READ

Surah al-Baqarah

اَلْبَقَرَة
286 Ayaat    مدنیۃ


2:161
اِنَّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا وَ مَاتُوْا وَ هُمْ كُفَّارٌ اُولٰٓىٕكَ عَلَیْهِمْ لَعْنَةُ اللّٰهِ وَ الْمَلٰٓىٕكَةِ وَ النَّاسِ اَجْمَعِیْنَۙ(۱۶۱)
بیشک وہ جنہوں نے کفر کیا اور کافر ہی مرے ان پر لعنت ہے اللہ اور فرشتوں اور آدمیوں سب کی، (ف۲۹۰)

قوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعينفيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : وهم كفار الواو واو الحال . قال ابن العربي : قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه ; لأن حاله عند الموافاة لا تعلم ، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة : الموافاة على الكفر ، وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمآلهم . قال ابن العربي : والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني . فلعنه ، وإن كان الإيمان والدين والإسلام مآله . وانتصف بقوله : ( عدد ما هجاني ) ولم يزد ليعلم العدل والإنصاف . وأضاف الهجو إلى الله تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك ، كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .قلت : أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك ، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول : ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان . قال علماؤنا : وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن ، وليس ذلك بواجب ، ولكنه مباح لمن فعله ، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله ، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا ، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء ، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه .الثانية : ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر ، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره ، كان الكافر ميتا أو مجنونا . وقال قوم من السلف : إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم ، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر ، فإنه لا يتأثر به .والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه ، فيكون ذلك جزاء على كفره ، كما قال تعالى : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ، ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله تعالى بلعنهم ، لا على الأمر . وذكر ابن العربي أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقا ، لما روي عن النبي أنه أتي بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضره : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم فجعل له حرمة الأخوة ، وهذا يوجب الشفقة ، وهذا حديث صحيح .قلت : خرجه البخاري ومسلم ، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في لعن العاصي المعين ، قال : وإنما قال عليه السلام : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه ، ومن أقيم عليه حد الله تعالى فلا ينبغي لعنه ، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سمي أو عين أم لا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن ، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه . وبين هذا قوله صلى الله عليه وسلم : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب . فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة ، والله تعالى أعلم .قال ابن العربي : وأما لعن العاصي مطلقا فيجوز إجماعا ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده .الثالثة : قوله تعالى : أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أي إبعادهم من رحمته . وأصل اللعن الطرد والإبعاد ، وقد تقدم . فاللعنة من العباد الطرد . ومن الله العذاب . وقرأ الحسن البصري : ( والملائكة والناس أجمعون ) بالرفع . وتأويلها : أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون ، كما تقول : كرهت قيام زيد وعمرو وخالد ; لأن المعنى : كرهت أن قام زيد . وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف .فإن قيل : ليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم ; قيل عن هذا ثلاثة أجوبة ; أحدها : أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل . الثاني : قال السدي : كل أحد يلعن الظالم ، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن نفسه . الثالث : قال أبو العالية : المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس ; كما قال تعالى : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا
2:162
خٰلِدِیْنَ فِیْهَاۚ-لَا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ یُنْظَرُوْنَ(۱۶۲)
ہمیشہ رہیں گے اس میں نہ ان پر سے عذاب ہلکا ہو اور نہ انہیں مہلت دی جائے،

ثم قال جل وعز : خالدين فيها يعني في اللعنة ، أي في جزائها . وقيل : خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم خالدين نصب على الحال من الهاء والميم في عليهم ، والعامل فيه الظرف من قوله : عليهم لأن فيها معنى استقرار اللعنة .
2:163
وَ اِلٰهُكُمْ اِلٰهٌ وَّاحِدٌۚ-لَاۤ اِلٰهَ اِلَّا هُوَ الرَّحْمٰنُ الرَّحِیْمُ۠(۱۶۳)
اور تمہارا معبود ایک معبود ہے (ف۲۹۱) اس کے سوا کوئی معبود نہیں مگر وہی بڑی رحمت والا مہربان

قوله تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم فيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : وإلهكم إله واحد لما حذر تعالى من كتمان الحق بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد ، ووصل ذلك بذكر البرهان ، وعلم طريق النظر ، وهو الفكر في عجائب الصنع ، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت كفار قريش : يا محمد انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى سورة " الإخلاص " وهذه الآية . وكان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما ، فبين الله أنه واحد .الثانية : قوله تعالى : لا إله إلا هو نفي وإثبات . أولها كفر وآخرها إيمان ، ومعناه لا معبود إلا الله . وحكي عن الشبلي رحمه الله أنه كان يقول : الله ، ولا يقول : لا إله ، فسئل عن ذلك فقال أخشى أن آخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار .قلت : وهذا من علومهم الدقيقة ، التي ليست لها حقيقة ، فإن الله جل اسمه ذكر هذا المعنى في كتابه نفيا وإثباتا وكرره ، ووعد بالثواب الجزيل لقائله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، خرجه الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهم . وقال صلى الله عليه وسلم : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة خرجه مسلم . والمقصود القلب لا اللسان ، فلو قال : لا إله ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات لكان من أهل الجنة باتفاق أهل السنة . وقد أتينا على معنى اسمه الواحد ، ولا إله إلا هو والرحمن الرحيم في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى . والحمد لله .
2:164
اِنَّ فِیْ خَلْقِ السَّمٰوٰتِ وَ الْاَرْضِ وَ اخْتِلَافِ الَّیْلِ وَ النَّهَارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِیْ تَجْرِیْ فِی الْبَحْرِ بِمَا یَنْفَعُ النَّاسَ وَ مَاۤ اَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ السَّمَآءِ مِنْ مَّآءٍ فَاَحْیَا بِهِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِیْهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ ۪-وَّ تَصْرِیْفِ الرِّیٰحِ وَ السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَیْنَ السَّمَآءِ وَ الْاَرْضِ لَاٰیٰتٍ لِّقَوْمٍ یَّعْقِلُوْنَ(۱۶۴)
بیشک آسمانوں (ف۲۹۲) اور زمین کی پیدائش اور رات و دن کا بدلتے آنا اور کشتی کہ دریا میں لوگوں کے فائدے لے کر چلتی ہے اور وہ جو اللہ نے آسمان سے پانی اتار کر مردہ زمین کو اس سے جِلا دیا اور زمین میں ہر قسم کے جانور پھیلائے اور ہواؤں کی گردش اور وہ بادل کہ آسمان و زمین کے بیچ میں حکم کا باندھا ہے ان سب میں عقلمندوں کے لئے ضرور نشانیاں ہیں،

قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون فيه أربع عشرة مسألة :الأولى : قال عطاء : لما نزلت وإلهكم إله واحد قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد ، فنزلت إن في خلق السماوات والأرض . ورواه سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال : لما نزلت وإلهكم إله واحد قالوا هل من دليل على ذلك ؟ فأنزل الله تعالى إن في خلق السماوات والأرض فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد ، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع . وجمع السماوات لأنها أجناس مختلفة ، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى . ووحد الأرض لأنها كلها تراب ، والله تعالى أعلم .فآية السماوات : ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها ، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة . ولو جاء نبي فتحدي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا . ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية .وآية الأرض : بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها .الثانية : قوله تعالى : واختلاف الليل والنهار قيل : اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم . وقيل : اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر . والليل جمع ليلة ، مثل تمرة وتمر ونخلة ونخل . ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى ، وهو مما شذ عن قياس الجموع ، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر ، وكأن ليالي في القياس جمع ليلاة . وقد استعملوا ذلك في الشعر قال :في كل يوم [ وما ] وكل ليلاةوقال آخر :في كل يوم ما وكل ليلاه حتى يقول كل راء إذ رآهيا ويحه من جمل ما أشقاهقال ابن فارس في المجمل : ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا ، ولا أعرفه والنهار يجمع نهر وأنهرة . قال أحمد بن يحيى ثعلب : نهر جمع نهر وهو جمع الجمع للنهار ، وقيل النهار اسم مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر ، كقولك الضياء ، يقع على القليل والكثير . والأول أكثر ، قال الشاعر :لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهرقال ابن فارس : النهار معروف ، والجمع نهر وأنهار . ويقال : إن النهار يجمع على النهر . والنهار : ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس . ورجل نهر : صاحب نهار . ويقال إن النهار فرخ الحبارى . قال النضر بن شميل : أول النهار طلوع الشمس ، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار . وقال ثعلب : أوله عند العرب طلوع الشمس ، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت .والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتوردوأنشد قول عدي بن زيد :وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلاوأنشد الكسائي :إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليك فسلميقال الزجاج في كتاب الأنواء : أول النهار ذرور الشمس . وقسم ابن الأنباري الزمن ثلاثة أقسام : قسما جعله ليلا محضا ، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . وقسما جعله نهارا محضا ، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها . وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار .قلت : والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، كما رواه ابن فارس في المجمل ، يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال له عدي : يا رسول الله ، إني أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالا أبيض وعقالا أسود ، أعرف بهما الليل من النهار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار . فهذا الحديث يقضي أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وهو مقتضى الفقه في الأيمان ، وبه ترتبط الأحكام . فمن حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه قبل طلوع الشمس حنث ، وعلى الأول لا يحنث . وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الفيصل في ذلك والحكم . وأما على ظاهر اللغة وأخذه من السنة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار ، كما قال [ هو قيس بن الخطيم ] :ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءهاوقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول ، خرجه النسائي . وسيأتي في آي الصيام إن شاء الله تعالى .الثالثة : قوله تعالى : والفلك التي تجري في البحر الفلك : السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد ، ويذكر ويؤنث . وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع ، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر ، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم : فلكان . والفلك المفرد مذكر ، قال تعالى : في الفلك المشحون فجاء به مذكرا ، وقال : والفلك التي تجري في البحر فأنث . ويحتمل واحدا وجمعا ، وقال : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة فجمع ، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر ، وإلى السفينة فيؤنث .وقيل : واحده فلك ، مثل أسد وأسد ، وخشب وخشب ، وأصله من الدوران ، ومنه : فلك السماء التي تدور عليه النجوم . وفلكت الجارية استدار ثديها ، ومنه فلكة المغزل . وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور .ووجه الآية في الفلك : تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها . وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى ، وقال له جبريل : اصنعها على جؤجؤ الطائر ، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل . فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله ابن العربي .الرابعة : هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة ، كالحج والجهاد . ومن السنة حديث أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء . الحديث . وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام ، أخرجهما الأئمة : مالك وغيره . روى حديث أنس عنه جماعة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ، ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس . هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار ، ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء ، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب . وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما المنع من ركوبه . والقرآن والسنة يرد هذا القول ، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا له : إنا نركب البحر . وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض وإليها المفزع . وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها ، وأما في أداء الفرائض فلا . ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين ، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها ، فسهل الله سبيله بالفلك ، قاله ابن العربي . قال أبو عمر : وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر ، وهو للجهاد لذلك أكره . والقرآن والسنة يرد قوله ، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال : إنما كره ذلك مالك لأن السفن بالحجاز صغار ، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها ، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا ، فلذلك كره مالك ذلك . وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس . قال : والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين ، نساء كانوا أو رجالا ، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن ، ولم يخص بحرا من بر .قلت : فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا : العبادة والتجارة ، فهي الحجة وفيها الأسوة . إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم ، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق ، وآخر يشق عليه ويضعف به ، كالمائد المفرط الميد ، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض ، فالأول ذلك له جائز ، والثاني يحرم عليه ويمنع منه . ولا خلاف بين أهل العلم وهي :الخامسة : إن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة ، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب ، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم ، والذين يهلكون فيه محصورون .السادسة : قوله تعالى : بما ينفع الناس أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم . وبركوب البحر تكتسب الأرباح ، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا . وقد قال بعض من طعن في الدين : إن الله تعالى يقول في كتابكم : ما فرطنا في الكتاب من شيء فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك ؟ فقيل له في قوله : بما ينفع الناس .السابعة : قوله تعالى : وما أنزل الله من السماء من ماء يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق ، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله ، كما قال تعالى : فأسكناه في الأرض .الثامنة : قوله تعالى : وبث فيها من كل دابة أي فرق ونشر ، ومنه كالفراش المبثوث ودابة تجمع الحيوان كله ، وقد أخرج بعض الناس الطير ، وهو مردود ، قال الله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته ، قال الأعشى :دبيب قطا البطحاء في كل منهلوقال علقمة بن عبدة :صواعقها لطيرهن دبيبالتاسعة : قوله تعالى : وتصريف الرياح تصريفها : إرسالها عقيما وملقحة ، وصرا ونصرا وهلاكا ، وحارة وباردة ، ولينة وعاصفة . وقيل : تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا ، ودبورا وصبا ، ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين . وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنهما ما يضر بهما ، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها ، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت . والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتي بالروح غالبا . روى أبو داود عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها . وأخرجه أيضا ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن الأوزاعي عن الزهري حدثنا ثابت الزرقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن . المعنى : أن الله تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح ، والإضافة من طريق الفعل . والمعنى : أن الله تعالى جعلها كذلك . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور . وهذا معنى ما جاء في الخبر أن الله سبحانه وتعالى فرج عن نبيه صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب ، فقال تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها . ويقال : نفس الله عن فلان كربة من كرب الدنيا ، أي فرج عنه . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة . أي فرج عنه . وقال الشاعر :كأن الصبا ريح إذا ما تنسمت على كبد مهموم تجلت همومهاقال ابن الأعرابي : النسيم أول هبوب الريح . وأصل الريح روح ، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح ، ولا يقال : أرياح ; لأنها من ذوات الواو ، وإنما قيل : رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها . وفي مصحف حفصة " وتصريف الأرواح " .العاشرة : وتصريف الرياح قرأ حمزة والكسائي " الريح " على الإفراد ، وكذا في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية ، لا خلاف بينهما في ذلك . ووافقهما ابن كثير في الأعراف والنمل والروم وفاطر والشورى . وأفرد حمزة " الريح لواقح " . وأفرد ابن كثير " وهو الذي أرسل الريح " في الفرقان وقرأ الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع . والذي ذكرناه في الروم هو الثاني الله الذي يرسل الرياح . ولا خلاف بينهم في الرياح مبشرات . وكان أبو جعفر يزيد بن القعقاع يجمع الرياح إذا كان فيها ألف ولام في جميع القرآن ، سوى تهوي به الريح والريح العقيم فإن لم يكن فيه ألف ولام أفرد . فمن وحد الريح فلأنه اسم للجنس يدل على القليل والكثير . ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح . ومن جمع مع الرحمة ووحد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن ، نحو : الرياح مبشرات والريح العقيم فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : وجرين بهم بريح طيبة . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا هبت الريح : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا . وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح . فأفردت مع الفلك في " يونس " ; لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب .الحادية عشرة : قال العلماء : الريح تحرك الهواء ، وقد يشتد ويضعف . فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح : " الصبا " . وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح : " الدبور " . وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها : " ريح الجنوب " . وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها : " ريح الشمال " . ولكل واحدة من هذه الرياح طبع ، فتكون منفعتها بحسب طبعها ، فالصبا حارة يابسة ، والدبور باردة رطبة ، والجنوب حارة رطبة ، والشمال باردة يابسة . واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة . وذلك أن الله تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء ، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حارا رطبا ، ورتب فيه النشء والنمو فتنزل فيه المياه ، وتخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها ، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع ، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان . فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة ، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة ; لأن الهواء في الصيف حار يابس ، فتنضج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع . فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس ، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة ; لأن الهواء في الخريف بارد يابس ، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار ، فتقطف الثمار وتحصد الأعناب وتفرغ من جمعها الأشجار . فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة ، ومباين له في الأخرى وهو اليبس ; لأن الهواء في الشتاء بارد رطب ، فتكثر الأمطار والثلوج وتهمد الأرض كالجسد المستريح ، فلا تتحرك إلا أن يعيد الله تبارك وتعالى إليها حرارة الربيع ، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشء والنمو بإذن الله سبحانه وتعالى . وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه ، إلا أن الأصول هذه الأربع . فكل ريح تهب بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى " النكباء " .الثانية عشرة : قوله تعالى : والسحاب المسخر بين السماء والأرض سمي السحاب سحابا لانسحابه في الهواء . وسحبت ذيلي سحبا . وتسحب فلان على فلان : اجترأ . والسحب : شدة الأكل والشرب . والمسخر : المذلل ، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر . وقيل : تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق ، والأول أظهر . وقد يكون بماء وبعذاب ، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبد الله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبد الله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها ؟ قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه . وفي رواية وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل . وفي التنزيل : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ، وقال : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت وهو في التنزيل كثير . وخرج ابن ماجه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول : اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به فإن أمطر قال : اللهم سيبا نافعا مرتين أو ثلاثا ، وإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله على ذلك . أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك . قالت عائشة : فسألته فقال : إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي . ويقول إذا رأى المطر : ( رحمة ) . في رواية فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا . فهذه الأحاديث والآي تدل على صحة القول الأول وأن تسخيرها ليس ثبوتها ، والله تعالى أعلم . فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال ، فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح ، لقوله بين وهي مع ذلك مسخرة محمولة ، وذلك أعظم في القدرة ، كالطير في الهواء ، قال الله تعالى : ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله وقال : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن .الثالثة عشرة : قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض ، رواه عنه ابن عباس . ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن علي عن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال : رأيت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بني سلمة فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فسأله ابن عباس : هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئا ؟ قال : نعم ، قال : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض . قال : سمعت كعبا يقول في الأرض تنبت العام نباتا ، وتنبت عاما قابلا غيره ؟ قال نعم ، سمعته يقول : إن البذر ينزل من السماء . قال ابن عباس : وقد سمعت ذلك من كعب .الرابعة عشرة : لآيات أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته ، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله : وإلهكم إله واحد ليدل على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه ، وذكر رحمته ورأفته بخلقه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها .فإن قيل : فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها . قيل له : هذا محال ; لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة ، فإن أحدثتها وهي معدومة كان محالا ، لأن الإحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد ، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك ، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث أنفسها . وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه وكذلك النجارة والنسج ، وذلك محال ، وما أدى إلى المحال محال . ثم إن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الأخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض والخطاب للكفار ، لقوله تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ، وقال : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض يعني بالملكوت الآيات . وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . يقول : أولم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات ، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه ، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم ، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال . وقال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين المؤمنون : 12 ] يعني آدم عليه السلام ، ثم جعلناه أي جعلنا نسله وذريته نطفة في قرار مكين إلى قوله تبعثون . فالإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة . كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما ، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال ; لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء ، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة ، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز . وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم ، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب ، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الأفعال بنفسه ، وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال ، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر . وقال بعض الحكماء : إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير ، الذي هو بدن الإنسان ، ولذلك قال تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة ، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها ، وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا من جنس الأرض ، وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن ، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس ، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء . وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض ، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار ; لأن العروق تستمد من الكبد . ومثانته بمنزلة البحر ، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر . وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض . وأعضاؤه كالأشجار ، فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر . والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان ، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان ، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد ، لا إله إلا هو .
2:165
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَّتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللّٰهِ اَنْدَادًا یُّحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللّٰهِؕ-وَ الَّذِیْنَ اٰمَنُوْۤا اَشَدُّ حُبًّا لِّلّٰهِؕ-وَ لَوْ یَرَى الَّذِیْنَ ظَلَمُوْۤا اِذْ یَرَوْنَ الْعَذَابَۙ-اَنَّ الْقُوَّةَ لِلّٰهِ جَمِیْعًاۙ-وَّ اَنَّ اللّٰهَ شَدِیْدُ الْعَذَابِ (۱۶۵)
اور کچھ لوگ اللہ کے سوا اور معبود بنالیتے ہیں کہ انہیں اللہ کی طرح محبوب رکھتے ہیں اور ایمان والوں کو اللہ کے برابر کسی کی محبت نہیں اور کیسے ہو اگر دیکھیں ظالم وہ وقت جب کہ عذاب ان کی آنکھوں کے سامنے آئے گا اس لئے کہ سارا زور خدا کو ہے اور اس لئے کہ اللہ کا عذاب بہت سخت ہے،

قوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذابلما أخبر الله سبحانه وتعالى في الآية قبل ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه أخبر أن مع هذه الآيات القاهرة لذوي العقول من يتخذ معه أندادا ، وواحدها ند ، وقد تقدم . والمراد الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة الله مع عجزها ، قاله مجاهد .قوله تعالى : يحبونهم كحب الله أي يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق ، قاله المبرد ، وقال معناه الزجاج . أي أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته . وقال ابن عباس والسدي : المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي الله . وجاء الضمير في يحبونهم على هذا على الأصل ، وعلى الأول جاء ضمير الأصنام ضمير من يعقل على غير الأصل . وقال ابن كيسان والزجاج أيضا : معنى يحبونهم كحب الله أي يسوون بين الأصنام وبين الله تعالى في المحبة . قال أبو إسحاق : وهذا القول الصحيح ، والدليل على صحته : والذين آمنوا أشد حبا لله وقرأ أبو رجاء يحبونهم بفتح الياء . وكذلك ما كان منه في القرآن ، وهي لغة ، يقال : حببت الرجل فهو محبوب . قال الفراء : أنشدني أبو تراب :أحب لحبها السودان حتى حببت لحبها سود الكلابومن في قوله من يتخذ في موضع رفع بالابتداء ويتخذ على اللفظ ، ويجوز في غير القرآن " يتخذون " على المعنى ويحبونهم على المعنى و " يحبهم " على اللفظ ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في يتخذ أي محبين ، وإن شئت كان نعتا للأنداد ، أي محبوبة . والكاف من كحب نعت لمصدر محذوف ، أي يحبونهم حبا كحب الله . والذين آمنوا أشد حبا لله أي أشد من حب أهل الأوثان لأوثانهم والتابعين لمتبوعهم . وقيل : إنما قال والذين آمنوا أشد حبا لله لأن الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه . ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم ، قال الله تعالى : يحبهم ويحبونه . وسيأتي بيان حب المؤمنين لله تعالى وحبه لهم في سورة " آل عمران " إن شاء الله تعالى .قوله تعالى : ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب قراءة أهل المدينة وأهل الشام بالتاء ، وأهل مكة وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء ، وهو اختيار أبي عبيد . وفي الآية إشكال وحذف ، فقال أبو عبيد : المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا . ويرى على هذا من رؤية البصر . قال النحاس في كتاب " معاني القرآن " له : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير . وقال في كتاب " إعراب القرآن " له : وروي عن محمد بن يزيد أنه قال : هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد ، وليست عبارته فيه بالجيدة ; لأنه يقدر : ولو يرى الذين ظلموا العذاب ، فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه الله تعالى ، ولكن التقدير وهو قول الأخفش : ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله . ويرى بمعنى يعلم ، أي لو يعلمون حقيقة قوة الله عز وجل وشدة عذابه ، ف يرى واقعة على أن القوة لله ، وسدت مسد المفعولين . والذين فاعل يرى ، وجواب لو محذوف ، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة ، كما قال عز وجل . ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ، ولو ترى إذ وقفوا على النار ولم يأت ل لو جواب . قال الزهري وقتادة : الإضمار أشد للوعيد ، ومثله قول القائل : لو رأيت فلانا والسياط تأخذه ومن قرأ بالتاء فالتقدير : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقروا أن القوة لله ، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى وهو العامل في أن . وتقدير آخر : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ، ولكن خوطب والمراد أمته ، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا . ويجوز أن يكون المعنى : قل يا محمد للظالم هذا . وقيل : أن في موضع نصب مفعول من أجله ، أي لأن القوة لله جميعا . وأنشد سيبويه :وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرماأي لادخاره ، والمعنى : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم . ودخلت " إذ " وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه . وقرأ ابن عامر وحده " يرون " بضم الياء ، والباقون بفتحها . وقرأ الحسن ويعقوب وشيبة وسلام وأبو جعفر " إن القوة ، و " إن الله " بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف أو على تقدير القول ، أي ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله . وثبت بنص هذه الآية القوة لله ، بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة ، تعالى الله عن قولهم .
2:166
اِذْ تَبَرَّاَ الَّذِیْنَ اتُّبِعُوْا مِنَ الَّذِیْنَ اتَّبَعُوْا وَ رَاَوُا الْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْاَسْبَابُ(۱۶۶)
جب بیزار ہوں گے پیشوا اپنے پیروؤں سے (ف۲۹۳) اور دیکھیں گے عذاب اور کٹ جائیں گی ان کی سب ڈوریں (ف۲۹۴)

قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسبابقوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا يعني السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر . عن قتادة وعطاء والربيع . وقال قتادة أيضا والسدي : هم الشياطين المضلون تبرءوا من الإنس . وقيل : هو عام في كل متبوع . ورأوا العذاب يعني التابعين والمتبوعين ، قيل : بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا . وقيل : عند العرض والمساءلة في الآخرة .قلت : كلاهما حاصل ، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان ، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال .قوله تعالى : وتقطعت بهم الأسباب أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره ، عن مجاهد وغيره . الواحد سبب ووصلة . وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه ، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا . وقال السدي وابن زيد : إن الأسباب أعمالهم . والسبب الناحية ، ومنه قول زهير :ومن هاب أسباب المنايا ينلنه وإن يرق أسباب السماء بسلم
2:167
وَ قَالَ الَّذِیْنَ اتَّبَعُوْا لَوْ اَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّاَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوْا مِنَّاؕ-كَذٰلِكَ یُرِیْهِمُ اللّٰهُ اَعْمَالَهُمْ حَسَرٰتٍ عَلَیْهِمْؕ-وَ مَا هُمْ بِخٰرِجِیْنَ مِنَ النَّارِ۠(۱۶۷)
اور کہیں گے پیرو کاش ہمیں لوٹ کر جانا ہوتا (دنیا میں) تو ہم ان سے توڑ دیتے جیسے انہوں نے ہم سے توڑ دی، یونہی اللہ انہیں دکھائے گا ان کے کام ان پر حسرتیں ہوکر (ف۲۹۵) اور وہ دوزخ سے نکلنے والے نہیں

