلك شرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهرين، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صعيد الأرض التي هي منبع الماء. ولأن التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها، ينظفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وما عونهم. وما الاستجمار إلا من ضرب ذلك، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنه مطالب به عند زوال مانعه. وإذ قد كان التيمم طهارة رمزية اكتفت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى كما دل عليه حديث عمار بن ياسر فقد ثبت في الصحيح عن عمار بن ياسر قال: كنت في سفر فأجنبت فتمعكت في التراب «أى تمرغت» وصليت. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «يكفيك الوجه والكفان» . ويؤيد هذا المقصد أن المسلمين لما عدموا الماء في غزوة المريسيع صلوا بدون وضوء فنزلت آية التيمم.هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعية التيمم بعد طول البحث والتأمل في حكمة مقنعة في النظر .وبعد، فهذه بعض الأحكام والآداب التي اشتملت عليها تلك الآية، ومنها نرى كيف وجهت المؤمنين إلى ما يقوى إيمانهم، ويصفى نفوسهم، ويبعدهم عن الأسباب التي تحول بينهم وبين إخلاص المناجاة لله رب العالمين، وإلى ما يجعلهم يتحرزون عن كل ما يدنسهم أو يلهيهم عن طاعة الله.كما ترى كيف استعملت في خطابها للمؤمنين ألطف الكنايات وأسمى التعبيرات، وأبلغ الإشارات، وفي ذلك ما فيه من تربية سليمة للمؤمنين تجعلهم يسعدون في دنياهم وآخرتهم.هذا، وأنت إذا تدبرت السورة الكريمة من مطلعها إلى هنا، تراها قد نظمت العلاقات بين أفراد المجتمع الإسلامى تنظيما حكيما، وساقت لهم من التوجيهات السامية، والآداب العالية، والتشريعات الجليلة ... ما يجعلهم يعيشون في أمان واطمئنان.ثم أخذت السورة بعد ذلك تسوق لنا في أكثر من عشر آيات، ألوانا من رذائل أهل الكتاب، ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية، ومن حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله، وتوعدتهم بسوء المصير على ما اقترفوه من منكرات وآثام ...وكأن السورة الكريمة بعد أن نظمت المجتمع الإسلامى هذا التنظيم الداخلى السليم، أخذت في تحذير المؤمنين من عدوهم الخارجي، وأطلعتهم على ما يضمره لهم أهل الكتاب من كراهية وبغضاء.استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول:
اَلَمْ تَرَ اِلَى الَّذِیْنَ اُوْتُوْا نَصِیْبًا مِّنَ الْكِتٰبِ یَشْتَرُوْنَ الضَّلٰلَةَ وَ یُرِیْدُوْنَ اَنْ تَضِلُّوا السَّبِیْلَؕ(۴۴)
کیا تم نے انہیں نہ دیکھا جن کو کتاب سے ایک حصہ ملا (ف۱۳۴) گمراہی مول لیتے ہیں (ف۱۳۵) اور چاہتے ہیں (ف۱۳۶) کہ تم بھی راہ سے بہک جاؤ،
قال الآلوسى: قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقدير والتذكير لمن علم بما يأتى كالأحبار وأهل التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه. وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الياب.بأن شبه حال من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب- والرؤية إما بمعنى الإبصار- أى ألم تنظر إليهم، وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء- أى ألم ينته علمك إليهم» .والمراد ب الَّذِينَ أحبار اليهود. والمراد بالذي أوتوه ما بين لهم في الكتاب من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم ومن حقية دين الإسلام بالاتباع.والمراد بالكتاب: التوراة التي أنزلها الله- تعالى- على موسى عليه السلام- ليكون هداية لبنى إسرائيل، فحرفوها وتركوا العمل بها.والمراد بالسبيل: الطريق المستقيم وهو طريق الإسلام فال فيه للعهد.والمعنى: ألم ينته علمك إلى حال هؤلاء الأحبار من اليهود الذين أعطوا حظا ومقدارا من علم التوراة؟ إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم فهاك خبرهم وتلك هي حقيقتهم، إنهم يشترون الضلالة وهو البقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم الدالة على صحة دين الإسلام، وهم لا يكتفون بتلبسهم بالضلال الذي أشربته نفوسهم، بل يريدون لكم يا معشر المسلمين أن تتركوا دين الإسلام الذي هو السبيل الحق، وأن تتبعوهم في ضلالهم وكفرهم.فالمقصود من الآية الكريمة تعجيب المؤمنين من سوء أحوال أولئك الأحبار، وتحذير لهم من موالاتهم أو من الاستماع إلى أكاذيبهم وشبهاتهم.والخطاب لكل من يصلح له من المؤمنين. وتوجيهه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هنا مع توجيهه بعد ذلك إلى الكل- في قوله أَنْ تَضِلُّوا- للإيذان بكمال شهرة شناعة حال أولئك اليهود، وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجب منها كل من يراها أو يعلمها.وقد وصفهم- سبحانه- بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، ولم يؤتوا الكتاب كله، لأنهم نسوا حظا كبيرا مما ذكروا به، ولم يبق عندهم من علم الكتاب إلا القليل، وهذا القليل لم يعملوا به بل حرفوه وبدلوه وأخضعوا تفسيره لأهوائهم وشهواتهم.وقوله يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ هو موطن التعجب من شأنهم لأنهم لا يطلبون الضلالة بفتور أو تريث وإنما يطلبونها بشراهة ونهم ويدفعون فيها أغلى الأثمان وهو الهدى، ولا يكتفون بذلك بل يبتغون من المؤمنين أن يكونوا مثلهم في الضلال.وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى- وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً.وذكر سبحانه- الشيء الذي اشتروه وهو الضلالة، وطوى ذكر المتروك وهو الهدى، للإيذان بغاية ظهوره. وللإشعار بأنهم قوم يطلبون الضلالة في ذاتها. وأن البعد عن الحق والهدى مطلب من مطالبهم يدفعون فيه الثمن عن رغبة، وذلك لأنهم قوم مردوا على الضلالة فغدوا لا يستمرئون سواها، ولا يركنون إلا إليها. وإن قوما هذا شأنهم لجديرون بالابتعاد عنهم، والتحقير من أمرهم. لأنك- كما يقول الفخر الرازي- لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين: أعنى الضلال والإضلال.قال الآلوسى: وقوله: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ.. إلخ استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجب المفهومين من صدر الكلام، مبنى على سؤال نشأ منه كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها بعد تمكنهم منه ... وذهب أبو البقاء إلى أن جملة يَشْتَرُونَ حالة مقدرة من ضمير أُوتُوا أو حال من الَّذِينَ.
وَ اللّٰهُ اَعْلَمُ بِاَعْدَآىٕكُمْؕ-وَ كَفٰى بِاللّٰهِ وَلِیًّا ﱪ وَّ كَفٰى بِاللّٰهِ نَصِیْرًا(۴۵)
اور اللہ خوب جانتا ہے تمہارے دشمنوں کو (ف۱۳۷) اور اللہ کافی ہے والی (ف۱۳۸) اور اللہ کافی ہے مددگار،
وقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ جملة معترضة للتأكيد والتحذير.أى: والله- تعالى- أعلم بأعدائكم منكم- أيها المؤمنون- وقد أخبركم بأحوالهم وبما يبيتون لكم من شرور فاحذروهم ولا تلتفتوا إلى أقوالهم وأعدوا العدة لتأديبهم دفاعا عن دينكم وعقيدتكم.وقوله وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً تذييل قصد به غرس الطمأنينة في نفوس المؤمنين بأن العاقبة لهم.أى: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يتولى أموركم، ويصلح بالكم، وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يدفع عنكم مكرهم وشرورهم وما دام الأمر كذلك فاكتفوا بولايته ونصرته. واعتصموا بحبله، وأطيعوا أمره، ولا تكونوا في ضيق من مكر أعدائكم فإن الله ناصركم عليهم بفضله وإحسانه.وقوله وَكَفى فعل ماض. ولفظ الجلالة فاعل والباء مزيدة فيه لتأكيد الكفاية. ووليا ونصيرا منصوبان على التمييز. وقيل على الحال.وكرر- سبحانه- الفعل كفى لإلقاء الطمأنينة في قلوب المؤمنين، لأن التكرار في مثل هذا المقام يكون أكثر تأثيرا في القلب، وأشد مبالغة فيما سيق الكلام من أجله.فكأنه- سبحانه- يقول لهم: اكتفوا بولاية الله ونصرته، وكفاكم الله الولاية والنصرة والمعونة. ومن كان الله كافيه نصره على عدوه فاطمئنوا ولا تخافوا.
مِنَ الَّذِیْنَ هَادُوْا یُحَرِّفُوْنَ الْكَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهٖ وَ یَقُوْلُوْنَ سَمِعْنَا وَ عَصَیْنَا وَ اسْمَعْ غَیْرَ مُسْمَعٍ وَّ رَاعِنَا لَیًّۢا بِاَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْنًا فِی الدِّیْنِؕ-وَ لَوْ اَنَّهُمْ قَالُوْا سَمِعْنَا وَ اَطَعْنَا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنَا لَكَانَ خَیْرًا لَّهُمْ وَ اَقْوَمَۙ-وَ لٰكِنْ لَّعَنَهُمُ اللّٰهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا یُؤْمِنُوْنَ اِلَّا قَلِیْلًا(۴۶)
کچھ یہودی کلاموں کو ان کی جگہ سے پھیرتے ہیں (ف۱۳۹) اور (ف۱۴۰) کہتے ہیں ہم نے سنا اور نہ مانا اور (ف۱۴۱) سنیئے آپ سنائے نہ جائیں (ف۱۴۲) اور راعنا کہتے ہیں (ف۱۴۳) زبانیں پھیر کر (ف۱۴۴) اور دین میں طعنہ کے لئے (ف۱۴۵) اور اگر وہ (ف۱۴۶) کہتے کہ ہم نے سنا اور مانا اور حضور ہماری بات سنیں اور حضور ہم پر نظر فرمائیں تو ان کے لئے بھلائی اور راستی میں زیادہ ہوتا لیکن ان پر تو اللہ نے لعنت کی ان کے کفر کے سبب تو یقین نہیں رکھتے مگر تھوڑا (ف۱۴۷)
ثم ذكر- سبحانه- ألوانا من الأقوال والأعمال القبيحة التي كان اليهود يقولونها ويفعلونها للإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فقال: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ.وتحريف الشيء إمالته وتغييره. ومنه قولهم: طاعون يحرف القلوب، أى يميلها ويجعلها على حرف، أى جانب وطرف. وأصله من الحرف يقال: حرف الشيء عن وجهه، صرفه عنه.والجملة الكريمة بيان للموصول وهو قوله- تعالى- الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ.ويجوز أن يكون قوله مِنَ الَّذِينَ هادُوا خبر لمبتدأ محذوف. وقوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ صفة له.أى من الذين هادوا قوم أو فريق من صفاتهم أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه أى يميلونه عن مواضعه، ويجعلون مكانه غيره، ويفسرونه تفسيرا سقيما بعيدا عن الحق والصواب.قال الفخر الرازي: في كيفية التحريف وجوه:أحدها: أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر. مثل تحريفهم اسم «ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم «آدم طويل» ، وكتحريفهم الرجم بوضعهم الجلد بدله.الثاني: أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه من الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم. وهذا هو الأصح.الثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه» .والذي نراه أولى أن تحريف هؤلاء اليهود للكلم عن مواضعه يتناول كل ذلك، لأنهم لم يتركوا وسيلة من وسائل التحريف الباطل إلا فعلوها، أملا منهم في صرف الناس عن الدعوة الإسلامية، ولكن الله- تعالى- خيب آمالهم.قال الزمخشري: فإن قلت: كيف قيل هاهنا عَنْ مَواضِعِهِ وفي المائدة مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ؟ قلت: «أما عن مواضعه» فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه.وأما مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ فالمعنى أنه كانت له مواضع قمن بأن يكون فيها. فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره. والمعنيان متقاربان» .ثم حكى- سبحانه- لونا ثانيا من ضلالتهم فقال: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا أى.ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إذا ما أمرهم بشيء: سمعنا قولك وعصينا أمرك فنحن مع فهمنا لما تقول لا نطيعك لأننا متمسكون باليهودية.ثم حكى- سبحانه- لونا ثالثا من مكرهم فقال: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وداخلة تحت القول السابق.أى: ويقولون ذلك في أثناء مخاطبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو كلام ذو وجهين وجه محتمل للشر. بأن يحمل على معنى «اسمع» حال كونك غير مسمع كلاما ترضاه. ووجه محتمل للخير. بأن يحمل على معنى اسمع منا غير مسمع كلاما تكرهه.فأنت تراهم- لعنهم الله- أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام المحتمل للشر والخير موهمين غيرهم أنهم يريدون الخير، مع أنهم لا يريدون إلا الشر، بسبب ما طفحت به نفوسهم من حسد للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين.ثم حكى- سبحانه- لونا رابعا من خبثهم فقال: وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وهو كلام معطوف على ما قبله وداخل تحت القول السابق.وكلمة راعِنا كلمة ذات وجهين- أيضا- فهي محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وأمهلنا أو انتظرنا نكلمك. ومحتملة للشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها. أو على السب بالرعونة أى الحمق.قال الراغب: قوله: - تعالى- وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ كان ذلك قولا يقولونه للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم يقصدون به رميه بالرعونة، ويوهمون أنهم يقولون: راعنا أى: أحفظنا. من قولهم: رعن الرجل يرعن رعنا فهو رعن» أى أحمق.وأصل كلمة لَيًّا لويا لأنه من لويت، فأدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون. واللى:الانحراف والالتفات والانعطاف.والمراد أنهم كانوا يلوون ألسنتهم بالكلمة أو بالكلام ليكون اللفظ في السمع مشبها لفظا آخر هم يريدونه لأنه يدل على معنى ذميم.أى أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء راعِنا ويقصدون بهذا القول الإساءة إليه صلى الله عليه وسلم وينطقون بهذه الكلمة وما يشابهها نطقا ملتويا منحرفا ليصرفوها عن جانب احتمالها للخير إلى جانب احتمالها للشر. ولذا فقد نهى الله- تعالى- المؤمنين عن مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الألفاظ.قال ابن كثير: عند تفسيره لقوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا: نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم. وذلك أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص- عليهم لعائن الله-: فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا: يقولون راعنا، ويورون بالرعونه: وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون. السام عليكم. والسام هو الموت. ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بوعليكم. وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا. والغرض أن الله- تعالى- نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا» .وقوله وَطَعْناً فِي الدِّينِ أى يقولون ذلك من أجل القدح في الدين والاستهزاء بتعاليمه، وبنبيه صلى الله عليه وسلم.ثم بين- سبحانه- ما كان بحب عليهم أن يقولوه لو كانوا يعقلون فقال: تعالى- وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَأى: ولو أنهم قالوا عند سماعهم لما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من حق وخير، سَمِعْنا قولك سماع قبول واستجابة، وأطعنا أمرك بدل قولهم سمعنا وعصينا.ولو أنهم قالوا عند مخاطبتهم له صلى الله عليه وسلم وَاسْمَعْ إجابتنا لدعوة الحق وَانْظُرْنا حتى نفهم عنك ما تريده منا بدل قولهم وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ لو أنهم فعلوا ذلك لكان قولهم هذا خيرا لهم وأعدل من أقوالهم السابقة الباطلة التي حكاها القرآن عنهم.ولكنهم لسوء طباعهم لم يفعلوا ذلك فحقت عليهم اللعنة في الدنيا والآخرة وقد صرح القرآن بذلك فقال: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. أى: ولكنهم لم يقولوا ما هو خير لهم وأقوم بل قالوا ما هو شر وباطل، فاستحقوا اللعنة من الله بسبب كفرهم وسوء أفعالهم:ولفظ قَلِيلًا في قوله فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منصوب على الاستثناء من قوله لَعَنَهُمُ أى: ولكن لعنهم الله إلا فريقا منهم آمنوا فلم يلعنوا: أو منصوب على الوصفية لمصدر محذوف أى: ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا أى ضعيفا ركيكا لا يعبأ به، ولا يغنى عنهم من عذاب الله شيئا لأنه إيمان غير صحيح بسبب تفريقهم بين رسل الله في التصديق والطاعة.قال- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اُوْتُوا الْكِتٰبَ اٰمِنُوْا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ مِّنْ قَبْلِ اَنْ نَّطْمِسَ وُجُوْهًا فَنَرُدَّهَا عَلٰۤى اَدْبَارِهَاۤ اَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّاۤ اَصْحٰبَ السَّبْتِؕ-وَ كَانَ اَمْرُ اللّٰهِ مَفْعُوْلًا(۴۷)
اے کتاب والو! ایمان لاؤ اس پر جو ہم نے اتارا تمہارے ساتھ والی کتاب (ف۱۴۸) کی تصدیق فرماتا قبل اس کے کہ ہم بگاڑ دیں کچھ مونہوں کو (ف۱۴۹) تو انہیں پھیر دیں ان کی پیٹھ کی طرف یا انہیں لعنت کریں جیسی لعنت کی ہفتہ والوں پر (ف۱۵۰) اور خدا کا حکم ہوکر رہے،
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى اليهود أمرهم فيه باتباع طريق الحق، وأنذرهم بسوء المصير إذا لم يستمعوا إلى هذا النداء فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود. منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد فقال لهم: يا معشر يهود: اتقوا الله وأسلموا. فو الله انكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق. فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر. فأنزل الله فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ.الآية .وفي ندائهم بقولهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا تحريض لهم على الإيمان، لأن اعطاءهم علم الكتاب من شأنه أن يحملهم على المسارعة إلى تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وألا تأخذهم العصبية الدينية كما أخذت أهل مكة العصبية الجاهلية، ولأن هذا الإيمان الذي يدعون إليه هو التصديق بما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن، إذ هو يطابق- في جوهره- ما أنزله- سبحانه- على الأنبياء السابقين الذين يزعم أهل الكتاب أنهم يؤمنون بهم. إذا فوحدة المنزل توجب عليهم أن يؤمنوا بجميع ما أنزله الله.ووصفهم هنا بأنهم أوتوا الكتاب، مع أنه وصفهم قبل ذلك بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، لأن وصفهم هنا بذلك المقصود منه حضهم على الإيمان وترغيبهم فيه وإثارة هممهم للانقياد لتعاليم كتابهم الذي بشرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالإيمان به. أما وصفهم فيما سبق بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب فالمقصود منه التعجيب من أحوالهم، والتهوين من شأنهم.والمعنى: يا معشر اليهود الذين آتاهم الله التوراة لتكون هداية لهم، آمنوا ايمانا حقا بِما نَزَّلْنا من قرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فإن هذا القرآن قد نزل مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وموافقا للتوراة التي بين أيديكم في الدعوة إلى وحدانية الله- تعالى- وإلى مكارم الأخلاق، وفي النهى عن الفواحش والمعاصي، ومؤيدا لها فيما ذكرته من صفات تتعلق بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن آيات تدعو إلى تصديقه والإيمان به.وعبر عن القرآن بقوله: بِما نَزَّلْنا لأن في هذا التعبير تذكير بعظم شأن القرآن وأنه منزل بأمر الله وحفظه.وعبر عن التوراة بقوله لِما مَعَكُمْ لأن في هذا التعبير تسجيلا عليهم بأن التوراة كتاب مستصحب عندهم وقريب من أيديهم، وشهادته بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة جلية، فإذا ما تركوا شهادته مع وضوحها ومع استصحابهم له كان مثلهم كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً.ثم أنذرهم- سبحانه- بعد ذلك بسوء العاقبة إذا ما أعرضوا عن الإيمان بدعوة الإسلام فقال- تعالى- مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.والطمس إزالة الأثر بالمحو. قال الله- تعالى- فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أى: زالت ومحيت. ويقال: طمست الريح الأثر إذا محته وأزالته. وللمفسرين في المراد من معنى الطمس هنا اتجاهان:أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه حمل اللفظ على حقيقته بمعنى إزالة ما في الوجه من أعضاء ومحو أثرها.فيكون المعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أى نمحو تخطيط صورها من عين وأنف وفم وحاجب فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أى فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء بحيث تكون الوجوه مطموسة مثل الأقفاء. وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة وغيرهما.قال الإمام الرازي: وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة....» .ومن المفسرين الذين رجحوا حمل اللفظ على حقيقته الإمام ابن جرير لقد قال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب» قول من قال: معنى قوله مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً من قبل أن نطمس أبصارها، ونمحو آثارها، فنسويها كالأقفاء. فنردها على أدبارها، فنجعل أبصارها في أدبارها، يعنى بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه. فيكون معناه: فنحول الوجوه أقفاء، والأقفاء وجوها، فيمشوا القهقرى، كما قال ابن عباس ومن قال بذلك» .وأصحاب هذا الاتجاه منهم من يرى أن هذه العقوبة تكون في آخر الزمان ومنهم من يرى هذه العقوبة تكون في الآخرة. ومنهم من قال بأن هذه العقوبة مقيدة بعدم إيمان أحد منهم، وقد آمن بعضهم كعبد الله بن سلام وغيره وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه حمل اللفظ على مجازه، بمعنى أن المراد بالطمس الطمس المعنوي.فيكون المعنى: آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن تقسو قلوبكم، ونطبع عليها بسبب تمسكها بالضلال، وتماديها في العناد.قال ابن كثير مؤيدا هذا الاتجاه: هذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم، إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلال يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم. وهذا كما قال بعضهم في قوله- تعالى- وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا أى هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى.قال مجاهد: من قبل أن نطمس وجوها أى عن صراط الحق: فنردها على أدبارها أى في الضلال. وقال السدى: معناه: فنعميها عن الحق ونرجعها كفارا ... .وقال الفخر الرازي- بعد أن بين معنى الآية على القول الأول-: أما القول الثاني: فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ثم ذكروا فيه وجوها.الأول: قال الحسن: نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها أى على ضلالتها والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات.الثاني: يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير. وبالوجوه: رؤساؤهم ووجهاؤهم.والمعنى: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الإقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والإدبار والمذلة.الثالث: قال عبد الرحمن بن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى. وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام.. فيكون المراد بطمس الوجوه على هذا الرأى: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها» .وقد مال الفخرى الرازي إلى القول الثاني ووصفه بأنه لا إشكال معه البتة ... » .وقال بعض العلماء: إن الذي يبدو لنا من ظاهر النص وهو قوله- تعالى- مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها: أنه يراد به سحقهم في القتال، وحملهم على أن يولوا الأدبار، فتكون وجوههم غير بادية بصورها، بعد أن كانوا مقبلين بها، فأزالها السيف والخوف، وجعل صورتها مختفية، وأقفيتهم هي البادية الواضحة، فكأن صورة الوجوه قد زالت وحلت محلها صورة الأدبار.وعلى ذلك يكون المعنى: إنكم استرسلتم في غيكم وضلالكم. ومع ذلك نطالبكم بالهداية والإيمان قبل أن ينزل بكم غضب الله- تعالى- في الدنيا وذلك بتسليط المؤمنين بالحق عليكم، فيذيقونكم بأس القتال فتفرون، وتختفى وجوهكم ... » .هذه بعض الوجوه التي قالها من يرى أن المراد بالطمس الطمس المعنوي وأن اللفظ محمول على المجاز، ولعل هذا الاتجاه أقرب إلى الصواب لسلامته من الاعتراضات والإشكالات التي أوردها بعض المفسرين- كالرازي والآلوسى- عند تفسيرهما للآية الكريمة.وقوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ بيان لعقوبة أخرى سوى العقوبة السابقة.واللعن: هو الطرد من رحمة الله- تعالى-.فالآية الكريمة دعوة لليهود إلى الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من قبل أن يطبع الله- تعالى- على قلوبهم ويذهب بنورها فلا تتجه إلى الحق ولا تميل إليه. أو من قبل أن يلعنهم ويطردهم من رحمته ويجعلهم عبرة للمعتبرين.وأصحاب السبت هم قوم من اليهود حرم الله عليهم الصيد في يوم السبت، فتحايلوا على استحلال ما حرمه الله بحيل قبيحة، فأنزل الله عليهم عذابه، ومسخهم قردة ...وقد ذكر الله قصتهم بشيء من التفصيل في سورة الأعراف .وكلمة «أو» في الآية الكريمة لمنع الخلو. فجوز أن يعاقب الله طائفة منهم بعقوبة من هاتين العقوبتين، ويعاقب طائفة أخرى منهم بالعقوبة الثانية إن هم استمروا في ضلالهم وطغيانهم.والضمير المنصوب في قوله «نلعنهم» يعود لأصحاب الوجوه. أو للذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات.وقوله وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أى كان وما زال جميع ما أمر الله به وقضاه نافذا لا محالة لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء:والجملة الكريمة تذييل قصد به تهديد هؤلاء الضالين المعاندين حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويدخلوا في صفوف المؤمنين.
اِنَّ اللّٰهَ لَا یَغْفِرُ اَنْ یُّشْرَكَ بِهٖ وَ یَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذٰلِكَ لِمَنْ یَّشَآءُۚ-وَ مَنْ یُّشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدِ افْتَرٰۤى اِثْمًا عَظِیْمًا(۴۸)
بیشک اللہ اسے نہیں بخشتا کہ اس کے ساتھ کفر کیا جائے اور کفر سے نیچے جو کچھ ہے جسے چاہے معاف فرمادیتا ہے (ف۱۵۱) اور جس نے خدا کا شریک ٹھہرایا اس نے بڑا گناہ کا طوفان باندھا،
وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. استئناف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد، ولتأكيد وجوب امتثال الأمر بالإيمان، لأنه لا مغفرة إذا انتفى الإيمان.والمراد بالشرك هنا: مطلق الكفر فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا.والمعنى: إن الله لا يغفر لكافر مات على كفره، ويغفر ما دون الكفر من الذنوب والمعاصي لمن يشاء أن يغفر له إذا مات من غير توبة. فمن مات من المسلمين بدون توبة من الذنوب التي اقترفها فأمره مفوض إلى الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة.وقوله وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك، وزيادة في تشنيع حال المشرك.أى. ومن يشرك بالله في عبادته غيره من خلقه، فقد ارتكب من الآثام ما لا تتعلق به المغفرة، لأنه بهذا الإشراك قد افترى الكذب العظيم على الله، واقترف الإفك المبين، وفعل أعظم ذنب في الوجود:قال القرطبي: قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ روى أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فقال له رجل: يا رسول الله والشرك!! فنزل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. الآية. وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة.وقوله وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه.فقال ابن جرير الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة فهو في مشيئة الله إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله- تعالى-» .وقد أورد ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ثلاثة عشر حديثا تتعلق بها.ومن هذه الأحاديث ما رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع في الحجاب» قيل يا نبي الله وما الحجاب؟ قال: الإشراك بالله. ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. الآية.وروى ابن أبى حاتم وابن جرير عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وفي رواية لابن أبى حاتم: فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله- تعالى-» .وقال الآلوسى: ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة- الذين يسوون بين الإشراك بالله وبين ارتكاب الكبيرة بدون توبة- يرد بها أيضا- على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه مخلد في النار. وذكر الجلال أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين: إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون.وأخرج ابن الضريس وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم قوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وقال:«إنى ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتى فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا ورجونا» . وقد استبشر الصحابة بهذه الآية حتى قال على بن أبى طالب: أحب آية إلى في القرآن إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ .
اَلَمْ تَرَ اِلَى الَّذِیْنَ یُزَكُّوْنَ اَنْفُسَهُمْؕ-بَلِ اللّٰهُ یُزَكِّیْ مَنْ یَّشَآءُ وَ لَا یُظْلَمُوْنَ فَتِیْلًا(۴۹)
کیا تم نے انہیں نہ دیکھا جو خود اپنی ستھرائی بیان کرتے ہیں (ف۱۵۲) بلکہ اللہ جسے چاہے ستھرا کرے اور ان پر ظلم نہ ہوگا دانہ خرما کے ڈورے برابر (ف۱۵۳)
ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من قبائح اليهود فقال:أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً.روى المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين أن رجالا من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم.ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار» .ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم قالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً.وحكى عنهم أنهم كانوا يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا.وحكى عنهم وعن النصارى أنهم قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.والاستفهام في قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ للتعجب من أحوالهم، والتهوين من شأنهم حيث بالغوا في مدح أنفسهم مع أنهم كاذبون في ذلك.وقوله يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ من التزكية بمعنى التطهير والتنزيه عن القبيح. والمراد بهذا التعبير هنا: أنهم يصفون أنفسهم بالأفعال الحسنة، ويمدحونها مدحا كثيرا، مع أنهم لا يستحقون إلا الذم بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم.والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد إلى حال هؤلاء اليهود الذين يمدحون أنفسهم ويثنون عليها مختالين متفاخرين مع ما هم عليه من الكفر وسوء الأخلاق؟ إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم فها نحن نكشف لك عن خباياهم لتتعجب من سوء أعمالهم وليتعجب منهم كل عاقل.وقوله بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إبطال لمعتقدهم بإثبات ضده، وهو أن التزكية شهادة من الله ولا ينفع أحدا أن يزكى نفسه، وإعلام منه- سبحانه- بأن تزكيته هي التي يعتد بها لا تزكية غيره، فإنه هو العالم بما ينطوى عليه الإنسان من حسن وقبح، وخير وشر.وقوله وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا بيان لكمال عدله- سبحانه- وأنه لا يظلم أحدا من خلقه لا قليلا ولا كثيرا.والفتيل: هو الخيط الذي يكون في شق النواة. وكثيرا ما يضرب به المثل في القلة والحقارة.أى أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم بغير حق يعاقبون على هذا الكذب بما يستحقون من عقاب عادل لا ظلم معه لأنه- سبحانه- لا يظلم أحدا من عباده شيئا بل يجازى كل إنسان بما هو أهل له من خير أو شر.
اُنْظُرْ كَیْفَ یَفْتَرُوْنَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَؕ-وَ كَفٰى بِهٖۤ اِثْمًا مُّبِیْنًا۠(۵۰)
دیکھو کیسا اللہ پر جھوٹ باندھا رہے ہیں (ف۱۵۴) اور یہ کافی ہے صریح گناہ،
ثم أكد- سبحانه- التعجيب من أحوالهم فقال: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ....أى: انظر أيها العاقل كيف يفترى هؤلاء اليهود على الله الكذب في تزكيتهم لأنفسهم مع كفرهم وعنادهم وارتكابهم الأفعال القبيحة التي تجعلهم أهلا لكل مذمة وسوء عاقبة.وقد جعل- سبحانه- افتراءهم الكذب لشدة تحقق وقوعه، كأنه أمر مرئى يراه الناس بأعينهم، ويشاهدونه بأبصارهم.وقوله وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أى: وكفى بافترائهم الكذب على الله إثما ظاهرا بينا يستحقون يسببه أشد العقوبات، وأغلظ الإهانات.قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يقتضى الغض من المزكى لنفسه بلسانه، والإعلان بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله، وزكاه الله- تعالى-، فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له.وأما تزكية الغير ومدحه له ففي البخاري من حديث أبى بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويحك قطعت عنق صاحبك- يقوله مرارا- إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسبه الله ولا يزكى على الله أحدا» . فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه ... فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ويحك قطعت عنق صاحبك» .ومدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه ليس مدحا مذموما.وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة. ومدح صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: «إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع» .
اَلَمْ تَرَ اِلَى الَّذِیْنَ اُوْتُوْا نَصِیْبًا مِّنَ الْكِتٰبِ یُؤْمِنُوْنَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوْتِ وَ یَقُوْلُوْنَ لِلَّذِیْنَ كَفَرُوْا هٰۤؤُلَآءِ اَهْدٰى مِنَ الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا سَبِیْلًا(۵۱)
کیا تم نے، وہ نہ دیکھے جنہیں کتاب کا ایک حصہ ملا ایمان لاتے ہیں بت اور شیطان پر اور کافروں کو کہتے ہیں کہ یہ مسلمانوں سے زیادہ راہ پر ہیں،
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك لونا آخر من رذائلهم وقبائحهم التي تدعو إلى مزيد من التعجيب من أحوالهم. والتحقير من شأنهم فقال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا.روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها: ما جاء عن ابن عباس أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف خرجا إلى مكة في جمع من اليهود ليحالفوا قريشا على حربالنبي صلى الله عليه وسلم. فنزل كعب على أبى سفيان فأحسن مثواه. ونزلت اليهود في دور قريش. فقال أهل مكة لليهود: إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم.فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما ففعلوا. ثم قال كعب: يا أهل مكة ليجيء منا ثلاثون ومنكم ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت على قتال محمد صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك. فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا على دينكم.فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكرماء، ونسقيهم اللبن، ونقرى الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد صلى الله عليه وسلم فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث.فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية .والجبت في الأصل: اسم صنم ثم استعمل في كل معبود سوى الله- تعالى-.والطاغوت: يطلق على كل باطل وعلى كل ما عبد من دون الله، أو كل من دعا إلى ضلالة.أى: يصدقون بأنهما آلهة ويشركونهما في العبادة مع الله- تعالى-. أو يطيعونهما في الباطل.قال ابن جرير: والصواب من القول في تأويل يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ أن يقال:يصدقون بمعبودين من دون الله، ويتخذونهما إلهين، وذلك أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان» .وقوله وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بيان لما نطقوا به من زور وبهتان. أى: ويقولون إرضاء للذين كفروا وهم مشركو مكة. هؤلاء في شركهم وعبادتهم للجبت والطاغوت، أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أى أقوم طريقا، وأحسن دينا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.واللام في قوله لِلَّذِينَ كَفَرُوا لام العلة. أى: يقولون لأجل الذين كفروا..والإشارة بقوله هؤُلاءِ أَهْدى إلى الذين كفروا.وإيراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعنوان الإيمان، ليس من قبل القائلين، بل من جهة الله تعالى، تعريفا لهم بالوصف الجميل، وتحقيرا لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح الصفات.
اُولٰٓىٕكَ الَّذِیْنَ لَعَنَهُمُ اللّٰهُؕ-وَ مَنْ یَّلْعَنِ اللّٰهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهٗ نَصِیْرًاؕ(۵۲)
یہ ہیں جن پر اللہ نے لعنت کی اور جسے خدا لعنت کرے تو ہر گز اسکا کوئی یار نہ پائے گا (ف۱۵۵)
ثم بين- سبحانه- مصيرهم السيئ بسبب انحرافهم عن الحق فقال- تعالى- أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.أى: أولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان، فأيدوا المشركين بالقول والعمل وسجدوا لأصنامهم، وزكوا أفعالهم ... أولئك الذين هذه صفاتهم لَعَنَهُمُ اللَّهُ أى: أبعدهم عن رحمته وطردهم وأخزاهم بسبب كذبهم في حقدهم وإيثارهم عبادة الشيطان على طاعة الرحمن.وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أى ومن يلعنه الله ويبعده عن رحمته فلن تجد له ناصرا ينصره، أو شفيعا يشفع له.واسم الإشارة أُولئِكَ مبتدأ. والموصول وصلته خبر. والجملة مستأنفة لبيان حالهم.وإظهار سوء مآلهم.والإتيان باسم الإشارة هنا في نهاية البلاغة، لأن من بلغ وصف حاله هذا المبلغ صار جديرا بأن يشار إليه بكل ازدراء واحتقار.وفي قوله وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً بيان لحرمانهم ثمرة استنصارهم بمشركي قريش، وإيماء إلى وعد المؤمنين بأنهم المنصورون، لأنهم هم المقربون عند الله، ومن يقربه الله فلن تجد له خاذلا.هذا، وتحالف أولئك اليهود مع المشركين، وتفضيلهم إياهم على المؤمنين- كما حكته الآية الكريمة- قد شهد بقبحه واحد من اليهود هو الدكتور إسرائيل ولفنسون. فقد قال في كتابه «تاريخ اليهود في جزيرة العرب» معلقا على هذه القصة:وكان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا في هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامى ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم، لأن بنى إسرائيل الذين كانوا لمدة قرون حاملى راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من الأدوار التاريخية ... كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز عليهم في سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الأوثان، إنما كانوا يحاربون أنفسهم، ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من عبدة الأصنام، والوقوف منهم موقف الخصومة .
اَمْ لَهُمْ نَصِیْبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَاِذًا لَّا یُؤْتُوْنَ النَّاسَ نَقِیْرًاۙ(۵۳)
کیا ملک میں ان کا کچھ حصہ ہے (ف۱۵۶) ایسا ہو تو لوگوں کو تِل بھر نہ دیں،
ثم انتقل- سبحانه- من توبيخهم على تزكيتهم لأنفسهم بالباطل وعلى تفضيلهم عبادةالأوثان على عبادة الرحمن. إلى توبيخهم على البخل والأثرة فقال- تعالى-: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً.وأَمْ هنا منقطعة بمعنى بل فهي للإضراب والانتقال، والهمزة للاستفهام الإنكارى أى:لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، وإبطال زعمهم من أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان. والفاء في قوله فَإِذاً للسببية الجزائية لشرط محذوف.والنقير: النكتة التي تكون في ظهر النواة ويضرب به المثل في القلة والحقارة.والمعنى: إن هؤلاء اليهود ليس لهم نصيب من الملك ألبتة. لأنهم لا يستحقونه، ولأنهم لو أوتوا نصيبا منه على سبيل الفرض فإنهم لشدة حرصهم وبخلهم وأثرتهم لا يعطون أحدا غيرهم منه أقل القليل. وقد كنى عن أقل القليل هذا بالنقير.فأنت ترى أن الآية الكريمة ترد على ما يزعمه اليهود من أن الملك لهم، وأنهم لا يليق بهم أن يتبعوا غيرهم، وتصفهم بأنهم أبخل الناس وأبعدهم عن العدل والقسط ومن كانت هذه صفاته، فقد اقتضت حكمة الله أن يحرمه نعمة الملك والسلطان.