قوله تعالى : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النارقوله تعالى : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة أن في موضع رفع ، أي لو ثبت أن لنا رجعة فنتبرأ منهم جواب التمني . والكرة : الرجعة والعودة إلى حال قد كانت ، أي قال الأتباع : لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم كما تبرءوا منا أي تبرؤا كما ، فالكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف . ويجوز أن يكون نصبا على الحال ، تقديرها متبرئين ، والتبرؤ الانفصال .قوله تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم الكاف في موضع رفع ، أي الأمر كذلك . أي كما أراهم الله العذاب كذلك يريهم الله أعمالهم . ويريهم الله قيل : هي ، من رؤية البصر ، فيكون متعديا لمفعولين : الأول الهاء والميم في يريهم ، والثاني أعمالهم ، وتكون حسرات حالا . ويحتمل أن يكون من رؤية القلب ، فتكون حسرات المفعول الثالث . أعمالهم قال الربيع : أي الأعمال الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار . وقال ابن مسعود والسدي : الأعمال الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة ، ورويت في هذا القول أحاديث . قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله تعالى ، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون . وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها ، وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها . والحسرة واحدة الحسرات ، كتمرة وتمرات ، وجفنة وجفنات ، وشهوة وشهوات . هذا إذا كان اسما ، فإن نعته سكنت ، كقولك : ضخمة وضخمات ، وعبلة وعبلات . والحسرة أعلى درجات الندامة على شيء فائت . والتحسر : التلهف ، يقال : حسرت عليه ( بالكسر ) أحسر حسرا وحسرة . وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته ، كالبعير إذا عيي .وقيل : هي مشتقة من حسر إذا كشف ، ومنه الحاسر في الحرب : الذي لا درع معه . والانحسار : الانكشاف .قوله تعالى : وما هم بخارجين من النار دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها . وهذا قول جماعة أهل السنة ، لهذه الآية ولقوله تعالى : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط . وسيأتي .
2:168
یٰۤاَیُّهَا النَّاسُ كُلُوْا مِمَّا فِی الْاَرْضِ حَلٰلًا طَیِّبًا ﳲ وَّ لَا تَتَّبِعُوْا خُطُوٰتِ الشَّیْطٰنِؕ-اِنَّهٗ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِیْنٌ(۱۶۸)
اے لوگوں کھاؤ جو کچھ زمین میں (ف۲۹۶) حلال پاکیزہ ہے اور شیطان کے قدم پر قدم نہ رکھو، بیشک وہ تمہارا کھلا دشمن ہے،

قوله تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبينفيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : يا أيها الناس الآية . قيل : إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام ، واللفظ عام . والطيب هنا الحلال ، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ ، وهذا قول مالك في الطيب . وقال الشافعي : الطيب المستلذ ، فهو تنويع ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر . وسيأتي بيان هذا في " الأنعام " و " الأعراف " إن شاء الله تعالى .الثانية : قوله تعالى : حلالا طيبا حلالا حال ، وقيل مفعول . وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الخطر عنه . قال سهل بن عبد الله : النجاة في ثلاثة : أكل الحلال ، وأداء الفرائض ، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو عبد الله الساجي واسمه سعيد بن يزيد : خمس خصال بها تمام العلم ، وهي : معرفة الله عز وجل ، ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله ، والعمل على السنة ، وأكل الحلال ، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل . قال سهل : ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم ، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال : الربا والحرام والسحت - وهو اسم مجمل - والغلول والمكروه والشبهة .الثالثة : ولا تتبعوا نهي خطوات الشيطان " خطوات " جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد . قال الفراء : الخطوات جمع خطوة ، بالفتح . وخطوة ( بالضم ) : ما بين القدمين . وقال الجوهري : وجمع القلة خطوات وخطوات وخطوات ، والكثير خطا . والخطوة ( بالفتح ) : المرة الواحدة ، والجمع خطوات ( بالتحريك ) وخطاء ، مثل ركوة وركاء ، قال امرؤ القيس :لها وثبات كوثب الظباء فواد خطاء وواد مطروقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير " خطوات " بفتح الخاء والطاء . وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش " خطؤات " بضم الخاء والطاء والهمزة على الواو . قال الأخفش : وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة ، من الخطأ لا من الخطو . والمعنى على قراءة الجمهور : ولا تقفوا أثر الشيطان وعمله ، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان . قال ابن عباس : خطوات الشيطان أعماله مجاهد : خطاياه . السدي : طاعته . أبو مجلز : هي النذور في المعاصي .قلت : والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي . وتقدم القول في " الشيطان " مستوفى .الرابعة : قوله تعالى : إنه لكم عدو مبين أخبر تعالى بأن الشيطان عدو ، وخبره حق وصدق . فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل : ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء وقال : ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وقال : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وقال : إنه عدو مضل مبين وقال : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير . وهذا غاية في التحذير ، ومثله في القرآن كثير . وقال عبد الله بن عمر : إن إبليس موثق في الأرض السفلى ، فإذا تحرك فإن كل شر في الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركه . وخرج الترمذي من حديث أبي مالك الأشعري وفيه : وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله الحديث . وقال فيه : حديث حسن صحيح غريب .
2:169
اِنَّمَا یَاْمُرُكُمْ بِالسُّوْٓءِ وَ الْفَحْشَآءِ وَ اَنْ تَقُوْلُوْا عَلَى اللّٰهِ مَا لَا تَعْلَمُوْنَ(۱۶۹)
وہ تو تمہیں یہی حکم دے گا بدی اور بے حیائی کا اور یہ کہ اللہ پر وہ بات جوڑو جس کی تمہیں خبر نہیں،

قوله تعالى : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون قوله تعالى : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء سمي السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه . وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه . وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن ، قال الله تعالى : سيئت وجوه الذين كفروا . وقال الشاعر :إن يك هذا الدهر قد ساءني فطالما قد سرني الدهر الأمر عندي فيهما واحدلذاك شكر ولذاك صبروالفحشاء أصله قبح المنظر ، كما قال :وجيد كجيد الريم ليس بفاحشثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني . والشرع هو الذي يحسن ويقبح ، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء . وقال مقاتل : إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى ، إلا قوله : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء فإنه منع الزكاةقلت : فعلى هذا قيل : السوء ما لا حد فيه ، والفحشاء ما فيه حد . وحكي عن ابن عباس وغيره ، والله تعالى أعلم .قوله تعالى : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون قال الطبري : يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعا . وأن تقولوا في موضع خفض عطفا على قوله تعالى : بالسوء والفحشاء .
2:170
وَ اِذَا قِیْلَ لَهُمُ اتَّبِعُوْا مَاۤ اَنْزَلَ اللّٰهُ قَالُوْا بَلْ نَتَّبِـعُ مَاۤ اَلْفَیْنَا عَلَیْهِ اٰبَآءَنَاؕ-اَوَ لَوْ كَانَ اٰبَآؤُهُمْ لَا یَعْقِلُوْنَ شَیْــٴًـا وَّ لَا یَهْتَدُوْنَ(۱۷۰)
اور جب ان سے کہا جائے اللہ کے اتارے پر چلو (ف۲۹۷) تو کہیں بلکہ ہم تو اس پر چلیں گے جس پر اپنے باپ دادا کو پایا کیا اگرچہ ان کے باپ دادا نہ کچھ عقل رکھتے ہوں نہ ہدایت (ف۲۹۸)

قوله تعالى : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدونفيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : وإذا قيل لهم يعني كفار العرب . ابن عباس : نزلت في اليهود . الطبري : الضمير في لهم عائد على الناس من قوله تعالى : يا أيها الناس كلوا . وقيل : هو عائد على من في قوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله الآية .قوله تعالى : اتبعوا ما أنزل الله أي بالقبول والعمل . قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ألفينا : وجدنا . وقال الشاعر :فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلاالثانية : قوله تعالى : أولو كان آباؤهم الألف للاستفهام ، وفتحت الواو لأنها واو عطف ، عطفت جملة كلام على جملة ; لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا : نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون ، فقرروا على التزامهم هذا ، إذ هي حال آبائهم .مسألة : قال علماؤنا : وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد ، ونظيرها : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا الآية . وهذه الآية والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما ، وذلك أن الله سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة ، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك ، وتركوا ما أنزل الله على رسوله وأمر به في دينه ، فالضمير في لهم عائد عليهم في الآيتين جميعا .الثالثة : تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل ، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية . وهذا في الباطل صحيح ، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين ، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر .واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي ، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح .الرابعة : التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة ، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا ، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا . وقيل : هو اعتقاد صحة فتيا من لا يعلم صحة قوله . وهو في اللغة مأخوذ من قلادة البعير ، فإن العرب تقول : قلدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به ، فكأن المقلد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء ، وكذلك قال شاعرهم :وقلدوا أمركم لله دركم ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعاالخامسة : التقليد ليس طريقا للعلم ولا موصلا له ، لا في الأصول ولا في الفروع ، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء ، خلافا لما يحكى عن جهال الحشوية والثعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق ، وأن ذلك هو الواجب ، وأن النظر والبحث حرام ، والاحتجاج عليهم في كتب الأصول .السادسة : فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه ، لقوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه ، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس . وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر ، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب ، فضاق الوقت عن ذلك ، وخاف على العبادة أن تفوت ، أو على الحكم أن يذهب ، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيا أو غيره ، وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين .السابعة : قال ابن عطية : أجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد . وذكر فيه غيره خلافا كالقاضي أبي بكر بن العربي وأبي عمر وعثمان بن عيسى بن درباس الشافعي . قال ابن درباس في كتاب " الانتصار " له : وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد ، وهو خطأ لقوله تعالى : إنا وجدنا آباءنا على أمة . فذمهم بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل ، كصنيع أهل الأهواء في تقليدهم كبراءهم وتركهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه ، ولأنه فرض على كل مكلف تعلم أمر التوحيد والقطع به ، وذلك لا يحصل إلا من جهة الكتاب والسنة ، كما بيناه في آية التوحيد ، والله يهدي من يريد .قال ابن درباس : وقد أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة أنهم مقلدون . وهذا خطأ منهم ، بل هو بهم أليق وبمذاهبهم أخلق ، إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فكانوا داخلين فيمن ذمهم الله بقوله : ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا إلى قوله : كبيرا وقوله : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . ثم قال لنبيه : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ثم قال لنبيه عليه السلام ( فانتقمنا منهم ) الآية . فبين تعالى أن الهدى فيما جاءت به رسله عليهم السلام . وليس قول أهل الأثر في عقائدهم : إنا وجدنا أئمتنا وآباءنا والناس على الأخذ بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح من الأمة ، من قولهم : إنا وجدنا آباءنا وأطعنا سادتنا وكبراءنا بسبيل ; لأن هؤلاء نسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول ، وأولئك نسبوا إفكهم إلى أهل الأباطيل ، فازدادوا بذلك في التضليل ، ألا ترى أن الله سبحانه أثنى على يوسف عليه السلام في القرآن حيث قال : إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس . فلما كان آباؤه عليه وعليهم السلام أنبياء متبعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله ، كان اتباعه آباءه من صفات المدح . ولم يجئ فيما جاءوا به ذكر الأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها ، فدل على أن لا هدى فيها ولا رشد في واضعيها .قال ابن الحصار : وإنما ظهر التلفظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما ترجمت كتب الأوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالم وحدوثه ، واختلافهم في الجوهر وثبوته ، والعرض وماهيته ، فسارع المبتدعون ومن في قلبه زيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات ، وقصدوا بها الإغراب على أهل السنة ، وإدخال الشبه على الضعفاء من أهل الملة . فلم يزل الأمر كذلك إلى أن ظهرت البدعة ، وصارت للمبتدعة شيعة ، والتبس الأمر على السلطان ، حتى قال الأمير بخلق القرآن ، وجبر الناس عليه ، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك .فانتدب رجال من أهل السنة كالشيخ أبي الحسن الأشعري وعبد الله بن كلاب وابن مجاهد والمحاسبي وأضرابهم ، فخاضوا مع المبتدعة في اصطلاحاتهم ، ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم وكان من درج من المسلمين من هذه الأمة متمسكين بالكتاب والسنة ، معرضين عن شبه الملحدين ، لم ينظروا في الجوهر والعرض ، على ذلك كان السلف .قلت : ومن نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين . فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين ، ويحض على درس كتب الكلام ، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين ، والله أعلم . وأما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
2:171
وَ مَثَلُ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا كَمَثَلِ الَّذِیْ یَنْعِقُ بِمَا لَا یَسْمَعُ اِلَّا دُعَآءً وَّ نِدَآءًؕ-صُمٌّۢ بُكْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لَا یَعْقِلُوْنَ(۱۷۱)
اور کافروں کی کہاوت اس کی سی ہے جو پکارے ایسے کو کہ خالی چیخ و پکار کے سوا کچھ نہ سنے (ف۲۹۹) بہرے، گونگے، اندھے تو انہیں سمجھ نہیں (ف۳۰۰)

قوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلونشبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم ما يقول ، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه ، وهذه نهاية الإيجاز . قال سيبويه : لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به . والمعنى : ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم ، فحذف لدلالة المعنى . وقال ابن زيد : المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى ، فهو يصيح بما لا يسمع ، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع . وقال قطرب : المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم ، يعني الأصنام ، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي . قال الطبري : المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه . ففي هذه التأويلات الثلاثة يشبه الكفار بالناعق الصائح ، والأصنام بالمنعوق به . والنعيق : زجر الغنم والصياح بها ، يقال : نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقانا ، أي صاح بها وزجرها . قال الأخطل :انعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالاقال القتبي : لم يكن جرير راعي ضأن ، وإنما أراد أن بني كليب يعيرون برعي الضأن ، وجرير منهم ، فهو في جهلهم . والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون : " أجهل من راعي ضأن " . قال القتبي : ومن ذهب إلى هذا في معنى الآية كان مذهبا ، غير أنه لم يذهب إليه أحد من العلماء فيما نعلم .والنداء للبعيد ، والدعاء للقريب ، ولذلك قيل للأذان بالصلاة نداء لأنه للأباعد . وقد تضم النون في النداء والأصل الكسر . ثم شبه تعالى الكافرين بأنهم صم بكم عمي . وقد تقدم في أول السورة .
2:172
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا كُلُوْا مِنْ طَیِّبٰتِ مَا رَزَقْنٰكُمْ وَ اشْكُرُوْا لِلّٰهِ اِنْ كُنْتُمْ اِیَّاهُ تَعْبُدُوْنَ(۱۷۲)
اے ایمان والو! کھاؤ ہماری دی ہوئی ستھری چیزیں اور اللہ کا احسان مانو اگر تم اسی کو پوجتے ہو (ف۳۰۱)

قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدونهذا تأكيد للأمر الأول ، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا . والمراد بالأكل الانتفاع من جميع الوجوه . وقيل : هو الأكل المعتاد . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وقال : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك . واشكروا لله إن كنتم إياه تقدم معنى الشكر فلا معنى للإعادة .
2:173
اِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیْكُمُ الْمَیْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِیْرِ وَ مَاۤ اُهِلَّ بِهٖ لِغَیْرِ اللّٰهِۚ-فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ بَاغٍ وَّ لَا عَادٍ فَلَاۤ اِثْمَ عَلَیْهِؕ-اِنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ(۱۷۳)
اس نے یہی تم پر حرام کئے ہیں مردار (ف۳۰۲) اور خون (ف۳۰۳) اور سُور کا گوشت (ف۳۰۴) اور وہ جانور جو غیر خدان کا نام لے کر ذبح کیا گیا (ف۳۰۵) تو جو نا چار ہو (ف۳۰۶) نہ یوں کہ خواہش سے کھائے اور نہ یوں کہ ضرورت سے آگے بڑھے تو اس پر گناہ نہیں، بیشک اللہ بخشنے والا مہربان ہے،

قوله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيمفيه أربع وثلاثون مسألة :الأولى : قوله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة إنما كلمة موضوعة للحصر ، تتضمن النفي والإثبات ، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه ، وقد حصرت ها هنا التحريم ، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم فأفادت الإباحة على الإطلاق ، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة إنما الحاصرة ، فاقتضى ذلك الإيعاب للقسمين ، فلا محرم يخرج عن هذه الآية ، وهي مدنية ، وأكدها بالآية الأخرى التي روي أنها نزلت بعرفة : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلى آخرها ، فاستوفى البيان أولا وآخرا ، قاله ابن العربي . وسيأتي الكلام في تلك في " الأنعام " إن شاء الله تعالى .الثانية : الميتة نصب ب حرم ، و " ما " كافة . ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي ، منفصلة في الخط ، وترفع الميتة والدم ولحم الخنزير على خبر " إن " وهي قراءة ابن أبي عبلة . وفي حرم ضمير يعود على الذي ، ونظيره قوله تعالى : إنما صنعوا كيد ساحر . وقرأ أبو جعفر " حرم " بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها ، إما على ما لم يسم فاعله ، وإما على خبر إن . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع أيضا " الميتة " بالتشديد . الطبري : وقال جماعة من اللغويين : التشديد والتخفيف في ميت ، وميت لغتان . وقال أبو حاتم وغيره : ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه " ميت " بالتخفيف ، دليله قوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون . وقال الشاعر :ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياءولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت ، إلا ما روى البزي عن ابن كثير " وما هو بميت " والمشهور عنه التثقيل ، وأما قول الشاعر :إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجئ بزادفلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت ، والأول أشهر .الثالثة : الميتة : ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح ، وما ليس بمأكول فذكاته كموته ، كالسباع وغيرها ، على ما يأتي بيانه هنا وفي " الأنعام " إن شاء الله تعالى .الرابعة : هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام : أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال . أخرجه الدارقطني وكذلك حديث جابر في العنبر يخصص عموم القرآن بصحة سنده . خرجه البخاري ومسلم مع قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر ، على ما يأتي بيانه هناك ، إن شاء الله تعالى .وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حيها وميتها ، وهو مذهب مالك . وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزيرا قال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولا أراه حراما .الخامسة : وقد اختلف الناس في تخصيص كتاب الله تعالى بالسنة ، ومع اختلافهم في ذلك اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف ، قاله ابن العربي . وقد يستدل على تخصيص هذه الآية أيضا بما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه . وظاهره أكله كيف ما مات بعلاج أو حتف أنفه ، وبهذا قال ابن نافع وابن عبد الحكم وأكثر العلماء ، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما . ومنع مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حتف أنفه ; لأنه من صيد البر ، ألا ترى أن المحرم يجزئه إذا قتله ، فأشبه الغزال . وقال أشهب : إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل ; لأنها حالة قد يعيش بها وينسل . وسيأتي لحكم الجراد مزيد بيان في " الأعراف " عند ذكره ، إن شاء الله تعالى .السادسة : واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات ، واختلف عن مالك في ذلك أيضا ، فقال مرة : يجوز الانتفاع بها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شاة ميمونة فقال : ( هلا أخذتم إهابها ) الحديث . وقال مرة : جملتها محرم ، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها ، ولا بشيء من النجاسات على وجه من وجوه الانتفاع ، حتى لا يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس ، ولا تعلف البهائم النجاسات ، ولا تطعم الميتة الكلاب والسباع ، وإن أكلتها لم تمنع . ووجه هذا القول ظاهر قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم ولم يخص وجها من وجه ، ولا يجوز أن يقال : هذا الخطاب مجمل ; لأن المجمل ما لا يفهم المراد من ظاهره ، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى : " حرمت عليكم الميتة " ، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تنتفعوا من الميتة بشيء . وفي حديث عبد الله بن عكيم لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب . وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر ، وسيأتي بيان هذه الأخبار والكلام عليها في " النحل " إن شاء الله تعالى .السابعة : فأما الناقة إذا نحرت ، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت ، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له في نفسه ، إلا أن يخرج حيا فيذكى ، ويكون له حكم نفسه ، وذلك أن الجنين إذا خرج منها بعد الذبح ميتا جرى مجرى العضو من أعضائها ، ومما يبين ذلك أنه لو باع الشاة واستثنى ما في بطنها لم يجز ، كما لو استثنى عضوا منها ، وكان ما في بطنها تابعا لها كسائر أعضائها ، وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقا مبتدأ ، ولو كان منفصلا عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق ، وقد روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البقرة والشاة تذبح ، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت ، فقال : إن شئتم فكلوه لأن ذكاته ذكاة أمه . خرجه أبو داود بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري وهو نص لا يحتمل ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " المائدة " إن شاء الله تعالى .الثامنة : واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة هل يطهر بالدباغ أو لا ، فروي عنه أنه لا يطهر ، وهو ظاهر مذهبه ، وروي عنه أنه يطهر ، لقوله عليه السلام أيما إهاب دبغ فقد طهر ، ووجه قوله : لا يطهر ، بأنه جزء من الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجسا ، فوجب ألا يطهره الدباغ قياسا على اللحم ، وتحمل الأخبار بالطهارة على أن الدباغ يزيل الأوساخ عن الجلد حتى ينتفع به في الأشياء اليابسة وفي الجلوس عليه ، ويجوز أيضا أن ينتفع به في الماء بأن يجعل سقاء ; لأن الماء على أصل الطهارة ما لم يتغير له وصف على ما يأتي من حكمه في سورة " الفرقان " ، والطهارة في اللغة متوجهة نحو إزالة الأوساخ كما تتوجه إلى الطهارة الشرعية ، والله تعالى أعلم .التاسعة : وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر ، لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل ; ولأنه كان طاهرا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت ، إلا أن اللحم لما كان نجسا في حال الحياة كان كذلك بعد الموت ، فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة استدلالا بالعكس ، ولا يلزم على هذا اللبن والبيضة من الدجاجة الميتة ; لأن اللبن عندنا طاهر بعد الموت ، وكذلك البيضة ، ولكنهما حصلا في وعاء نجس فتنجسا بمجاورة الوعاء لا أنهما نجسا بالموت . وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة " النحل " إن شاء الله تعالى .العاشرة : وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان : حالة تكون إن أخرجت الفأرة حية فهو طاهر ، وإن ماتت فيه فله حالتان : حالة يكون مائعا فإنه ينجس جميعه ، وحالة يكون جامدا فإنه ينجس ما جاورها ، فتطرح وما حولها ، وينتفع بما بقي وهو على طهارته ; لما رويأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن فتموت ، فقال عليه السلام : إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه ، واختلف العلماء فيه إذا غسل ، فقيل : لا يطهر بالغسل ; لأنه مائع نجس فأشبه الدم والخمر والبول وسائر النجاسات ، وقال ابن القاسم : يطهر بالغسل ; لأنه جسم تنجس بمجاورة النجاسة فأشبه الثوب ، ولا يلزم على هذا الدم ; لأنه نجس بعينه ، ولا الخمر والبول لأن الغسل يستهلكهما ولا يتأتى فيه .الحادية عشرة : فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته الأولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع ، لكن لا يبيعه حتى يبين ; لأن ذلك عيب عند الناس تأباه نفوسهم . ومنهم من يعتقد تحريمه ونجاسته ، فلا يجوز بيعه حتى يبين العيب كسائر الأشياء المعيبة ، وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال ، لأن النجاسات عنده لا يجوز بيعها ، ولأنه مائع نجس فأشبه الخمر ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ثمن الخمر فقال : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها وأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وهذا المائع محرم لنجاسته فوجب أن يحرم ثمنه بحكم الظاهر .الثانية عشرة : واختلف إذا وقع في القدر حيوان ، طائر أو غيره [ فمات ] فروى ابن وهب عن مالك أنه قال : لا يؤكل ما في القدر ، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه ، وروى ابن القاسم عنه أنه قال : يغسل اللحم ويراق المرق ، وقد سئل ابن عباس عن هذه المسألة فقال : يغسل اللحم ويؤكل ، ولا مخالف له في المرق من أصحابه ، ذكره ابن خويز منداد .الثالثة عشرة : فأما إنفحة الميتة ولبن الميتة فقال الشافعي : ذلك نجس لعموم قوله تعالى حرمت عليكم الميتة ، وقال أبو حنيفة بطهارتهما ، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجس ما جاوره مما حدث فيه خلقة ، قال : ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق ، مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعا . وقال مالك نحو قول أبي حنيفة إن ذلك لا ينجس بالموت ، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتى فيه الغسل ، وكذلك الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها ; لأن البيضة لينة في حكم المائع قبل خروجها ، وإنما تجمد وتصلب بالهواء .قال ابن خويز منداد فإن قيل : فقولكم يؤدي إلى خلاف الإجماع ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعده كانوا يأكلون الجبن وكان مجلوبا إليهم من أرض العجم ، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس ميتة ، ولم يعتدوا بأن يكون مجمدا بإنفحة ميتة أو ذكي . قيل له : قدر ما يقع من الإنفحة في اللبن المجبن يسير ، واليسير من النجاسة معفو عنه إذا خالط الكثير من المائع . هذا جواب على إحدى الروايتين . وعلى الرواية الأخرى إنما كان ذلك في أول الإسلام ، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم ، بل الجبن ليس من طعام العرب ، فلما انتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح لهم ، فمن أين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلت جبنا فضلا عن أن يكون محمولا من أرض العجم ومعمولا من إنفحة ذبائحهم .وقال أبو عمر : ولا بأس بأكل طعام عبدة الأوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لما فيه من إنفحة الميتة . وفي سنن ابن ماجه " الجبن والسمن " حدثنا إسماعيل بن موسى السدي حدثنا سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء . فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه .الرابعة عشرة : قوله تعالى : والدم اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به . قال ابن خويز منداد : وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى ، ومعفو عما تعم به البلوى ، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه ، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه . وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى قال : حرمت عليكم الميتة والدم وقال في موضع آخر قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا . فحرم المسفوح من الدم ، وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت : كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة ، والإصر والمشقة في الدين موضوع ، وهذا أصل في الشرع ، أن كلما حرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها فيه ، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة ، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك .قلت : ذكر الله سبحانه وتعالى الدم ها هنا مطلقا ، وقيده في الأنعام بقوله مسفوحا وحمل العلماء ها هنا المطلق على المقيد إجماعا . فالدم هنا يراد به المسفوح ; لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع ، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه ، وفي دم الحوت المزايل له اختلاف ، وروي عن القابسي أنه طاهر ، ويلزم على طهارته أنه غير محرم ، وهو اختيار ابن العربي ، قال : لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته .قلت : وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت ، سمعت بعض الحنفية يقول : الدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس ابيض بخلاف سائر الدماء فإنه يسود ، وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية .الخامسة عشرة : قوله تعالى : ولحم الخنزير خص الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها .السادسة عشرة : أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير ، وقد استدل مالك وأصحابه على أن من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث بأكل اللحم . فإن حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما حنث لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم ، فقد دخل الشحم في اسم اللحم ولا يدخل اللحم في اسم الشحم ، وقد حرم الله تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه ; لأنه دخل تحت اسم اللحم ، وحرم الله تعالى على بني إسرائيل الشحوم بقوله : حرمنا عليهم شحومهما فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في اسم الشحم ، فلهذا فرق مالك بين الحالف في الشحم والحالف في اللحم ، إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث والله تعالى أعلم ، ولا يحنث في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما ، وقال أحمد : إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل الشحم لا بأس به إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم .السابعة عشرة : لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به ، وقد روي أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخرازة بشعر الخنزير ، فقال : لا بأس بذلك ذكره ابن خويز منداد ، قال : ولأن الخرازة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ، وبعده موجودة ظاهرة ، لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده . وما أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه .الثامنة عشرة : لا خلاف في تحريم خنزير البر كما ذكرنا ، وفي خنزير الماء خلاف ، وأبى مالك أن يجيب فيه بشيء ، وقال : أنتم تقولون خنزيرا وقد تقدم ، وسيأتي بيانه في " المائدة " إن شاء الله تعالى .التاسعة عشرة : ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية . وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين ; لأنه كذلك ينظر ، واللفظة على هذا ثلاثية ، وفي الصحاح : وتخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر ، والخزر : ضيق العين وصغرها . رجل أخزر بين الخزر ، ويقال : هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخرها ، وجمع الخنزير خنازير . والخنازير أيضا علة معروفة ، وهي قروح صلبة تحدث في الرقبة .الموفية عشرين : قوله تعالى : وما أهل به لغير الله أي ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، وهي ذبيحة المجوسي والوثني والمعطل . فالوثني يذبح للوثن ، والمجوسي للنار ، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه ، ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره والوثني لوثنه لا يؤكل ، ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه ، وأجازهما ابن المسيب وأبو ثور إذا ذبح لمسلم بأمره ، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في سورة " المائدة " ، والإهلال : رفع الصوت ، يقال : أهل بكذا ، أي رفع صوته . قال ابن أحمر يصف فلاة :يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمروقال النابغة :أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجدومنه إهلال الصبي واستهلاله ، وهو صياحه عند ولادته ، وقال ابن عباس وغيره : المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان ، لا ما ذكر عليه اسم المسيح ، على ما يأتي بيانه في سورة " المائدة " إن شاء الله تعالى ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم ، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق فقال : إنها مما أهل لغير الله به ، فتركها الناس . قال ابن عطية : ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فنحرت جزورا ، فقال الحسن : لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم .قلت : ومن هذا المعنى ما رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال : أخبرنا جرير عن قابوس قال : أرسل أبي امرأة إلى عائشة رضي الله عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه ، وتسألها أية صلاة كانت أعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدوم عليها . قالت : كان يصلي قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود ، فأما ما لم يدع قط ، صحيحا ولا مريضا ولا شاهدا ، ركعتين قبل صلاة الغداة . قالت امرأة عند ذلك من الناس : يا أم المؤمنين ، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه ، أفنأكل منه شيئا ؟ قالت : أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم .الحادية والعشرون : قوله تعالى : فمن اضطر قرئ بضم النون للاتباع وبالكسر وهو الأصل لالتقاء الساكنين ، وفيه إضمار ، أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها ، فهو افتعل من الضرورة ، وقرأ ابن محيصن " فمن اطر " بإدغام الضاد في الطاء ، وأبو السمال " فمن اضطر " بكسر الطاء ، وأصله اضطرر فلما أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء .الثانية والعشرون : الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة ، والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك ، وهو الصحيح ، وقيل : معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات . قال مجاهد : يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى ، إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه .وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا ، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا ، كالتمر المعلق وحريسة الجبل ، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى ، وهذا مما لا اختلاف فيه ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة بعضاه الشجر فثبنا إليها فنادانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعنا إليه فقال : إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم بعد الله أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا قالوا لا ، فقال : إن هذه كذلك . قلنا : أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب ؟ فقال : كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل . خرجه ابن ماجه رحمه الله ، وقال : هذا الأصل عندي ، وذكره ابن المنذر قال : قلنا يا رسول الله ، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه ؟ قال : يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل . قال ابن المنذر : وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم الله الأموال . قال أبو عمر : وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم ، وتوجه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره قضي عليه بترميق تلك المهجة الآدمية ، وكان للممنوع منه ما له من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته ، وإن أتى ذلك على نفسه ، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير ، فحينئذ يتعين عليه الفرض ، فإن كانوا كثيرا أو جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية ، والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء . إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشيء على الذي ردت به مهجته ورمق به نفسه ، فأوجبها موجبون ، وأباها آخرون ، وفي مذهبنا القولان جميعا ، ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفيه البلغة .الثالثة والعشرون : خرج ابن ماجه أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شبابة ( ح ) وحدثنا محمد بن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس قال : سمعت عباد بن شرحبيل - رجلا من بني غبر - قال : أصابنا عاما مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال للرجل : ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرد إليه ثوبه ، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق .قلت : هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم ، إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا ، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكر أبو عمر رحمه الله ، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة . وقد روى أبو داود عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل . وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة . قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم وذكر من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق ، فقال : من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه . قال فيه : حديث حسن . وفي حديث عمر رضي الله عنه : إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ ثبانا . قال أبو عبيد قال أبو عمر : وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشيء ، فإن حملته بين يديك فهو ثبان ، يقال : قد تثبنت ثبانا ، فإن حملته على ظهرك فهو الحال ، يقال منه : قد تحولت كسائي إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك ، فإن جعلته في حضنك فهو خبنة ، ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع ولا يتخذ خبنة . يقال منه : خبنت أخبن خبنا . قال أبو عبيد : وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شيء معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته .قلت : لأن الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه ، فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام ، أو كما هو الآن في بعض البلدان ، فذلك جائز ، ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة ، كما تقدم والله أعلم .وإن كان الثاني وهو النادر في وقت من الأوقات ، فاختلف العلماء فيها على قولين : أحدهما : أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع ، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر ، وإذا وجد عنها غنى طرحها . قال معناه مالك في موطئه ، وبه قال الشافعي وكثير من العلماء ، والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده ، وحديث العنبر نص في ذلك ، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد ، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم ، فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر ، فقال أبو عبيدة أميرهم : ميتة . ثم قال : لا ، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله ، وقد اضطررتم فكلوا . قال : فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا ، الحديث ، فأكلوا وشبعوا - رضوان الله عليهم - مما اعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى المدينة ، وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حلال وقال : هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله ، وقالت طائفة . يأكل بقدر سد الرمق . وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا : المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه ، والمسافر يتضلع ويتزود : فإذا وجد غنى عنها طرحها ، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا ، فإن الميتة لا يجوز بيعها .الرابعة والعشرون : فإن اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف ، وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب ، وبه قال مالك في العتبية قال : ولا يزيده الخمر إلا عطشا . وهو قول الشافعي ، فإن الله تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا ، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة ، وقال الأبهري : إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها ; لأن الله تعالى قال في الخنزير فإنه رجس ثم أباحه للضرورة ، وقال تعالى في الخمر إنها رجس فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس ، ولا بد أن تروي ولو ساعة ، وترد الجوع ولو مدة .الخامسة والعشرون : روى أصبغ عن ابن القاسم أنه قال : يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر ، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل - وقاله ابن وهب - ويشرب البول ولا يشرب الخمر ; لأن الخمر يلزم فيها الحد فهي أغلظ . نص عليه أصحاب الشافعي .السادسة والعشرون : فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا ، فقيل : لا ، مخافة أن يدعي ذلك ، وأجاز ذلك ابن حبيب ; لأنها حالة ضرورة . ابن العربي : " أما الغاص بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى ، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها ، فيصدق إذا ظهر ذلك ، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا ، ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولحم ابن آدم أكل الميتة ; لأنها حلال في حال ، والخنزير وابن آدم لا يحل بحال ، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل ، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية ، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال ، وهذا هو الضابط لهذه الأحكام ، ولا يأكل ابن آدم ولو مات ، قاله علماؤنا ، وبه قال أحمد وداود . احتج أحمد بقوله عليه السلام : كسر عظم الميت ككسره حيا ، وقال الشافعي : يأكل لحم ابن آدم ، ولا يجوز له أن يقتل ذميا لأنه محترم الدم ، ولا مسلما ولا أسيرا لأنه مال الغير ، فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه ، وشنع داود على المزني بأن قال : قد أبحت أكل لحوم الأنبياء فغلب عليه ابن شريح بأن قال : فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر . قال ابن العربي : الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه ، والله أعلم .السابعة والعشرون : سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما ، فقال : إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله ، أكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا ، وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة ، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى ، وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي ، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة .الثامنة والعشرون : روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده ، فقال رجل : إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت ، فقالت امرأته : انحرها ، فأبى فنفقت ، فقالت : اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله ، فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله ، فقال : هل عندك غنى يغنيك قال لا ، قال : فكلوها قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها فقال : استحييت منك . قال ابن خويز منداد : في هذا الحديث دليلان : أحدهما : أن المضطر يأكل من الميتة وإن لم يخف التلف ، لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه ، والثاني : يأكل ويشبع ويدخر ويتزود ; لأنه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألا يشبع . قال أبو داود : وحدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا الفضل بن دكين قال أنبأنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال : سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما يحل لنا الميتة ؟ قال : ما طعامكم قلنا : نغتبق ونصطبح . قال أبو نعيم : فسره لي عقبة : قدح غدوة وقدح عشية قال : ذاك وأبي الجوع . قال : فأحل لهم الميتة على هذه الحال . قال أبو داود : الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار ، وقال الخطابي : الغبوق العشاء ، والصبوح الغداء ، والقدح من اللبن بالغداة ، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس ، وإن كان لا يغذي البدن ولا يشبع الشبع التام ، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة ، فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت . وإلى هذا ذهب مالك وهو أحد قولي الشافعي . قال ابن خويز منداد : إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا ويتزودوا ، وقال أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر : لا يجوز له أن يتناول من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه ، وإليه ذهب المزني . قالوا : لأنه لو كان في الابتداء بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئا ، فكذلك إذا بلغها بعد تناولها ، وروي نحوه عن الحسن . وقال قتادة : لا يتضلع منها بشيء ، وقال مقاتل بن حيان : لا يزداد على ثلاث لقم ، والصحيح خلاف هذا ، كما تقدم .التاسعة والعشرون : وأما التداوي بها فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة العين أو محرقة ، فإن تغيرت بالإحراق فقال ابن حبيب : يجوز التداوي بها والصلاة ، وخففه ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات ، وفي العتبية من رواية مالك في المرتك يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله . وإن كانت الميتة قائمة بعينها فقد قال سحنون : لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير ; لأن منها عوضا حلالا بخلاف المجاعة ، ولو وجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل ، وكذلك الخمر لا يتداوى بها ، قاله مالك ، وهو ظاهر مذهب الشافعي ، وهو اختيار ابن أبي هريرة من أصحابه ، وقال أبو حنيفة : يجوز شربها للتداوي دون العطش ، وهو اختيار القاضي الطبري من أصحاب الشافعي ، وهو قول الثوري ، وقال بعض البغداديين من الشافعية : يجوز شربها للعطش دون التداوي ، لأن ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي ، وقيل : يجوز شربها للأمرين جميعا ، ومنع بعض أصحاب الشافعي التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة ، لحديث العرنيين ، ومنع بعضهم التداوي بكل محرم ، لقوله عليه السلام : إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم ، ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال ، إنما أصنعها للدواء ، فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء . رواه مسلم في الصحيح ، وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار ، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه ، والله أعلم .الموفية ثلاثين : غير باغ غير نصب على الحال ، وقيل : على الاستثناء ، وإذا رأيت غير يصلح في موضعه " في " فهي حال ، وإذا صلح موضعها " إلا " فهي استثناء ، فقس عليه . وباغ أصله باغي ، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن ، فحذفت الياء والكسرة تدل عليها ، والمعنى فيما قال قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة غير باغ في أكله فوق حاجته ، ولا عاد بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها وقال السدي : غير باغ في أكلها شهوة وتلذذا ، ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع ، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما : المعنى غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم ، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله ، وهذا صحيح ، فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد ، يقال : بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت ، قال الله تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد . والعرب تقول : خرج الرجل في بغاء إبل له ، أي في طلبها ، ومنه قول الشاعر :إن الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائمالحادية والثلاثون : قوله تعالى : ولا عاد أصل عاد عائد ، فهو من المقلوب ، كشاكي السلاح وهار ولاث ، والأصل شائك وهائر ولائث ، من لثت العمامة ، فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات كما بينا ، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم .الثانية والثلاثون : واختلف العلماء إذا اقترن بضرورته معصية بقطع طريق وإخافة سبيل ، فحظرها عليه مالك والشافعي في أحد قوليه لأجل معصيته ; لأن الله سبحانه أباح ذلك عونا ، والعاصي لا يحل أن يعان ، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل . وأباحها له أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر له ، وسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته . قال ابن العربي : وعجبا ممن يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية ، وما أظن أحدا يقوله ، فإن قاله فهو مخطئ قطعا .قلت : الصحيح خلاف هذا ، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه ، قال الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم وهذا عام ، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان ، وقد قال مسروق : من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار ، إلا أن يعفو الله عنه . قال أبو الحسن الطبري المعروف بإلكيا : وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة ، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا ، وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا ، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا ، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء . قال : وهو الصحيح عندنا .قلت : واختلفت الروايات عن مالك في ذلك ، فالمشهور من مذهبه فيما ذكره الباجي في المنتقى : أنه يجوز له الأكل في سفر المعصية ولا يجوز له القصر والفطر وقال ابن خويز منداد : فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء ; لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر ، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما ، وليس كذلك الفطر والقصر ; لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر ، فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر فيه ، لأن هذه الرخصة تختص بالسفر ، ولذلك قلنا : إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية ; لأن التيمم في الحضر والسفر سواء . وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ارتكبها ، وفي تركه الأكل تلف نفسه ، وتلك أكبر المعاصي ، وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة . أيجوز أن يقال له : ارتكبت معصية فارتكب أخرى ؟ أيجوز أن يقال لشارب الخمر : ازن ؟ وللزاني : اكفر ؟ أو يقال لهما : ضيعا الصلاة ؟ ذكر هذا كله في أحكام القرآن له ، ولم يذكر خلافا عن مالك ولا عن أحد من أصحابه . وقال الباجي : " وروى زياد بن عبد الرحمن الأندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة ، ويفطر في رمضان ، فسوى بين ذلك كله ، وهو قول أبي حنيفة ، ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن الأكل ، وأنه مأمور بالأكل على وجه الوجوب ، ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصيام والصلاة ، بل يلزمه الإتيان بها ، فكذلك ما ذكرناه . وجه القول الأول أن هذه المعاني إنما أبيحت في الأسفار لحاجة الناس إليها ، فلا يباح له أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألا يقتل نفسه . قال ابن حبيب : وذلك بأن يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته ، وتعلق ابن حبيب في ذلك بقوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا ، والمسافر على وجه الحرابة أو القطع ، أو في قطع رحم أو طالب إثم - باغ ومعتد ، فلم توجد فيه شروط الإباحة ، والله أعلم .قلت : هذا استدلال بمفهوم الخطاب ، وهو مختلف فيه بين الأصوليين ، ومنظوم الآية أن المضطر غير باغ ولا عاد لا إثم عليه ، وغيره مسكوت عنه ، والأصل عموم الخطاب ، فمن ادعى زواله لأمر ما فعليه الدليل .الرابعة والثلاثون : قوله تعالى : فإن الله غفور رحيم أي يغفر المعاصي ، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه ، ومن رحمته أنه رخص .
2:174
اِنَّ الَّذِیْنَ یَكْتُمُوْنَ مَاۤ اَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ الْكِتٰبِ وَ یَشْتَرُوْنَ بِهٖ ثَمَنًا قَلِیْلًاۙ-اُولٰٓىٕكَ مَا یَاْكُلُوْنَ فِیْ بُطُوْنِهِمْ اِلَّا النَّارَ وَ لَا یُكَلِّمُهُمُ اللّٰهُ یَوْمَ الْقِیٰمَةِ وَ لَا یُزَكِّیْهِمْۖ-ۚ وَ لَهُمْ عَذَابٌ اَلِیْمٌ(۱۷۴)
وہ جو چھپاتے ہیں (ف۳۰۸) اللہ کی کتاب اور اسکے بدلے ذلیل قیمت لیتےہیں وہ اپنے پیٹ میں آگ ہی بھرتے ہیں (ف۳۰۹) اور اللہ قیامت کے دن ان سے بات نہ کرے گا اور نہ انہیں ستھرا کرے، اور ان کے لئے دردناک عذاب ہے،

قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليمقوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب يعني علماء اليهود ، كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته ، ومعنى أنزل : أظهر ، كما قال تعالى : ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله أي سأظهر ، وقيل : هو على بابه من النزول ، أي ما أنزل به ملائكته على رسله . ويشترون به أي بالمكتوم ثمنا قليلا يعني أخذ الرشاء ، وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته ، وقيل : لأن ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا .قلت : وهذه الآية وإن كانت في الأخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها ، وقد تقدم هذا المعنى .قوله تعالى : في بطونهم ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل ، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي ونحوه ، وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له .ومعنى إلا النارأي إنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار ، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لأنه يؤديهم إلى النار ، هكذا قال أكثر المفسرين . وقيل : أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ، فأخبر عن المآل بالحال ، كما قال تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا أي أن عاقبته تئول إلى ذلك ، ومنه قولهم :لدوا للموت وابنوا للخرابقال : فللموت ما تلد الوالدةآخر :ودورنا لخراب الدهر نبنيهاوهو في القرآن والشعر كثير .قوله تعالى : ولا يكلمهم الله يوم القيامة عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم ، يقال : فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه ، وقال الطبري : المعنى ولا يكلمهم بما يحبونه ، وفي التنزيل اخسئوا فيها ولا تكلمون ، وقيل : المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية . ولا يزكيهم أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم ، وقال الزجاج : لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء . أليم بمعنى مؤلم ، وقد تقدم ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر . وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي ، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة ، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم ، ومعنى لا ينظر إليهم لا يرحمهم ولا يعطف عليهم ، وسيأتي في " آل عمران " إن شاء الله تعالى .
2:175
اُولٰٓىٕكَ الَّذِیْنَ اشْتَرَوُا الضَّلٰلَةَ بِالْهُدٰى وَ الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِۚ-فَمَاۤ اَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ(۱۷۵)
وہ لوگ ہیں جنہوں نے ہدایت کے بدلے گمراہی مول لی اور بخشش کے بدلے عذاب، تو کس درجہ انہیں آگ کی سہار (برداشت) ہے

قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النارقوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة تقدم القول فيه ، ولما كان العذاب تابعا للضلالة وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه دخلا في تجوز الشراء .قوله تعالى : فما أصبرهم على النار مذهب الجمهور - منهم الحسن ومجاهد - أن " ما " معناه التعجب وهو مردود إلى المخلوقين ، كأنه قال : اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها ، وفي التنزيل : قتل الإنسان ما أكفره و أسمع بهم وأبصر . وبهذا المعنى صدر أبو علي . قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع : ما لهم والله عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على النار وهي لغة يمنية معروفة . قال الفراء أخبرني الكسائي قال : أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف ، فقال له صاحبه : ما أصبرك على الله ؟ أي ما أجرأك عليه ، والمعنى : ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها ، وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار ، من قولهم : ما أصبر فلانا على الحبس أي ما أبقاه فيه ، وقيل : المعنى فما أقل جزعهم من النار ، فجعل قلة الجزع صبرا وقال الكسائي وقطرب : أي ما أدومهم على عمل أهل النار ، وقيل : " ما " استفهام معناه التوبيخ ، قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة معمر بن المثنى ، ومعناه : أي أي شيء صبرهم على عمل أهل النار ؟ وقيل : هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم .
2:176
ذٰلِكَ بِاَنَّ اللّٰهَ نَزَّلَ الْكِتٰبَ بِالْحَقِّؕ-وَ اِنَّ الَّذِیْنَ اخْتَلَفُوْا فِی الْكِتٰبِ لَفِیْ شِقَاقٍۭ بَعِیْدٍ۠(۱۷۶)
یہ اس لئے کہ اللہ نے کتاب حق کے ساتھ اتاری، اور بے شک جو لوگ کتاب میں اختلاف ڈالنے لگے (ف۳۱۰) وہ ضرور پرلے سرے کے جھگڑالو ہیں،

قوله تعالى : ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد قوله تعالى : ذلك ذلك في موضع رفع ، وهو إشارة إلى الحكم ، كأنه قال : ذلك الحكم بالنار ، وقال الزجاج : تقديره الأمر ذلك ، أو ذلك الأمر ، أو ذلك العذاب لهم . قال الأخفش : وخبر ذلك مضمر ، معناه ذلك معلوم لهم ، وقيل : محله نصب ، معناه فعلنا ذلك بهم .بأن الله نزل الكتاب يعني القرآن في هذا الموضع بالحق أي بالصدق . وقيل بالحجة . وإن الذين اختلفوا في الكتاب يعني التوراة ، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى ، وأنكر اليهود صفته ، وقيل : خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها . وقيل : خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيها ، وقيل : المراد القرآن ، والذين اختلفوا كفار قريش ، يقول بعضهم : هو سحر ، وبعضهم يقول : أساطير الأولين ، وبعضهم : مفترى ، إلى غير ذلك . وقد تقدم القول في معنى الشقاق ، والحمد لله .
2:177
لَیْسَ الْبِرَّ اَنْ تُوَلُّوْا وُجُوْهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اٰمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْیَوْمِ الْاٰخِرِ وَ الْمَلٰٓىٕكَةِ وَ الْكِتٰبِ وَ النَّبِیّٖنَۚ-وَ اٰتَى الْمَالَ عَلٰى حُبِّهٖ ذَوِی الْقُرْبٰى وَ الْیَتٰمٰى وَ الْمَسٰكِیْنَ وَ ابْنَ السَّبِیْلِۙ-وَ السَّآىٕلِیْنَ وَ فِی الرِّقَابِۚ-وَ اَقَامَ الصَّلٰوةَ وَ اٰتَى الزَّكٰوةَۚ-وَ الْمُوْفُوْنَ بِعَهْدِهِمْ اِذَا عٰهَدُوْاۚ-وَ الصّٰبِرِیْنَ فِی الْبَاْسَآءِ وَ الضَّرَّآءِ وَ حِیْنَ الْبَاْسِؕ-اُولٰٓىٕكَ الَّذِیْنَ صَدَقُوْاؕ-وَ اُولٰٓىٕكَ هُمُ الْمُتَّقُوْنَ(۱۷۷)
کچھ اصل نیکی یہ نہیں کہ منہ مشرق یا مغرب کی طرف کرو (ف۳۱۱) ہاں اصلی نیکی یہ کہ ایمان لائے اللہ اور قیامت اور فرشتوں اور کتاب اور پیغمبروں پر (ف۳۱۲) اور اللہ کی محبت میں اپنا عزیز مال دے رشتہ داروں اور یتیموں اور مسکینوں اور راہ گیر اور سائلوں کو اور گردنیں چھوڑانے میں (ف ۳۱۳) اور نماز قائم رکھے اور زکوٰة دے اور اپنا قول پورا کرنے والے جب عہد کریں اور صبر والے مصیبت اور سختی میں اور جہاد کے وقت یہی ہیں جنہوں نے اپنی بات سچی کی اور یہی پرہیزگار ہیں،

ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون فيه ثمان مسائل :الأولى : قوله تعالى : ليس البر اختلف من المراد بهذا الخطاب فقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر ، فأنزل الله هذه الآية . قال : وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال الربيع وقتادة أيضا : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي ، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس ، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها ، فقيل لهم : ليس البر ما أنتم فيه ، ولكن البر من آمن بالله .الثانية : قرأ حمزة وحفص " البر " بالنصب ; لأن ليس من أخوات كان ، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر ، فلما وقع بعد ليس : البر نصبه ، وجعل أن تولوا الاسم ، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر ، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف . وقرأ الباقون " البر " بالرفع على أنه اسم ليس ، وخبره أن تولوا ، تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم ، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر ، كقوله : ما كان حجتهم إلا أن قالوا ، ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا فكان عاقبتهما أنهما في النار وما كان مثله ، ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولا يجوز فيه إلا الرفع ، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له ، وكذلك هو في مصحف أبي بالباء ليس البر بأن تولوا وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا ، وعليه أكثر القراء ، والقراءتان حسنتان .الثالثة : قوله تعالى : ولكن البر من آمن بالله البر ها هنا اسم جامع للخير ، والتقدير : ولكن البر بر من آمن ، فحذف المضاف ، كقوله تعالى : واسأل القرية ، وأشربوا في قلوبهم العجل قاله الفراء وقطرب والزجاج ، وقال الشاعر :فإنما هي إقبال وإدبارأي ذات إقبال وذات إدبار وقال النابغة :وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحبأي كخلالة أبي مرحب ، فحذف ، وقيل : المعنى ولكن ذا البر ، كقوله تعالى : هم درجات عند الله أي ذوو درجات ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل الله هذه الآية فقال : ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك ، ولكن البر - أي ذا البر - من آمن بالله ، إلى آخرها ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا ، ويجوز أن يكون البر بمعنى البار والبر ، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر ، كما يقال : رجل عدل ، وصوم وفطر ، وفي التنزيل : إن أصبح ماؤكم غورا أي غائرا ، وهذا اختيار أبي عبيدة ، وقال المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ولكن البر بفتح الباء .الرابعة : قوله تعالى : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فقيل : يكون الموفون عطفا على من لأن من في موضع جمع ومحل رفع ، كأنه قال : ولكن البر المؤمنون والموفون ، قاله الفراء والأخفش . والصابرين نصب على المدح ، أو بإضمار فعل ، والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام ، وينصبونه ، فأما المدح فقوله : والمقيمين الصلاة ، وأنشد الكسائي :وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويهاالظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليهاوأنشد أبو عبيدة :لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزرالنازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزروقال آخر :نحن بني ضبة أصحاب الجملفنصب على المدح ، وأما الذم فقوله تعالى : ملعونين أينما ثقفوا الآية ، وقال عروة بن الورد :سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزوروهذا مهيع في النعوت ، لا مطعن فيه من جهة الإعراب ، موجود في كلام العرب كما بينا ، وقال بعض من تعسف في كلامه : إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الإمام ، قال : والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال : أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ، وهكذا قال في سورة النساء والمقيمين الصلاة وفي سورة المائدة والصابئون . والجواب ما ذكرناه ، وقيل : الموفون رفع على الابتداء والخبر محذوف ، تقديره وهم الموفون ، وقال الكسائي : والصابرين عطف على ذوي القربى كأنه قال : وآتى الصابرين . قال النحاس : وهذا القول خطأ وغلط بين ; لأنك إذا نصبت والصابرين ونسقته على ذوي القربى دخل في صلة من وإذا رفعت والموفون على أنه نسق على من فقد نسقت على من من قبل أن تتم الصلة ، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف . وقال الكسائي : وفي قراءة عبد الله " والموفين ، والصابرين " ، وقال النحاس : " يكونان منسوقين على " ذوي القربى " أو على المدح . قال الفراء : وفي قراءة عبد الله في النساء " والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة " . وقرأ يعقوب والأعمش " والموفون والصابرون " بالرفع فيهما ، وقرأ الجحدري " بعهودهم " ، وقد قيل : إن والموفون عطف على الضمير الذي في آمن ، وأنكره أبو علي وقال : ليس المعنى عليه ، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن بالله هو والموفون ، أي آمنا جميعا . كما تقول : الشجاع من أقدم هو وعمرو وإنما الذي بعد قوله " من آمن " تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم .الخامسة : قال علماؤنا : هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام ; لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة : الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته - وقد أتينا عليها في الكتاب الأسنى - والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار - وقد أتينا عليها في كتاب - التذكرة - والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله - كما تقدم - والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك ، ومراعاة ابن السبيل - قيل المنقطع به ، وقيل : الضيف - والسؤال وفك الرقاب ، وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات ، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد ، وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب . وتقدم التنبيه على أكثرها ، ويأتي بيان باقيها بما فيها في مواضعها إن شاء الله تعالى . واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا ، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا ، قولان للعلماء ، وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة ، على ما نبينه آنفا .السادسة : قوله تعالى : وآتى المال على حبه استدل به من قال : إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر ، وقيل : المراد الزكاة المفروضة ، والأول أصح ، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في المال حقا سوى الزكاة ثم تلا هذه الآية ليس البر أن تولوا وجوهكم إلى آخر الآية ، وأخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه وقال : " هذا حديث ليس إسناده بذاك وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف ، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح " .قلت : والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى : وأقام الصلاة وآتى الزكاة فذكر الزكاة مع الصلاة ، وذلك دليل على أن المراد بقوله : وآتى المال على حبه ليس الزكاة المفروضة ، فإن ذلك كان يكون تكرارا ، والله أعلم ، واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها . قال مالك رحمه الله : يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، وهذا إجماع أيضا ، وهو يقوي ما اخترناه ، والموفق الإله .السابعة : قوله تعالى : على حبه الضمير في حبه اختلف في عوده ، فقيل : يعود على المعطي للمال ، وحذف المفعول وهو المال . ويجوز نصب ذوي القربى بالحب ، فيكون التقدير على حب المعطي ذوي القربى ، وقيل : يعود على المال ، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول . قال ابن عطية : ويجيء قوله على حبه اعتراضا بليغا أثناء القول . قلت : ونظيره قوله الحق : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا فإنه جمع المعنيين ، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول ، أي على حب الطعام ، ومن الاعتراض قوله الحق : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك وهذا عندهم يسمى التتميم ، وهو نوع من البلاغة ، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط ، فتمم بقوله على حبه وقوله : وهو مؤمن ومنه قول زهير :من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة منه والندى خلقاوقال امرؤ القيس :على هيكل يعطيك قبل سؤاله أفانين جري غير كز ولا وانفقوله : " على علاته " و " قبل سؤاله " تتميم حسن ، ومنه قول عنترة : أثنى علي بما علمت فإنني سمح مخالقتي إذا لم أظلمفقوله : " إذا لم أظلم " تتميم حسن ، وقال طرفة :فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهميوقال الربيع بن ضبع الفزاري :فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي وكل امرئ إلا أحاديثه فانفقوله : " غير مفسدها " ، و " إلا أحاديثه " تتميم واحتراس ، وقال أبو هفان :فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم وأفنى الندى أموالنا غير عائبفقوله : " غير ظالم " و " غير عائب " تتميم واحتياط ، وهو في الشعر كثير . وقيل : يعود على الإيتاء ; لأن الفعل يدل على مصدره ، وهو كقوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم أي البخل خيرا لهم ، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم ، وقيل : يعود على اسم الله تعالى في قوله من آمن بالله ، والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء .الثامنة : قوله تعالى : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا أي فيما بينهم وبين الله تعالى وفيما بينهم وبين الناس . والصابرين في البأساء والضراء البأساء : الشدة والفقر ، والضراء : المرض والزمانة ، قاله ابن مسعود ، وقال عليه السلام : يقول الله تعالى أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتي وإن عافيته عافيته وليس له ذنب قيل : يا رسول الله ، ما لحم خير من لحمه ؟ قال : لحم لم يذنب قيل : فما دم خير من دمه ؟ قال : دم لم يذنب ، والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء ، ولا فعل لهما ; لأنهما اسمان وليسا بنعت . وحين البأس أي وقت الحرب .قوله تعالى : أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها ، وأنهم كانوا جادين في الدين ، وهذا غاية الثناء . والصدق : خلاف الكذب ويقال : صدقوهم القتال ، والصديق : الملازم للصدق ، وفي الحديث : عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا .
2:178
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا كُتِبَ عَلَیْكُمُ الْقِصَاصُ فِی الْقَتْلٰىؕ-اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْاُنْثٰى بِالْاُنْثٰىؕ-فَمَنْ عُفِیَ لَهٗ مِنْ اَخِیْهِ شَیْءٌ فَاتِّبَاعٌۢ بِالْمَعْرُوْفِ وَ اَدَآءٌ اِلَیْهِ بِاِحْسَانٍؕ-ذٰلِكَ تَخْفِیْفٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌؕ-فَمَنِ اعْتَدٰى بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهٗ عَذَابٌ اَلِیْمٌۚ(۱۷۸)
اے ایمان والوں تم پر فرض ہے (ف۳۴۱) کہ جو ناحق مارے جائیں ان کے خون کا بدلہ لو (ف۳۱۵) آزاد کے بدلے آزاد اور غلام کے بدلے غلام اور عورت کے بدلے عورت (ف۳۱۶) تو جس کے لئے اس کے بھائی کی طرف سے کچھ معافی ہوئی۔ (ف۳۱۷) تو بھلائی سے تقا ضا ہو اور اچھی طرح ادا، یہ تمہارے رب کی طرف سے تمہارا بوجھ پر ہلکا کرنا ہے اور تم پر رحمت تو اس کے بعد جو زیادتی کرے (ف۳۱۸) اس کے لئے دردناک عذاب ہے

قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليمفيه سبع عشرة مسألة :الأولى : روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية ، فقال الله لهذه الأمة : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فالعفو أن يقبل الدية في العمد فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة مما كتب على من كان قبلكم فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم قتل بعد قبول الدية . هذا لفظ البخاري : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال سمعت مجاهدا قال سمعت ابن عباس يقول : وقال الشعبي في قوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى قال : أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا فقالوا ، نقبل بعبدنا فلان بن فلان ، وبأمتنا فلانة بنت فلان ، ونحوه عن قتادة .الثانية : قوله تعالى : كتب عليكم القصاص كتب معناه فرض وأثبت ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيولوقد قيل : إن كتب هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء ، والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار . وقص الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، ومنه فارتدا على آثارهما قصصا ، وقيل : القص القطع ، يقال : قصصت ما بينهما ، ومنه أخذ القصاص ; لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به ، يقال : أقص الحاكم فلانا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه ، أي اقتص منه .الثالثة : صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع ، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره ، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل ، وهو معنى قوله عليه السلام : إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة : رجل قتل غير قاتله ، ورجل قتل في الحرم ، ورجل أخذ بذحول الجاهلية . قال الشعبي وقتادة وغيرهما : إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان ، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد ، قتله عبد قوم آخرين قالوا : لا نقتل به إلا حرا ، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا ، وإذا قتل لهم وضيع قالوا : لا نقتل به إلا شريفا ، ويقولون : ( القتل أوقى للقتل ) بالواو والقاف ، ويروى ( أبقى ) بالباء والقاف ، ويروى ( أنفى ) بالنون والفاء ، فنهاهم الله عن البغي فقال : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد الآية ، وقال ولكم في القصاص حياة ، وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم .الرابعة : لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولوا الأمر ، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك ; لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص ، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود ، وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء ، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح ، على ما يأتي بيانه .فإن قيل : فإن قوله تعالى كتب عليكم معناه فرض وألزم ، فكيف يكون القصاص غير واجب ؟ قيل له : معناه إذا أردتم ، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح ، والقتلى جمع قتيل ، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة ، وهو مما يدخل على الناس كرها ، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى ، وشبههن .الخامسة : قوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى الآية . اختلف في تأويلها ، فقالت طائفة : جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه ، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا ، والعبد إذا قتل عبدا ، والأنثى إذا قتلت أنثى ، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة ، قاله مجاهد وذكره أبو عبيد عن ابن عباس . وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية " المائدة " وهو قول أهل العراق .السادسة : قال الكوفيون والثوري : يقتل الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي ، واحتجوا بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى فعم ، وقوله : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس قالوا : والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد ، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد ، والمسلم كذلك ، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام ، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي ، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم ، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه ، واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به ، وهو قول داود وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما ، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد ، للتنويع والتقسيم في الآية . وقال أبو ثور : لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك ، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض ، وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة ، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد ، وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى ، ويتصرف فيه الحر كيف شاء ، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة .قلت : هذا الإجماع صحيح ، وأما قوله أولا : " ولما اتفق جميعهم - إلى قوله - فقد ناقض " فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء ، واستدل داود بقوله عليه السلام : المسلمون تتكافأ دماؤهم فلم يفرق بين حر وعبد . وسيأتي بيانه في " النساء " إن شاء الله تعالى .السابعة : والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا يقتل مسلم بكافر أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب ، ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر ; لأنه منقطع ، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا . قال الدارقطني : " لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث ، والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث ، فكيف بما يرسله " .قلت : فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري ، وهو يخصص عموم قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى الآية ، وعموم قوله : النفس بالنفس .الثامنة : روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا ، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا ، وقالا : إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة . وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها . روى هذا الشعبي عن علي ، ولا يصح ; لأن الشعبي لم يلق عليا ، وقد روى الحكم عن علي وعبد الله قالا : إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود ، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور ، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور ، وقتل ذا يدين وهو أشل ، فهذا يدل على أن النفس مكافئة للنفس ، ويكافئ الطفل فيها الكبير .ويقال لقائل ذلك : إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم : المسلمون تتكافأ دماؤهم فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية ، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص ، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص ، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس ، قاله أبو عمر رضي الله عنه ، وإذا قتل الحر العبد ، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد ، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد ، هذا مذكور عن علي والحسن ، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا .التاسعة : وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء ، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات . قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور : وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس ، وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة : لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس ، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى ، على ما تقدم .العاشرة : قال ابن العربي : لقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا : يقتل الحر بعبد نفسه ، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قتل عبده قتلناه وهو حديث ضعيف ، ودليلنا قوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل والولي ها هنا السيد ، فكيف يجعل له سلطان على نفسه " ، وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال ، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده بهفإن قيل : فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا : ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج ، إذ النكاح ضرب من الرق ، وقد قال ذلك الليث بن سعد . قلنا : النكاح ينعقد لها عليه ، كما ينعقد له عليها ، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها ، وتطالبه في حق الوطء بما يطالبها ، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل الله له عليها بما أنفق من ماله ، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة ، فلو أورث شبهة لأورثها في الجانبين .قلت : هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح ، أخرجه النسائي وأبو داود وتتميم متنه : ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه ، وقال البخاري عن علي بن المديني : سماع الحسن من سمرة صحيح ، وأخذ بهذا الحديث . وقال البخاري : وأنا أذهب إليه ، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان ، وحسبك بهما ، ويقتل الحر بعبد نفسه . قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل : إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة ، والله أعلم . [ واختلفوا في القصاص بين العبيد فيما دون النفس ، هذا قول عمر بن عبد العزيز وسالم بن عبد الله والزهري وقران ومالك والشافعي وأبو ثور ، وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة : لا قصاص بينهم إلا في النفس . قال ابن المنذر : الأول أصح ] .الحادية عشر : روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد الأب من ابنه ، ولا يقيد الابن من أبيه . قال أبو عيسى : " هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده بصحيح ، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح ، والمثنى يضعف في الحديث ، وقد روى هذا الحديث أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا ، وهذا الحديث فيه اضطراب ، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به ، وإذا قذفه لا يحد " ، وقال ابن المنذر : اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا ، فقالت طائفة : لا قود عليه وعليه ديته ، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد وقال مالك وابن نافع وابن عبد الحكم : يقتل به ، وقال ابن المنذر : وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة ، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد ، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : المؤمنون تتكافأ دماؤهم ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من جملة الآية ، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة ، وحكى إلكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده ، للعمومات في القصاص . وروي مثل ذلك عن مالك ، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن .قلت : لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ ، أنه يقتل به قولا واحدا ، فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله ، ففيه في المذهب قولان : يقتل به ، ولا يقتل به وتغلظ الدية ، وبه قال جماعة العلماء ، ويقتل الأجنبي بمثل هذا . ابن العربي : " سمعت شيخنا فخر الإسلام الشاشي يقول في النظر : لا يقتل الأب بابنه ; لأن الأب كان سبب وجوده ، فكيف يكون هو سبب عدمه ؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم ، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه ، ثم أي فقه تحت هذا ، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى الله تعالى في ذلك . وقد أثروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يقاد الوالد بولده وهو حديث باطل ، ومتعلقهم أن عمر رضي الله عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه ، فأخذ سائر الفقهاء رضي الله عنهم المسألة مسجلة ، وقالوا : لا يقتل الوالد بولده ، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال : إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه ، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود ، فإذا أضجعه وكشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله " . قال ابن المنذر : وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون : إذا قتل الابن الأب قتل به .الثانية عشرة : وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله : لا تقتل الجماعة بالواحد ، قال : لأن الله سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد ، وقد قال تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ، والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان ، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل ، وتقتل في مقابلة الواحد مائة ، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة ، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة ، وذلك بأن يقتل من قتل ، وقد قتل عمر رضي الله عنه سبعة برجل بصنعاء وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا ، وقتل علي رضي الله عنه الحرورية بعبد الله بن خباب فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا ، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب كما تذبح الشاة ، وأخبر علي بذلك قال : الله أكبر ! نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب ، فقالوا : كلنا قتله ، ثلاث مرات ، فقال علي لأصحابه : دونكم القوم ، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه . خرج الحديثين الدارقطني في سننه ، وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار . وقال فيه : حديث غريب ، وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي ، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ والله أعلم ، [ وقال ابن المنذر : وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين : لا يقتل اثنان بواحد . روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبد الملك ، قال ابن المنذر : وهذا أصح ، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد ، وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه ] .الثالثة عشرة : روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ، لفظ أبي داود . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وروي عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية ، وذهب إلى هذا بعض أهل العلم ، وهو قول أحمد وإسحاق .الرابعة عشرة : اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد ، فقالت طائفة : ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل . يروى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن ، ورواه أشهب عن مالك ، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه ، وهو نص في موضع الخلاف ، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه ; لأن فرضا عليه إحياء نفسه ، وقد قال الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم ، وقوله : فمن عفي له من أخيه شيء أي ترك له دمه في أحد التأويلات ، ورضي منه بالدية فاتباع بالمعروف أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية ، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان ، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت ذلك تخفيف من ربكم ورحمة أي أن من كان قبلنا لم يفرض الله عليهم غير النفس بالنفس ، فتفضل الله على هذه الأمة بالدية إذا رضي بها ولي الدم ، على ما يأتي بيانه ، وقال آخرون : ليس لولي المقتول إلا القصاص ، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل ، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه ، وبه قال الثوري والكوفيون ، واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع حين كسرت ثنية المرأة ، رواه الأئمة قالوا : فلما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص وقال : القصاص كتاب الله ، القصاص كتاب الله ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد هو القصاص ، والأول أصح ، لحديث أبي شريح المذكور ، وروى الربيع عن الشافعي قال : أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال : وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود . فقال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : تأخذ به ؟ ! نعم آخذ به ، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه ، إن الله عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه ، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه ، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين ، لا مخرج لمسلم من ذلك ، قال : وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت .الخامسة عشرة : قوله تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان اختلف العلماء في تأويل ( من ) و ( عفي ) على تأويلات خمس :أحدها أن من يراد بها القاتل ، وعفي تتضمن عافيا هو ولي الدم ، والأخ هو المقتول ، وشيء هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية ، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء ، والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك ، والمعنى : أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف ، ويؤدي إليه القاتل بإحسان .الثاني : وهو قول مالك أن من يراد به الولي وعفي يسر ، لا على بابها في العفو ، والأخ يراد به القاتل ، وشيء هو الدية ، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه ، فمرة تيسر ومرة لا تيسر ، وغير مالك يقول : إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه ، وقد روي عن مالك هذا القول ، ورجحه كثير من أصحابه ، وقال أبو حنيفة : إن معنى عفي بذل ، والعفو في اللغة : البذل ، ولهذا قال الله تعالى : خذ العفو أي ما سهل ، وقال أبو الأسود الدؤلي :خذي العفو مني تستديمي مودتيوقال صلى الله عليه وسلم : أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله يعني شهد الله على عباده ، فكأنه قال : من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف ، وقال قوم : وليؤد إليه القاتل بإحسان ، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل ، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة ، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة [ المائدة ] فمن تصدق به فهو كفارة له فندب إلى رحمة العفو والصدقة ، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية ، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان .الثالث : وقد قال قوم : إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة ، ومعنى الآية : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، ويكون عفي بمعنى فضل .الرابع : روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال : كان بين حيين من العرب قتال ، فقتل من هؤلاء وهؤلاء ، وقال أحد الحيين : لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه السلام : القتل سواء فاصطلحوا على الديات ، ففضل أحد الحيين على الآخر ، فهو قوله : كتب إلى قوله : فمن عفي له من أخيه شيء يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف ، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية ، وذكر سفيان العفو هنا الفضل ، وهو معنى يحتمله اللفظ .وتأويل خامس : وهو قول علي رضي الله عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد ، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، وعفي في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل .السادسة عشر : هذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب ، وحسن القضاء من المؤدي ، وهل ذلك على الوجوب أو الندب ، فقراءة الرفع تدل على الوجوب ; لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف . قال النحاس : فمن عفي له شرط والجواب فاتباع وهو رفع بالابتداء ، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف ، ويجوز في غير القرآن ( فاتباعا وأداء ) بجعلهما مصدرين . قال ابن عطية : وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة " فاتباعا " بالنصب ، والرفع سبيل للواجبات ، كقوله تعالى : فإمساك بمعروف ، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا ، كقوله : فضرب الرقاب .السابعة عشر : قوله تعالى : ذلك تخفيف من ربكم ورحمة لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك ، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية ، فجعل الله تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة ، فمن شاء قتل ، ومن شاء أخذ الدية ، ومن شاء عفا .قوله تعالى : فمن اعتدى بعد ذلك فله شرط وجوابه ، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط [ دم ] قاتل وليه . فله عذاب أليم قال الحسن : كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول : إني أقبل الدية ، حتى يأمن القاتل ويخرج ، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية .واختلف العلماء فيمن قتل بعد أخذ الدية فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي : هو كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة . وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم : عذابه أن يقتل ألبتة ، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ، وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أعفى من قتل بعد أخذ الدية . وقال الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة . وقال عمر بن عبد العزيز : أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى ، وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أصيب بدم أو خبل - والخبل عرج - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا .
2:179
وَ لَكُمْ فِی الْقِصَاصِ حَیٰوةٌ یّٰۤاُولِی الْاَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ(۱۷۹)
اور خون کا بدلہ لینے میں تمہاری زندگی ہے اے عقل مندو (ف۳۱۹) کہ تم کہیں بچو،

قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقونفيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم ، ومعناه : لا يقتل بعضكم بعضا ، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك ، والمعنى : أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر ، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا . وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير ، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال ، فلهم في ذلك حياة .الثانية : اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان ، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض ، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك ، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض .الثالثة : وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته ، إذ هو واحد منهم ، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل ، وذلك لا يمنع القصاص ، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل ، لقوله جل ذكره : كتب عليكم القصاص في القتلى وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ، وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه ، فصاح الرجل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ تعال ] فاستقد . قال : بل عفوت يا رسول الله ، وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال : خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه ، فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟ قال : كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه ، ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال : خطبنا عمر بن الخطاب فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه ، وذكر الحديث بمعناه .الرابعة : قوله تعالى : لعلكم تتقون تقدم معناه . والمراد هنا تتقون القتل فتسلمون من القصاص ، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك ، فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة ، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي " ولكم في القصص حياة " . قال النحاس : قراءة أبي الجوزاء شاذة . قال غيره : يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص . وقيل : أراد بالقصص القرآن ، أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصص حياة ، أي نجاة .
2:180
كُتِبَ عَلَیْكُمْ اِذَا حَضَرَ اَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اِنْ تَرَكَ خَیْرَاﰳ -ۖۚ - الْوَصِیَّةُ لِلْوَالِدَیْنِ وَ الْاَقْرَبِیْنَ بِالْمَعْرُوْفِ-ۚ--حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِیْنَؕ(۱۸۰)
تم پر فرض ہوا کہ جب تم میں کسی کو موت آئے اگر کچھ مال چھوڑے تو وصیت کرجائے اپنے ماں باپ اور قریب کے رشتہ داروں کے لئے موافق دستور (ف۳۲۰) یہ واجب ہے پرہیزگاروں پر،

قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقينفيه إحدى وعشرون مسألة :الأولى : قوله تعالى : كتب عليكم هذه آية الوصية ، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية ، وفي " النساء " : من بعد وصية وفي " المائدة " : حين الوصية . والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث ، على ما يأتي بيانه ، وفي الكلام تقدير واو العطف ، أي وكتب عليكم ، فلما طال الكلام أسقطت الواو . ومثله في بعض الأقوال : لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى أي والذي ، فحذف ، وقيل : لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص ، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت ، فهذا أوان الوصية ، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف . وكتب معناه فرض وأثبت ، كما تقدم ، وحضور الموت : أسبابه ، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب ، قال شاعرهم :يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوتوقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموتوقال عنترة :وإن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندوانوقال جرير في مهاجاة الفرزدق :أنا الموت الذي حدثت عنه فليس لهارب مني نجاءالثانية : إن قيل : لم قال كتب ولم يقل كتبت ، والوصية مؤنثة ؟ قيل له : إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء ، وقيل : لأنه تخلل فاصل ، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث ، تقول العرب : حضر القاضي اليوم امرأة ، وقد حكى سيبويه : قام امرأة ، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل .الثالثة : قوله تعالى : إن ترك خيرا ( إن ) شرط ، وفي جوابه لأبي الحسن الأخفش قولان ، قال الأخفش : التقدير فالوصية ، ثم حذفت الفاء ، كما قال الشاعر :من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلانوالجواب الآخر : أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده ، فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا ، فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء ، وإن لم تقدر الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء ، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله ، أي كتب عليكم الوصية ، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل الوصية في " إذا " لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت ، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة ، ويجوز أن يكون العامل في " إذا " : كتب والمعنى : توجه إيجاب الله إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل . ويجوز أن يكون العامل في " إذا " الإيصاء يكون مقدرا دل على الوصية ، المعنى : كتب عليكم الإيصاء إذا .الرابعة : قوله تعالى : خيرا الخير هنا المال من غير خلاف ، واختلفوا في مقداره ، فقيل : المال الكثير ، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا في سبعمائة دينار إنه قليل . قتادة عن الحسن : الخير ألف دينار فما فوقها . الشعبي : ما بين خمسمائة دينار إلى ألف ، والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت ، وخصصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت ، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية ، والوصي يكون الموصي والموصى إليه ، وأصله من وصى مخففا ، وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل ، وأرض واصية : متصلة النبات ، وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك ، والاسم الوصاية والوصاية ( بالكسر والفتح ) ، وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى ، والاسم الوصاة . وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا . وفي الحديث : استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم . ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به .الخامسة : اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا ، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون ، وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك ، وهو قول مالك والشافعي والثوري ، موسرا كان الموصي أو فقيرا ، وقالت طائفة : الوصية واجبة على ظاهر القرآن ، قاله الزهري وأبو مجلز ، قليلا كان المال أو كثيرا ، وقال أبو ثور : ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم ، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه ، فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء . قال ابن المنذر : وهذا حسن ; لأن الله فرض أداء الأمانات إلى أهلها ، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي . احتج الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده وفي رواية يبيت ثلاث ليال وفيها قال عبد الله بن عمر : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي . احتج من لم يوجبها بأن قال : لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي ، ولكان ذلك لازما على كل حال ، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده ، وذلك فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم ، كما قال أبو ثور ، وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة ، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه .فإن قيل : فقد قال الله تعالى : كتب عليكم وكتب فرض ، فدل على وجوب الوصية قيل لهم : قد تقدم الجواب عنه في الآية قبل ، والمعنى : إذا أردتم الوصية ، والله أعلم ، وقال النخعي : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ، وقد أوصى أبو بكر ، فإن أوصى فحسن ، وإن لم يوص فلا شيء عليه .السادسة : لم يبين الله تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال ، وإنما قال : إن ترك خيرا والخير المال ، كقوله : وما تنفقوا من خير ، وإنه لحب الخير فاختلف العلماء في مقدار ذلك ، فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس . وقال علي رضي الله عنه من غنائم المسلمين بالخمس ، وقال معمر عن قتادة . أوصى عمر بالربع ، وذكره البخاري عن ابن عباس ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث .واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية ، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين . روى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة قال لها : إني أريد أن أوصي : قالت : وكم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف . قالت : فكم عيالك ؟ قال أربعة . قالت : إن الله تعالى يقول : إن ترك خيرا وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك .السابعة : ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا : إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله ، وقالوا : إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء ، لقوله عليه السلام : إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس الحديث ، رواه الأئمة . ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث ، روي هذا القول عن ابن عباس ، وبه قال أبو عبيدة ومسروق ، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه ، وروي عن علي وسبب الخلاف مع ما ذكرنا ، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه ؟ قولان :الثامنة : أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله ، وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبد الله : إني قد أردت أن أوصي ، فقال له : أوص ومالك في مالي ، فدعا كاتبا فأملى ، فقال عبد الله : فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك ، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم .التاسعة : وأجمعوا أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها ، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبر ، فقال مالك رحمه الله : الأمر المجمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت ، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية ويسقطها فعل ، إلا أن يدبر فإن دبر مملوكا فلا سبيل له إلى تغيير ما دبر ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده . قال أبو الفرج المالكي : المدبر في القياس كالمعتق إلى شهر ; لأنه أجل آت لا محالة ، وأجمعوا ألا يرجع في اليمين بالعتق والعتق إلى أجل فكذلك المدبر ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : هو وصية ; لإجماعهم أنه في الثلث كسائر الوصايا . وفي إجازتهم وطء المدبرة ما ينقض قياسهم المدبر على العتق إلى أجل ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم باع مدبرا ، وأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها ، وهو قول جماعة من التابعين ، وقالت طائفة : يغير الرجل من وصيته ما شاء إلا العتاقة ، وكذلك قال الشعبي وابن سيرين وابن شبرمة والنخعي ، وهو قول سفيان الثوري .العاشرة : واختلفوا في الرجل يقول لعبده : أنت حر بعد موتي ، وأراد الوصية ، فله الرجوع عند مالك في ذلك . وإن قال : فلان مدبر بعد موتي ، لم يكن له الرجوع فيه ، وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك ، وأما الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور فكل هذا عندهم وصية ; لأنه في الثلث ، وكل ما كان في الثلث فهو وصية ، إلا أن الشافعي قال : لا يكون الرجوع في المدبر إلا بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة . وليس قوله : - قد رجعت - رجوعا ، وإن لم يخرج المدبر عن ملكه حتى يموت فإنه يعتق بموته . وقال في القديم : يرجع في المدبر كما يرجع في الوصية ، واختاره المزني قياسا على إجماعهم على الرجوع فيمن أوصى بعتقه ، وقال أبو ثور : إذا قال قد رجعت في مدبري فقد بطل التدبير ، فإن مات لم يعتق ، واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال : عبدي حر بعد موتي ، ولم يرد الوصية ولا التدبير ، فقال ابن القاسم : هو وصية ، وقال أشهب : هو مدبر وإن لم يرد الوصية .الحادية عشرة : اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة ، فقيل : هي محكمة ، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة ، قاله الضحاك وطاوس والحسن ، واختاره الطبري . وعن الزهري أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر ، وقال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة ، وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة : الآية عامة ، وتقرر الحكم بها برهة من الدهر ، ونسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض ، وقد قيل : إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى ، وهي قوله عليه السلام : إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث . رواه أبو أمامة ، أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح ، فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث على الصحيح من أقوال العلماء ، ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية ، وبالميراث إن لم يوص ، أو ما بقي بعد الوصية ، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع ، والشافعي وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم الله تبارك وتعالى ومن عنده ، وإن اختلفت في الأسماء ، وقد تقدم هذا المعنى . ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث ، فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربين الوارثين منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين ، والله أعلم .وقال ابن عباس والحسن : نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة " النساء " وثبتت للأقربين الذين لا يرثون ، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم . وفي البخاري عن ابن عباس قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس ، للمرأة الثمن والربع ، والزوج الشطر والربع .وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد : الآية منسوخة ، وبقيت الوصية ندبا ، ونحو هذا قول مالك رحمه الله ، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي ، وقال الربيع بن خثيم : لا وصية . قال عروة بن ثابت : قلت للربيع بن خثيم أوص لي بمصحفك ، فنظر إلى ولده وقرأ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه .الثانية عشرة قوله تعالى : والأقربين الأقربون جمع أقرب . قال قوم : الوصية للأقربين أولى من الأجانب ، لنص الله تعالى عليهم ، حتى قال الضحاك : إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية ، وروي عن ابن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف . وروي أن عائشة وصت لمولاة لها بأثاث البيت ، وروي عن سالم بن عبد الله بمثل ذلك ، وقال الحسن : إن أوصى لغير الأقربين ردت الوصية للأقربين ، فإن كانت لأجنبي فمعهم ، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم ، وقال الناس حين مات أبو العالية : عجبا له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم ، وقال الشعبي : لم يكن له ذلك ولا كرامة وقال طاوس : إذا أوصى لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله ، وقاله جابر بن زيد ، وقد روي مثل هذا عن الحسن أيضا ، وبه قال إسحاق بن راهويه ، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل : من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين فبئسما صنع وفعله مع ذلك جائز ماض لكل من أوصى له من غني وفقير ، قريب وبعيد ، مسلم وكافر ، وهو معنى ما روي عن ابن عمر وعائشة ، وهو قول ابن عمر وابن عباس .قلت : القول الأول أحسن ، وأما أبو العالية رضي الله عنه فلعله نظر إلى أن بني هاشم أولى من معتقته لصحبته ابن عباس وتعليمه إياه وإلحاقه بدرجة العلماء في الدنيا والأخرى . وهذه الأبوة وإن كانت معنوية فهي الحقيقية ، ومعتقته غايتها أن ألحقته بالأحرار في الدنيا ، فحسبها ثواب عتقها ، والله أعلم .الثالثة عشرة : ذهب الجمهور من العلماء إلى أن المريض يحجر عليه في ماله ، وشذ أهل الظاهر فقالوا : لا يحجر عليه وهو كالصحيح ، والحديث والمعنى يرد عليهم . قال سعد : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول الله ، بلغ بي ما ترى من الوجع ، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا بنت واحدة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : لا ، قلت : أفأتصدق بشطره ؟ قال : لا ، الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس الحديث .ومنع أهل الظاهر أيضا الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة ، وأجاز ذلك الكافة إذا أجازها الورثة ، وهو الصحيح ; لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث ، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا صحيحا ، وكان كالهبة من عندهم ، وروى الدارقطني عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ، وروي عن عمرو بن خارجة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة .الرابعة عشرة : واختلفوا في رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته ، فقالت طائفة : ذلك جائز عليهم وليس لهم الرجوع فيه . هذا قول عطاء بن أبي رباح وطاوس والحسن وابن سيرين وابن أبي ليلى والزهري وربيعة والأوزاعي ، وقالت طائفة : لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا . هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور ، واختاره ابن المنذر ، وفرق مالك فقال : إذا أذنوا في صحته فلهم أن يرجعوا ، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله فذلك جائز عليهم ، وهو قول إسحاق . احتج أهل المقالة الأولى بأن المنع وقع من أجل الورثة ، فإذا أجازوه جاز ، وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من ثلثه لأجنبي جاز بإجازتهم ، فكذلك ها هنا ، واحتج أهل القول الثاني بأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت ، وإنما يملك المال بعد وفاته ، وقد يموت الوارث المستأذن قبله ولا يكون وارثا وقد يرثه غيره ، فقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شيء . واحتج مالك بأن قال : إن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء ، فإذا أذنوا له في صحته فقد تركوا شيئا لم يجب لهم ، وإذا أذنوا له في مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق ، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه لأنه قد فات .الخامسة عشرة : فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه لأنه لم يفت بالتنفيذ ، قاله الأبهري ، وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قول مالك في هذه المسألة أشبه بالسنة من غيره . قال ابن المنذر : واتفق قول مالك والثوري والكوفيين والشافعي وأبي ثور أنهم إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم .السادسة عشرة : واختلفوا في الرجل يوصي لبعض ورثته بمال ، ويقول في وصيته : إن أجازها الورثة فهي له ، وإن لم يجيزوه فهو في سبيل الله ، فلم يجيزوه . فقال مالك : إن لم تجز الورثة ذلك رجع إليهم ، وفي قول الشافعي وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبد الرزاق يمضي في سبيل الله .السابعة عشرة : لا خلاف في وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه ، واختلف في غيره ، فقال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به ، وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول فوصيته جائزة ماضية ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز وصية الصبي ، وقال المزني : وهو قياس قول الشافعي ، ولم أجد للشافعي في ذلك شيئا ذكره ونص عليه . واختلف أصحابه على قولين : أحدهما كقول مالك ، والثاني كقول أبي حنيفة ، وحجتهم أنه لا يجوز طلاقه ولا عتاقه ولا يقتص منه في جناية ولا يحد في قذف ، فليس كالبالغ المحجور عليه ، فكذلك وصيته . قال أبو عمر : قد اتفق هؤلاء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة ، ومعلوم أن من يعقل من الصبيان ما يوصي به فحاله حال المحجور عليه في ماله ، وعلة الحجر تبذير المال وإتلافه ، وتلك علة مرتفعة عنه بالموت ، وهو بالمحجور عليه في ماله أشبه منه بالمجنون الذي لا يعقل ، فوجب أن تجوز وصيته مع الأمر الذي جاء فيه عن عمر رضي الله عنه ، وقال مالك : إنه الأمر المجمع عليه عندهم بالمدينة ، وبالله التوفيق . وقال محمد بن شريح : من أوصى من صغير أو كبير فأصاب الحق فالله قضاه على لسانه ليس للحق مدفع .الثامنة عشرة : قوله تعالى : بالمعروف يعني بالعدل ، لا وكس فيه ولا شطط ، وكان هذا موكلا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي ، ثم تولى الله سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه عليه السلام ، فقال عليه السلام : الثلث والثلث كثير ، وقد تقدم ما للعلماء في هذا ، وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة . أخرجه الدارقطني عن أبي أمامة عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الحسن : لا تجوز وصية إلا في الثلث ، وإليه ذهب البخاري واحتج بقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل الله ، فمن تجاوز ما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد على الثلث فقد أتى ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، وكان بفعله ذلك عاصيا إذا كان بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عالما . وقال الشافعي : وقوله الثلث كثير يريد أنه غير قليل .التاسعة عشرة : قوله تعالى : حقا يعني : ثابتا ثبوت نظر وتحصين ، لا ثبوت فرض ووجوب بدليل قوله : على المتقين وهذا يدل على كونه ندبا ; لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين ، فلما خص الله من يتقي ، أي يخاف تقصيرا ، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات ، فيلزمه فرضا المبادرة بكتبه والوصية به ; لأنه إن سكت عنه كان تضييعا له وتقصيرا منه ، وقد تقدم هذا المعنى ، وانتصب حقا على المصدر المؤكد ، ويجوز في غير القرآن " حق " بمعنى ذلك حق .الموفية عشرين : قال العلماء : المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية ، وإنما هي من حديث ابن عمر ، وفائدتها : المبالغة في زيادة الاستيثاق وكونها مكتوبة مشهودا بها وهي الوصية المتفق على العمل بها ، فلو أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظا لعمل بها وإن لم تكتب خطا ، فلو كتبها بيده ولم يشهد فلم يختلف قول مالك أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه فيلزمه تنفيذه .الحادية والعشرون : روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال : كانوا يكتبون في صدور وصاياهم ( هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأوصى من ترك بعده من أهله بتقوى الله حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم ، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين ، وأوصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب : يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .
2:181
فَمَنْۢ بَدَّلَهٗ بَعْدَ مَا سَمِعَهٗ فَاِنَّمَاۤ اِثْمُهٗ عَلَى الَّذِیْنَ یُبَدِّلُوْنَهٗؕ-اِنَّ اللّٰهَ سَمِیْعٌ عَلِیْمٌؕ(۱۸۱)
تو جو وصیت کو سن سنا کر بدل دے (ف۳۲۱) اس کا گناہ انہیں بدلنے والوں پر ہے (ف۳۲۲) بیشک اللہ سنتا جانتا ہے،

قوله تعالى : فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليمفيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : فمن بدله شرط ، وجوابه فإنما إثمه على الذين يبدلونه و " ما " كافة ل " إن " عن العمل . وإثمه رفع بالابتداء ، على الذين يبدلونه موضع الخبر ، والضمير في بدله يرجع إلى الإيصاء ، لأن الوصية في معنى الإيصاء ، وكذلك الضمير في سمعه ، وهو كقوله : فمن جاءه موعظة من ربه أي وعظ ، وقوله : إذا حضر القسمة أي المال ، بدليل قوله " منه " ، ومثله قول الشاعر :ما هذه الصوتأي الصيحة ، وقال امرؤ القيس :برهرهة رؤدة رخصة كخرعوبة البانة المنفطروالمنفطر المنتفخ بالورق ، وهو أنعم ما يكون ، ذهب إلى القضيب وترك لفظ الخرعوبة . وسمعه يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه ، ويحتمل أن يكون سمعه ممن يثبت به ذلك عنده ، وذلك عدلان ، والضمير في إثمه عائد على التبديل ، أي إثم التبديل عائد على المبدل لا على الميت ، فإن الموصي خرج بالوصية عن اللوم وتوجهت على الوارث أو الولي . وقيل : إن هذا الموصي إذا غير الوصية أو لم يجزها على ما رسم له في الشرع فعليه الإثم .الثانية : في هذه الآية دليل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج به عن ذمته وحصل الولي مطلوبا به ، له الأجر في قضائه ، وعليه الوزر في تأخيره ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرط في أدائه ، وأما إذا قدر عليه وتركه ثم وصى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه .الثالثة : ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز ، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه ، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث ، قاله أبو عمر .الرابعة : قوله تعالى : إن الله سميع عليم صفتان لله تعالى لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المعتدين .
2:182
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُّوْصٍ جَنَفًا اَوْ اِثْمًا فَاَصْلَحَ بَیْنَهُمْ فَلَاۤ اِثْمَ عَلَیْهِؕ-اِنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ۠(۱۸۲)
پھر جسے اندیشہ ہوا کہ وصیت کرنے والے نے کچھ بے انصافی یا گناہ کیا تو اس نے ان میں صلح کرادی اس پر کچھ گناہ نہیں (ف۳۲۳) بیشک اللہ بخشنے والا مہربان ہے

قوله تعالى : فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيمفيه ست مسائل :الأولى : قوله تعالى : فمن خاف من شرط ، وخاف بمعنى خشي ، وقيل : علم ، والأصل خوف ، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها ، وأهل الكوفة يميلون خاف ليدلوا على الكسرة من فعلت . " من موص " بالتشديد قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي ، وخفف الباقون ، والتخفيف أبين ; لأن أكثر النحويين يقولون " موص " للتكثير ، وقد يجوز أن يكون مثل كرم وأكرم . جنفا من جنف يجنف إذا جار ، والاسم منه جنف وجانف ، عن النحاس ، وقيل : الجنف الميل . قال الأعشى :تجانف عن حجر اليمامة ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكاوفي الصحاح : " الجنف " الميل ، وقد جنف بالكسر يجنف جنفا إذا مال ، ومنه قوله تعالى : فمن خاف من موص جنفا . قال الشاعر [ هو عامر الخصفي ] :هم المولى وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزورقال أبو عبيدة : المولى ها هنا في موضع الموالي ، أي بني العم ، كقوله تعالى : ثم يخرجكم طفلا ، وقال لبيد :إني امرؤ منعت أرومة عامر ضيمي وقد جنفت علي خصوميقال أبو عبيدة : وكذلك الجانئ ( بالهمز ) وهو المائل أيضا ، ويقال : أجنف الرجل ، أي جاء بالجنف . كما يقال : ألام ، أي أتى بما يلام عليه ، وأخس ، أي أتى بخسيس ، وتجانف لإثم ، أي مال ، ورجل أجنف ، أي منحني الظهر ، وجنفى ( على فعلى بضم الفاء وفتح العين ) : اسم موضع ، عن ابن السكيت ، وروي عن علي أنه قرأ " حيفا " بالحاء والياء ، أي ظلما ، وقال مجاهد : فمن خاف أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الأذية ، أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، فإن تعمد فهو الجنف في إثم ، فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية ، وقال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم : معنى الآية من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق . فلا إثم عليه أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل ، وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد ، ولكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى .الثانية : الخطاب بقوله : فمن خاف لجميع المسلمين . قيل لهم : إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف ، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته ، أو إلى ابن ابنه ، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه ، أو أوصى لبعيد وترك القريب ، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم ، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح . والإصلاح فرض على الكفاية ، فإذا قام أحدهم به سقط عن الباقين ، وإن لم يفعلوا أثم الكل .الثالثة : في هذه الآية دليل على الحكم بالظن ، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح ، وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له .قوله تعالى : فأصلح بينهم عطف على " خاف " ، والكناية عن الورثة ، ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى ، وجواب الشرط فلا إثم عليه .الرابعة : لا خلاف أن الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل منها عند الموت ، لقوله عليه السلام وقد سئل : أي الصدقة أفضل ؟ فقال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح الحديث ، أخرجه أهل الصحيح ، وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة ، وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعدما يشبع .الخامسة : من لم يضر في وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته . روى الدارقطني عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حضرته الوفاة فأوصى فكانت وصيته على كتاب الله كانت كفارة لما ترك من زكاته ، فإن ضر في الوصية وهي :السادسة : فقد روى الدارقطني أيضا عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الإضرار في الوصية من الكبائر ، وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار . وترجم النسائي " الصلاة على من جنف في وصيته " أخبرنا علي بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور وهو ابن زاذان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك وقال : لقد هممت ألا أصلي عليه [ ثم دعا مملوكيه ] فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ، وأخرجه مسلم بمعناه إلا أنه قال في آخره : وقال له قولا شديدا ، بدل قوله : لقد هممت ألا أصلي عليه .
2:183
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا كُتِبَ عَلَیْكُمُ الصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِیْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَۙ(۱۸۳)
اے ایمان والو! (ف۳۲۴) تم پر روزے فرض کیے گئے جیسے اگلوں پر فرض ہوئے تھے کہ کہیں تمہیں پرہیزگاری ملے، ف۳۲۵)

قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقونفيه مسائل :الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم ، ولا خلاف فيه ، قال صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج رواه ابن عمر ، ومعناه في اللغة : الإمساك ، وترك التنقل من حال إلى حال ، ويقال للصمت صوم ; لأنه إمساك عن الكلام ، قال الله تعالى مخبرا عن مريم : إني نذرت للرحمن صوما أي سكوتا عن الكلام ، والصوم : ركود الريح ، وهو إمساكها عن الهبوب . وصامت الدابة على آريها : قامت وثبتت فلم تعتلف ، وصام النهار : اعتدل ، ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار ، ومنه قول النابغة :خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجماأي خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة ، كما قال [ امرؤ القيس ] :كأن الثريا علقت في مصامهاأي هي ثابتة في مواضعها فلا تنتقل ، وقوله :والبكرات شرهن الصائمةيعني التي لا تدور .وقال امرؤ القيس :فدعها وسل الهم عنك بجسرة ذمول إذا صام النهار وهجراأي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة ، وقال آخر :حتى إذا صام النهار واعتدل وسال للشمس لعاب فنزلوقال آخر :نعاما بوجرة صفر الخدود ما تطعم النوم إلا صياماأي قائمة ، والشعر في هذا المعنى كثير .والصوم في الشرع : الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات ، لقوله عليه السلام : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه .الثانية : فضل الصوم عظيم ، وثوابه جسيم ، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم ، وسيأتي بعضها ، ويكفيك الآن منها في فضل الصوم أن خصه الله بالإضافة إليه ، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مخبرا عن ربه : يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به الحديث ، وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات :أحدهما : أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات .الثاني : أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له ; فلذلك صار مختصا به ، وما سواه من العبادات ظاهر ، ربما فعله تصنعا ورياء ; فلهذا صار أخص بالصوم من غيره . وقيل غير هذا .الثالثة : قوله تعالى : كما كتب الكاف في موضع نصب على النعت ، التقدير كتابا كما ، أو صوما كما ، أو على الحال من الصيام أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم ، وقال بعض النحاة : الكاف في موضع رفع نعتا للصيام ، إذ ليس تعريفه بمحض ، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة ; فلذلك جاز نعته ب كما إذ لا ينعت بها إلا النكرات ، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام ، وقد ضعف هذا القول . و " ما " في موضع خفض ، وصلتها : كتب على الذين من قبلكم ، والضمير في " كتب " يعود على " ما " ، واختلف أهل التأويل في موضع التشبيه وهي :الرابعة : فقال الشعبي وقتادة وغيرهما : التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم ، فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا ، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل ، فصار صوم النصارى خمسين يوما ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع ، واختار هذا القول النحاس وقال : وهو الأشبه بما في الآية ، وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه الله لأزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه الله لأزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمن هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين ، وقال مجاهد : كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة ، وقيل : أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما ، قرنا بعد قرن ، حتى بلغ صومهم خمسين يوما ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي . قال النقاش : وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي .قلت : ولهذا - والله أعلم - كره الآن صوم يوم الشك والستة من شوال بإثر يوم الفطر متصلا به . قال الشعبي : لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك ، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا ، فحولوه إلى الفصل الشمسي ; لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما ، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما ، ثم لم يزل الآخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى : كما كتب على الذين من قبلكم ، وقيل : التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم ، لا في الوقت والكيفية ، وقيل : التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام ، وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الإسلام ، ثم نسخه الله تعالى بقوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم على ما يأتي بيانه ، قاله السدي وأبو العالية والربيع وقال معاذ بن جبل وعطاء : التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان . المعنى : كتب عليكم الصيام أي في أول الإسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء كما كتب على الذين من قبلكم وهم اليهود - في قول ابن عباس - ثلاثة أيام ويوم عاشوراء ، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان ، وقال معاذ بن جبل : نسخ ذلك " بأيام معدودات " ثم نسخت الأيام برمضان .الخامسة : قوله تعالى : لعلكم تتقون " لعل " ترج في حقهم ، كما تقدم . وتتقون قيل : معناه هنا تضعفون ، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة ، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي وهذا وجه مجازي حسن . وقيل : لتتقوا المعاصي ، وقيل : هو على العموم ، لأن الصيام كما قال عليه السلام : الصيام جنة ووجاء وسبب تقوى ; لأنه يميت الشهوات .
2:184
اَیَّامًا مَّعْدُوْدٰتٍؕ-فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَّرِیْضًا اَوْ عَلٰى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ اَیَّامٍ اُخَرَؕ-وَ عَلَى الَّذِیْنَ یُطِیْقُوْنَهٗ فِدْیَةٌ طَعَامُ مِسْكِیْنٍؕ-فَمَنْ تَطَوَّعَ خَیْرًا فَهُوَ خَیْرٌ لَّهٗؕ-وَ اَنْ تَصُوْمُوْا خَیْرٌ لَّكُمْ اِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ(۱۸۴)
گنتی کے دن ہیں (ف۳۲۶) تو تم میں جو کوئی بیمار یا سفر میں ہو (ف۳۲۷) تو اتنے روزے اور دنوں میں اور جنہیں اس کی طاقت نہ ہو وہ بدلہ دیں ایک مسکین کا کھانا (ف۳۲۸) پھر جو اپنی طرف سے نیکی زیادہ کرے (ف۳۲۹) تو وہ اس کے لئے بہتر ہے اور روزہ رکھنا تمہارے لئے زیادہ بھلا ہے اگر تم جانو (ف۳۳۰)