اَمْ یَحْسُدُوْنَ النَّاسَ عَلٰى مَاۤ اٰتٰىهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهٖۚ-فَقَدْ اٰتَیْنَاۤ اٰلَ اِبْرٰهِیْمَ الْكِتٰبَ وَ الْحِكْمَةَ وَ اٰتَیْنٰهُمْ مُّلْكًا عَظِیْمًا(۵۴)
یا لوگوں سے حسد کرتے ہیں (ف۱۵۷) اس پر جو اللہ نے انہیں اپنے فضل سے دیا (ف۱۵۸) تو ہم نے تو ابراہیم کی اولاد کو کتاب اور حکمت عطا فرمائی اور انہیں بڑا ملک دیا (ف۱۵۹)
ثم انتقل- سبحانه- من تبكيتهم على البخل وغيره مما سبق إلى تقريعهم على رذيلة الحسد التي استولت عليهم فأضلتهم وجعلتهم يتألمون لما يصيب الناس من خير ويتمنون زواله فقال- تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.وأَمْ هنا منقطعة أيضا كسابقتها، والاستفهام المقدر بعدها لإنكار الواقع وهو حسدهم لغيرهم.والمراد من الناس: النبي صلى الله عليه وسلم أو هو والمؤمنون معه. وقيل المقصود من الناس: العرب عامة.قال الفخر الرازي: والمراد من الناس- عند الأكثرين- أنه محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا في الجمع العظيم أو المراد بهم: الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لأن لفظ الناس جمع فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد. وحسن لفظ إطلاق الناس عليهم لأنهم القائمون بالعبودية الحق لله- تعالى- فكأنهم كل الناس ... » .والمراد بالفضل في قوله عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ النبوة والهدى والإيمان.والمعنى: إن هؤلاء اليهود ليسوا بخلاء فقط بل إن فيهم من الصفات ما هو أقبح من البخل وهو الحسد، فقد حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله منحه النبوة وهو رجل عربي ليس منهم، وحسدوا أتباعه لأنهم آمنوا به وصدقوه والتفوا من حوله يؤازرونه ويفتدونه بأرواحهم وأموالهم.وقوله فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً توبيخ لهم على حسدهم، وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم.والمعنى: إنكم بحسدكم للنبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله، تكونون قد ضللتم وسرتم في طريق الشيطان، لأنكم لو كنتم عقلاء لما فعلتم ذلك، إذ أنتم تعلمون علم اليقين أن الله- تعالى- قد أعطى آلَ إِبْراهِيمَ أى: قرابته القريبة من ذريته كإسماعيل- وهو جد العرب- وإسحاق ويعقوب وغيرهم.. أعطاهم الْكِتابَ أى: جنس الكتب السماوية فيشمل ذلك التوراة والإنجيل والزبور وغيرها. وأعطاهم الْحِكْمَةَ أى العلم النافع مع العمل به.وأعطاهم مُلْكاً عَظِيماً أى سلطانا واسعا وبسطة في الأرض.ومع ذلك فأنتم لم تحسدوا هؤلاء على ما أعطاهم الله من كتاب وحكمة وملك عظيم، فلماذا تحسدون محمدا صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله مع أنه من نسل إبراهيم- عليه السلام-؟.فالجملة الكريمة توبيخ لهم على أنانيتهم وحسدهم، وإلزام لهم بما يعرفونه من واقع كتبهم، وكشف للناس عن أن أحقادهم مرجعها إلى انطماس بصيرتهم، وخبث نفوسهم.
فَمِنْهُمْ مَّنْ اٰمَنَ بِهٖ وَ مِنْهُمْ مَّنْ صَدَّ عَنْهُؕ-وَ كَفٰى بِجَهَنَّمَ سَعِیْرًا(۵۵)
تو ان میں کوئی اس پر ایمان لایا (ف۱۶۰) اور کسی نے اس سے منہ پھیرا (ف۱۶۱) اور دوزخ کافی ہے بھڑکتی آگ(ف۱۶۲)
ثم بين- سبحانه- عاقبة كل من المحسن والمسيء فقال: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً.أى: فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن وصدق بما أعطاه الله لآل إبراهيم من كتاب وحكمه، ومنهم من كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه. فالضمير في بِهِ وعَنْهُ يعود إلى ما أوتى آل إبراهيم.ويرى بعضهم أن الضمير يعود إلى إبراهيم- عليه السلام. فيكون المعنى:فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من أعرض عنه ولم يتبع تعاليمه.وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما لقيه من اليهود من أذى.فكأنه- سبحانه- يقول له: إن هؤلاء الحاسدين لك قد اختلفوا على من هم منهم، وأنت يا محمد لست منهم، فكيف تنتظر منهم أن يسالموك أو يتبعوك؟وقوله وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً بيان لما أعده- سبحانه- للكافرين من عذاب.أى: وكفى بجهنم نارا مسعرة أى: موقدة إيقادا شديدا يعذبون بها على كفرهم وعنادهم وصدودهم عن الحق. يقال: سعر النار- كمنع- وسعرها وأسعرها أى: أوقدها.وكفى فعل ماض. وقوله بِجَهَنَّمَ فاعله على زيادة الباء فيه. وقوله سَعِيراً تمييز أو حال.وبهذا نرى أن هذه الآيات الكريمة من قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ إلى قوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً قد وبخت اليهود على بيعهم دينهم بدنياهم، وتحريفهم الكلم عن مواضعه واستهزائهم بدعوة الحق، وتزكيتهم لأنفسهم بالباطل، وافترائهم على الله الكذب، وتفضيلهم عبادة الأوثان على عبادة الله، وعلى بخلهم وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله.وقد توعدتهم على هذه الصفات الذميمة، والمسالك الخبيثة بأشد أنواع العذاب، وحذرت المؤمنين من شرورهم ومفاسدهم.ثم بين- سبحانه- بعد ذلك سوء عاقبة كل كافر، وحسن عاقبة كل مؤمن، فقال:
اِنَّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا بِاٰیٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِیْهِمْ نَارًاؕ-كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُوْدُهُمْ بَدَّلْنٰهُمْ جُلُوْدًا غَیْرَهَا لِیَذُوْقُوا الْعَذَابَؕ-اِنَّ اللّٰهَ كَانَ عَزِیْزًا حَكِیْمًا(۵۶)
جنہوں نے ہماری آیتوں کا انکار کیا عنقریب ہم ان کو آگ میں داخل کریں گے، جب کبھی ان کی کھالیں پک جائیں گی ہم ان کے سوا اور کھالیں انہیں بدل دیں گے کہ عذاب کا مزہ لیں، بیشک اللہ غالب حکمت والا ہے،
والمراد بالذين كفروا هنا: كل كافر سواء أكان من بنى إسرائيل أم من غيرهم.وقوله: نُصْلِيهِمْ من الإصلاء وهو إيقاد النار. والمراد هنا إدخالهم فيها وقوله:نَضِجَتْ من النضج وهو بلوغ نهاية الشيء. يقال: نضج الثمر واللحم ينضج نضجا إذا أدرك وبلغ نهايته. والمراد هنا: احتراق الجلود احتراقا تاما.والمعنى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا الدالة على أن الله وحده هو المستحق للعبادة والخضوع سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً أى: سوف ندخلهم نارا هائلة عظيمة وسوف هنا- كما قال سيبويه- للتهديد وتأكيد العذاب المقبل ولو مع التراخي وتراخى العذاب مع تأكيده يجعل النفس في فزع دائم، وخوف مستمر حتى يقع.وقوله كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بيان لشدة العذاب ودوامه أى: كلما احترقت جلودهم وتلاشت أعطيناهم بدل الجلود المحترقة جلودا غير محترقة مغايرة للمحترقة.فالتبديل على هذا تبديل حقيقى مادى. بمعنى أن يخلق الله- تعالى- مكان الجلود المحترقة جلودا أخرى جديدة مغايرة للمحترقة.ويرى بعضهم أن الجملة الكريمة كناية عن دوام العذاب لهم. وقد ذكر هذا الرأى الفخر الرازي فقال: ويمكن أن يقال: هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع. كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ. وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ من أوله. فكذا قوله كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها.يعنى: كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك، أعطيناهم قوة جديدة من الحياة.فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه) .والذي نراه أن حمل التبديل على حقيقته أولى، لأنه ليس لنا أن نعدل في كلام الله عن الحقيقة إلى المجاز، إلا عند الضرورة. وهنا لا ضرورة لذلك، لأن تبديل الجلود داخل تحت قدرة الله- تعالى- ولأن هذا المعنى الذي ذكره الإمام الرازي يتأتى مع حمل اللفظ على حقيقته إذ كلمة «كل» تدل على دوام العذاب وعدم انقطاعه، ولأن كثيرا من السلف قد فسروا الآية على الوجه الأول، فقد روى عن ابن عمر أنه قال: تلا رجل عند عمر هذه الآية قال: فقال عمر: أعدها على. فأعادها. فقال معاذ بن جبل: عندي تفسيرها: تبدل جلودهم في كل ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقوله لِيَذُوقُوا الْعَذابَ جملة تعليلية لقوله بَدَّلْناهُمْ أى بدلناهم جلودا غيرها ليقاسوا شدة العذاب، وليحسوا به في كل مرة كما يحس الذائق للشيء الذي يذوقه.وقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً تذييل قصد به تأكيد التهديد والوعيد الذي اشتملت عليه الآية الكريمة.أى: أن الله- تعالى كان وما زال عزيزا لا يغلبه غالب، ولا يمنع عقابه مانع (حكيما) في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه وإثابة من يثيبه.
وَ الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا وَ عَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّٰتٍ تَجْرِیْ مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهٰرُ خٰلِدِیْنَ فِیْهَاۤ اَبَدًاؕ-لَهُمْ فِیْهَاۤ اَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ٘-وَّ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِیْلًا(۵۷)
اور جو لوگ ایمان لائے اور اچھے کام کیے عنقریب ہم انہیں باغوں میں لے جائیں گے جن کے نیچے نہریں رواں ان میں ہمیشہ رہیں گے، ان کے لیے وہاں ستھری بیبیاں ہیں (ف۱۶۳) اور ہم انہیں وہاں داخل کریں گے جہاں سایہ ہی سایہ ہوگا (ف۱۶۴)
وقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لحسن الثواب الذي وعد الله به عباده المؤمنين في مقابلة بيان العقاب الذي أعده للكافرين.وتلك عادة القرآن في تربية النفوس. إنه يسوق عاقبة الكافرين ثم يتبعها بحسن عاقبة المؤمنين أو العكس، ليحمل العقلاء على الابتعاد عن طريق الكفر والعصيان، وليغريهم بالسير في طريق الطاعة والإيمان.أى: والذين آمنوا إيمانا حقا، وعملوا في دنياهم الأعمال الطيبات الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ يوم القيامة جَنَّاتٍ تَجْرِي من تحت شجرها وقصورها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى:أكرمناهم إكراما عظيما بأن جعلناهم مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أى لهم فيها نساء بريئات ومنزهات من جميع الأدناس الحسية والمعنوية.وقوله: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أى: ظلا وارفا جميلا لا يصيب صاحبه حر ولا سموم.والظل: أثر لما يحجب الشمس وحرارتها. والظليل: صفة مشتقة من الظل للتأكيد على حد قولهم: ليل أليل أى ظلا بلغ الغاية في جنسه.ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال: ظَلِيلًا صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه.كما يقال: ليل أليل. ويوم أيوم وما أشبه ذلك. وهو ما كان فيئا- أى طويلا ممتدا- لا حوب فيه- أى لا خرق ولا قطع فيه- ودائما لا تنسخه الشمس. وسجسجا- أى متوسطا- لا حر فيه ولا برد. وليس ذلك إلا ظل الجنة. رزقنا الله بتوفيقه لما يزلف إليه التفيؤ تحت ذلك الظل .
اِنَّ اللّٰهَ یَاْمُرُكُمْ اَنْ تُؤَدُّوا الْاَمٰنٰتِ اِلٰۤى اَهْلِهَاۙ-وَ اِذَا حَكَمْتُمْ بَیْنَ النَّاسِ اَنْ تَحْكُمُوْا بِالْعَدْلِؕ-اِنَّ اللّٰهَ نِعِمَّا یَعِظُكُمْ بِهٖؕ-اِنَّ اللّٰهَ كَانَ سَمِیْعًۢا بَصِیْرًا(۵۸)
بیشک اللہ تمہیں حکم دیتا ہے کہ امانتیں جن کی ہیں انہیں سپرد کرو (ف۱۶۵) اور یہ کہ جب تم لوگوں میں فیصلہ کرو تو انصاف کے ساتھ فیصلہ کرو (ف۱۶۶) بیشک اللہ تمہیں کیا ہی خوب نصیحت فرماتا ہے، بیشک اللہ سنتا دیکھتا ہے،
وبعد هذا الحديث الجامع عن أحوال أهل الكتاب من اليهود، وجه القرآن جملة من الأوامر الحكيمة إلى المؤمنين، فقال- تعالى-:قال ابن كثير- عند تفسيره للآية الأولى-: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة. وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبى طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم. وسبب نزولها فيه: حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة منه يوم الفتح ثم رده عليه.ثم قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر عن عبيد الله بن أبى ثور عن صفية بنت شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى أتى إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ مفتاح الكعبة منه ففتحت له فدخلها.ثم قام على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. صدق وعده. ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين: إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعى له. فقال: هاك مفتاحك يا عثمان!! اليوم يوم بر ووفاء.هذا ونزول الآية الكريمة في هذا السبب الخاص لا يمنع عمومها إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.والأمانات: جمع أمانة وهي مصدر سمى به المفعول. فهي بمعنى ما يؤتمن الإنسان عليه.والمعنى: إن الله تعالى- يأمركم- أيها المؤمنون- أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من الحقوق سواء أكانت هذه الحقوق لله- تعالى- أم للعباد. وسواء أكانت فعلية أم قولية أم اعتقادية.وقد أسند- سبحانه- الأمر إليه مع تأكيده، اهتماما بالمأمور به، وحضا للناس على أداء ما يؤتمنون عليه من علم ومال، وودائع، وأسرار، وغير ذلك مما يقع في دائرة الائتمان، وتنبغي المحافظة عليه.ومعنى أدائها إلى أهلها: توصيلها إلى أصحابها كما هي من غير بخس أو تطفيف أو تحريف أو غير ذلك مما يتنافى مع أدائها بالطريقة التي ترضى الله- تعالى-.ومن الآيات القرآنية التي نوهت بشأن الأمانة وأمرت بأدائها وحفظها قوله- تعالى-:إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ.وقوله- تعالى- وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ. أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ .وأما الأحاديث فمنها ما رواه الترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» .وروى الترمذي وأبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) .وقوله: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم.وقوله حَكَمْتُمْ من الحكم ومعناه الفصل بين المتنازعين، وإظهار الحق لصاحبه.وقوله بِالْعَدْلِ أى بالحق الذي أوجبه الله عليكم. وأصل العدل: التسوية. يقال: عدل كذا بكذا أى سواه به.قال الجمل وقوله: وَإِذا حَكَمْتُمْ إذا معمول لمقدر على مذهب البصريين من أن ما بعد أن المصدرية لا يعمل فيما قبلها والتقدير: وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس. أو معمول للمذكور على مذهب الكوفيين من إجازة عمل ما بعد أن فيما قبلها.والمعنى: وكما أمركم الله- تعالى- أيها المؤمنون بأداء الأمانات إلى أهلها، فإنه يأمركم- أيضا- إذا حكمتم بين الناس أن تجعلوا حكمكم قائما على الحق والعدل، فإن الله- تعالى- ما أقام ملكه إلا عليهما، ولأن الأحكام إذا صاحبها الجور والظلم أدت إلى شقاء الأفراد والجماعات.قال بعض العلماء: يرى بعضهم: أن الخطاب في هذا النص موجه إلى الذين يحكمون، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم. ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها إلى الأمة كلها، لأن الأمة العزيزة التي تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر، هي محكومة ومحكمة. فهي التي تختار حاكمها وهي في هذا محكمة، مطلوب منها العدل، فلا تختار لهوى أو لعطاء أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها. وهي محكمة في حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه، ولا تشتط في نقده، ولا تسكن عن نصيحته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).وحديث القرآن عن وجوب إقامة العدل ودفع الظلم حديث مستفيض. قال تعالى-:إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ .وقال- تعالى- يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى.وقال- تعالى- وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى.وقال- تعالى- وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى.وأما حديث السنة النبوية عن ذلك فهو أيضا مستفيض. ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» .وقوله إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين، وحسن استدعائهم إلى الامتثال لما أمروا به وقوله إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين، وحسن استدعائهم إلى الامتثال لما أمروا به وقوله نِعِمَّا أصله نعم ما فركبت نعم مع ما بعد طرح حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ثم أدغمت الميمان وحركت العين الساكنة بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين.وما إما منصوبة موصوفة بقوله يَعِظُكُمْ فكأنه قيل: نعم شيئا يعظكم به.وإما مرفوعة موصولة فكأنه قيل: نعم الشيء الذي يعظكم به.والمخصوص بالمدح محذوف وهو أداء الأمانة إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل.والوعظ: التذكير بالخير، والتحذير من الشر، بأسلوب يرق له القلب.والمعنى: إن الله- تعالى- قد أمركم- يا معشر المؤمنين- بأداء الأمانة، وبالحكم بالعدل، ولنعماهما شيئا جليلا يذكركم به، ويدعوكم إليه.وقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً وعد للطائعين ووعيد للعاصين.أى: إن الله- تعالى- كان سميعا لأقوالكم في الأحكام وفي غيرها. بَصِيراً بكل أحوالكم وتصرفاتكم. وسيجازيكم بما تفعلونه من خير أو شر.
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْۤا اَطِیْعُوا اللّٰهَ وَ اَطِیْعُوا الرَّسُوْلَ وَ اُولِی الْاَمْرِ مِنْكُمْۚ-فَاِنْ تَنَازَعْتُمْ فِیْ شَیْءٍ فَرُدُّوْهُ اِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُوْلِ اِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُوْنَ بِاللّٰهِ وَ الْیَوْمِ الْاٰخِرِؕ-ذٰلِكَ خَیْرٌ وَّ اَحْسَنُ تَاْوِیْلًا۠(۵۹)
اے ایمان والو! حکم مانو اللہ کا اور حکم مانو رسول کا (ف۱۶۷) اور ان کا جو تم میں حکومت والے ہیں (ف۱۶۸) پھر اگر تم میں کسی بات کا جھگڑا اٹھے تو اسے اللہ اور رسول کے حضور رجوع کرو اگر اللہ اور قیامت پر ایمان رکھتے ہو (ف۱۶۹) یہ بہتر ہے اور اس کا انجام سب سے اچھا،
وبعد أن أمر- سبحانه بأداء الأمانة وبالحكم بالعدل عقب ذلك بأمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وولاة أمورهم فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.وطاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان. قال- تعالى-: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.ومعنى طاعتهما: التزام أوامرهما، واجتناب نواهيهما.والمراد بأولى الأمر- على الراجح- الحكام. وطاعتهم إنما تكون في غير معصية الله، فإذا أمروا بما يتنافى مع تعاليم الدين فلا سمع لهم على الأمة ولا طاعة.وإنما أمرنا الله- تعالى- بطاعتهم في غير معصية، لأنهم هم المنفذون لتعاليم الشريعة، وهم الذين بيدهم مقاليد الأمة التي يقومون على رعاية مصالحها، ولأن عدم طاعتهم يؤدى إلى اضطراب أحوال الأمة وفسادها.قال صاحب الكشاف: والمراد (بأولى الأمر منكم) : أمراء الحق، لأن- أمراء الجور- الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله بوجوب الطاعة لهم. وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما. والنهى عن أضدادهما كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان. وكان الخلفاء يقولون: أطيعونى ما عدلت فيكم. فان خالفت فلا طاعة لي عليكم، وعن أبى حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فقال له: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله:فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.وقيل هم العلماء الدينيون الذين يعلمون الناس ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر.وأعاد- سبحانه- الفعل أَطِيعُوا مع الرسول فقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ولم يعده مع أولى الأمر، للإشارة إلى استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم بالطاعة حتى ولو كان ما يأمر به ليس منصوصا عليه في القرآن، لأنه لا ينطق عن الهوى، وللإيذان بأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى من طاعة أولى الأمر.وقوله مِنْكُمْ في محل نصب على الحال من أولى الأمر. أى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر حالة كونهم كائنين منكم أى من دينكم وملتكم.وفي ذلك إشارة إلى أنه لا طاعة لمن يتحكمون في شئون المسلمين ممن ليسوا على ملتهم.وقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا ما حدث بينهم اختلاف في أمر من الأمور الدينية.والمراد بالتنازع هنا: الاختلاف والجدال مأخوذ من النزع بمعنى الجذب. فكأن كل واحد من المختلفين يجذب من غيره الحجة لدليله..ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «مالي أنازع القرآن» أى ينازعني غيرى ويجاذبنى في القراءة. وذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه فنازعه قراءته فشغله، فنهاه عن الجهر بالقراءة في الصلاة خلفه.والمعنى: فان تنازعتم واختلفتم أيها المؤمنون أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أى فردوا ذلك الحكم أو الأمر الذي اختلفتم فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن تسألوه عنه في حياته، وترجعوا إلى سنته بعد مماته.قال القرطبي: قوله فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ أى تجادلتم واختلفتم في شيء من أمور دينكم فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أى ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته. وهذا قول مجاهد والأعمش وقتادة. وهو الصحيح.ومن لم ير هذا اختل إيمانه، لقوله- تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.وفي قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها.قال صلى الله عليه وسلم «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم. فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» . أخرجه مسلم.وروى أبو داود عن أبى رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» .وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول: «أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإنى والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر» «2» .وقوله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شرط جوابه محذوف عند جمهور البصريين اكتفاء بدلالة المذكور عليه.أى: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإيمان فارجعوا فيما تنازعتم فيه من أمور دينية إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.والجملة الكريمة تحريض للمؤمنين على الامتثال لتعاليم الإسلام وآدابه، لأن الإيمان الحق يقتضى ذلك.واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا يعود إلى الرد إلى الكتاب والسنة وقوله تَأْوِيلًا من آل هذا الأمر إلى كذا أى رجع إليه، فيكون المعنى: ذلك الذي أمرتكم به من رد ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير لكم وأحمد مغبة، وأجمل عاقبة.ويجوز أن يكون قوله تَأْوِيلًا بمعنى التفسير والتوضيح فيكون المعنى:ذلك أى الرد إلى الكتاب والسنة خير لكم وأحسن تأويلا وتفسيرا من تأويلكم أنتم إياه، من غير رد إلى أصل من الكتاب والسنة. والأول أنسب لسياق الآية الكريمة.قال ابن كثير: قوله فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ. الآية هذا أمر من الله- تعالى- بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه، أن يردوا التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال- تعالى-: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. فما حكم به القرآن والسنة وشهد له بالصحة فهو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولهذا قال- تعالى-: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أى: ردوا الخصومات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر .وقال بعض العلماء: قد يؤخذ من الآية التي معنا أن أدلة الأحكام الشرعية أربعة. وهي:الكتاب والسنة والإجماع والقياس.. لأن الأحكام إما منصوصة في الكتاب أو السنة وذلك قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. وإما مجمع عليها من أولى الأمر بعد استنادهم إلى دليل علموه. وذلك قوله وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وإما غير منصوصة ولا مجمع عليها. وهذه سبيلها الاجتهاد والرد إلى الله والرسول وذلك هو القياس.فما أثبته الفقهاء والأصوليون غير هذه الأربعة كالاستحسان الذي يراه الأحناف دليلا.وإثبات الأحكام الشرعية تمشيا مع المصالح المرسلة الذي يقول به المالكية، والاستصحاب الذي يقول به الشافعية، كل ذلك إن كان غير هذه الأربعة فمردود بظاهر هذه الآية، وإن كان راجعا إليها فقد ثبت أن الأدلة أربعة.ثم انتقل القرآن بعد ذلك إلى الحديث عن المنافقين فكشف عن أحوالهم الذميمة، وطباعهم القبيحة، ونفوسهم المريضة، وحذر المؤمنين من مكرهم وكذبهم، بعد أن حذرهم قبل ذلك من مكر اليهود وأمرهم بالاعتصام بطاعة الله ورسوله. استمع إلى القرآن الكريم وهو يكشف النقاب عن حال هؤلاء المنافقين فيقول:
اَلَمْ تَرَ اِلَى الَّذِیْنَ یَزْعُمُوْنَ اَنَّهُمْ اٰمَنُوْا بِمَاۤ اُنْزِلَ اِلَیْكَ وَ مَاۤ اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ یُرِیْدُوْنَ اَنْ یَّتَحَاكَمُوْۤا اِلَى الطَّاغُوْتِ وَ قَدْ اُمِرُوْۤا اَنْ یَّكْفُرُوْا بِهٖؕ-وَ یُرِیْدُ الشَّیْطٰنُ اَنْ یُّضِلَّهُمْ ضَلٰلًۢا بَعِیْدًا(۶۰)
کیا تم نے انہیں نہ دیکھا جن کا دعویٰ ہے کہ وہ ایمان لائے اس پر جو تمہاری طرف اترا اور اس پر جو تم سے پہلے اترا پھر چاہتے ہیں کہ شیطان کو اپنا پنچ بنائیں اور ان کو تو حکم یہ تھا کہ اسے اصلاً نہ مانیں اور ابلیس یہ چاہتا ہے کہ انہیں دور بہکاوے (ف۱۷۰)
روى المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ.. إلخ روايات متقاربة في معناها ومن ذلك ما أخرجه الثعلبي وابن أبى حاتم من طرق عن ابن عباس أن رجلا من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا، فدعاه اليهودي إلى التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف: ثم إنهما احتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي، فلم يرض المنافق. وقال: تعالى نتحاكم إلى عمر بن الخطاب.فقال اليهودي لعمر: قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق:أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما. فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد- أى مات-. ثم قال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله- تعالى- وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم فنزلت» .والاستفهام في قوله أَلَمْ تَرَ للتعجيب من حال أولئك المنافقين، وإنكار ما هم عليه من خلق ذميم وإعراض عن حكم الله ورسوله إلى حكم غيرهما.وقوله يَزْعُمُونَ من الزعم ويستعمل غالبا في القول الذي لا تحقق معه، كما يستعمل- أيضا- في الكذب ومنه قوله- تعالى-: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أى بكذبهم.وقد يطلق الزعم على القول الحق.قال الآلوسى: وقد أكثر سيبويه في «الكتاب» من قوله: زعم الخليل كذا- في أشياء يرتضيها.والمراد بالزعم هنا الكذب لأن الآية الكريمة في المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون.والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد إلى حال هؤلاء المنافقين الذين يزعمون كذبا وزورا أنهم آمنوا بما أنزل إليك من ربك من قرآن كريم، ومن شريعة عادلة، ويزعمون كذلك أنهم آمنوا بما أنزل على الرسل من قبلك من كتب سماوية؟ إن كنت لم تعلم حالهم أو لم تنظر إليهم فهاك خبرهم لتحذرهم ولتحذر أمتك من شرورهم.فالمقصود من الاستفهام التعجيب من حال هؤلاء المنافقين، وحض النبي صلى الله عليه وسلم وأمته على معرفة مسالكهم الخبيثة، حتى يأخذوا حذرهم منهم.وفي وصفهم بادعاء الإيمان بما أنزل على الرسول وبما أنزل على الرسل من قبله تأكيد للتعجيب من أحوالهم، وتشديد للتوبيخ والتقبيح من سلوكهم ببيان كمال المباينة بين دعواهم المقتضية حتما للتحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما صدر عنهم من هرولة إلى التحاكم إلى غيره.وقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ بيان لموطن التعجيب من أحوالهم الغريبة، وصفاتهم السيئة.والمراد بالطاغوت هنا: ما سوى شريعة الإسلام من أحكام باطلة بعيدة عن الحق يأخذها المنافقون عمن يعظمونهم وقيل المراد به: كعب بن الأشرف لأنه هو الذي أراد المنافقون التحاكم إليه، وقد سماه الله بذلك لكثرة طغيانه وعداوته للرسول صلى الله عليه وسلم.والمعنى: أن هؤلاء المنافقين يزعمون الإيمان بما أنزل إليك- يا محمد- وبما أنزل من قبلك، ومع هذا فهم يريدون- عن محبة واقتناع- التحاكم إلى الطاغوت أى إلى من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله.وقوله وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ جملة حالية من ضمير يريدون.أى: يريدون التحاكم إلى الطاغوت والحال أن الله- تعالى- قد أمرهم بالكفر به، وبالانقياد للأحكام التي يحكم بها النبي صلى الله عليه وسلم.وقوله وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً معطوف على قوله يُرِيدُونَ وداخل في حكم التعجيب، لأن اتباعهم لمن يريد إضلالهم، وإعراضهم عمن يريد هدايتهم أمر يدعو إلى العجب الشديد.والمراد بالضلال البعيد: الكفر والبعد عن الحق والهدى.ووصفه بالبعد للمبالغة في شناعة ضلالهم، بتنزيله على سبيل المجاز منزلة جنس ذي مسافة كان هذا الفرد منه بالغا غاية المسافة.قال ابن كثير: هذه الآية إنكار من الله- تعالى- على من يدعى الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء السابقين. وهو مع ذلك، يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله.كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما. فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد. وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لكل من عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل. وهو المراد بالطاغوت هنا .
وَ اِذَا قِیْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا اِلٰى مَاۤ اَنْزَلَ اللّٰهُ وَ اِلَى الرَّسُوْلِ رَاَیْتَ الْمُنٰفِقِیْنَ یَصُدُّوْنَ عَنْكَ صُدُوْدًاۚ(۶۱)
اور جب ان سے کہا جائے کہ اللہ کی اتاری ہوئی کتاب اور رسول کی طرف آؤ تو تم دیکھو گے کہ منافق تم سے منہ موڑ کر پھر جاتے ہیں،
ثم صور- سبحانه- إعراضهم عن الحق، ونفورهم عن شريعة الله- تعالى- فقال:وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً.أى: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين أقبلوا على حكم الله وحكم رسوله، فإن الخير كل الخير فيما شرعه الله وقضاه، إذا ما قيل لهم ذلك رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، رأيتهم لسوء نواياهم، ولؤم طواياهم يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً أى يعرضون عنك- يا محمد- إعراضا شديدا.وقوله تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ إغراء لهم بتقبل الحق، وحض لهم على الامتثال لشريعة الله لأنها هي الشريعة التي فيها سعادتهم، ولكنهم لمرض قلوبهم ينفرون من الحكم المنزل من السماء إلى حكم الطاغوت الباطل.وقال- سبحانه- رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ ولم يقل رأيتهم بالإضمار لتسجيل النفاق عليهم، وذمهم به، وللإشعار بعلة الحكم أى: رأيتهم لنفاقهم يصدون عنك صدودا.وقوله صُدُوداً مصدر مؤكد بفعله أى: يعرضون عنك إعراضا تاما بحيث لا يريدون أن يسمعوا منك شيئا، لأن حكمك لا يناسب أهواءهم.فذكر المصدر هنا للتأكيد والمبالغة فكأنه قيل: صدودا أى صدود.فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت علامة جلية من علامات المنافقين حتى يأخذ المؤمنون حذرهم منهم، وهي أنهم إذا ما دعوا إلى حكم الله الذي يزعمون أنهم آمنوا به، أعرضوا عن هذا الحكم إعراضا شديدا، وظهر بذلك كذبهم ونفاقهم.
فَكَیْفَ اِذَاۤ اَصَابَتْهُمْ مُّصِیْبَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ اَیْدِیْهِمْ ثُمَّ جَآءُوْكَ یَحْلِفُوْنَ ﳓ بِاللّٰهِ اِنْ اَرَدْنَاۤ اِلَّاۤ اِحْسَانًا وَّ تَوْفِیْقًا(۶۲)
کیسی ہوگی جب ان پر کوئی افتاد پڑے (ف۱۷۱) بدلہ اسکا جو انکے ہاتھوں نے آگے بھیجا (ف۱۷۲) پھر اے محبوب! تمہارے حضور حاضر ہوں، اللہ کی قسم کھاتے کہ ہمارا مقصود تو بھلائی اور میل ہی تھا(ف۱۷۳)
ثم يعرض القرآن بعد ذلك مظهرا آخر من مظاهر نفاقهم عند الشدائد والمحن فيقول:فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ، إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً.والفاء في قوله فَكَيْفَ للتفريع. و «كيف» في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف.والمعنى: فكيف يكون حالهم إذا نزلت بهم النوازل، وأصابتهم المصائب بسبب تركهم حكم الله، واتباعهم حكم الطغيان ثُمَّ جاؤُكَ معتذرين عما حدث منهم من قبائح، والحال أنهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كذبا وزورا إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً أى ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك- يا محمد- إلا إحسانا إلى المتخاصمين، وتوفيقا بينهم حتى لا يتسع الخلاف بينهم، ولم نرد بذلك عدم الرضا بحكمك، فلا تؤاخذنا بما فعلنا.والاستفهام بكيف هنا للتهويل. أى أن حالهم عند ما تصيبهم المصائب بسبب أفعالهم الخبيثة، ويأتون للرسول صلى الله عليه وسلم معتذرين، ستكون حالا بائسة شنيعة مخزية: لأنهم لا يجدون وجها مقبولا للدفاع عما ارتكبوه من قبائح.والباء في بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ للسببية. والمراد بما قدمت أيديهم ما اجترحوه من سيئات من أشدها تحاكمهم إلى الطاغوت. وعبر عن ذلك بقوله: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ: لأن الأيدى مظهر من مظاهر الإنسان.والتعبير ب «ثم» في هذا المقام للإشعار بالتباين الشديد بين إعراضهم وصدودهم إذا ما قال لهم قائل: تعالوا إلى حكم الله ... وبين إقبالهم بعد ذلك معتذرين ومقسمين بالأيمان الكاذبة أنهم ما أرادوا بما فعلوا إلا الإحسان والتوفيق.وإن ما قاله هؤلاء المنافقون من أعذار بعد أن أصابتهم المصائب. وانكشف أمرهم بين المؤمنين، وصاروا محل الازدراء والنبذ لتحاكمهم إلى الطاغوت. ما قاله هؤلاء- كما حكاه القرآن الكريم- ليشبهه ما يقوله منافقو اليوم عند ما يتهربون من التحاكم إلى شريعة الله إلى التحاكم إلى غيرها من شرائع الناس. فأنت تراهم إذا ما أحيط بهم، وعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم، اعتذروا بأنهم ما تركوا الحكم بشريعة الله إلى غيرها إلا بقصد الإحسان إلى المتنازعين، والتوفيق بين مختلف الطوائف في المجتمع حتى لا يغضب من ليسوا مسلمين.ولا شك أن هذه الأعذار لن تغنى عنهم من عذاب الله شيئا، لأنه لا عذر لمن يهجر شريعة الله، ويهرع إلى التحاكم إلى غيرها.
اُولٰٓىٕكَ الَّذِیْنَ یَعْلَمُ اللّٰهُ مَا فِیْ قُلُوْبِهِمْۗ-فَاَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَّهُمْ فِیْۤ اَنْفُسِهِمْ قَوْلًۢا بَلِیْغًا(۶۳)
ان کے دلوں کی تو بات اللہ جانتا ہے تو تم ان سے چشم پوشی کرو اور انہیں سمجھا دو اور ان کے معاملہ میں ان سے رسا بات کہو (ف۱۷۴)
ثم بين- سبحانه- أنه ليس غافلا عن أعمال أولئك المنافقين، وأرشد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وسائل معالجتهم فقال- تعالى-: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَعِظْهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً.أى: أولئك الذين نافقوا، وأخفوا حقيقة نواياهم السيئة، وتركوا حكم الله إلى حكم الطاغوت ... أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق والميل إلى الكفر، وإن أظهروا إسلامهم.وقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.. إلخ بيان لطرق معالجتهم.أى: فلا تلتفت إليهم، وغض الطرف عن مسالكهم الخبيثة، ولا تقبل عليهم، لكي يشعروا باستنكارك لأعمالهم.وقوله وَعِظْهُمْ: الوعظ هو التذكير بفعل الخير وترك الشر بأسلوب يرقق القلوب، ويشتمل على الترغيب والترهيب.أى: ذكرهم بما في أعمالهم القبيحة من سوء العاقبة لهم، وبما في تركها من خير جزيل يعود عليهم في دنياهم وآخرتهم، وأخبرهم بأن تحاكمهم إلى غير شريعة الله سيكون فيه هلاكهم.وقوله وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أى قل لهم بعد ذلك قولا يبلغ أعماق نفوسهم لقوته وشدة تأثيره. بأن تورد لهم ما تريد أن تخاطبهم به بطريقة تجعلهم يقبلون على قولك.وفي هذه الجملة الكريمة ما فيها من التعبير البليغ المؤثر، حتى لكأنما القول الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: يودع مباشرة في الأنفس، ويستقر رأسا في القلوب.وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: فإن قلت: بم تعلق قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ قلت: بقوله بَلِيغاً أى: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعارا، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق، وأطلع قرنه، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين. وما هذه المكانة إلا لإظهاركم الإيمان وإسراركم الكفر وإضماره. فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف.أو يتعلق بقوله قُلْ لَهُمْ. أى: قل لهم في أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا. وإن الله يعلم ما في قلوبكم. لا يخفى عليه. فلا يغنى عنكم إبطانه.فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق. وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك من انتقامه، وشرا من ذلك وأغلظ، أو قل لهم في أنفسهم خاليا بهم، ليس معهم غيرهم. قولا بليغا يبلغ منهم، ويؤثر فيهم .فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أرشدت النبي صلى الله عليه وسلم إلى استعمال ثلاثة طرق لصرف المنافقين عن أفعالهم القبيحة. وهذه الطرق هي الإعراض عنهم، ووعظهم بما يرغبهم في الخير ويرهبهم من الشر، ومخاطبتهم بالقول البليغ المؤثر الذي يحرك نفوسهم تحريكا قويا، ويجعلهم يقبلون عليه.وهذه الطرق هي أسمى ألوان الدعوة إلى الله، وأنجع الأساليب في جلب الناس إلى ما يأخذ بيدهم إلى الخير والفلاح.
وَ مَاۤ اَرْسَلْنَا مِنْ رَّسُوْلٍ اِلَّا لِیُطَاعَ بِاِذْنِ اللّٰهِؕ-وَ لَوْ اَنَّهُمْ اِذْ ظَّلَمُوْۤا اَنْفُسَهُمْ جَآءُوْكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّٰهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ لَوَجَدُوا اللّٰهَ تَوَّابًا رَّحِیْمًا(۶۴)
اور ہم نے کوئی رسول نہ بھیجا مگر اس لئے کہ اللہ کے حکم سے اس کی اطاعت کی جائے (ف۱۷۵) اور اگر جب وہ اپنی جانوں پر ظلم کریں (ف۱۷۶) تو اے محبوب! تمہارے حضور حاضر ہوں اور پھر اللہ سے معافی چاہیں اور رسول ان کی شفاعت فرمائے تو ضرور اللہ کو بہت توبہ قبول کرنے والا مہربان پائیں(ف۱۷۷)
ثم بين- سبحانه- أنه ما أرسل رسله إلا ليطاعوا لا ليخالفوا، وأرشد المخالفين إلى ما يجب عليهم فعله للتكفير عن مخالفتهم فقال تعالى:وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً.ومِنْ في قوله مِنْ رَسُولٍ زائدة للتأكيد والتعميم، واللام في قوله لِيُطاعَ للتعليل، والاستثناء مفرغ من المفعول لأجله.أى: وما أرسلنا رسولا من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليطاع فيما أمر ونهى وحكم، لا ليطلب ذلك من غيره. فطاعته فرض على من أرسل إليهم. وإنكار فرضيتها كفر.لأن طاعة الرسول طاعة لله، ومعصيته معصية لله. قال- تعالى-: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.وقوله بِإِذْنِ اللَّهِ أى: بسبب إذنه- سبحانه- في طاعة رسوله. لأنه هو الذي أمر بهذه الطاعة لرسله.ويجوز أن يراد بقوله بِإِذْنِ اللَّهِ أى بتوفيقه- سبحانه- إلى هذه الطاعة من يشاء توفيقه إليها من عباده.وقوله وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ.. إلخ بيان لما كان يجب عليهم أن يفعلوه بعد وقوعهم في الخطأ.أى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بسبب تحاكمهم إلى الطاغوت، وبخروجهم عن تعاليم الإسلام، لو أنهم بسبب ذلك وغيره جاؤُكَ تائبين توبة صادقة من هذا النفاق فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ مما اجترحوه من ذنوب وسيئات وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ.أى. دعوا الله- تعالى- بأن يقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم. لو أنهم فعلوا ذلك لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً أى كثير القبول للتوبة من التائبين رَحِيماً أى كثير التفضل على عباده بالرحمة والمغفرة.قال الفخر الرازي: لقائل أن يقول: أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح، كانت توبتهم مقبولة؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم؟قلنا: الجواب عنه من وجوه:الأول: أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله.وكان أيضا إساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره. فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم.الثاني: أن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول، ظهر منهم ذلك التمرد. فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه الاستغفار.الثالث: لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتوا بها على وجه الخلل، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول.ثم قال: وإنما قال- سبحانه- وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ. ولم يقل واستغفرت لهم: إجلالا للرسول صلى الله عليه وسلم. وأنهم إذا جاءوا من خصه الله برسالته، وأكرمه بوحيه، وجعله سفيرا بينه وبين خلقه، ومن كان كذلك فإن الله لا يرد شفاعته، فكانت الفائدة في العدول عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة .فالآية الكريمة قد فتحت باب التوبة أمام العصاة والمذنبين، وسمت بمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربه سموا عظيما.ورحم الله ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ. الآية. يرشد- تعالى- العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ولهذا قال: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً.وقد جاء عن الإمام العتبى أنه قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابى فقال:السلام عليك يا رسول الله!! سمعت الله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ.الآية: وقد جئتك مستغفرا لذنبي، مستشفعا بك عند ربي. ثم أنشأ يقول:يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكمنفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرمقال العتبى: ثم انصرف الأعرابى، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال «يا عتبى الحق الأعرابى فبشره أن الله قد غفر له» .