: قوله تعالى : أياما معدودات أياما مفعول ثان ب كتب ، قاله الفراء وقيل : نصب على الظرف ل كتب ، أي كتب عليكم الصيام في أيام ، والأيام المعدودات : شهر رمضان ، وهذا يدل على خلاف ما روي عن معاذ ، والله أعلم .قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فيه ست عشرة مسألة :الأولى : للمريض حالتان : إحداهما : ألا يطيق الصوم بحال ، فعليه الفطر واجبا . الثانية : أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة ، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل . قال ابن سيرين : متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر ، قياسا على المسافر لعلة السفر ، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة . قال طريف بن تمام العطاردي : دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل ، فلما فرغ قال : إنه وجعت أصبعي هذه ، وقال جمهور من العلماء : إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر . قال ابن عطية : وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون ، وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به ، وقال ابن خويز منداد : واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر ، فقال مرة : هو خوف التلف من الصيام . وقال مرة : شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة ، وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر ; لأنه لم يخص مرضا من مرض فهو مباح في كل مرض ، إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرض اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام . وقال الحسن : إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر ، وقاله النخعي ، وقالت فرقة : لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر ، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر . وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى .قلت : قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى . قال البخاري : اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان ، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله ؟ فقلت نعم ، فقال : خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة . قلت : حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء : من أي المرض أفطر ؟ قال : من أي مرض كان ، كما قال الله تعالى : فمن كان منكم مريضا قال البخاري : وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق وقال أبو حنيفة : إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر .الثانية : أو على سفر اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر ، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد ، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري . أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة ، والقول بالجواز أرجح ، وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع ، والقول بالمنع أرجح ، قاله ابن عطية ، ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة واختلف العلماء في قدر ذلك ، فقال مالك : يوم وليلة ، ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلا قال ابن خويز منداد : وهو ظاهر مذهبه ، وقال مرة : اثنان وأربعون ميلا وقال مرة ستة وثلاثون ميلا وقال مرة : مسيرة يوم وليلة ، وروي عنه يومان ، وهو قول الشافعي . وفصل مرة بين البر والبحر ، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة ، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا ، وفي المذهب ثلاثون ميلا ، وفي غير المذهب ثلاثة أميال ، وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري : الفطر في سفر ثلاثة أيام ، حكاه ابن عطية .قلت : والذي في البخاري : وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا .الثالثة : اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر ، لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية بخلاف المقيم ، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض ، والمقيم لا يفتقر إلى عمل ; لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين ; لأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا ، ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج ، فإن أفطر فقال ابن حبيب : إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في أسباب الحركة فلا شيء عليه ، وحكي ذلك عن أصبغ وابن الماجشون فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة ، وحسبه أن ينجو إن سافر ، وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم ; لأنه متأول في فطره ، وقال أشهب : ليس عليه شيء من الكفارة سافر أو لم يسافر ، وقال سحنون : عليه الكفارة سافر أو لم يسافر ، وهو بمنزلة المرأة تقول : غدا تأتيني حيضتي ، فتفطر لذلك ، ثم رجع إلى قول عبد الملك وأصبغ وقال : ليس مثل المرأة ; لأن الرجل يحدث السفر إذا شاء ، والمرأة لا تحدث الحيضة .قلت : قول ابن القاسم وأشهب في نفي الكفارة حسن ; لأنه فعل ما يجوز له فعله ، والذمة بريئة ، فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف ، ثم إنه مقتضى قوله تعالى : أو على سفر ، وقال أبو عمر : هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة ، لأنه غير منتهك لحرمة الصوم بقصد إلى ذلك وإنما هو متأول ، ولو كان الأكل مع نية السفر يوجب عليه الكفارة لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه ، فتأمل ذلك تجده كذلك ، إن شاء الله تعالى ، وقد روى الدارقطني : حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن سهل بمصر قال حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم قال : أخبرني محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب أنه قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس ، فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب ، فقلت له : سنة ؟ قال نعم ، وروي عن أنس أيضا قال : قال لي أبو موسى : ألم أنبئنك إذا خرجت خرجت صائما ، وإذا دخلت دخلت صائما ، فإذا خرجت فاخرج مفطرا ، وإذا دخلت فادخل مفطرا . وقال الحسن البصري : يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج . وقال أحمد : يفطر إذا برز عن البيوت . وقال إسحاق : لا ، بل حين يضع رجله في الرحل . قال ابن المنذر : قول أحمد صحيح ; لأنهم يقولون لمن أصبح صحيحا ثم اعتل : إنه يفطر بقية يومه ، وكذلك إذا أصبح في الحضر ثم خرج إلى السفر فله كذلك أن يفطر ، وقالت طائفة : لا يفطر يومه ذلك وإن نهض في سفره ، كذلك قال الزهري ومكحول ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، واختلفوا إن فعل ، فكلهم قال يقضي ولا يكفر . قال مالك : لأن السفر عذر طارئ ، فكان كالمرض يطرأ عليه . وروي عن بعض أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر ، وهو قول ابن كنانة والمخزومي ، وحكاه الباجي عن الشافعي ، واختاره ابن العربي وقال به ، قال : لأن السفر عذر طرأ بعد لزوم العبادة ويخالف المرض والحيض ; لأن المرض يبيح له الفطر ، والحيض يحرم عليها الصوم ، والسفر لا يبيح له ذلك فوجبت عليه الكفارة لهتك حرمته . قال أبو عمر : وليس هذا بشيء ; لأن الله سبحانه قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة . وأما قولهم " لا يفطر " فإنما ذلك استحباب لما عقده فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء ، وأما الكفارة فلا وجه لها ، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة : ( يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافرا ) وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق .قلت : وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذه المسألة ( باب من أفطر في السفر ليراه الناس ) وساق الحديث عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان . وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس وقال فيه : ثم دعا بإناء فيه شراب شربه نهارا ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة ، وهذا نص في الباب فسقط ما خالفه ، وبالله التوفيق ، وفيه أيضا حجة على من يقول : إن الصوم لا ينعقد في السفر . روي عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر . قال ابن عمر : من صام في السفر قضى في الحضر . وعن عبد الرحمن بن عوف : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر . وقال به قوم من أهل الظاهر ، واحتجوا بقوله تعالى : فعدة من أيام أخر على ما يأتي بيانه ، وبما روى كعب بن عاصم قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ليس من البر الصيام في السفر ، وفيه أيضا حجة على من يقول : إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر ، وإليه ذهب مطرف ، وهو أحد قولي الشافعي وعليه جماعة من أهل الحديث ، وكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر ، فلما اختار الصوم وبيته لزمه ولم يكن له الفطر ، فإن أفطر عامدا من غير عذر كان عليه القضاء والكفارة ، وقد روي عنه أنه لا كفارة عليه ، وهو قول أكثر أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال : إن أفطر بجماع كفر ; لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له ، لأن المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره . وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز : إنه لا كفارة عليه ، منهم الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة ، قاله أبو عمر .الرابعة : واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما : الصوم أفضل لمن قوي عليه ، وجل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي . قال الشافعي ومن اتبعه : هو مخير ، ولم يفصل ، وكذلك ابن علية ، لحديث أنس قال : سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم خرجه مالك والبخاري ومسلم ، وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما قالا : الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وروي عن ابن عمر ، وابن عباس : الرخصة أفضل ، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق ، كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل ; لقول الله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسرالخامسة : قوله تعالى : فعدة من أيام أخر في الكلام حذف ، أي من يكن منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض ، والجمهور من العلماء على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما وفي البلد رجل مريض لم يصح فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما ، وقال قوم منهم الحسن بن صالح بن حي : إنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الأيام . قال إلكيا الطبري : وهذا بعيد ; لقوله تعالى : فعدة من أيام أخر ولم يقل فشهر من أيام أخر ، وقوله : فعدة يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه ، ولا شك أنه لو أفطر بعض رمضان وجب قضاء ما أفطر بعده بعدده ، كذلك يجب أن يكون حكم إفطاره جميعه في اعتبار عدده .السادسة : قوله تعالى : فعدة ارتفع ( عدة ) على خبر الابتداء ، تقديره فالحكم أو فالواجب عدة ، ويصح فعليه عدة ، وقال الكسائي : ويجوز فعدة ، أي فليصم عدة من أيام ، وقيل : المعنى فعليه صيام عدة ، فحذف المضاف وأقيمت العدة مقامه . والعدة فعلة من العد ، وهي بمعنى المعدود ، كالطحن بمعنى المطحون ، تقول : أسمع جعجعة ولا أرى طحنا ، ومنه عدة المرأة . من أيام أخر لم ينصرف أخر عند سيبويه لأنها معدولة عن الألف واللام ; لأن سبيل فعل من هذا الباب أن يأتي بالألف واللام ، نحو الكبر والفضل ، وقال الكسائي : هي معدولة عن آخر ، كما تقول : حمراء وحمر ، فلذلك لم تنصرف . وقيل : منعت من الصرف لأنها على وزن جمع وهي صفة لأيام ، ولم يجئ أخرى لئلا يشكل بأنها صفة للعدة ، وقيل : إن أخر جمع أخرى كأنه أيام أخرى ثم كثرت فقيل : أيام أخر ، وقيل : إن نعت الأيام يكون مؤنثا فلذلك نعتت بأخر .السابعة : اختلف الناس في وجوب تتابعها على قولين ذكرهما الدارقطني في " سننه " ، فروي عن عائشة رضي الله عنها قالت : نزلت " فعدة من أيام أخر متتابعات " فسقطت ( متتابعات ) قال هذا إسناد صحيح ، وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه في إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم ضعيف الحديث ، وأسنده عن ابن عباس في قضاء رمضان ( صمه كيف شئت ) ، وقال ابن عمر : صمه كما أفطرته . وأسند عن أبي عبيدة بن الجراح وابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص ، وعن محمد بن المنكدر قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن تقطيع صيام رمضان فقال : ذلك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاه فالله أحق أن يعفو ويغفر . إسناده حسن إلا أنه مرسل ولا يثبت متصلا ، وفي موطأ مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : يصوم رمضان متتابعا من أفطره متتابعا من مرض أو في سفر . قال الباجي في " المنتقى " : يحتمل أن يريد الإخبار عن الوجوب ، ويحتمل أن يريد الإخبار عن الاستحباب ، وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء ، وإن فرقه أجزأه ، وبذلك قال مالك والشافعي ، والدليل على صحة هذا قوله تعالى : فعدة من أيام أخر ولم يخص متفرقة من متتابعة ، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر ، فوجب أن يجزيه " . ابن العربي : إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا ، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق .الثامنة : لما قال تعالى : فعدة من أيام أخر دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان ; لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان ، الشغل من رسول الله ، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم . في رواية : وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا نص وزيادة بيان للآية ، وذلك يرد على داود قوله : إنه يجب عليه قضاؤه ثاني شوال ، ومن لم يصمه ثم مات فهو آثم عنده ، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع بثمن فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها ; لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها ، ولو كانت عنده رقبة فلا يجوز له أن يشتري غيرها ، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق ، كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره ، وذلك يفسد قوله . وقال بعض الأصوليين : إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصي على شرط العزم ، والصحيح أنه غير آثم ولا مفرط ، وهو قول الجمهور ، غير أنه يستحب له تعجيل القضاء لئلا تدركه المنية فيبقى عليه الفرض .التاسعة : من كان عليه قضاء أيام من رمضان فمضت عليه عدتها من الأيام بعد الفطر أمكنه فيها صيامه فأخر ذلك ثم جاءه مانع منعه من القضاء إلى رمضان آخر فلا إطعام عليه ; لأنه ليس بمفرط حين فعل ما يجوز له من التأخير . هذا قول البغداديين من المالكيين ، ويرونه قول ابن القاسم في المدونة .العاشرة : فإن أخر قضاءه عن شعبان الذي هو غاية الزمان الذي يقضى فيه رمضان فهل يلزمه لذلك كفارة أو لا ، فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق : نعم . وقال أبو حنيفة والحسن والنخعي وداود : لا .قلت : وإلى هذا ذهب البخاري لقوله ، ويذكر عن أبي هريرة مرسلا وابن عباس أنه يطعم ، ولم يذكر الله الإطعام ، إنما قال : فعدة من أيام أخر .قلت : قد جاء عن أبي هريرة مسندا فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال : يصوم هذا مع الناس ، ويصوم الذي فرط فيه ويطعم لكل يوم مسكينا . خرجه الدارقطني وقال : إسناد صحيح . وروي عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال : يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم لكل يوم مسكينا . في إسناده ابن نافع وابن وجيه ضعيفان .الحادية عشرة : فإن تمادى به المرض فلم يصح حتى جاء رمضان آخر ، فروى الدارقطني عن ابن عمر أنه يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة ، ثم ليس عليه قضاء . وروي أيضا عن أبي هريرة أنه قال : إذا لم يصح بين الرمضانين صام عن هذا وأطعم عن الثاني ولا قضاء عليه ، وإذا صح فلم يصم حتى إذا أدركه رمضان آخر صام عن هذا وأطعم عن الماضي ، فإذا أفطر قضاه . إسناد صحيح . قال علماؤنا : وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها ، وروي عن ابن عباس أن رجلا جاء إليه فقال : مرضت رمضانين ؟ فقال له ابن عباس : استمر بك مرضك ، أو صححت بينهما ؟ فقال : بل صححت ، قال : صم رمضانين وأطعم ستين مسكينا . وهذا بدل من قوله : إنه لو تمادى به مرضه لا قضاء عليه . وهذا يشبه مذهبهم في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما ، على ما يأتي .الثانية عشرة : واختلف من أوجب عليه الإطعام في قدر ما يجب أن يطعم ، فكان أبو هريرة والقاسم بن محمد ومالك والشافعي يقولون : يطعم عن كل يوم مدا . وقال الثوري : يطعم نصف صاع عن كل يوم .الثالثة عشرة : واختلفوا فيمن أفطر أو جامع في قضاء رمضان ماذا يجب عليه ، فقال مالك : من أفطر يوما من قضاء رمضان ناسيا لم يكن عليه شيء غير قضائه ، ويستحب له أن يتمادى فيه للاختلاف ثم يقضيه ، ولو أفطره عامدا أثم ولم يكن عليه غير قضاء ذلك اليوم ولا يتمادى ; لأنه لا معنى لكفه عما يكف الصائم ها هنا إذ هو غير صائم عند جماعة العلماء لإفطاره عامدا ، وأما الكفارة فلا خلاف عند مالك وأصحابه أنها لا تجب في ذلك ، وهو قول جمهور العلماء . قال مالك : ليس على من أفطر يوما من قضاء رمضان بإصابة أهله أو غير ذلك كفارة ، وإنما عليه قضاء ذلك اليوم . وقال قتادة : على من جامع في قضاء رمضان القضاء والكفارة . وروى ابن القاسم عن مالك أن من أفطر في قضاء رمضان فعليه يومان ، وكان ابن القاسم يفتي به ثم رجع عنه ثم قال : إن أفطر عمدا في قضاء القضاء كان عليه مكانه صيام يومين ، كمن أفسد حجه بإصابة أهله ، وحج قابلا فأفسد حجه أيضا بإصابة أهله كان عليه حجتان . قال أبو عمر : قد خالفه في الحج ابن وهب وعبد الملك ، وليس يجب القياس على أصل مختلف فيه ، والصواب عندي - والله أعلم - أنه ليس عليه في الوجهين إلا قضاء يوم واحد ; لأنه يوم واحد أفسده مرتين .قلت : وهو مقتضى قوله تعالى : فعدة من أيام أخر فمتى أتى بيوم تام بدلا عما أفطره في قضاء رمضان فقد أتى بالواجب عليه ، ولا يجب عليه غير ذلك ، والله أعلم .الرابعة عشرة : والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة فمات من علته تلك ، أو سافر فمات في سفره ذلك أنه لا شيء عليه ، وقال طاوس وقتادة في المريض يموت قبل أن يصح : يطعم عنه .الخامسة عشرة : واختلفوا فيمن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه ، فقال مالك والشافعي والثوري : لا يصوم أحد عن أحد ، وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور والليث وأبو عبيد وأهل الظاهر : يصام عنه ، إلا أنهم خصصوه بالنذر ، وروي مثله عن الشافعي ، وقال أحمد وإسحاق في قضاء رمضان : يطعم عنه . احتج من قال بالصوم بما رواه مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه . إلا أن هذا عام في الصوم ، يخصصه ما رواه مسلم أيضا عن ابن عباس قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر - وفي رواية صوم شهر - أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها قالت : نعم ، قال : فصومي عن أمك . احتج مالك ومن وافقه بقوله سبحانه : ولا تزر وازرة وزر أخرى وقوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وقوله : ولا تكسب كل نفس إلا عليها وبما خرجه النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان يوم مدا من حنطة .قلت : وهذا الحديث عام ، فيحتمل أن يكون المراد بقوله : لا يصوم أحد عن أحد صوم رمضان ، فأما صوم النذر فيجوز ، بدليل حديث ابن عباس وغيره ، فقد جاء في صحيح مسلم أيضا من حديث بريدة نحو حديث ابن عباس ، وفي بعض طرقه : صوم شهرين أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها قالت : إنها لم تحج قط أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها ، فقولها : شهرين ، يبعد أن يكون رمضان ، والله أعلم ، وأقوى ما يحتج به لمالك أنه عمل أهل المدينة ، ويعضده القياس الجلي ، وهو أنه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها فلا تفعل عمن وجبت عليه كالصلاة . ولا ينقض هذا بالحج لأن للمال فيه مدخلا .السادسة عشرة : استدل بهذه الآية من قال : إن الصوم لا ينعقد في السفر وعليه القضاء أبدا ، فإن الله تعالى يقول : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر أي فعليه عدة ، ولا حذف في الكلام ولا إضمار وبقوله عليه الصلاة والسلام : ليس من البر الصيام في السفر . قال : ما لم يكن من البر فهو من الإثم ، فيدل ذلك على أن صوم رمضان لا يجوز في السفر ، والجمهور يقولون : فيه محذوف فأفطر ، كما تقدم . وهو الصحيح ، لحديث أنس قال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس ، وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر ، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائمقوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء ، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وقرأ حميد على الأصل من غير اعتلال ، والقياس الاعتلال ، ومشهور قراءة ابن عباس " يطوقونه " بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه . وقد روى مجاهد " يطيقونه " بالياء بعد الطاء على لفظ " يكيلونه " وهي باطلة ومحال ; لأن الفعل مأخوذ من الطوق ، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال . قال أبو بكر الأنباري : وأنشدنا أحمد بن يحيى النحوي لأبي ذؤيب :فقيل تحمل فوق طوقك إنها مطبعة من يأتها لا يضيرهافأظهر الواو في الطوق ، وصح بذلك أن واضع الياء مكانها يفارق الصواب ، وروى ابن الأنباري عن ابن عباس " يطيقونه " بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه ، يقال : طاق وأطاق وأطيق بمعنى ، وعن ابن عباس أيضا وعائشة وطاوس وعمرو بن دينار " يطوقونه " بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة ، وهي صواب في اللغة ; لأن الأصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة ، وليست من القرآن ، خلافا لمن أثبتها قرآنا ، وإنما هي قراءة على التفسير ، وقرأ أهل المدينة والشام ( فدية طعام ) مضافا ( مساكين ) جمعا ، وقرأ ابن عباس ( طعام مسكين ) بالإفراد فيما ذكر البخاري وأبو داود والنسائي عن عطاء عنه ، وهي قراءة حسنة ; لأنها بينت الحكم في اليوم ، واختارها أبو عبيد ، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي . قال أبو عبيد : فبينت أن لكل يوم إطعام واحد ، فالواحد مترجم عن الجميع ، وليس الجميع بمترجم عن واحد ، وجمع المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية ، وتخرج قراءة الجمع في ( مساكين ) لما كان الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فجمع لفظه ، كما قال تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة أي اجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة ، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم ، بل لكل واحد ثمانون ، قال معناه أبو علي ، واختار قراءة الجمع النحاس قال : وما اختاره أبو عبيد مردود ; لأن هذا إنما يعرف بالدلالة ، فقد علم أن معنى " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين " أن لكل يوم مسكينا ، فاختيار هذه القراءة لترد جمعا على جمع . قال النحاس : واختار أبو عبيد أن يقرأ " فدية طعام " قال : لأن الطعام هو الفدية ، ولا يجوز أن يكون الطعام نعتا لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل ، وأبين منه أن يقرأ " فدية طعام " بالإضافة ; لأن " فدية " مبهمة تقع للطعام وغيره ، قصار مثل قولك : هذا ثوب خز .الثانية : واختلف العلماء في المراد بالآية ، فقيل : هي منسوخة . روى البخاري : " وقال ابن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها وأن تصوموا خير لكم ، وعلى هذا قراءة الجمهور يطيقونه أي يقدرون عليه ; لأن فرض الصيام هكذا : من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا ، وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ، ثم نسخت بقوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم . قال الفراء : الضمير في يطيقونه يجوز أن يعود على الصيام ، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا ، ثم نسخ بقوله : وأن تصوموا ، ويجوز أن يعود على الفداء ، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية ، وأما قراءة " يطوقونه " على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم ، كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم ، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك ، ففسر ابن عباس - إن كان الإسناد عنه صحيحا - يطيقونه بيطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن . روى أبو داود عن ابن عباس وعلى الذين يطيقونه قال : أثبتت للحبلى والمرضع ، وروي عنه أيضا وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين قال : كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا ، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا ، وخرج الدارقطني عنه أيضا قال : رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه ، هذا إسناد صحيح . وروي عنه أيضا أنه قال : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعما مكان كل يوم مسكينا ، وهذا صحيح ، وروي عنه أيضا أنه قال لأم ولد له حبلى أو مرضع : أنت من الذين لا يطيقون الصيام ، عليك الجزاء ولا عليك القضاء ، وهذا إسناد صحيح . وفي رواية : كانت له أم ولد ترضع - من غير شك - فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي ، هذا صحيح .قلت : فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر ، والقول الأول صحيح أيضا ، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص ، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه ، والله أعلم ، وقال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأصحاب الرأي : الحامل والمرضع يفطران ولا إطعام عليهما ، بمنزلة المريض يفطر ويقضي ، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور ، وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي ثور ، واختاره ابن المنذر ، وهو قول مالك في الحبلى إن أفطرت ، فأما المرضع إن أفطرت فعليها القضاء والإطعام ، وقال الشافعي وأحمد : يفطران ويطعمان ويقضيان ، وأجمعوا على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا ، واختلفوا فيما عليهم ، فقال ربيعة ومالك : لا شيء عليهم ، غير أن مالكا قال : لو أطعموا عن كل يوم مسكينا كان أحب إلي . وقال أنس وابن عباس وقيس بن السائب وأبو هريرة : عليهم الفدية ، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق اتباعا لقول الصحابة رضي الله عن جميعهم ، وقوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ثم قال : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين وهؤلاء ليسوا بمرضى ولا مسافرين ، فوجبت عليهم الفدية ، والدليل لقول مالك : أن هذا مفطر لعذر موجود فيه وهو الشيخوخة والكبر فلم يلزمه إطعام كالمسافر والمريض ، وروي هذا عن الثوري ومكحول ، واختاره ابن المنذر .الثالثة : واختلف من أوجب الفدية على من ذكر في مقدارها ، فقال مالك : مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يوم أفطره ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : كفارة كل يوم صاع تمر أو نصف صاع بر ، وروي عن ابن عباس نصف صاع من حنطة ، ذكره الدارقطني ، وروي عن أبي هريرة قال : من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مد من قمح . وروي عن أنس بن مالك أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة من طعام ثم دعا بثلاثين مسكينا فأشبعهم .الرابعة : قوله تعالى : فمن تطوع خيرا فهو خير له قال ابن شهاب : من أراد الإطعام مع الصوم ، وقال مجاهد : من زاد في الإطعام على المد . ابن عباس : فمن تطوع خيرا قال : مسكينا آخر فهو خير له . ذكره الدارقطني وقال : إسناد صحيح ثابت . وخير الثاني صفة تفضيل ، وكذلك الثالث وخير الأول ، وقرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " يطوع خيرا " مشددا وجزم العين على معنى يتطوع . الباقون " تطوع " بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي .الخامسة : قوله تعالى : وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أي والصيام خير لكم . وكذا قرأ أبي ، أي من الإفطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ ، وقيل : وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق والله أعلم ، وعلى الجملة فإنه يقتضي الحض على الصوم ، أي فاعلموا ذلك وصوموا .
2:185
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِیْۤ اُنْزِلَ فِیْهِ الْقُرْاٰنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَ بَیِّنٰتٍ مِّنَ الْهُدٰى وَ الْفُرْقَانِۚ-فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُؕ-وَ مَنْ كَانَ مَرِیْضًا اَوْ عَلٰى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ اَیَّامٍ اُخَرَؕ-یُرِیْدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْیُسْرَ وَ لَا یُرِیْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ٘-وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللّٰهَ عَلٰى مَا هَدٰىكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ(۱۸۵)
رمضان کا مہینہ جس میں قرآن اترا (ف۳۳۱) لوگوں کے لئے ہدایت اور رہنمائی اور فیصلہ کی روشن باتیں تو تم میں جو کوئی یہ مہینہ پائے، ضرور اس کے روزے رکھے اور جو بیمار یا سفر میں ہو تو اتنے روزے اور دنوں میں اللہ تم پر آسانی چاہتا ہے اور تم پر دشواری نہیں چاہتا اور اس لئے کہ تم گنتی پوری کرو (ف۳۳۲) اور اللہ کی بڑائی بولو اس پر کہ اس نے تمہیں ہدایت کی اور کہیں تم حق گزار ہو،