فَلَا وَ رَبِّكَ لَا یُؤْمِنُوْنَ حَتّٰى یُحَكِّمُوْكَ فِیْمَا شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لَا یَجِدُوْا فِیْۤ اَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَیْتَ وَ یُسَلِّمُوْا تَسْلِیْمًا(۶۵)
تو اے محبوب! تمہارے رب کی قسم وہ مسلمان نہ ہوں گے جب تک اپنے آپس کے جھگڑے میں تمہیں حاکم نہ بنائئیں پھر جو کچھ تم حکم فرما دو اپنے دلوں میں اس سے رکاوٹ نہ پائیں اور جی سے مان لیں (ف۱۷۸)
ثم بين- سبحانه- أن كل من يدعى الإيمان لا يكون إيمانه صادقا إلا إذا تقبل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إذعان واقتناع فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.والفاء في قوله فَلا للإفصاح عن شرط مقدر.ولا يرى الزمخشري أنها زائدة لتقوية الكلام وتأكيد معنى القسم، فهي كقوله- تعالى-: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ .ويرى ابن جرير أنها ليست زائدة، وإنما هي رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم شريعة الإسلام فقد قال:«يعنى- جل ثناؤه- بقوله فلا: أى فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد. ثم استأنف القسم- جل ذكره- فقال: وربك يا محمد لا يؤمنون أى: لا يصدقون بي وبك حتى يحكموك فيما شجر بينهم» .وقوله فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أى فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس.يقال: شجر بينهم الأمر يشجر شجرا وشجورا إذا تنازعوا فيه. وأصله التداخل والاختلاط. ومنه شجر الكلام، إذا دخل بعضه في بعض واختلط. ومنه الشجر: لتداخل أغصانه.وقيل للمنازعة تشاجر، لأن المتنازعين تختلف أقوالهم، وتتعارض دعاويهم، ويختلط بعضهم ببعض.وقوله حَرَجاً أى ضيقا وشكا، وأصل الحرج مجتمع الشيء، ويقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه حرج. ثم أطلق على ضيق الصدر لكراهته لشيء معين.والمعنى: إذا ثبت ما أخبرناك به يا محمد قبل ذلك، فإن هؤلاء المنافقين وحق ربك «لا يؤمنون» إيمانا حقا يقبله الله- تعالى- حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أى: حتى يجعلوك حاكما بينهم، ويلجئوا إليك فيما اختلفوا فيه من أمور، والتبس عليهم منها. ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ بعد ذلك حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ أى ضيقا وشكا في قضائك بينهم وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أى: ويخضعوا لحكمك خضوعا تاما لا إباء معه ولا ارتياب.وفي إضافة الاسم الجليل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله- سبحانه- وَرَبِّكَ تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريف له، وتنويه بمكانته.وقوله لا يُؤْمِنُونَ هو جواب القسم.وقوله ثُمَّ لا يَجِدُوا معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام. أى: حتى يحكموك فيما شجر بينهم فتحكم بينهم ثم لا يجدوا.وقوله تَسْلِيماً تأكيد للفعل. بمنزلة تكريره. أى تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة فقد روى الحافظ أبو نعيم والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» .هذا، وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما رواه البخاري عن الزهري عن عروة قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة- أى في مسيل مياه-.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصارى: يا رسول الله!! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير. ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر- والجدر هو ما يدار بالنخل من تراب كالجدار-. ثم أرسل الماء إلى جارك.قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ .وهذا السبب الخاص في نزول الآية الكريمة لا يمنع عمومها في وجوب التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى الشريعة التي أتى بها بعد وفاته، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء.ويبدو أن ما ذكرناه سابقا من تحاكم بعض المنافقين إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء في البخاري من تخاصم الزبير مع الرجل الأنصارى يبدو أن هذه الحوادث قد حدثت في زمن متقارب فنزلت الآيات لبيان وجوب التحاكم إلى شريعه الله دون سواها.والمتأمل في الآية الكريمة يراها قد بينت أن المؤمن لا يكون إيمانه تاما إلا إذا توفرت فيه صفات ثلاث:أولها: أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى شريعته بعد وفاته.وثانيها: أن يتقبل حكم الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم برضا وطيب خاطر، وأن يوقن إيقانا تاما بأن ما يقضى به هو الحق والعدل. قال- تعالى-: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وثالثها: أن يذعن لأحكام شريعة الله إذعانا تاما في مظهره وحسه. قال- تعالى- وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. أى يخضعوا خضوعا تاما.فقوله- تعالى- ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ يمثل الانقياد الباطني والنفسي.وقوله- تعالى- وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً يمثل الانقياد الظاهري والحسى.وهكذا نرى الآية الكريمة تحذر المؤمنين من التحاكم إلى غير شريعة الله بأسلوب يبعث في النفوس الوجل والخشية، ويحملهم على الإذعان لأحكام الله- تعالى-.
وَ لَوْ اَنَّا كَتَبْنَا عَلَیْهِمْ اَنِ اقْتُلُوْۤا اَنْفُسَكُمْ اَوِ اخْرُجُوْا مِنْ دِیَارِكُمْ مَّا فَعَلُوْهُ اِلَّا قَلِیْلٌ مِّنْهُمْؕ-وَ لَوْ اَنَّهُمْ فَعَلُوْا مَا یُوْعَظُوْنَ بِهٖ لَكَانَ خَیْرًا لَّهُمْ وَ اَشَدَّ تَثْبِیْتًاۙ(۶۶)
اور اگر ہم ان پر فرض کرتے کہ اپنے آپ کو قتل کردو یا اپنے گھر بار چھوڑ کر نکل جاؤ (ف۱۷۹) تو ان میں تھوڑے ہی ایسا کرتے، اور اگر وہ کرتے جس بات کی انہیں نصیحت دی جاتی ہے (ف۱۸۰) تو اس میں ان کا بھلا تھا اور ایمان پر خوب جمنا
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر فضله على الناس، ورحمته بهم. فقال- تعالى-:وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ، ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً.والمراد بقوله كَتَبْنا: فرضنا وأوجبنا.والمراد (بقتل النفس) تعريضها للهلاك من غير أمل في النجاة، وقيل: المراد به تعريضها للقتل عن طريق الجهاد.والمراد بالخروج من الديار: الهجرة في سبيل الله، والخروج من الأوطان إلى أماكن فيها استجابة لأمر الله.قال الفخر الرازي: الضمير في قوله وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فيه قولان:الأول: وهو قول ابن عباس ومجاهد- أنه عائد إلى المنافقين، وذلك لأنه- تعالى- كتب على بنى إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم. فقال- تعالى-: ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة، وحينئذ يصعب الأمر عليهم، وينكشف كفرهم، فإذا لم نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة، فليتركوا النفاق، وليقبلوا الإيمان على سبيل الإخلاص. وهذا القول اختيار أبى بكر الأصم والقفال.الثاني: أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم، فلما لم يفعل- سبحانه- ذلك رحمة بعباده، بل اكتفى بتكليفهم بالأمور السهلة، فعليهم أن يقبلوا عليها بإخلاص حتى ينالوا خير الدارين.وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق. وأما الضمير في قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ فهو مختص بالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا.وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين» .وعلى كلا التقديرين: فإن الآية الكريمة تدل على أن الله- تعالى- لم يكلف هذه الأمة إلا بما تستطيعه، لأنه- سبحانه- لو كلف الناس جميعا بالتكاليف الشاقة، لما استطاع أن يقوم بها إلا عدد قليل منهم، وهذا الدين لم يجئ لهذا العدد القليل من الناس وإنما جاء للناس جميعا.والمراد: أننا لم نكتب على الناس قتل أنفسهم أو خروجهم من ديارهم لأننا لو فعلنا ذلك لما استطاعه إلا عدد قليل منهم. وإنما الذي كتبناه عليهم هو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والخضوع لحكمه في الظاهر والباطن والاستجابة لتوجيهاته في السر والعلن.فالمقصود من الآية الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله على هذه الأمة، ورحمته بها، وتحريض الناس على الامتثال لشريعة الله- تعالى- والضمير في قوله ما فَعَلُوهُ للمكتوب عليهم الشامل للقتل والخروج من الديار. لدلالة قوله كَتَبْنا عليه.وقوله «قليل» مرفوع على أنه بدل من الواو في قوله فَعَلُوهُ والتقدير: ما فعله أحد إلا قليل منهم. وقرأه ابن عامر بالنصب على الاستثناء. والأول أولى، لأنه استثناء من كلام تام غير موجب فيترجح الرفع.قال ابن كثير: لما نزلت وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ.. الآية. قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن من أمتى رجالا، الإيمان أثبت في قلوبهم من الرواسي» وعن عامر بن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم» - أى: لو فرض ذلك لكان عبد الله بن مسعود من الذين يفعلونه.وعن شريح بن عبيد قال: لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال: «لو أن الله كتب ذلك، لكان هذا من أولئك القليل» .وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً بيان للنتائج الطيبة التي تترتب على امتثالهم لأمر الله.أى: ولو ثبت أن هؤلاء الذين أمرناهم بطاعتنا فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أى: ما أمرناهم به من اتباع لرسولنا صلى الله عليه وسلم وانقياد لحكمه، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ...لو ثبت أنهم فعلوا ذلك لكان ما فعلوه خَيْراً لَهُمْ في دنياهم وآخرتهم. ولكان أَشَدَّ تَثْبِيتاً لهم على الحق والصواب، وأمنع لهم من الضلال.
وَّ اِذًا لَّاٰتَیْنٰهُمْ مِّنْ لَّدُنَّاۤ اَجْرًا عَظِیْمًاۙ(۶۷)
اور ایسا ہوتا تو ضرور ہم انہیں اپنے پاس سے بڑا ثواب دیتے
ثم بين- سبحانه- ما لهم بعد ذلك من أجر عظيم فقال: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً.أى: وإذا لو ثبتوا على طاعتنا لأعطيناهم من عندنا ثوابا عظيما لا يعرف مقداره إلا الله- تعالى- ولتقبلناهم وأرشدناهم إلى سلوك الطريق المستقيم وهو طريق الإسلام الذي باتباعه يسعدون في دنياهم وآخرتهم.قال صاحب الكشاف: وقوله «وإذا» جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا لَآتَيْناهُمْ لأن إذا جواب وجزاء .وقد فخم- سبحانه- هذا العطاء بعدة أمور منها: أنه ذكر- سبحانه- نفسه بصيغة العظمة لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا وَلَهَدَيْناهُمْ والمعطى الكريم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة عند الوعد بالعطية، دل ذلك على عظمة تلك العطية.ومنها: أن قوله مِنْ لَدُنَّا يدل على التخصيص أى: لآتيناهم من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا. وهذا التخصيص يدل على المبالغة والتشريف، لأنه عطاء من واهب النعم وممن له الخلق والأمر كما في قوله- تعالى- وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً.ومنها: أنه- سبحانه- وصف هذا الأجر المعطى بالعظمة بعد أن جاء به منكرا، وهذا الأسلوب يدل على أن هذا العطاء غير محدود بحدود، وأنه قد بلغ أقصى ما يتصوره العقل من جلال في كمه وفي كيفه. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.هذا، وبذلك ترى أن الآيات الكريمة- من قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. إلى هنا- قد بينت ما عليه المنافقون من فسوق وعصيان، وحكت معاذيرهم الكاذبة، وصورت نفورهم من حكم الله تصويرا بليغا، وكشفت عن أحوالهم ورذائلهم بأسلوب يدعو العقلاء إلى احتقارهم وهجرهم، وأرشدت إلى أنجع الوسائل لعلاجهم وفتحت لهم باب التوبة حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويطهروا نفوسهم من السوء والفحشاء، ووضحت جانبا من مظاهر اليسر والتخفيف التي تفضل بها- سبحانه- على الأمة الإسلامية، ووعدت الذين يستجيبون لله ولرسوله بالثواب الجزيل، وتوعدت الذين يتركون حكم الله إلى حكم غيره بالعذاب الأليم، ووصفتهم بعدم الإيمان.وقد أفاض بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآيات في بيان سوء حال من يتحاكم إلى غير شريعة الله، وساقوا أمثلة متعددة لشدة تمسك السلف الصالح بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.ومن ذلك قول الفخر الرازي: قال القاضي: يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر. وعدم الرضا بحكم محمد صلى الله عليه وسلم كفر ويدل عليه وجوه:الأول: أنه- تعالى- قال يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ.فجعل التحاكم إلى الطاغوت إيمانا به. ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله. كما ان الكفر بالطاغوت إيمان بالله.الثاني: قوله تعالى-: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ.. إلى قوله:وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.الثالث: قوله- تعالى- فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة.وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام. سواء رده من جهة الشك أم من جهة التمرد. وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم .وقال الشيخ جمال الدين القاسمى: قال ولى الله التبريزي. روى الإمام مسلم- بسنده- عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم: فقال بلال: والله لنمنعهن. فقال عبد الله: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقول أنت: لنمنعهن؟وفي رواية سالم عن أبيه قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا ما سمعته سبه مثله قط. وقال:أخبرك عن رسول الله، وتقول: والله لنمنعهن» .وفي رواية للإمام أحمد أنه ما كلمه حتى مات.فأنت ترى أن ابن عمر- رضى الله عنه- لشدة تمسكه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب لله ورسوله، وهجر فلذة كبده، لتلك الزلة.وقال الإمام الشافعى: أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابى قال: حدثني ابن أبى ذئب عن المقبري عن أبى شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود» . قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبى ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري وصاح على صياحا كثيرا ونال منى وقال:أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أتأخذ به؟ نعم. آخذ به. وذلك الفرض على وعلى من سمعه. إن الله- تعالى- قد اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه. واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه. فعلى الخلق أن يتبعوه لا مخرج لمسلم. وما سكت حتى تمنيت أن يسكت.وقال الإمام ابن القيم: والذي ندين الله به، ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه. ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان. لا راويه ولا غيره. إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا. أولا يتفطن لدلالته على تلك المسألة. أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا. أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر. أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ...فالله- تعالى- علق سعادة الدارين بمتابعته صلى الله عليه وسلم وجعل شقاوة الدارين في مخالفته .وهكذا نرى أن السلف الصالح كانوا يتمسكون بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشد التمسك، ويهجرون كل من خالفها، ولم يقيد نفسه بها.ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الثواب العظيم الذي أعده للطائعين من عباده فقال:
ثم بين- سبحانه- ما لهم بعد ذلك من أجر عظيم فقال: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً.أى: وإذا لو ثبتوا على طاعتنا لأعطيناهم من عندنا ثوابا عظيما لا يعرف مقداره إلا الله- تعالى- ولتقبلناهم وأرشدناهم إلى سلوك الطريق المستقيم وهو طريق الإسلام الذي باتباعه يسعدون في دنياهم وآخرتهم.قال صاحب الكشاف: وقوله «وإذا» جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا لَآتَيْناهُمْ لأن إذا جواب وجزاء .وقد فخم- سبحانه- هذا العطاء بعدة أمور منها: أنه ذكر- سبحانه- نفسه بصيغة العظمة لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا وَلَهَدَيْناهُمْ والمعطى الكريم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة عند الوعد بالعطية، دل ذلك على عظمة تلك العطية.ومنها: أن قوله مِنْ لَدُنَّا يدل على التخصيص أى: لآتيناهم من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا. وهذا التخصيص يدل على المبالغة والتشريف، لأنه عطاء من واهب النعم وممن له الخلق والأمر كما في قوله- تعالى- وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً.ومنها: أنه- سبحانه- وصف هذا الأجر المعطى بالعظمة بعد أن جاء به منكرا، وهذا الأسلوب يدل على أن هذا العطاء غير محدود بحدود، وأنه قد بلغ أقصى ما يتصوره العقل من جلال في كمه وفي كيفه. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.هذا، وبذلك ترى أن الآيات الكريمة- من قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. إلى هنا- قد بينت ما عليه المنافقون من فسوق وعصيان، وحكت معاذيرهم الكاذبة، وصورت نفورهم من حكم الله تصويرا بليغا، وكشفت عن أحوالهم ورذائلهم بأسلوب يدعو العقلاء إلى احتقارهم وهجرهم، وأرشدت إلى أنجع الوسائل لعلاجهم وفتحت لهم باب التوبة حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويطهروا نفوسهم من السوء والفحشاء، ووضحت جانبا من مظاهر اليسر والتخفيف التي تفضل بها- سبحانه- على الأمة الإسلامية، ووعدت الذين يستجيبون لله ولرسوله بالثواب الجزيل، وتوعدت الذين يتركون حكم الله إلى حكم غيره بالعذاب الأليم، ووصفتهم بعدم الإيمان.وقد أفاض بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآيات في بيان سوء حال من يتحاكم إلى غير شريعة الله، وساقوا أمثلة متعددة لشدة تمسك السلف الصالح بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.ومن ذلك قول الفخر الرازي: قال القاضي: يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر. وعدم الرضا بحكم محمد صلى الله عليه وسلم كفر ويدل عليه وجوه:الأول: أنه- تعالى- قال يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ.فجعل التحاكم إلى الطاغوت إيمانا به. ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله. كما ان الكفر بالطاغوت إيمان بالله.الثاني: قوله تعالى-: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ.. إلى قوله:وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.الثالث: قوله- تعالى- فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة.وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام. سواء رده من جهة الشك أم من جهة التمرد. وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم .وقال الشيخ جمال الدين القاسمى: قال ولى الله التبريزي. روى الإمام مسلم- بسنده- عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم: فقال بلال: والله لنمنعهن. فقال عبد الله: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقول أنت: لنمنعهن؟وفي رواية سالم عن أبيه قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا ما سمعته سبه مثله قط. وقال:أخبرك عن رسول الله، وتقول: والله لنمنعهن» .وفي رواية للإمام أحمد أنه ما كلمه حتى مات.فأنت ترى أن ابن عمر- رضى الله عنه- لشدة تمسكه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب لله ورسوله، وهجر فلذة كبده، لتلك الزلة.وقال الإمام الشافعى: أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابى قال: حدثني ابن أبى ذئب عن المقبري عن أبى شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود» . قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبى ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري وصاح على صياحا كثيرا ونال منى وقال:أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أتأخذ به؟ نعم. آخذ به. وذلك الفرض على وعلى من سمعه. إن الله- تعالى- قد اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه. واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه. فعلى الخلق أن يتبعوه لا مخرج لمسلم. وما سكت حتى تمنيت أن يسكت.وقال الإمام ابن القيم: والذي ندين الله به، ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه. ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان. لا راويه ولا غيره. إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا. أولا يتفطن لدلالته على تلك المسألة. أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا. أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر. أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ...فالله- تعالى- علق سعادة الدارين بمتابعته صلى الله عليه وسلم وجعل شقاوة الدارين في مخالفته .وهكذا نرى أن السلف الصالح كانوا يتمسكون بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشد التمسك، ويهجرون كل من خالفها، ولم يقيد نفسه بها.ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الثواب العظيم الذي أعده للطائعين من عباده فقال:
وَ مَنْ یُّطِعِ اللّٰهَ وَ الرَّسُوْلَ فَاُولٰٓىٕكَ مَعَ الَّذِیْنَ اَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَیْهِمْ مِّنَ النَّبِیّٖنَ وَ الصِّدِّیْقِیْنَ وَ الشُّهَدَآءِ وَ الصّٰلِحِیْنَۚ-وَ حَسُنَ اُولٰٓىٕكَ رَفِیْقًاؕ(۶۹)
اور جو اللہ اور اس کے رسول کا حکم مانے تو اُسے ان کا ساتھ ملے گا جن پر اللہ نے فضل کیا یعنی انبیاء (ف۱۸۱) اور صدیق (ف۱۸۲) اور شہید (ف۱۸۳) اور نیک لوگ (ف۱۸۴) یہ کیا ہی اچھے ساتھی ہیں،
روى المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان مالي أراك محزونا؟ فقال الرجل: يا نبي الله شيء فكرت فيه. فقال ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك. وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. فأتاه جبريل بهذه الآية. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ.. إلخ.قال: فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فبشره» .والمعنى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ بالانقياد لأمره ونهيه، ويطع الرَّسُولَ في كل ما جاء به من ربه «فأولئك» المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالنعم التي تقصر العبارات عن تفصيلها وبيانها.وقوله: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ بيان للمنعم عليهم الذين يكون المطيع في صحبتهم ورفقتهم.أى: فأولئك المتصفون بتمام الطاعة لله- تعالى- ولرسوله صلى الله عليه وسلم، يكونون يوم القيامة في صحبة الأنبياء الذين أرسلهم الله مبشرين ومنذرين فبلغوا رسالته ونالوا منه- سبحانه- أشرف المنازل.وبدأ- سبحانه- بالنبيين لعلو درجاتهم، وسمو منزلتهم على من عداهم من البشر.وقوله وَالصِّدِّيقِينَ جمع صديق وهم الذين صدقوا بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا لا يخالجه شك، ولا تحوم حوله ريبة، وصدقوا في دفاعهم عن عقيدتهم وتمسكهم بها، وسارعوا إلى ما يرضى الله بدون تردد أو تباطؤ.وقوله وَالشُّهَداءِ جمع شهيد. وهم الذين استشهدوا في سبيل الله، ومن أجل إعلاء دينه وشريعته.وقوله وَالصَّالِحِينَ جمع صالح. وهم الذين صلحت نفوسهم، واستقامت قلوبهم وأدوا ما يجب عليهم نحو خالقهم ونحو أنفسهم ونحو غيرهم.هؤلاء هم الأخيار الأطهار الذين يكون المطيعون لله ولرسوله في رفقتهم وصحبتهم.قال الفخر الرازي: «وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين ... كون الكل في درجة واحدة، لأن هذا يقتضى التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول. وأنه لا يجوز. بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الأخر، وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا: وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه. فهذا هو المراد من هذه المعية.ثم قال: وقد دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف. وهو كون الإنسان صديقا ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة كما قال- تعالى- في صفة إدريس إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا .وقوله- تعالى وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب في العمل الصالح الذي يوصل المسلم إلى صحبة هؤلاء الكرام.وقوله حَسُنَ فعل مراد به المدح ملحق بنعم. ومضمن معنى التعجب من حسنهم.واسم الإشارة أُولئِكَ يعود إلى كل صنف من هذه الأصناف الأربعة وهم النبيون ومن بعدهم.والرفيق: هو المصاحب الذي يلازمك في عمل أو سفر أو غيرهما. وسمى رفيقا لأنك ترافقه ويرافقك ويستعين كل واحد منكما بصاحبه في قضاء شئونه. وهو مشتق من الرفق بمعنى لين الجانب، ولطف المعاشرة.ولم يجمع، لأن صيغة فعيل يستوي فيها الواحد وغيره.والمعنى وحسن كل واحد من أولئك الأخيار- وهم الأنبياء ومن بعدهم- رفيقا ومصاحبا في الجنة لأن رفقة كل واحد منهم تشرح الصدور، وتبهج النفوس.والمخصوص بالمدح محذوف أى: وحسن كل واحد من المذكورين رفيقا أو وحسن المذكورون أو الممدوحون رفيقا، لأن حسن لها حكم نعم.وقوله أُولئِكَ فاعل حسن. ورفيقا تمييز.قال صاحب الكشاف وقوله وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فيه معنى التعجب كأنه قيل:وما أحسن أولئك رفيقا. ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ وحسن بسكون السين) .
ذٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّٰهِؕ-وَ كَفٰى بِاللّٰهِ عَلِیْمًا۠(۷۰)
یہ اللہ کا فضل ہے، اور اللہ کافی ہے جاننے والا،
واسم الإشارة ذلِكَ في قوله ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ يعود إلى ما ثبت للمطيعين من أجر جزيل، ومزيد هداية، وحسن رفقة. وهو مبتدأ. وقوله الْفَضْلُ صفته، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبره. أى: ذلك الفضل العظيم كائن من الله- تعالى- لا من غيره.وقوله وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً تذييل قصد به الإشارة إلى أن أولئك الأخيار. الذين قدموا أحسن الأعمال، واستحقوا أفضل الجزاء، وإن لم يعلمهم الناس فإن الله- تعالى- يعلمهم، وقد كافأهم بما يستحقون.أى: كفى به- سبحانه- عليما بمن يستحق فضله وعطاءه وبمن لا يستحق، فهو- سبحانه- الذي لا تخفى عليه خافية من شئون خلقه.وفي هذه الجملة الكريمة حض للمسلم على التزود من العمل الصالح، لأنه- سبحانه- ما دام يعلم أحوال عباده وسيحاسبهم على أعمالهم، فجدير بالعاقل أن يرغب في الطاعة وأن ينفر من المعصية.هذا، وقد وردت أحاديث كثيرة تشير إلى أن المؤمنين الصادقين سيكونون يوم القيامة مع أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن ربيعة بن كعب الأسلمى أنه قال. كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي. (سل) : فقلت أسألك مرافقتك في الجنة. فقال أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعنى على نفسك بكثرة السجود.ومنها ما رواه الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ ألف آية في سبيل الله، كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا» .ومنها ما رواه الترمذي عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» قال ابن كثير: وأعظم من هذا كله بشارة، ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟فقال «المرء مع من أحب» .وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد بشرتا المطيعين لله ولرسوله بأحسن البشارات، وأرفع الدرجات.ثم وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بالاستعداد للجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمته، بعد أن أمرتهم قبل ذلك بطاعته وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال- تعالى-:
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا خُذُوْا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوْا ثُبَاتٍ اَوِ انْفِرُوْا جَمِیْعًا(۷۱)
اے ایمان والو! ہوشیاری سے کام لو (ف۱۸۵) پھر دشمن کی طرف تھوڑے تھوڑے ہوکر نکلو یا اکٹھے چلو
قال القرطبي: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله، وحماية الشرع.ووجه النظم والاتصال بما قبله أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته. وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم حتى يتحسسوا إلى ما عندهم، ويعلموا كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم فقال «خذوا حذركم» فعلمهم مباشرة الحروب.ولا ينافي هذا التوكل بل هو عين التوكل.. .والحذر والحذر بمعنى واحد كالإثر والأثر. يقال: أخذ فلان حذره، إذا تيقظ واحترز مما يخشاه ويخافه. فكأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. فالكلام على سبيل الكناية والتخيل. بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية.والمعنى: استعدوا- أيها المؤمنون- لأعدائكم، وكونوا على يقظة منهم، وكونوا متأهبين للقائهم دائما بالإيمان القوى، وبالسلاح الذي يفل سلاحهم.هذا، وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كلام حسن في هذا المعنى، فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه: «الحذر: الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو، وذلك بأن نعرف حال العدو ومبلغ استعداده وقوته ومعرفة أرضه وبلاده وفي أمثال العرب (قتلت أرض جاهلها) . ويدخل في الحذر والاستعداد معرفة الأسلحة وكيفية استعمالها فكل ذلك وغيره يدخل تحت الأمر بأخذ الحذر.وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عارفين بأرض عدوهم، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم جواسيس يأتونه بأخبار مكة، ولما أخبروه بنقض قريش للعهد استعد لفتحها، وقال أبو بكر لخالد يوم حرب اليمامة (حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف، والرمح بالرمح) . وهذه كلمة جليلة فالقول وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كل ذلك دال على أن الاستعداد يختلف باختلاف حال العدو وقوته» .فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة خُذُوا حِذْرَكُمْ دعوة للمؤمنين في كل زمان ومكان إلى حسن الاستعداد لمجابهة أعدائهم بشتى الأساليب وبمختلف الوسائل التي تجعل الأمة الإسلامية يرهبها أعداؤها سواء أكانوا في داخلها أم في خارجها.وقوله فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً تفريع على أخذ الحذر لأنهم إذا أخذوا حذرهم، عرفوا كيف يتخيرون أسلوب القتال المناسب لحال أعدائهم وقوله فَانْفِرُوا من النفر وهو الخروج إلى عمل من الأعمال بسرعة. ومنه قوله- تعالى- وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ .والمراد بقوله فَانْفِرُوا هنا: أى اخرجوا إلى قتال أعدائكم بهمة ونشاط.ويقال: نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا إذا نهضوا لقتال عدوهم. واستنفر الإمام الناس إذا حضهم على جهاد أعدائهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) . والنفير. اسم للقوم الذين ينفرون.وقوله ثُباتٍ جمع ثبة وهي الجماعة والعصبة من الفرسان. مأخوذة من ثبا يثبو أى اجتمع.والمعنى: استعدوا- أيها المؤمنون- لأعدائكم، وكونوا على يقظة منهم، وكونوا متأهبين للقائهم دائما بالإيمان القوى، وبالسلاح الذي يفل سلاحهم.هذا، وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كلام حسن في هذا المعنى، فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه: «الحذر: الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو، وذلك بأن نعرف حال العدو ومبلغ استعداده وقوته ومعرفة أرضه وبلاده وفي أمثال العرب (قتلت أرض جاهلها) . ويدخل في الحذر والاستعداد معرفة الأسلحة وكيفية استعمالها فكل ذلك وغيره يدخل تحت الأمر بأخذ الحذر.وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عارفين بأرض عدوهم، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم جواسيس يأتونه بأخبار مكة، ولما أخبروه بنقض قريش للعهد استعد لفتحها، وقال أبو بكر لخالد يوم حرب اليمامة (حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف، والرمح بالرمح) . وهذه كلمة جليلة فالقول وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كل ذلك دال على أن الاستعداد يختلف باختلاف حال العدو وقوته» .فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة خُذُوا حِذْرَكُمْ دعوة للمؤمنين في كل زمان ومكان إلى حسن الاستعداد لمجابهة أعدائهم بشتى الأساليب وبمختلف الوسائل التي تجعل الأمة الإسلامية يرهبها أعداؤها سواء أكانوا في داخلها أم في خارجها.وقوله فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً تفريع على أخذ الحذر لأنهم إذا أخذوا حذرهم، عرفوا كيف يتخيرون أسلوب القتال المناسب لحال أعدائهم وقوله فَانْفِرُوا من النفر وهو الخروج إلى عمل من الأعمال بسرعة. ومنه قوله- تعالى- وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ .والمراد بقوله فَانْفِرُوا هنا: أى اخرجوا إلى قتال أعدائكم بهمة ونشاط.ويقال: نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا إذا نهضوا لقتال عدوهم. واستنفر الإمام الناس إذا حضهم على جهاد أعدائهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) . والنفير. اسم للقوم الذين ينفرون.وقوله ثُباتٍ جمع ثبة وهي الجماعة والعصبة من الفرسان. مأخوذة من ثبا يثبو أى اجتمع.
وَ اِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَّیُبَطِّئَنَّۚ-فَاِنْ اَصَابَتْكُمْ مُّصِیْبَةٌ قَالَ قَدْ اَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَیَّ اِذْ لَمْ اَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِیْدًا(۷۲)
اور تم میں کوئی وہ ہے کہ ضرور دیر لگائے گا (ف۱۸۶) پھر اگر تم پر کوئی افتاد پڑے تو کہے خدا کا مجھ پر احسان تھا کہ میں ان کے ساتھ حاضر نہ تھا،
والتعبير بقوله لَيُبَطِّئَنَّ تعبير في أسمى درجات البلاغة والروعة، لأنه يصور الحركة النفسية للمنافقين وضعاف الإيمان وهم يشدون أنفسهم شدا، ويقدمون رجلا ويؤخرون أخرى عند ما يدعوهم داعي الجهاد إلى الخروج من أجل إعلاء كلمة الله.وقد اشتملت الجملة الكريمة على جملة مؤكدات، للاشعار بأن هؤلاء المنافقين لا يتركون فرصة تمرد دون أن يبثوا سمومهم بنشاط وإصرار، وأنهم حريصون كل الحرص على توهين عزائم المجاهدين، وحملهم على أن يكونوا مع القاعدين كما هو شأن المنافقين.والمراد بقوله مِنْكُمْ أى من جنسكم وممن يعيشون معكم ويساكنونكم، ويرتبطون معكم برباط القرابة، ويتظاهرون بالإسلام، فلقد كان المنافقون في المدينة تربطهم روابط متعددة بالمؤمنين الصادقين، كما هو معروف في التاريخ الإسلامى.فمثلا عبد الله بن أبى بن سلول- زعيم المنافقين- كان أحد أبنائه من المؤمنين الصادقين.وقد وجه القرآن الخطاب إلى المؤمنين لكي يكشف لهم عن المنافقين المندسين في صفوفهم لكي يحذروهم، قال صاحب الكشاف: واللام في قوله لَمَنْ للابتداء بمنزلتها في قوله إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وفي لَيُبَطِّئَنَّ جواب قسم محذوف تقديره: وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن وجوابه صلة من والضمير الراجع منها يعود إلى ما استكن في لَيُبَطِّئَنَّ. والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم» .وقوله فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً بيان لما انطوت عليه نفوس المنافقين من فساد، وما نطقت به ألسنتهم من سوء.أى: وإن من المتظاهرين بأنهم منكم- يا معشر المؤمنين- لمن يتثاقلون عن القتال ويعملون على أن يكون غيرهم مثلهم، فَإِنْ أَصابَتْكُمْ يا معشر المؤمنين مُصِيبَةٌ كهزيمة وقتية، أو استشهاد جماعة منكم قالَ هذا المنافق على سبيل الفرح والتشفي قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ أى: قد أكرمنى الله بالقعود إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أى حاضرا في المعركة، لأنى لو كنت حاضرا معهم لأصابنى ما أصابهم من القتل أو الجراح أو الآلام.فالآية الكريمة تحكى عن المنافقين أنهم يعتبرون قعودهم عن الجهاد نعمة، إذا ما أصاب المؤمنين مصيبة عند قتالهم لأعدائهم.
وَ لَىٕنْ اَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللّٰهِ لَیَقُوْلَنَّ كَاَنْ لَّمْ تَكُنْۢ بَیْنَكُمْ وَ بَیْنَهٗ مَوَدَّةٌ یّٰلَیْتَنِیْ كُنْتُ مَعَهُمْ فَاَفُوْزَ فَوْزًا عَظِیْمًا(۷۳)
اور اگر تمہیں اللہ کا فضل ملے (ف۱۸۷) تو ضرو ر کہے گویا تم اس میں کوئی دوستی نہ تھی اے کاش میں ان کے ساتھ ہوتا تو بڑی مراد پاتا،
أما إذا كانت الدولة للمؤمنين، وظفروا بالغنائم، فهنا يتمنى المنافقون أن لو كانوا معهم لينالوا بعض هذه الغنائم. واستمع إلى القرآن وهو يحكى عنهم ذلك فيقول: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ- يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً.أى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ يا معشر المؤمنين فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كفتح وغنيمة ونصر وظفر لَيَقُولَنَّ هذا المنافق على سبيل الندامة والحسرة والتهالك على حطام الدنيا، حالة كونه كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ليقولن: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ عند ما خرجوا للجهاد فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً بأن أحصل كما حصلوا على الغنائم الكثيرة.وهذا- كما يقول ابن جرير- خبر من الله- تعالى- ذكره عن هؤلاء المنافقين، أن شهودهم الحرب مع المسلمين- إن شهدوها- إنما هو لطلب الغنيمة وإن تخلفوا عنها فللشك الذي في قلوبهم، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابا، ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابا .وفي نسبة الفضل إلى الله في قوله وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ دون إصابة المصيبة تعليم لحسن الأدب مع الله- تعالى- وإن كان سبحانه- هو الخالق لكل شيء، فهو الذي يمنح الفضل لمن يشاء وهو الذي يمنعه عمن يشاء.وقوله كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جملة معترضة بين فعل القول الذي هو لَيَقُولَنَّ وبين المقول الذي هو يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ.وقد جيء بها على سبيل التهكم والسخرية والتعجب من حال المنافقين، لأنهم كان في إمكانهم أن يخرجوا مع المؤمنين للقتال، وأن ينالوا نصيبهم من الغنائم التي حصل عليها المؤمنون، ولكنهم لم يخرجوا لسوء نواياهم، فلما أظهروا التحسر لعدم الخروج بعد أن رأوا الغنائم في أيدى المؤمنين كان تحسرهم في غير موضعه لأن الذي يتحسر على فوات شيء عادة هو من لا علم له به أو بأسبابه، أما المنافقون فبسبب مخالطتهم وصحبتهم للمؤمنين كانوا على علم بقتال المؤمنين لأعدائهم، وكان في إمكانهم أن يخرجوا معهم.فكأن الله تعالى يقول للمؤمنين: انظروا وتعجبوا من شأن هؤلاء المنافقين إنهم عند ما أصابتكم مصيبه فرحوا، وعند ما انتصرتم وأصبتم الغنائم تحسروا وتمنوا أن لو كانوا معكم حتى لكأنهم لا علم لهم بالقتال الذي دار بينكم وبين أعدائكم، وحتى لكأنهم لا مخالطة ولا صحبة بينكم وبينهم مع أن علمهم بالقتال حاصل، ومخالطتهم لكم حاصلة فلم يتحسرون؟ إن قولهم: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ليدعو إلى التعجب من أحوالهم، والتحقير لسلوكهم، والدعوة عليهم بأن يزدادوا حسرة على حسرتهم.وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد أمرت المؤمنين بحسن الاستعداد للقاء أعدائهم في كل وقت، وكشفت لهم عن رذائل المنافقين الذين إذا أصابت المؤمنين مصيبة فرحوا لها، وإذا أصابهم فضل من الله تحسروا وحزنوا، وفي هذا الكشف فضيحة للمنافقين، وتحذير للمؤمنين من شرورهم.وبعد هذا التوبيخ الشديد للمتثاقلين عن الجهاد، أخذ القرآن الكريم في استنهاض الهمم والعزائم للجهاد في سبيل الله فقال- تعالى-:
فَلْیُقَاتِلْ فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِ الَّذِیْنَ یَشْرُوْنَ الْحَیٰوةَ الدُّنْیَا بِالْاٰخِرَةِؕ-وَ مَنْ یُّقَاتِلْ فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِ فَیُقْتَلْ اَوْ یَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِیْهِ اَجْرًا عَظِیْمًا(۷۴)
تو انہیں اللہ کی راہ میں لڑنا چاہئے جو دنیا کی زندگی بیچ کر آخرت لیتے ہیں اور جو اللہ کی راہ میں لڑے پھر مارا جائے یا غالب آئے تو عنقریب ہم اسے بڑا ثواب دیں گے،
والفاء في قوله فَلْيُقاتِلْ للإفصاح عن جواب شرط مقدر. أى إن أبطأ هؤلاء المنافقون والذين في قلوبهم مرض وتأخروا عن الجهاد والقتال، فليقاتل المؤمنون الصادقون الذين يَشْرُونَ أى يبيعون الحياة الدنيا بكل متعها وشهواتها من أجل الحصول على رضا الله- تعالى- في الآخرة.وقوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ تنبيه إلى أن هذا النوع من القتال هو المعتد به عند الله- تعالى-، لأن المؤمن الصادق لا يقاتل من أجل فخر أو مغنم أو اغتصاب حق غيره، وإنما يقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.وقوله وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً بيان للثواب العظيم الذي أعده الله- تعالى- للمجاهدين.أى: ومن يقاتل في سبيل الله ومن أجل إعلاء دينه، فيستشهد، أو يكون له النصر على عدوه، فسوف نؤتيه أجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا الله تعالى.. وإنما اقتصر- سبحانه على بيان حالتين بالنسبة للمقاتل وهي حالة الاستشهاد وحالة الغلبة على العدو، للإشعار بأن المجاهد الصادق لا يبغى من جهاده إلا هاتين الحالتين، فهو قد وطن نفسه حالة جهاده على الاستشهاد أو على الانتصار على أعداء الله، ومتى وطن نفسه على ذلك ثبت في قتاله، وأخلص في جهاده.وقدم- سبحانه- القتل على الغلب، للإيذان بأن حرص المجاهد المخلص على الاستشهاد في سبيل الله، أشد من حرصه على الغلب والنصر.والتعبير بسوف في قوله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً لتأكيد الحصول على الأجر العظيم في المستقبل.والجملة جواب الشرط وهو قوله وَمَنْ يُقاتِلْ وقوله فَيُقْتَلْ تفريع على فعل الشرط.ونكر- سبحانه- الأجر ووصفه بالعظم، للإشعار بأنه أجر لا يحده تعيين، ولا يبينه تعريف، ولا يعلم مقداره إلا الله- تعالى-.
وَ مَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُوْنَ فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِیْنَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَآءِ وَ الْوِلْدَانِ الَّذِیْنَ یَقُوْلُوْنَ رَبَّنَاۤ اَخْرِجْنَا مِنْ هٰذِهِ الْقَرْیَةِ الظَّالِمِ اَهْلُهَاۚ-وَ اجْعَلْ لَّنَا مِنْ لَّدُنْكَ وَلِیًّا ﳐ وَّ اجْعَلْ لَّنَا مِنْ لَّدُنْكَ نَصِیْرًاؕ(۷۵)
اور تمہیں کیا ہوا کہ نہ لڑو اللہ کی راہ میں (ف۱۸۹) اور کمزور مردوں اور عورتوں اور بچوں کے واسطے یہ دعا کررہے ہیں کہ اے ہمارے رب ہمیں اس بستی سے نکال جس کے لوگ ظالم ہیں اور ہمیں اپنے پاس سے کوئی حمایتی دے دے اور ہمیں اپنے پاس سے کوئی مددگار دے دے،
ثم حرض- سبحانه- المؤمنين على القتال بأبلغ أسلوب فقال: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ.فالخطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريقة الالتفات، مبالغة في التحريض عليه، وتأكيدا لوجوبه، وما اسم استفهام مبتدأ، والجار والمجرور وهو لَكُمْ خبره.وجملة لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال الاستقرار المقدر أو الظرف لتضمنه معنى الفعل.والمراد بالاستفهام تحريضهم على الجهاد، والإنكار عليهم في تركه مع توفر دواعيه، والمعنى:أى شيء جعلكم غير مقاتلين؟ إن عدم قتالكم لأعدائكم يتنافى مع إيمانكم، أما الذي يتناسب مع إيمانكم وطاعتكم لله فهو أن تقاتلوا من أجل إعلاء كلمة الله، ومن أجل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.فالآية الكريمة تحريض على الجهاد بأبلغ وجه، ونفى للاعتذار عنه.والمراد بالمستضعفين: الضعفاء من الناس وهم المسلمون الذين بقوا في مكة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لعدم قدرتهم على الهجرة أو لمنع المشركين إياهم من الخروج.وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين من المؤمنين.وقوله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ معطوف على قوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى: قاتلوا في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من ظلم المشركين لهم.وخصهم بالذكر مع أن القتال في سبيل الله يشملهم، لمزيد العناية بشأنهم، وللتحريض على القتال بحكم الشرف والمروءة بعد التحريض عليه بحكم الدين والتقرب إلى الله- تعالى-، لأن مروءة الإنسان الكريم تحمله على نصرة الضعيف، ومنع الاعتداء عليه.وقوله مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، بيان لهؤلاء المستضعفين.أى: قاتلوا- أيها المؤمنون- من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه، ومن أجل نصرة المستضعفين من الرجال الذين صدهم المشركون عن الهجرة، ومن النساء اللائي لا يملكن حولا ولا قوة. ومن الولدان الصغار الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.وفي النص على هؤلاء المستضعفين وخصوصا النساء والولدان، أقوى تحريض على الجهاد، وأعظم وسيلة لإثارة الحماس والنخوة من أجل القتال، لأنهم إذا تركوا هؤلاء المستضعفين أذلاء في أيدى المشركين، فإنهم سيعيرون بهم، وهذا ما يأباه كل شريف كريم.ثم حكى- سبحانه- ما كان يقوله المستضعفون فقال: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً.أى: قاتلوا- أيها المؤمنون- في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يضرعون إلى الله قائلين: يا ربنا أخرجنا من هذه القرية التي ظلمنا أهلها بسبب شركهم وكفرهم وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا.أى وسخر لنا من عندك حافظا يحفظ علينا ديننا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً. أى:وسخر لنا من عندك كذلك ناصرا يدفع عنا أذى أعدائنا، فأنت الذي لا يذل من استجار به، ولا يضعف من كنت نصيره ووليه.والمراد بالقرية الظالم أهلها: مكة. وقد وصف أهلها بأنهم ظالمون، ولم توصف هي بأنها ظالمة كما وصف غيرها من القرى كما في قوله- تعالى- وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها وذلك من باب التكريم لمكة، إذ هي حرم الله الآمن ولا يوصف حرم الله الآمن بالظلم ولو على سبيل المجاز.وقوله الظَّالِمِ أَهْلُها صفة للقرية، وأهلها مرفوع به على الفاعلية، وأل في الظالم موصولة بمعنى التي أى التي ظلم أهلها. فقوله الظَّالِمِ جار على القرية لفظا، وهو لما بعدها معنى نحو: مررت برجل حسن غلامه.وفي هذا النداء الذي تضرع به أولئك المستضعفون إلى خالقهم أسمى ألوان الأدب والإخلاص فهم يلتمسون منه- سبحانه- أن يخرجهم من بطش الظالمين وحكمهم، وأن يجعلهم تابعين للقوم الذين يحبهم ويحبونه، وهم المؤمنون، وأن يهيئ لهم النصر على أعدائهم وأعدائه.ولقد استجاب الله- تعالى- لهم دعاءهم، حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة، ورزق المؤمنين فتحا قريبا، وإلى ذلك أشار صاحب الكشاف بقوله: «والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين ... وكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه، فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولى وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتولاهم أحسن التولي، ونصرهم أقوى النصر.فإن قلت: لم يذكر الولدان: قلت: تسجيلا بإفراط ظلمهم، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم، ومبغضة لهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا، كما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء .
اَلَّذِیْنَ اٰمَنُوْا یُقَاتِلُوْنَ فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِۚ-وَ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا یُقَاتِلُوْنَ فِیْ سَبِیْلِ الطَّاغُوْتِ فَقَاتِلُوْۤا اَوْلِیَآءَ الشَّیْطٰنِۚ-اِنَّ كَیْدَ الشَّیْطٰنِ كَانَ ضَعِیْفًا۠(۷۶)
ایمان والے اللہ کی راہ میں لڑتے ہیں (ف۱۹۰) اور کفار شیطان کی راہ میں لڑتے ہیں تو شیطان کے دوستوں سے (ف۱۹۱) لڑو بیشک شیطان کا داؤ کمزور ہے (ف۱۹۲)
ثم ساق- سبحانه- لونا آخر من تحريضهم على الجهاد وهو تحديد الهدف الذي يقاتل من أجله كل فريق فقال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أى أنتم- أيها المؤمنون- إذا قاتلتم فإنما تقاتلون وغايتكم إعلاء كلمة الله، ونصرة الحق الذي جاء به رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم.أما أعداؤكم الكافرون فإنهم يقاتلون من أجل طاعة الشيطان الذي يأمرهم بكل بغى وطغيان، وإذا كان هذا حالكم وحالهم فعليكم- أيها المؤمنون- أن تقاتلوا أولياء الشيطان بكل قوة وصدق عزيمة إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أى. إن كيد الشيطان وتدبيره كان ضعيفا، لأن الشيطان ينصر أولياءه، والله- تعالى- ينصر أولياءه، ولا شك أن نصرة الله- تعالى- لأوليائه أقوى وأشد من نصرة الشيطان لأوليائه.فقوله- تعالى- الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد ببيان الغاية والهدف الذي يعمل من أجله كل فريق، وببيان أن المؤمنين ستكون عاقبتهم النصر والظفر لأن الله وليهم وناصرهم.والفاء في قوله فَقاتِلُوا للتفريع، أى إذا كانت تلك غايتكم أيها المؤمنون وتلك هي غاية أعدائكم فقاتلوهم بدون خوف أو وجل منهم لأن الله معكم بنصره وتأييده أما هم فالشيطان معهم بضعفه وفجوره.والمراد بكيد الشيطان تدبيره ووسوسته لأتباعه بالاعتداء على المؤمنين وتأليب الناس عليهم.قال الفخر الرازي: الكيد: السعى في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه، يقال: كاده يكيده إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه. وفائدة إدخال كانَ في قوله كانَ ضَعِيفاً للتأكيد لضعف كيده، يعنى أنه منذ كان، كان موصوفا بالضعف والذلة .وبذلك نرى أن هذه الآيات الثلاث قد شجعت المؤمنين على القتال بأبلغ أسلوب، وأشرف دافع، وأنبل غاية، فقد أمرتهم بالقتال إذا كانوا حقا من المؤمنين، الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، وبشرتهم برضا الله وحسن ثوابه سواء أقتلوا أم غلبوا واستنكرت عليهم أن يتثاقلوا عن القتال مع أن كل دواعي الدين والشرف والمروءة تدعوهم إليه، وبينت لهم أنه إذا كان الكافرون الذين الغاية من قتالهم نصرة الشيطان يقدمون على القتال، فأولى بالمؤمنين الذين الغاية من قتالهم نصرة الحق أن ينفروا خفافا وثقالا للجهاد في سبيل الله، ثم بشرتهم في النهاية بأن العاقبة لهم، لأن الكافرين يستندون إلى كيد الشيطان الضعيف الباطل، أما المؤمنون فيأوون إلى جناب الله الذي لا يخذل من اعتصم به، ولا يخيب من التجأ إليه.وبعد هذا التحريض الشديد من الله- تعالى- للمؤمنين على القتال في سبيله، حكى- سبحانه- على سبيل التعجيب حال طائفة من ضعاف الإيمان، كانوا قبل أن يفرض القتال عليهم يظهرون التشوق إليه. وبعد أن فرض عليهم جبنوا عنه، وقد وبخهم الله- تعالى- على هذا المسلك الذميم، فقال- سبحانه-:
اَلَمْ تَرَ اِلَى الَّذِیْنَ قِیْلَ لَهُمْ كُفُّوْۤا اَیْدِیَكُمْ وَ اَقِیْمُوا الصَّلٰوةَ وَ اٰتُوا الزَّكٰوةَۚ-فَلَمَّا كُتِبَ عَلَیْهِمُ الْقِتَالُ اِذَا فَرِیْقٌ مِّنْهُمْ یَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْیَةِ اللّٰهِ اَوْ اَشَدَّ خَشْیَةًۚ-وَ قَالُوْا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَیْنَا الْقِتَالَۚ-لَوْ لَاۤ اَخَّرْتَنَاۤ اِلٰۤى اَجَلٍ قَرِیْبٍؕ-قُلْ مَتَاعُ الدُّنْیَا قَلِیْلٌۚ-وَ الْاٰخِرَةُ خَیْرٌ لِّمَنِ اتَّقٰى- وَ لَا تُظْلَمُوْنَ فَتِیْلًا(۷۷)
کیا تم نے انہیں نہ دیکھا جن سے کہا گیا اپنے ہاتھ روک لو (ف۱۹۳) اور نماز قائم رکھو اور زکوٰة دو پھر جب ان پر جہاد فرض کیا گیا (ف۱۹۴) تو ان میں بعضے لوگوں سے ایسا ڈرنے لگے جیسے اللہ سے ڈرے یا اس سے بھی زائد (ف۱۹۵) اور بولے اے رب ہمارے! تو نے ہم پر جہاد کیوں فرض کردیا (ف۱۹۶) تھوڑی مدت تک ہمیں اور جینے دیا ہوتا، تم فرما دو کہ دنیا کا برتنا تھوڑا ہے (ف۱۹۷) اور ڈر والوں کے لئے آخرت اچھی اور تم پر تاگے برابر ظلم نہ ہوگا (ف۱۹۸)
والاستفهام في قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ للتعجيب من حال أولئك الذين كانوا يظهرون التشوق إلى القتال فلما فرض عليهم جبنوا عنه.وقوله كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ من الكف بمعنى الامتناع أى: امتنعوا عن مباشرة القتال إلى أن تؤمروا به.والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد أو ألم تنظر بعين الدهشة والغرابة إلى حال أولئك الذين كانوا يظهرون شدة الحماسة للقتال، فقيل لهم كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أى: عن القتال لأنكم لم تؤمروا به بعد وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فإن الصلاة تخلص النفس من أدران المآثم، وتجعلها تتجه إلى الله وحده وَآتُوا الزَّكاةَ فإن الزكاة تطهر النفوس من الشح والبخل، وتربط بين الناس برباط المحبة والتعاون.ثم بين- سبحانه- حالهم بعد أن فرض عليهم القتال فقال: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً.أى: فحين فرض عليهم القتال وأمروا بمباشرته بعد أن صارت للمسلمين دولة بالمدينة، حين حدث ذلك، إذا فريق منهم- وهم الذين قل إيمانهم، وضعف يقينهم، وارتابت قلوبهم- يَخْشَوْنَ النَّاسَ أى يخافونهم خوفا شديدا كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أى: يخافون من الكفار أن يقتلوهم كما يخافون من الله أن ينزل بهم بأسه، أو أشد من ذلك.فالمراد بالناس في قوله يَخْشَوْنَ النَّاسَ أولئك الأعداء الذين كتب الله على المؤمنين قتالهم.وعبر عن هؤلاء الأعداء بقوله النَّاسَ زيادة في توبيخ أولئك الذين خافوا منهم هذا الخوف الشديد، لأنهم لو كانوا مؤمنين حقا، لاستقبلوا ما فرضه الله عليهم بالسمع والطاعة، ولما خافوا هذا الخوف الشديد من أناس مثلهم.وقوله كَخَشْيَةِ اللَّهِ مفعول مطلق، أى يخشونهم خشية كخشية الله.وهو بيان لشدة خورهم وهلعهم، ولفساد تفكيرهم، حيث جعلوا خشيتهم للناس في مقابل خشيتهم لله، الذي يجب أن تكون خشيته- سبحانه- فوق كل خشية.وقوله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً معطوف على ما قبله. وأشد حال من خشية لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا.وفي هذه الجملة الكريمة زيادة في توبيخهم وذمهم وترق في توضيح حالتهم القبيحة، لأنه إذا كان من المقرر أنه لا يجوز للعاقل أن يجعل خشيته للناس كخشيته لله، فمن باب أولى لا يجوز له أن يجعل خشيته للناس أشد من خشيته لله- تعالى-.قال الفخر الرازي ما ملخصه: فإن قيل: ظاهر أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً يوهم الشك. وذلك على علام الغيوب محال. أجيب بأن أَوْ بمعنى بل. أو هي للتنويع. على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها أو هي للإبهام على السامع. على معنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة. وهو قريب مما في قوله- تعالى-: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ يعنى أن من يبصرهم يقول: أنهم مائة ألف أو يزيدونثم حكى- سبحانه- ما قاله أولئك الضعفاء عند ما فرض عليهم القتال فقال: وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.أى: أن هؤلاء الضعفاء لم يكتفوا بما اعتراهم من فزع وجزع عند ما كتب عليهم القتال وإنما أضافوا إلى ذلك أنهم قالوا على سبيل الضجر والألم: يا ربنا لم كتبت علينا القتال في هذا الوقت لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أى: هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت موتة لا قتال معها عند حضور آجالنا، دون أن نتعرض لهذا التكليف الثقيل المخيف.وهكذا يصور القرآن تخبط هؤلاء الضعفاء أكمل تصوير. إنهم قبل أن يفرض القتال يظهرون التحمس له، والتشوق لخوض معا معه، فإذا ما فرض عليهم القتال فزعوا وارتعدوا وقالوا ما قالوا من ضلال بضيق وهلع.ويبدو أن هذه طبيعة أكثر المتهورين في كل وقت، إنهم قبل أن يجد الجد أشد الناس حماسة للقاء الأعداء، فإذا ماجد الجد ووقعت الواقعة كانوا أول الفارين، وأول الناكصين على أعقابهم.وذلك لأن الشجعان العقلاء لا يتمنون لقاء الأعداء، ولا ينشئون القتال إنشاء، وإنما يقدرون الأمور حق قدرها، ويضعون الأشياء في مواضعها، فإذا ما اقتضت الضرورة خوض معركة من المعارك ثبتوا ثبات الأبطال.أما المندفعون بدون إيمان يدفعهم، أو عقل يرشدهم، فإنهم لعدم تقديرهم للأمور يكونون في ساعة الشدة أول الناس جزعا ونكولا وانهيارا.ولكن من هؤلاء الذين تحدثت عنهم الآية الكريمة ووصفتهم بأنهم حين كتب عليهم القتال «إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب..» ؟!!إن الذي يراجع أقوال المفسرين يرى أن بعضهم يميل إلى أن الآية الكريمة في شأن المؤمنين، ويرى أن بعضهم يرجح أنها في شأن المنافقين، وقد لخص الإمام الرازي هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال:«هذه الآية صفة للمؤمنين أو المنافقين؟ فيه قولان:الأول: أن الآية نزلت في المؤمنين. قال الكلبي: نزلت في عبد الرحمن بن عوف، والمقداد، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبى وقاص. كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجروا إلى المدينة، ويلقون من المشركين أذى شديدا، فيشكون ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كفوا أيديكم فإنى لم أومر بقتالهم، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية.ثم قال: واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم: كفوا عن القتال هم الراغبون في القتال والراغبون في القتال هم المؤمنون، فدل هذا على أن الآية في حق المؤمنين.. وأن كراهتهم للقتال إنما هي بمقتضى الجبلة البشرية ... وقولهم لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ محمول على التمني في التخفيف للتكليف لا على وجه الإنكار لإيجاب الله تعالى.ثم قال: والقول الثاني: أن الآية نازلة في حق المنافقين. واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الآية مشتملة على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين، لأن الله وصفهم بأنهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق إلا بالمنافق، لأن المؤمن لا يجوز أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله- تعالى- ولأنه- سبحانه- حكى عنهم أنهم قالوا: ربنا لما كتبت علينا القتال، والاعتراض على الله ليس إلا من صفة الكفار أو المنافقين، ولأن الله قال للرسول: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وهذا الكلام يذكر مع من كانت رغبته في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة، وذلك من صفات المنافقين.ثم قال. والأولى حمل الآية على المنافقين لأنه- سبحانه- ذكر بعد هذه الآية قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ولا شك أن هذا من كلام المنافقين، فإذا كانت هذه الآية معطوفة على الآية التي نحن في تفسيرها ثم المعطوف في المنافقين، وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضا .ونحن نوافق الإمام الرازي فيما ذهب إليه من أن حمل الآية الكريمة على أنها في المنافقين هو الأولى للأسباب التي ذكرها.ونضيف إلى ما ذكره الإمام الرازي أن المتأمل في سياق الآيات السابقة واللاحقة يراها واضحة في شأن المنافقين، ومن هم على شاكلتهم من ضعاف الايمان، الذين أدى بهم ضعف نفوسهم، وحبهم للدنيا إلى كراهة القتال، والخوف من تكاليفه ...فأنت إذا قرأت الآيات التي قبيل هذه الآية تراها تتحدث عن إرادة تحاكمهم إلى الطاغوت مع زعمهم الإيمان بما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل على الرسل من قبله. وتراها تتحدث عن تباطئهم عن القتال وفرحهم لنجاتهم من مخاطرة.ثم إذا قرأت الآيات التي تأتى بعد هذه الآية تراها تتحدث عن نسبتهم الحسنة إلى الله، ونسبتهم السيئة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعن إذاعتهم لأسرار المؤمنين ... ألخ، فثبت أن الآية الكريمة تتحدث عن صفات المنافقين، وعمن هم قريبو الشبه بهم من ضعاف الإيمان الذين أخلدوا إلى الراحة. وآثروا القعود في بيوتهم على القتال من أجل إعلاء كلمة الله، ودفع الظلم عن المظلومين.ونضيف أيضا أن القول الأول- الذي ذكره الإمام الرازي وهو أن الآية نزلت في المؤمنين- غير صحيح لأسباب من أهمها:1- أن الرواية التي ذكرها الإمام الرازي نقلا عن الكلبي وهي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف والمقداد وقدامة بن مظعون ... إلخ هذه الرواية يبدو عليها الضعف، لأنها لم ترد في كتب الحديث الموثوق بها، ولأن الكلبي نفسه قد عرف عنه عدم التثبت في النقل.ولقد علق الإمام الشيخ محمد عبده على هذه الرواية بقوله: «إننى أجزم ببطلان هذه الرواية مهما كان سندها، لأننى أبرئ السابقين الأولين كسعد وعبد الرحمن مما رموا به. وهذه الآية متصلة بما قبلها، فإن الله- تعالى- أمر بأخذ الحذر والاستعداد للقتال، والنفر له، وذكر حال المبطئين لضعف قلوبهم. وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمر الإسلام أتباعه بالسلم وتهذيب النفوس بالعبادة والكف عن الاعتداء والقتال.. إلى أن اشتدت الحاجة إليه ففرضه الله عليهم فكرهه الضعفاء منهم» .2- أن المؤمنين لم يعهد عنهم ما ذكرت الآية من خوف من القتال، ومن تمن لعدم حضوره، وإنما المعهود عنهم أنهم كانوا يبادرون إليه كلما اقتضت الضرورة ذلك ويتسابقون لخوض ساحته دفاعا عن دينهم، وانتصارا ممن بغى عليهم.ولقد قال المقداد بن عمرو للرسول صلى الله عليه وسلم. في غزوة بدر يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ...إلى غير ذلك من الأقوال والمواقف التي تدل على شجاعتهم وقوة إيمانهم.ولقد رجح الإمام القرطبي عند تفسيره للآية الكريمة أنها في المنافقين فقال: قال مجاهد:هي في اليهود. وقال الحسن: هي في المؤمنين لقوله «يخشون الناس» أى مشركي مكة «كخشية الله» فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. وقال السدى: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين. والمعنى: يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله «أو أشد خشبة» أى عندهم وفي اعتقادهم.ثم قال: قلت وهذا أشبه بسياق الآية لقوله ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابى كريم، يعلم أن الآجال محدودة، والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة، على ما هو المعروف من سيرتهم- رضى الله عنهم- اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه، ولا انشرح بالإسلام جنانه، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عما تؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة» .والخلاصة: أن الذي تطمئن إليه نفوسنا أن الآية الكريمة تحكى ما كان عليه المنافقون وضعاف الإيمان، من بعد عن طاعة الله، ومن جبن في النفوس ومن حب للحياة الدنيا وزينتها.وأن المؤمنين بعيدون كل البعد عما اشتملت عليه الآية الكريمة من صفات وأحوال لأن ما عرف عنهم من إيمان وإقدام ينأى بهم عن أن يكونوا ممن قال الله فيهم فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وعن أن يقولوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.هذا، وقوله- تعالى- قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا رد على التصرفات الذميمة، والأقوال الفاسدة التي صدرت عن المنافقين وضعاف الإيمان! وإرشاد من الله- تعالى- لعباده إلى أن متاع الحياة الدنيا قليل بالنسبة لما اشتملت عليه الآخرة من نعيم للمؤمنين الصادقين.والمتاع: اسم لما يتمتع به الإنسان في هذه الحياة من مال وغيره.والفتيل: هو الخيط الدقيق الذي يكون في شق نواة التمرة. ويضرب به المثل في القلة والتفاهة.والمعنى: قل- يا محمد- لهؤلاء الذين يخشون لقاء الأعداء، ويفزعون من القتال طمعا في التمتع بزينة الحياة الدنيا، قل لهم: إن منافع الدنيا ولذاتها قليلة مهما كبرت في أعينكم لأنها زائلة فانية، أما الآخرة بما فيها من نعيم دائم فهي خير ثوابا، وأعظم أجرا لمن اتقى الله، وجاهد في سبيله. وإذا كان الأمر كذلك فاجعلوا خشيتكم من الله وحده، وبادروا إلى الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، لكي تنالوا الثواب الجزيل من الله دون أن يذهب من ثوابكم شيئا مهما كان هذا الشيء ضئيلا أو قليلا، ودون أن ينقص من أعماركم شيئا لأن الجبن لا يؤخر الحياة كما أن الإقدام لا ينقص شيئا منها.
اَیْنَ مَا تَكُوْنُوْا یُدْرِكْكُّمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِیْ بُرُوْجٍ مُّشَیَّدَةٍؕ-وَ اِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ یَّقُوْلُوْا هٰذِهٖ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِۚ-وَ اِنْ تُصِبْهُمْ سَیِّئَةٌ یَّقُوْلُوْا هٰذِهٖ مِنْ عِنْدِكَؕ-قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللّٰهِؕ-فَمَالِ هٰۤؤُلَآءِ الْقَوْمِ لَا یَكَادُوْنَ یَفْقَهُوْنَ حَدِیْثًا(۷۸)
تم جہاں کہیں ہو موت تمہیں آلے گی (ف۱۹۹) اگرچہ مضبوط قلعوں میں ہو اور اُنہیں کوئی بھلائی پہنچے (ف۲۰۰) تو کہیں یہ اللہ کی طرف سے ہے اور انہیں کوئی برائی پہنچے (ف۲۰۱) تو کہیں یہ حضور کی طرف آئی (ف۲۰۲) تم فرمادو سب اللہ کی طرف سے ہے (ف۲۰۳) تو ان لوگوں کو کیا ہوا کوئی بات سمجھتے معلوم ہی نہیں ہوتے،
ثم بين- سبحانه- أنه لا مفر لهم من الموت، وأنهم مهما فروا منه فإنه سيلقاهم آجلا أو عاجلا فقال- تعالى-: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.والبروج: جمع برج وهو الحصن المنيع الذي هو نهاية ما يصل إليه البشر في التحصن والمنعة. وأصل البروج من التبرج بمعنى الظهور. يقال: تبرجت المرأة، إذا أظهرت محاسنها.والمراد بها الحصون والقلاع الشاهقة المنيعة.والمشيدة: أى المحكمة البناء، والعظيمة الارتفاع من شاد القصر إذا رفعه، والمعنى: إنكم أيها الخائفون من القتال إن ظننتم أن هذا الخوف منه أو القعود عنه سينجيكم من الموت، فأنتم بهذا الظن مخطئون، لأن الموت حيثما كنتم سيدرككم، ولو كنتم في أقوى الحصون، وأمنعها وأحكمها بناء، وما دام الأمر كذلك فليكن موتكم وأنتم مقبلون بدل أن تموتوا وأنتم مدبرون.والجملة الكريمة لا محل لها من الإعراب، لأنها مسوقة على سبيل الاستئناف لتبكيت هؤلاء الكارهين للقتال، وتحريض غيرهم من المؤمنين على الإقدام عليه من أجل نصرة الحق.ويحتمل أنها في محل نصب، فتكون داخلة في حيز القول المأمور به الرسول صلى الله عليه وسلم أى: قل لهم يا محمد متاع الدنيا قليل. وقل لهم أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ.وأين: اسم شرط جازم ظرف مكان يجزم فعلين، و «ما» زائدة للتأكيد، وتكونوا فعل الشرط ويدرككم جوابه.والتعبير بقوله يُدْرِكْكُمُ للإشعار بأن الموت كأنه كائن حي يطلب الإنسان ويتبعه حيثما كان، وفي أى وقت كان، فهو طالب لا بد أن يدرك ما يطلبه ولا بد أن يصل إليه مهما تحصن منه، أو هرب من لقائه.وجواب (لو) محذوف اعتمادا على دلالة ما قبله عليه أى: ولو كنتم في بروج مشيدة لأدرككم الموت.وقريب في المعنى من هذه الآية قوله- تعالى- قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وقوله- تعالى-: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ.فالجملة الكريمة صريحه في بيان أن الموت أمر لا مفر منه، ولا مهرب عنه سواء أقاتل الإنسان أم لم يقاتل. وما أحسن قول زهير بن أبى سلمى:ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلمثم حكى- سبحانه- ما كان يتفوه به المنافقون وإخوانهم في الكفر من باطل وزور فقال- تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.أى: إن هؤلاء المنافقين وأشباههم، من ضعاف الإيمان وإخوانهم في الكفر بلغ بهم الفجور أنهم إذا أصابتهم حال حسنة من نعمة أو رخاء أو خصب أو غنيمة أو ظفر قالوا هذه الحال من عند الله، وإذا أصابتهم حال سيئة من جدب أو مصيبة أو هزيمة قالوا هذه الحال من عندك يا محمد بسبب شؤمك وسوء قيادتك- وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم-.وهذا القول منهم قريب من قول قوم فرعون لموسى- عليه السلام- كما حكاه القرآن عنهم في قوله: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ.قال القرطبي: نزلت هذه الآية في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. قال ابن عباس: ومعنى مِنْ عِنْدِكَ أى: بسوء تدبيرك. وقيل مِنْ عِنْدِكَ أى بشؤمك الذي لحقنا، قالوه على جهة التطير» .وقوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد على مزاعمهم الباطلة. أى قل لهم يا محمد كل واحدة من النعمة والمصيبة هي من جهة الله- تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون:وقوله فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً جملة معترضة مسوقة لتعييرهم بالجهل والغباوة، والفاء في قوله فمال لترتيب ما بعدها على ما قبلها والمعنى. وإذا كان الأمر كذلك وهو أن كل شيء من عند الله، فمال هؤلاء القوم من المنافقين وإخوانهم في الكفر وضعف الإيمان لا يكادون- لانطماس بصيرتهم- يفقهون ما يلقى عليهم من مواعظ، ولا يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون، إذ لو فقهوا شيئا مما يوعظون به لعلموا أن الله هو القابض الباسط، وأنه المعطى المانع.قال- تعالى- ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
مَاۤ اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ٘-وَ مَاۤ اَصَابَكَ مِنْ سَیِّئَةٍ فَمِنْ نَّفْسِكَؕ-وَ اَرْسَلْنٰكَ لِلنَّاسِ رَسُوْلًاؕ-وَ كَفٰى بِاللّٰهِ شَهِیْدًا(۷۹)
اے سننے والے تجھے جو بھلائی پہنچے وہ اللہ کی طرف سے ہے (ف۲۰۴) اور جو برائی پہنچے وہ تیری اپنی طرف سے ہے (ف۲۰۵) اور اے محبوب ہم نے تمہیں سب لوگوں کے لئے رسول بھیجا (ف۲۰۶) اور اللہ کافی ہے گواہ (ف۲۰۷)
وقوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد كل مكلف من أمته.والمراد بالحسنة ما يسر له الإنسان ويفرح به، والمراد بالسيئة ما يسوءه ويحزنه.والمعنى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أى من نعمة وأمور حسنة تفرح بها فَمِنَ اللَّهِ أى فبتوفيقه لك وتفضله عليك، وإرشادك إلى الوسائل التي أوصلتك إلى ما يسرك. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أى من مصيبة أو غيرها مما يحزن فَمِنْ نَفْسِكَ أى: فمن نفسك بسبب وقوعها فيما نهى الله عنه، وتركها للأسباب الموصلة إلى النجاح، كما قال- تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.وروى الترمذي عن أبى موسى الأشعرى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصيب عبدا نكتة فما فوقها أو دونها إلا بذنب. وما يعفو الله عنه أكثر» . قال وقرأ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.وروى ابن عساكر عن البراء- رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم. وما يعفو الله أكثر» .وعلى هذا يكون قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ.. إلخ من كلام الله- تعالى- والخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به كل مكلف- كما سبق أن أشرنا- وقد ساقه- سبحانه- على سبيل الاستئناف ردا على مزاعم المنافقين ومن هم على شاكلتهم في الكفر وضعف الإيمان.وقيل إن هذه الآية حكاية من الله- تعالى- لأقوال المنافقين السابقة، فكأنهم لم يكتفوا بأن ينسبوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنه السبب فيما أصابهم من جدب وهزيمة. بل أضافوا إلى ذلك قولهم له:إن ما أصابك من حسنة فمن الله ولا فضل لك فيما نلت من نصر أو غنيمة، وما أصابك من سيئة أى هزيمة أو مصيبة فمن سوء صنعك وتصرفك.ومقصدهم من ذلك- قبحهم الله- تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من كل فضل، وإلقاء اللوم عليه في كل ما يصيبهم من مصائب.وقد أشار القرطبي إلى هذين القولين بقوله: قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. أى ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم أى من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم.وقيل: في الكلام حذف تقديره: يقولون. وعليه يكون الكلام متصلا، والمعنى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً حتى يقولوا ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ .وقال الجمل: فإن قلت: كيف وجه الجمع بين قوله- تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وبين قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فأضاف السيئة إلى فعل العبد في هذه الآية- بينما أضاف الكل إلى الله في الآية السابقة-؟قلت: أما إضافة الأشياء كلها إلى الله في الآية السابقة في قوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فعلى الحقيقة، لأن الله هو خالقها وموجدها. وأما إضافة السيئة إلى فعل العبد في قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فعلى سبيل المجاز. والتقدير: وما أصابك من سيئة فمن أجلها وبسبباقترافها الذنوب. وهذا لا ينافي أن خلقها من الله- كما سبق) .وقال بعض العلماء: والتوفيق بين قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ وبين قوله قبل ذلك: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو أن قوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كان موضوعه الكلام في تقدير الله. فهم إن انتصر المؤمنون لا ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم أى فضل، بل يجردونه من الفضل ويقولون هو من عند الله. وما قصدوا التفويض والإيمان بالقدر، بل قصدوا الغض من مقام النبوة. فإن كان هناك خير نسبوه إلى الله وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء وتمردا.فالله تعالى- قال لهم: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أى كل ذلك بتقدير الله وإرادته.أما قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فموضوعه اتخاذ الأسباب. ومعناه: أن من أخذ بالأسباب وتوكل على الله فالله- تعالى- يعطيه النتائج ومن لا يتخذ الأسباب، أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة، فإنه سيناله ما يسوؤه، وبسبب منه.فالأول: لبيان القدر.والثاني: لبيان العمل .هذا، وقوله- تعالى- وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بيان لجلال منصبه وعلو مكانته صلى الله عليه وسلم عند ربه- عز وجل- بعد بيان بطلان زعمهم الباطل في حقه عليه الصلاة والسلام.أى: وأرسلناك- يا محمد- بأمرنا وبشريعتنا لتبلغ الناس ما أمرناك بتبليغه، ولتخرجهم من ظلمات الجهالة والكفر إلى نور التوحيد والإيمان وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على صحة رسالتك، وعلى صدقك فيما تبلغه عنه، وإذا ثبت ذلك فالخير في طاعتك والشر والشؤم في مخالفتك.والمراد بالناس جميعهم. أى: وأرسلناك لجميع الناس كما قال- تعالى- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.وقوله رَسُولًا حال مؤكدة لعاملها وهو أرسلناك.وقوله وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً تثبيت وتقوية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم أى: امض في طريقك ولا تلتفت إلى أقوالهم، وكفى بالله عليك وعليهم شهيدا، فإنه- سبحانه- لا يخفى عليه أمرك وأمرهم.
مَنْ یُّطِعِ الرَّسُوْلَ فَقَدْ اَطَاعَ اللّٰهَۚ-وَ مَنْ تَوَلّٰى فَمَاۤ اَرْسَلْنٰكَ عَلَیْهِمْ حَفِیْظًاؕ(۸۰)
جس نے رسول کا حکم مانا بیشک اس نے اللہ کا حکم مانا (ف۲۰۸) اور جس نے منہ پھیرا (ف۲۰۹) تو ہم نے تمہیں ان کے بچانے کو نہ بھیجا
ثم بين- سبحانه- أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هي طاعة له فقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.أى: من يستجب لما يدعوه إليه محمد صلى الله عليه وسلم ويذعن لتعاليمه، فإنه بذلك يكون مطيعا لله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ لأمر الله ونهيه.وقوله وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً بيان لوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم.أى: من أطاعك يا محمد فقد أطاع الله، ومن أعرض عن طاعتك وعصى أمرك، فعلى نفسه يكون جانيا، لأننا ما أرسلناك على الناس حافظا ورقيبا لأعمالهم، وإنما أرسلناك مبلغا ومنذرا.وجواب الشرط في قوله وَمَنْ تَوَلَّى محذوف. أى ومن تولى فأعرض عنه فإنا ما أرسلناك عليهم حفيظا.قال الآلوسى: وقوله- تعالى- مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ بيان لإحكام رسالته إثر بيان تحققها. وإنما كان الأمر كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو الحق- سبحانه- والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهى فليست الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه. وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: من أحبنى فقد أحب الله، ومن أطاعنى فقد أطاع الله. فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل؟ لقد قارف الشرك، وهو نهى أن يعبد غير الله. ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى- عليه السلام- فنزلت » .ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك جانبا آخر من صفات المنافقين ومن على شاكلتهم من ضعاف الإيمان حتى يحذرهم المؤمنون الصادقون فقال- تعالى-:
- English | Ahmed Ali
- Urdu | Ahmed Raza Khan
- Turkish | Ali-Bulaç
- German | Bubenheim Elyas
- Chinese | Chineese
- Spanish | Cortes
- Dutch | Dutch
- Portuguese | El-Hayek
- English | English
- Urdu | Fateh Muhammad Jalandhry
- French | French
- Hausa | Hausa
- Indonesian | Indonesian-Bahasa
- Italian | Italian
- Korean | Korean
- Malay | Malay
- Russian | Russian
- Tamil | Tamil
- Thai | Thai
- Farsi | مکارم شیرازی
- العربية | التفسير الميسر
- العربية | تفسير الجلالين
- العربية | تفسير السعدي
- العربية | تفسير ابن كثير
- العربية | تفسير الوسيط لطنطاوي
- العربية | تفسير البغوي
- العربية | تفسير القرطبي
- العربية | تفسير الطبري
- English | Arberry
- English | Yusuf Ali
- Dutch | Keyzer
- Dutch | Leemhuis
- Dutch | Siregar
- Urdu | Sirat ul Jinan