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرونفيه إحدى وعشرون مسألة :الأولى : قوله تعالى : شهر رمضان قال أهل التاريخ : أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة ، وقد تقدم قول مجاهد : كتب الله رمضان على كل أمة ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم ، والله أعلم ، والشهر مشتق من الإشهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده ، ومنه يقال : شهرت السيف إذا سللته . ورمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش . والرمضاء ( ممدودة ) : شدة الحر ، ومنه الحديث : صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال . خرجه مسلم . ورمض الفصال أن تحرق الرمضاء أخفافها فتبرك من شدة حرها . فرمضان - فيما ذكروا - وافق شدة الحر ، فهو مأخوذ من الرمضاء . قال الجوهري : وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء ، يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك . وقيل : إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة ، من الإرماض وهو الإحراق ، ومنه رمضت قدمه من الرمضاء أي احترقت ، وأرمضتني الرمضاء أي أحرقتني ، ومنه قيل : أرمضني الأمر ، وقيل : لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس ، والرمضاء : الحجارة المحماة ، وقيل : هو من رمضت النصل أرمضه وأرمضه رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق . ومنه نصل رميض ومرموض - عن ابن السكيت - وسمي الشهر به لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان ليحاربوا بها في شوال قبل دخول الأشهر الحرم ، وحكى الماوردي أن اسمه في الجاهلية ( ناتق ) وأنشد للمفضل :وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى وولت على الأدبار فرسان خثعماوشهر بالرفع قراءة الجماعة على الابتداء ، والخبر الذي أنزل فيه القرآن . أو يرتفع على إضمار مبتدأ ، المعنى : المفروض عليكم صومه شهر رمضان ، أو فيما كتب عليكم شهر رمضان ، ويجوز أن يكون شهر مبتدأ ، و الذي أنزل فيه القرآن صفة ، والخبر فمن شهد منكم الشهر ، وأعيد ذكر الشهر تعظيما ، كقوله تعالى : الحاقة ما الحاقة . وجاز أن يدخله معنى الجزاء ; لأن شهر رمضان وإن كان معرفة فليس معرفة بعينها لأنه شائع في جميع القابل ، قاله أبو علي . وروي عن مجاهد وشهر بن حوشب نصب شهر ، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو ، ومعناه : الزموا شهر رمضان أو صوموا . و الذي أنزل فيه القرآن نعت له ، ولا يجوز أن ينتصب بتصوموا ; لئلا يفرق بين الصلة والموصول بخبر أن وهو خير لكم . الرماني : يجوز نصبه على البدل من قول أياما معدودات .الثانية : واختلف هل يقال رمضان دون أن يضاف إلى شهر ، فكره ذلك مجاهد وقال : يقال كما قال الله تعالى . وفي الخبر : لا تقولوا رمضان بل انسبوه كما نسبه الله في القرآن فقال شهر رمضان ، وكان يقول : بلغني أنه اسم من أسماء الله . وكان يكره أن يجمع لفظه لهذا المعنى ، ويحتج بما روي : رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، وهذا ليس بصحيح فإنه من حديث أبي معشر نجيح وهو ضعيف ، والصحيح جواز إطلاق رمضان من غير إضافة كما ثبت في الصحاح وغيرها . روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين . وفي صحيح البستي عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان رمضان فتحت له أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين ، وروي عن ابن شهاب عن أنس بن أبي أنس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول . . . فذكره . قال البستي : أنس بن أبي أنس هذا هو والد مالك بن أنس ، واسم أبي أنس مالك بن أبي عامر من ثقات أهل المدينة ، وهو مالك ابن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن جثيل بن عمرو من ذي أصبح من أقيال اليمن ، وروى النسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين ، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم ، وأخرجه أبو حاتم البستي أيضا وقال : فقوله مردة الشياطين تقييد لقوله : صفدت الشياطين وسلسلت ، وروى النسائي أيضا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار : إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة . وروى النسائي أيضا عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى فرض صيام رمضان [ عليكم ] وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، والآثار في هذا كثيرة ، كلها بإسقاط شهر ، وربما أسقطت العرب ذكر الشهر من رمضان . قال الشاعر :جارية في درعها الفضفاض أبيض من أخت بني إباضجارية في رمضان الماضي تقطع الحديث بالإيماضوفضل رمضان عظيم ، وثوابه جسيم ، يدل على ذلك معنى الاشتقاق من كونه محرقا للذنوب ، وما كتبناه من الأحاديث .الثالثة : فرض الله صيام شهر رمضان أي مدة هلاله ، وبه سمي الشهر ، كما جاء في الحديث : ( فإن غمي عليكم الشهر ) أي الهلال ، وسيأتي ، وقال الشاعر :أخوان من نجد على ثقة والشهر مثل قلامة الظفرحتى تكامل في استدارته في أربع زادت على عشروفرض علينا عند غمة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما ، وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما ، حتى ندخل في العبادة بيقين ونخرج عنها بيقين ، فقال في كتابه وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ، وروى الأئمة الأثبات عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدد في رواية فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين . وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة من اللغويين فقالا : يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان ، حتى إنه لو كان صحوا لرئي ، لقوله عليه السلام : فإن أغمي عليكم فاقدروا له أي استدلوا عليه بمنازله ، وقدروا إتمام الشهر بحسابه . وقال الجمهور : معنى فاقدروا له فأكملوا المقدار ، يفسره حديث أبي هريرة فأكملوا العدة . وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله " فاقدروا له " : أي قدروا المنازل ، وهذا لا نعلم أحدا قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين ، والإجماع حجة عليهم ، وقد روى ابن نافع عن مالك في الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته ، وإنما يصوم ويفطر على الحساب : إنه لا يقتدى به ولا يتبع . قال ابن العربي : وقد زل بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال : يعول على الحساب ، وهي عثرة ( لا لعا لها ) .الرابعة : واختلف مالك والشافعي هل يثبت هلال رمضان بشهادة واحد أو شاهدين ، فقال مالك : لا يقبل فيه شهادة الواحد لأنها شهادة على هلال فلا يقبل فيها أقل من اثنين ، أصله الشهادة على هلال شوال وذي الحجة ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : يقبل الواحد ، لما رواه أبو داود عن ابن عمر قال : تراءى الناس الهلال فأخبرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه ، وأخرجه الدارقطني وقال : تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة . روى الدارقطني " أن رجلا شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام ، أحسبه قال : وأمر الناس أن يصوموا " ، وقال : أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان . قال الشافعي : فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان ورآه رجل عدل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط ، وقال الشافعي بعد : لا يجوز على رمضان إلا شاهدان . قال الشافعي وقال بعض أصحابنا : لا أقبل عليه إلا شاهدين ، وهو القياس على كل مغيب .الخامسة : واختلفوا فيمن رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال ، فروى الربيع عن الشافعي : من رأى هلال رمضان وحده فليصمه ، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر ، وليخف ذلك ، وروى ابن وهب عن مالك في الذي يرى هلال رمضان وحده أنه يصوم ; لأنه لا ينبغي له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من شهر رمضان ، ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر ; لأن الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونا ، ثم يقول أولئك إذا ظهر عليهم : قد رأينا الهلال . قال ابن المنذر : وبهذا قال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل ، وقال عطاء وإسحاق : لا يصوم ولا يفطر . قال ابن المنذر : يصوم ويفطر .السادسة : واختلفوا إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد ، فلا يخلو أن يقرب أو يبعد ، فإن قرب فالحكم واحد ، وإن بعد فلأهل كل بلد رؤيتهم ، روي هذا عن عكرمة والقاسم وسالم وروي عن ابن عباس ، وبه قال إسحاق ، وإليه أشار البخاري حيث بوب : ( لأهل كل بلد رؤيتهم ) . وقال آخرون : إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد قد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا ، هكذا قال الليث بن سعد والشافعي . قال ابن المنذر : ولا أعلمه إلا قول المزني والكوفي .قلت : ذكر إلكيا الطبري في كتاب ( أحكام القرآن ) له : وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلد ثلاثين يوما للرؤية ، وأهل بلد تسعة وعشرين يوما أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم . وأصحاب الشافعي لا يرون ذلك ، إذ كانت المطالع في البلدان يجوز أن تختلف ، وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى : ولتكملوا العدة وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها . ومخالفهم يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته الحديث ، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم ، وحكى أبو عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان ، قال : ولكل بلد رؤيتهم ، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين . روى مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة ، فقال : أنت رأيته ؟ فقلت نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ، فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ، فقلت : أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال علماؤنا : قول ابن عباس ( هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) كلمة تصريح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره ، فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره ، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم ، ما لم يحمل الناس على ذلك ، فإن حمل فلا تجوز مخالفته ، وقال إلكيا الطبري : قوله ( هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يحتمل أن يكون تأول فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، وقال ابن العربي : واختلف في تأويل قول ابن عباس هذا فقيل : رده لأنه خبر واحد ، وقيل : رده لأن الأقطار مختلفة في المطالع ، وهو الصحيح ; لأن كريبا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة ، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجزي فيه خبر الواحد ، ونظيره ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات وأهل بإشبيلية ليلة السبت فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم ; لأن سهيلا يكشف من أغمات ولا يكشف من إشبيلية ، وهذا يدل على اختلاف المطالع .قلت : وأما مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة فروى ابن وهب وابن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء ، وروى القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل له فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء ، وإن كان إنما ثبت عند حاكمهم بشهادة شاهدين لم يلزم ذلك من البلاد إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته ، أو يكون ثبت ذلك عند أمير المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين . قال : وهذا قول مالك .السابعة : قرأ جمهور الناس شهر بالرفع على أنه خبر ابتداء مضمر ، أي ذلكم شهر ، أو المفترض عليكم صيامه شهر رمضان ، أو الصوم أو الأيام ، وقيل : ارتفع على أنه مفعول لم يسم فاعله ب كتب أي كتب عليكم شهر رمضان . ورمضان لا ينصرف لأن النون فيه زائدة ، ويجوز أن يكون مرفوعا على الابتداء ، وخبره الذي أنزل فيه القرآن ، وقيل : خبره فمن شهد ، والذي أنزل نعت له ، وقيل : ارتفع على البدل من الصيام ، فمن قال : إن الصيام في قوله كتب عليكم الصيام هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هنا بالابتداء ، ومن قال : إن الصيام هناك رمضان قال هنا بالابتداء أو بالبدل من الصيام ، أي كتب عليكم شهر رمضان .وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب شهر بالنصب . قال الكسائي : المعنى كتب عليكم الصيام ، وأن تصوموا شهر رمضان . وقال الفراء : أي كتب عليكم الصيام أي أن تصوموا شهر رمضان . قال النحاس : لا يجوز أن ينتصب شهر رمضان بتصوموا ; لأنه يدخل في الصلة ثم يفرق بين الصلة والموصول ، وكذلك إن نصبته بالصيام ، ولكن يجوز أن تنصبه على الإغراء ، أي الزموا شهر رمضان ، وصوموا شهر رمضان ، وهذا بعيد أيضا لأنه لم يتقدم ذكر الشهر فيغرى به .قلت : قوله كتب عليكم الصيام يدل على الشهر فجاز الإغراء ، وهو اختيار أبي عبيد ، وقال الأخفش : انتصب على الظرف ، وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام الراء في الراء ، وهذا لا يجوز لئلا يجتمع ساكنان ، ويجوز أن تقلب حركة الراء على الهاء فتضم الهاء ثم تدغم ، وهو قول الكوفيين .الثامنة : قوله تعالى : الذي أنزل فيه القرآن نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان ، وهو يبين قوله عز وجل : حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة يعني ليلة القدر ، ولقوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره ، ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر - على ما بيناه - جملة واحدة ، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم كان جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل به نجما نجما في الأوامر والنواهي والأسباب ، وذلك في عشرين سنة . وقال ابن عباس : أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا ، ثم أنزل به جبريل عليه السلام نجوما - يعني الآية والآيتين - في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة . وقال مقاتل في قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن قال أنزل من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ، ثم نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا ، ونزل به جبريل في عشرين سنة .قلت : وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع ( أن القرآن أنزل جملة واحدة ) والله أعلم ، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين .قلت : وفي هذا الحديث دلالة على ما يقوله الحسن أن ليلة القدر تكون ليلة أربع وعشرين ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان هذا .التاسعة : قوله تعالى : القرآن القرآن : اسم لكلام الله تعالى ، وهو بمعنى المقروء ، كالمشروب يسمى شرابا ، والمكتوب يسمى كتابا ، وعلى هذا قيل : هو مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا بمعنى . قال الشاعر :ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآناأي قراءة ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر أن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان عليه السلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا أي قراءة ، وفي التنزيل : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا أي قراءة الفجر . ويسمى المقروء قرآنا على عادة العرب في تسميتها المفعول باسم المصدر ، كتسميتهم للمعلوم علما وللمضروب ضربا وللمشروب شربا ، كما ذكرنا ، ثم اشتهر الاستعمال في هذا واقترن به العرف الشرعي ، فصار القرآن اسما لكلام الله ، حتى إذا قيل : القرآن غير مخلوق ، يراد به المقروء لا القراءة لذلك ، وقد يسمى المصحف الذي يكتب فيه كلام الله قرآنا توسعا ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو أراد به المصحف . وهو مشتق من قرأت الشيء جمعته . وقيل : هو اسم علم لكتاب الله ، غير مشتق كالتوراة والإنجيل ، وهذا يحكى عن الشافعي والصحيح الاشتقاق في الجميع ، وسيأتي .العاشرة : قوله تعالى : هدى للناس هدى في موضع نصب على الحال من القرآن ، أي هاديا لهم . وبينات عطف عليه . والهدى الإرشاد والبيان ، كما تقدم أي بيانا لهم وإرشادا ، والمراد القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ ، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه ، يعني الحلال والحرام والمواعظ والأحكام . وبينات جمع بينة ، من بان الشيء يبين إذا وضح . والفرقان ما فرق بين الحق والباطل ، أي فصل ، وقد تقدم .الحادية عشرة : قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه قراءة العامة بجزم اللام ، وقرأ الحسن والأعرج بكسر اللام ، وهي لام الأمر وحقها الكسر إذا أفردت ، فإذا وصلت بشيء ففيها وجهان : الجزم والكسر . وإنما توصل بثلاثة أحرف : بالفاء كقوله فليصمه ، فليعبدوا والواو كقوله : وليوفوا وثم كقوله : ثم ليقضوا وشهد بمعنى حضر ، وفيه إضمار ، أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلا بالغا صحيحا مقيما فليصمه ، وهو يقال عام فيخصص بقوله : " فمن كان منكم مريضا أو على سفر " الآية ، وليس الشهر بمفعول وإنما هو ظرف زمان ، وقد اختلف العلماء في تأويل هذا ، فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وسويد بن غفلة وعائشة - أربعة من الصحابة - وأبو مجلز لاحق بن حميد وعبيدة السلماني : من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله في بلده وأهله فليكمل صيامه ، سافر بعد ذلك أو أقام ، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر . والمعنى عندهم : من أدركه رمضان مسافرا أفطر وعليه عدة من أيام أخر ، ومن أدركه حاضرا فليصمه ، وقال جمهور الأمة : من شهد أول الشهر وآخره فليصم ما دام مقيما ، فإن سافر أفطر ، وهذا هو الصحيح وعليه تدل الأخبار الثابتة . وقد ترجم البخاري رحمه الله ردا على القول الأول ( باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر ) حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس . قال أبو عبد الله : والكديد ما بين عسفان وقديد .قلت : قد يحتمل أن يحمل قول علي رضي الله عنه ومن وافقه على السفر المندوب كزيارة الإخوان من الفضلاء والصالحين ، أو المباح في طلب الرزق الزائد على الكفاية . وأما السفر الواجب في طلب القوت الضروري ، أو فتح بلد إذا تحقق ذلك ، أو دفع عدو ، فالمرء فيه مخير ولا يجب عليه الإمساك ، بل الفطر فيه أفضل للتقوي ، وإن كان شهد الشهر في بلده وصام بعضه فيه ، لحديث ابن عباس وغيره ، ولا يكون في هذا خلاف إن شاء الله والله أعلم ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه ، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه ; لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام ، ومن جن أول الشهر وآخره فإنه يقضي أيام جنونه ، ونصب الشهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح ب شهد .الثانية عشرة : قد تقرر أن فرض الصوم مستحق بالإسلام والبلوغ والعلم بالشهر ، فإذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل الفجر لزمهما الصوم صبيحة اليوم ، وإن كان الفجر استحب لهما الإمساك ، وليس عليهما قضاء الماضي من الشهر ولا اليوم الذي بلغ فيه أو أسلم ، وقد اختلف العلماء في الكافر يسلم في آخر يوم من رمضان ، هل يجب عليه قضاء رمضان كله أو لا ؟ وهل يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه ؟ فقال الإمام مالك والجمهور : ليس عليه قضاء ما مضى ; لأنه إنما شهد الشهر من حين إسلامه . قال مالك : وأحب إلي أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه ، وقال عطاء والحسن : يصوم ما بقي ويقضي ما مضى ، وقال عبد الملك بن الماجشون : يكف عن الأكل في ذلك اليوم ويقضيه ، وقال أحمد وإسحاق مثله ، وقال ابن المنذر : ليس عليه أن يقضي ما مضى من الشهر ولا ذلك اليوم ، وقال الباجي : من قال من أصحابنا إن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام - وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه - أوجب عليه الإمساك في بقية يومه ، ورواه في المدونة ابن نافع عن مالك وقال الشيخ أبو القاسم ومن قال من أصحابنا ليسوا مخاطبين قال : لا يلزمه الإمساك في بقية يومه ، وهو مقتضى قول أشهب وعبد الملك بن الماجشون ، وقاله ابن القاسم .قلت : وهو الصحيح لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا فخاطب المؤمنين دون غيرهم ، وهذا واضح ، فلا يجب عليه الإمساك في بقية اليوم ولا قضاء ما مضى .وتقدم القول في معني قوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر والحمد لله .الثالثة عشرة : قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر قراءة جماعة " اليسر " بضم السين لغتان ، وكذلك " العسر " . قال مجاهد والضحاك : اليسر الفطر في السفر ، والعسر الصيام في السفر ، والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين ، كما قال تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم دين الله يسر وقال صلى الله عليه وسلم : يسروا ولا تعسروا . واليسر من السهولة ، ومنه اليسار للغنى . وسميت اليد اليسرى تفاؤلا ، أو لأنه يسهل له الأمر بمعاونتها لليمنى ، قولان ، وقوله : ولا يريد بكم العسر هو بمعنى قوله يريد الله بكم اليسر فكرر تأكيدا .الرابعة عشرة : دلت الآية على أن الله سبحانه مريد بإرادة قديمة أزلية زائدة على الذات . هذا مذهب أهل السنة ، كما أنه عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حي بحياة ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، متكلم بكلام ، وهذه كلها معان وجودية أزلية زائدة على الذات . وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها ، تعالى الله عن قول الزائغين وإبطال المبطلين ، والذي يقطع دابر أهل التعطيل أن يقال : لو لم يصدق كونه ذا إرادة لصدق أنه ليس بذي إرادة ، ولو صح ذلك لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى من له إرادة ، فإن من كانت له الصفات الإرادية فله أن يخصص الشيء وله ألا يخصصه ، فالعقل السليم يقضي بأن ذلك كمال له وليس بنقصان ، حتى إنه لو قدر بالوهم سلب ذلك الأمر عنه لقد كان حاله أولا أكمل بالنسبة إلى حال ثانيا ، فلم يبق إلا أن يكون ما لم يتصف أنقص مما هو متصف به ، ولا يخفى ما فيه من المحال ، فإنه كيف يتصور أن يكون المخلوق أكمل من الخالق ، والخالق أنقص منه ، والبديهة تقضي برده وإبطاله ، وقد وصف نفسه جل جلاله وتقدست أسماؤه بأنه مريد فقال تعالى : فعال لما يريد وقال سبحانه : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال : يريد الله أن يخفف عنكم إذا أراد أمرا فإنما يقول كن فيكون ، ثم إن هذا العالم على غاية من الحكمة والإتقان والانتظام والإحكام ، وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه ، فالذي خصصه بالوجود يجب أن يكون مريدا له قادرا عليه عالما به ، فإن لم يكن عالما قادرا لا يصح منه صدور شيء ، ومن لم يكن عالما وإن كان قادرا لم يكن ما صدر منه على نظام الحكمة والإتقان ، ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات بأحوال وأوقات دون البعض بأولى من العكس ، إذ نسبتها إليه نسبة واحدة . قالوا : وإذ ثبت كونه قادرا مريدا وجب أن يكون حيا ، إذ الحياة شرط هذه الصفات ، ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما ، فإن لم تثبت له هذه الصفات فإنه لا محالة متصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد ، والبارئ سبحانه وتعالى يتقدس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصا .الخامسة عشرة : قوله تعالى : ولتكملوا العدة فيه تأويلان : أحدهما : إكمال عدة الأداء لمن أفطر في سفره أو مرضه . الثاني : عدة الهلال سواء كانت تسعا وعشرين أو ثلاثين . قال جابر بن عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الشهر يكون تسعا وعشرين . وفي هذا رد لتأويل من تأول قوله صلى الله عليه وسلم : شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة أنهما لا ينقصان عن ثلاثين يوما ، أخرجه أبو داود . وتأول جمهور العلماء على معنى أنهما لا ينقصان في الأجر وتكفير الخطايا ، سواء كانا من تسع وعشرين أو ثلاثين .السادسة عشرة : ولا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهارا بل هو لليلة التي تأتي ، هذا هو الصحيح ، وقد اختلف الرواة عن عمر في هذه المسألة فروى الدارقطني عن شقيق قال : جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين قال في كتابه : إن الأهلة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس وذكره أبو عمر من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال : كتب إلينا عمر . . . ، فذكره . قال أبو عمر : وروي عن علي بن أبي طالب مثل ما ذكره عبد الرزاق أيضا ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وأنس بن مالك ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والليث والأوزاعي ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وقال سفيان الثوري وأبو يوسف : إن رئي بعد الزوال فهو لليلة التي تأتي ، وإن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية ، وروي مثل ذلك عنعمر ، ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال : كتب عمر إلى عتبة بن فرقد " إذا رأيتم الهلال نهارا قبل أن تزول الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا ، وإذا رأيتموه بعد ما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تمسوا " ، وروي عن علي مثله ، ولا يصح في هذه المسألة شيء من جهة الإسناد على علي ، وروي عن سليمان بن ربيعة مثل قول الثوري ، وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب ، وبه كان يفتى بقرطبة ، واختلف عن عمر بن عبد العزيز في هذه المسألة ، قال أبو عمر : والحديث عن عمر بمعنى ما ذهب إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة متصل ، والحديث الذي روي عنه بمذهب الثوري منقطع ، والمصير إلى المتصل أولى ، وقد احتج من ذهب مذهب الثوري بأن قال : حديث الأعمش مجمل لم يخص فيه قبل الزوال ولا بعده ، وحديث إبراهيم مفسر ، فهو أولى أن يقال به .قلت : قد روي مرفوعا معنى ما روي عن عمر متصلا موقوفا روته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما صبح ثلاثين يوما ، فرأى هلال شوال نهارا فلم يفطر حتى أمسى . أخرجه الدارقطني من حديث الواقدي وقال : قال الواقدي حدثنا معاذ بن محمد الأنصاري قال : سألت الزهري عن هلال شوال إذا رئي باكرا ، قال سمعت سعيد بن المسيب يقول : إن رئي هلال شوال بعد أن طلع الفجر إلى العصر أو إلى أن تغرب الشمس فهو من الليلة التي تجيء ، قال أبو عبد الله : وهذا مجمع عليه .السابعة عشرة : روى الدارقطني عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : قال : اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهلا الهلال أمس عشية ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم . قال الدارقطني : هذا إسناد حسن ثابت . قال أبو عمر : لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال ، وحكي عن أبي حنيفة . واختلف قول الشافعي في هذه المسألة ، فمرة قال بقول مالك ، واختاره المزني وقال : إذا لم يجز أن تصلى في يوم العيد بعد الزوال فاليوم الثاني أبعد من وقتها وأحرى ألا تصلى فيه ، وعن الشافعي رواية أخرى أنها تصلى في اليوم الثاني ضحى ، وقال البويطي : لا تصلى إلا أن يثبت في ذلك حديث . قال أبو عمر : لو قضيت صلاة العيد بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض ، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى ، فهذه مثلها ، وقال الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل : يخرجون من الغد ، وقال أبو يوسف في الإملاء ، وقال الحسن بن صالح بن حي : لا يخرجون في الفطر ويخرجون في الأضحى . قال أبو يوسف : وأما في الأضحى فيصليها بهم في اليوم الثالث . قال أبو عمر : لأن الأضحى أيام عيد وهي صلاة عيد ، وليس الفطر يوم عيد إلا يوم واحد ، فإذا لم تصل فيه لم تقض في غيره ; لأنها ليست بفريضة فتقضى ، وقال الليث بن سعد : يخرجون في الفطر والأضحى من الغد .قلت : والقول بالخروج إن شاء الله أصح ، للسنة الثابتة في ذلك ، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته ، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس . صححه أبو محمد . قال الترمذي : والعمل على هذا عند بعض أهل العلم ، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك ، وروي عن عمر أنه فعله .قلت : وقد قال علماؤنا : من ضاق عليه الوقت وصلى الصبح وترك ركعتي الفجر فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء ، وقيل : لا يصليهما حينئذ ، ثم إذا قلنا : يصليهما فهل ما يفعله قضاء ، أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر . قال الشيخ أبو بكر : وهذا الجاري على أصل المذهب ، وذكر القضاء تجوز .قلت : ولا يبعد أن يكون حكم صلاة الفطر في اليوم الثاني على هذا الأصل ، لا سيما مع كونها مرة واحدة في السنة مع ما ثبت من السنة . روى النسائي قال : أخبرني عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا شعبة قال حدثني أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له : أن قوما رأوا الهلال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفطروا بعد ما ارتفع النهار وأن يخرجوا إلى العيد من الغد . في رواية : ويخرجوا لمصلاهم من الغد .الثامنة عشرة : قرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو - في بعض ما روي عنه - والحسن وقتادة والأعرج " ولتكملوا العدة " بالتشديد . والباقون بالتخفيف ، واختار الكسائي التخفيف ، كقوله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم . قال النحاس : وهما لغتان بمعنى واحد ، كما قال عز وجل : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ، ولا يجوز " ولتكملوا " بإسكان اللام ، والفرق بين هذا وبين ما تقدم أن التقدير : ويريد لأن تكملوا ، ولا يجوز حذف أن والكسرة ، هذا قول البصريين ، ونحوه قول كثير أبو صخر :أريد لأنسى ذكرهاأي لأن أنسى ، وهذه اللام هي الداخلة على المفعول ، كالتي في قولك : ضربت لزيد ، المعنى ويريد إكمال العدة ، وقيل : هي متعلقة بفعل مضمر بعد ، تقديره : ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة ، وهذا قول الكوفيين وحكاه النحاس عن الفراء . قال النحاس : وهذا قول حسن ، ومثله : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك . وقيل : الواو مقحمة ، وقيل : يحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري : هو محمول على المعنى ، والتقدير : فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدة ، قال : ومثله ما أنشده سيبويه :بادت وغير آيهن مع البلى إلا رواكد جمرهن هباءومشجج أما سواء قذاله فبدا وغيب ساره المعزاءشاده يشيده شيدا جصصه ; لأن معناه بادت إلا رواكد بها رواكد ، فكأنه قال : وبها مشجج أو ثم مشجج .التاسعة عشرة : قوله تعالى : ولتكبروا الله عطف عليه ، ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل ، واختلف الناس في حده ، فقال الشافعي : روي عن سعيد ابن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ويحمدون ، قال : وتشبه ليلة النحر بها وقال ابن عباس : حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا وروي عنه : يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة ، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره وقال قوم : يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام للصلاة ، وقال سفيان : هو التكبير يوم الفطر . زيد بن أسلم : يكبرون إذا خرجوا إلى المصلى فإذا انقضت الصلاة انقضى العيد ، وهذا مذهب مالك ، قال مالك : هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام ، وروى ابن القاسم وعلي بن زياد : أنه إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا جلوسه حتى تطلع الشمس ، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الإمام ، والفطر والأضحى في ذلك سواء عند مالك وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر ، والدليل عليه قوله تعالى : ولتكبروا الله ولأن هذا يوم عيد لا يتكرر في العام فسن التكبير في الخروج إليه كالأضحى . وروى الدارقطني عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى ، وروي عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلىوروي عن ابن عمر : أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي ثم يكبر حتى يأتي الإمام وأكثر أهل العلم على التكبير في عيد الفطر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم فيما ذكر ابن المنذر قال : وحكى ذلك الأوزاعي عن إلياس ، وكان الشافعي يقول إذا رأى هلال شوال : أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى ، ولا يزالون يكبرون ويظهرون التكبير حتى يغدوا إلى المصلى وحين يخرج الإمام إلى الصلاة ، وكذلك أحب ليلة الأضحى لمن لم يحج . وسيأتي حكم صلاة العيدين والتكبير فيهما في سبح اسم ربك الأعلى والكوثر إن شاء الله تعالى .الموفية عشرين : ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، ثلاثا ، وروي عن جابر بن عبد الله ، ومن العلماء من يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير ، ومنهم من يقول : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، وكان ابن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا . قال ابن المنذر : وكان مالك لا يحد فيه حدا ، وقال أحمد : هو واسع . قال ابن العربي : " واختار علماؤنا التكبير المطلق ، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل " .الحادية والعشرون : قوله تعالى : على ما هداكم قيل : لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم . وقيل : بدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر بالأحساب وتعديد المناقب ، وقيل : لتعظموه على ما أرشدكم إليه من الشرائع ، فهو عام . وتقدم معنى ولعلكم تشكرون
2:186
وَ اِذَا سَاَلَكَ عِبَادِیْ عَنِّیْ فَاِنِّیْ قَرِیْبٌؕ-اُجِیْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ اِذَا دَعَانِۙ-فَلْیَسْتَجِیْبُوْا لِیْ وَ لْیُؤْمِنُوْا بِیْ لَعَلَّهُمْ یَرْشُدُوْنَ(۱۸۶)
اور اے محبوب جب تم سے میرے بندے مجھے پوچھیں تو میں نزدیک ہوں (ف۳۳۳) دعا قبول کرتا ہوں پکارنے والے کی جب مجھے پکارے (ف۳۳۴) تو انہیں چاہئے میرا حکم مانیں اور مجھ پر ایمان لائیں کہ کہیں راہ پائیں،

قوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدونفيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : وإذا سألك المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي ، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك ، واختلف في سبب نزولها ، فقال مقاتل : إن عمر رضي الله عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى ، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتما ، وكان ذلك قبل نزول الرخصة ، فنزلت هذه الآية : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ، وقيل : لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم ، فنزلت هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم ، على ما يأتي بيانه . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا ، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام ، وغلظ كل سماء مثل ذلك ؟ فنزلت هذه الآية ، وقال الحسن : سببها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فنزلت ، وقال عطاء وقتادة : لما نزلت : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم قال قوم : في أي ساعة ندعوه ؟ فنزلت .الثانية : قوله تعالى : فإني قريب أي بالإجابة ، وقيل بالعلم ، وقيل : قريب من أوليائي بالإفضال والإنعام .الثالثة : قوله تعالى : أجيب دعوة الداع إذا دعان أي أقبل عبادة من عبدني ، فالدعاء بمعنى العبادة ، والإجابة بمعنى القبول . دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الدعاء هو العبادة وقال ربكم ادعوني أستجب لكم فسمي الدعاء عبادة ، ومنه قوله تعالى : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين أي دعائي ، فأمر تعالى بالدعاء وخص عليه وسماه عبادة ، ووعد بأن يستجيب لهم . روى ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة ما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس، وكان خالد الربعي يقول : عجبت لهذه الأمة في ادعوني أستجب لكم أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة ، وليس بينهما شرط . قال له قائل : مثل ماذا ؟ قال مثل قوله : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات فها هنا شرط ، وقوله : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق فليس فيه شرط العمل ، ومثل قوله : فادعوا الله مخلصين له الدين فها هنا شرط ، وقوله : ادعوني أستجب لكم ليس فيه شرط ، وكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك .فإن قيل : فما للداعي قد يدعو فلا يجاب ؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين أجيب أستجب لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل ، ولا بكل مطلوب على التفصيل ، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد ، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له ، وأنواع الاعتداء كثيرة ، يأتي بيانها هنا وفي [ الأعراف ] إن شاء الله تعالى ، وقال بعض العلماء : أجيب إن شئت ، كما قال : فيكشف ما تدعون إليه إن شاء فيكون هذا من باب المطلق والمقيد ، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة ، على ما يأتي بيانه في ( الأنعام ) إن شاء الله تعالى . وقيل : إنما مقصود هذا الإخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة ، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الآية . وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه رسوله ، فالإجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة ; لأن أجيب وأستجب خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا . يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة . وأوحى الله تعالى إلى داود : أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم وقال قوم : إن الله يجيب كل الدعاء ، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا ، وإما أن يكفر عنه ، وإما أن يدخر له في الآخرة ، لما رواه أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث ؛ إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها . قالوا : إذن نكثر ؟ قال : لله أكثر . خرجه أبو عمر بن عبد البر ، وصححه أبو محمد عبد الحق ، وهو في الموطأ منقطع السند . قال أبو عمر : وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول الله تعالى ادعوني أستجب لكم فهذا كله من الإجابة ، وقال ابن عباس : كل عبد دعا استجيب له ، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه ، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له .قلت : وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من الإجابة حيث قال فيه : ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وزاد مسلم : ما لم يستعجل . رواه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل - قيل : يا رسول الله ، ما الاستعجال ؟ قال - يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ، وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : يحتمل قوله يستجاب لأحدكم الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة ، والإخبار عن جواز وقوعها ، فإذا كان بمعنى الإخبار عن الوجوب والوقوع فإن الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة ، فإذا قال : قد دعوت فلم يستجب لي ، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها ، وإن كان بمعنى جواز الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة ، ويمنع من ذلك قول الداعي : قد دعوت فلم يستجب لي ; لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط .قلت : ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه ، قال صلى الله عليه وسلم : الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته ، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به . فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا الله ، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره ، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب ، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه ، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام ، وألا يمل من الدعاء ، ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا ، كما قال : ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب ، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم ، وقال سهل بن عبد الله التستري : شروط الدعاء سبعة : أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال ، وقال ابن عطاء : إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا ، فإن وافق أركانه قوي ، وإن وافق أجنحته طار في السماء ، وإن وافق مواقيته فاز ، وإن وافق أسبابه أنجح . فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع ، وأجنحته الصدق ، ومواقيته الأسحار ، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : شرائطه أربع : أولها حفظ القلب عند الوحدة ، وحفظ اللسان مع الخلق ، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل ، وحفظ البطن من الحرام ، وقد قيل : إن من شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن ، كما أنشد بعضهم :ينادي ربه باللحن ليث كذاك إذا دعاه فلا يجيبعظة : وقيل لإبراهيم بن أدهم : ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟ قال : لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه ، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به ، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها ، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه ، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا ، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس . قال علي رضي الله عنه لنوف البكالي : يا نوف ، إن الله أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأيد نقية ، فإني لا أستجيب لأحد منهم ، ولا لأحد من خلقي له عنده مظلمة . يا نوف ، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا ، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال : إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها ، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا ، أو صاحب عرطبة ، وهي الطنبور ، أو صاحب كوبة ، وهي الطبل . قال علماؤنا : ولا يقل الداعي : اللهم أعطني إن شئت ، اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة ، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء . وأيضا فإن في قوله : إن شئت نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته ، كقول القائل : إن شئت أن تعطيني كذا فافعل ، لا يستعمل هذا إلا مع الغنى عنه ، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله . وروى الأئمة واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ؛ يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له . وفي الموطأ : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت . قال علماؤنا : قوله فليعزم المسألة دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة ، ولا يقنط من رحمة الله ; لأنه يدعو كريما . قال سفيان بن عيينة : لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس ، قال : رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ، قال فإنك من المنظرين ، وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة ، وذلك كالسحر ووقت الفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض ، وعند نزول المطر والصف في سبيل الله . كل هذا جاءت به الآثار ، ويأتي بيانها في مواضعها ، وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له : يا شهر ألا تجد القشعريرة ؟ قلت نعم . قالت : فادع الله فإن الدعاء مستجاب عند ذلك ، وقال جابر بن عبد الله : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرفت السرور في وجهه . قال جابر : ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة .الرابعة : قوله تعالى : فليستجيبوا لي قال أبو رجاء الخراساني : فليدعوا لي . وقال ابن عطية : المعنى فليطلبوا أن أجيبهم ، وهذا هو باب استفعل أي طلب الشيء إلا ما شذ مثل استغنى الله ، وقال مجاهد وغيره : المعنى فليجيبوا إلي فيما دعوتهم إليه من الإيمان ، أي الطاعة والعمل ويقال : أجاب واستجاب بمعنى ، ومنه قول الشاعر :فلم يستجبه عند ذاك مجيبأي لم يجبه . والسين زائدة واللام لام الأمر . وكذا وليؤمنوا وجزمت لام الأمر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط ، وقيل : لأنها لا تقع إلا على الفعل .والرشاد خلاف الغي ، وقد رشد يرشد رشدا ، ورشد ( بالكسر ) يرشد رشدا ، لغة فيه ، وأرشده الله . والمراشد : مقاصد الطرق ، والطريق الأرشد : نحو الأقصد ، وتقول : هو لرشدة . خلاف قولك : لزنية . وأم راشد : كنية للفأرة ، وبنو رشدان : بطن من العرب ، عن الجوهري ، وقال الهروي : الرشد والرشد والرشاد : الهدى والاستقامة ، ومنه قوله : لعلهم يرشدون .
2:187
اُحِلَّ لَكُمْ لَیْلَةَ الصِّیَامِ الرَّفَثُ اِلٰى نِسَآىٕكُمْؕ-هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَ اَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّؕ-عَلِمَ اللّٰهُ اَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُوْنَ اَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَیْكُمْ وَ عَفَا عَنْكُمْۚ-فَالْــٴٰـنَ بَاشِرُوْهُنَّ وَ ابْتَغُوْا مَا كَتَبَ اللّٰهُ لَكُمْ۪-وَ كُلُوْا وَ اشْرَبُوْا حَتّٰى یَتَبَیَّنَ لَكُمُ الْخَیْطُ الْاَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْاَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ۪-ثُمَّ اَتِمُّوا الصِّیَامَ اِلَى الَّیْلِۚ-وَ لَا تُبَاشِرُوْهُنَّ وَ اَنْتُمْ عٰكِفُوْنَۙ-فِی الْمَسٰجِدِؕ-تِلْكَ حُدُوْدُ اللّٰهِ فَلَا تَقْرَبُوْهَاؕ-كَذٰلِكَ یُبَیِّنُ اللّٰهُ اٰیٰتِهٖ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ یَتَّقُوْنَ(۱۸۷)
روزہ کی راتوں میں اپنی عورتوں کے پاس جانا تمہارے لئے حلال ہوا (ف۳۳۵) وہ تمہاری لباس ہیں اور تم ان کے لباس، اللہ نے جانا کہ تم اپنی جانوں کو خیانت میں ڈالتے تھے تو اس نے تمہاری توبہ قبول کی اور تمہیں معاف فرمایا (ف۳۳۶) تو اب ان سے صحبت کرو (ف۳۳۷) اور طلب کرو جو اللہ نے تمہارے نصیب میں لکھا ہو (ف۳۳۸) اور کھاؤ اور پیئو (ف۳۳۹) یہاں تک کہ تمہارے لئے ظاہر ہوجائے سفیدی کا ڈورا سیاہی کے ڈورے سے (پوپھٹ کر) (ف۳۴۰) پھر رات آنے تک روزے پورے کرو (ف۳۴۱) اور عورتوں کو ہاتھ نہ لگاؤ جب تم مسجدوں میں اعتکاف سے ہو (ف۳۴۲) یہ اللہ کی حدیں ہیں ان کے پاس نہ جاؤ اللہ یوں ہی بیان کرتا ہے لوگوں سے اپنی آیتیں کہ کہیں انہیں پرہیزگاری ملے،

قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقونفيه ست وثلاثون مسألة :الأولى : قوله تعالى : أحل لكم لفظ أحل يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ . روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال : وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح ، قال : فجاء عمر فأراد امرأته فقالت : إني قد نمت ، فظن أنها تعتل فأتاها ، فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا : حتى نسخن لك شيئا فنام ، فلما أصبحوا نزلت عليه هذه الآية ، وفيها : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، وروى البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما - وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ففرحوا فرحا شديدا ، ونزلت : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وفي البخاري أيضا عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم يقال : خان واختان بمعنى من الخيانة ، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم ، ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب ، وقال القتبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه ، وذكر الطبري : أن عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له : قد نمت ، فقال لها : ما نمت ، فوقع بها . وصنع كعب بن مالك مثله ، فغدا عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعتذر إلى الله وإليك ، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي ، فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال لي : لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن . وذكره النحاس ومكي ، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته ، وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن الآية .الثانية : قوله تعالى : ليلة الصيام الرفث ليلة نصب على الظرف وهي اسم جنس فلذلك أفردت . و الرفث : كناية عن الجماع لأن الله عز وجل كريم يكني ، قاله ابن عباس والسدي . وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وقاله الأزهري أيضا ، وقال ابن عرفة : الرفث ها هنا الجماع ، والرفث : التصريح بذكر الجماع والإعراب به . قال الشاعرويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفاروقيل : الرفث أصله قول الفحش ، يقال : رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح ، ومنه قول الشاعر :ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلموتعدى الرفث بإلى في قوله تعالى جده : الرفث إلى نسائكم ، وأنت لا تقول : رفثت إلى النساء ، ولكن جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله : وقد أفضى بعضكم إلى بعض . ومن هذا المعنى : وإذا خلوا إلى شياطينهم كما تقدم ، وقوله : يوم يحمى عليها أي يوقد ; لأنك تقول : أحميت الحديدة في النار ، وسيأتي ، ومنه قوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره ; لأنك تقول : خالفت زيدا ، ومثله قوله تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما حمل على رءوف في نحو بالمؤمنين رءوف رحيم ، ألا ترى أنك تقول : رؤفت به ، ولا تقول رحمت به ، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية ، ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي :حملت به في ليلة مزءودة كرها وعقد نطاقها لم يحللعدى " حملت " بالباء ، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه ، كما جاء في التنزيل : حملته أمه كرها ووضعته كرها ولكنه قال : حملت به ; لأنه في معنى حبلت به .الثالثة : قوله تعالى : هن لباس لكم ابتداء وخبر ، وشددت النون من هن لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر . وأنتم لباس لهن أصل اللباس في الثياب ، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا ، لانضمام الجسد إلى الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب ، وقال النابغة الجعدي :إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباساوقال أيضا :لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناساوقال بعضهم : يقال لما ستر الشيء وداراه : لباس ، فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل ، كما ورد في الخبر ، وقيل : لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس ، وقال أبو عبيد وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك . قال رجل لعمر بن الخطاب :ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاريقال أبو عبيد : أي نسائي ، وقيل نفسي ، وقال الربيع : هن فراش لكم ، وأنتم لحاف لهن . مجاهد : أي سكن لكم ، أي يسكن بعضكم إلى بعض .الرابعة : قوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم ، كقوله تعالى : تقتلون أنفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا ، ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها ، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه ، كما تقدم . وقوله : فتاب عليكم يحتمل معنيين : أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم . والآخر : التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة ، كقوله تعالى : علم أن لن تحصوه فتاب عليكم يعني خفف عنكم ، وقوله عقيب القتل الخطأ : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله يعني تخفيفا ; لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه ، وقال تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وإن لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب التوبة منه . وقوله : وعفا عنكم يحتمل العفو من الذنب ، ويحتمل التوسعة والتسهيل ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله يعني تسهيله وتوسعته ، فمعنى علم الله أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة فتاب عليكم بعد ما وقع ، أي خفف عنكم وعفا أي سهل . وتختانون من الخيانة ، كما تقدم . قال ابن العربي : وقال علماء الزهد : وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة ، خان نفسه عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة ، وخفف من أجله عن الأمة فرضي الله عنه وأرضاه .قوله تعالى : فالآن باشروهن كناية عن الجماع ، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم . وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه . قال ابن العربي : ( وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي الله عنه لا جوع قيس ; لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال : فالآن كلوا ، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله ) .الخامسة : قوله تعالى : وابتغوا ما كتب الله لكم قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك : معناه وابتغوا الولد ، يدل عليه أنه عقيب قوله : فالآن باشروهن ، وقال ابن عباس : ما كتب الله لنا هو القرآن . الزجاج : أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به ، وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر ، وقيل : المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة ، قاله قتادة . قال ابن عطية : وهو قول حسن . قيل : وابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزوجات . وقرأ الحسن البصري والحسن ابن قرة ( واتبعوا ) من الاتباع ، وجوزها ابن عباس ، ورجح ابتغوا من الابتغاء .السادسة : وكلوا واشربوا هذا جواب نازلة قيس ، والأول جواب عمر ، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم .السابعة : قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر حتى غاية للتبيين ، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر ، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك ، فقال الجمهور : ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة ، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار . روىمسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ، وحكاه حماد بيديه قال : يعني معترضا ، وفي حديث ابن مسعود : إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه ، وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام هذا مرسل وقالت طائفة : ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت ، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رءوس الجبال . وقال مسروق : لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت ، وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة : أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع ، وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي الله قال : كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر . قال الدارقطني : قيس بن طلق ليس بالقوي ، وقال أبو داود : هذا مما تفرد به أهل اليمامة . قال الطبري : والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس ، وآخره غروبها ، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين . وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : إنما هو سواد الليل وبياض النهار الفيصل في ذلك ، وقوله أياما معدودات وروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له . تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد ، وكلهم ثقات . وروي عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له . رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء ، وروي عن حفصة مرفوعا من قولها ، ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر ، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر ، خلافا لقول أبي حنيفة ، وهي :الثامنة : وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية ، وقد وقتها الشارع قبل الفجر ، فكيف يقال : إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز . وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : نزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد " من الفجر " فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار . وعن عدي بن حاتم قال قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان ؟ قال : إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار . أخرجه البخاري ، وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط . قال الشاعر :الخيط الابيض ضوء الصبح منفلق والخيط الاسود جنح الليل مكتوموالخيط في كلامهم عبارة عن اللون ، والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث ، وأصله الشق ، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها : فجر لانبعاث ضوئه ، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر ، تسميه العرب الخيط الأبيض ، كما بيناه . قال أبو داود الإيادي :فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أناراوقال آخر :قد كاد يبدو وبدت تباشره وسدف الليل البهيم ساترهوقد تسميه أيضا الصديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر ، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معديكرب :ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديعوشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال :إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهينويقولون في الأمر الواضح : هذا كفلق الصبح ، وكانبلاج الفجر ، وتباشير الصبح . قال الشاعر [ هو حميد الأرقط ] :فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفرالتاسعة : قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل جعل الله جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع ، والنهار ظرفا للصيام ، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما ، فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض ، كما تقدم بيانه ، فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا ، فإن كان الأول فقال مالك : من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة ، لما رواه في موطئه ، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا الحديث ، وبهذا قال الشعبي ، وقال الشافعي وغيره : إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع ، لحديث أبي هريرة أيضا قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله قال : وما أهلكك قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، الحديث ، وفيه ذكر الكفارة على الترتيب ، أخرجه مسلم وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا : هي واحدة ، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان ; لأن مساقهما مختلف ، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيود فلزم مطلقا ، وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر ، وروي ذلك عن عطاء في رواية ، وعن الحسن والزهري ، ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول : ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على عموم الحكم ، وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر .العاشرة : واختلفوا أيضا فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في رمضان ، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي : عليها مثل ما على الزوج ، وقال الشافعي : ليس عليها إلا كفارة واحدة ، وسواء طاوعته أو أكرهها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل . وروي عن أبي حنيفة : إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة ، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير ، وهو قول سحنون بن سعيد المالكي ، وقال مالك : عليه كفارتان ، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه .الحادية عشرة : واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل ، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق : ليس عليه في الوجهين شيء ، لا قضاء ولا كفارة ، وقال مالك والليث والأوزاعي : عليه القضاء ولا كفارة ، وروي مثل ذلك عن عطاء . وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع ، وقال : مثل هذا لا ينسى ، وقال قوم من أهل الظاهر : سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة ، وهو قول ابن الماجشون عبد الملك ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ; لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد . قال ابن المنذر : لا شيء عليه .الثانية عشرة : قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه . قال ابن المنذر : وبه نقول ، وقيل في المذهب : عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا . قال أبو عمر : وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر ; لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك ، فأي حرمة هتك وهو مفطر ، وعند غير مالك : ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه .قلت : وهو الصحيح ، وبه قال الجمهور : إن كل من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام ، لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه ولا قضاء عليه - في رواية - وليتم صومه فإن الله أطعمه وسقاه . أخرجه الدارقطني ، وقال : إسناد صحيح وكلهم ثقات . قال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان ، قال : ليس عليه شيء لحديث أبي هريرة . ثم قال أبو عبد الله مالك : وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء وضحك ، وقال ابن المنذر : لا شيء عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا : يتم صومه وإذا قال ( يتم صومه ) فأتمه فهو صوم تام كامل .قلت : وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامدا القضاء والكفارة - والله أعلم - كمن لم يفطر ناسيا ، وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا : المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع به خرم ، لقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه ، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته ، وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم : من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فلم يذكر قضاء ولا تعرض له ، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه ، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء ، فأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا قضاء عليه .قلت : هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح ، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه ، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة أخرجه الدارقطني وقال : تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري ، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال ، والحمد لله ذي الجلال والكمال .الثالثة عشرة : لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع ، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها ، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر ; لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة ، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل ; ولذلك شاع الاختلاف فيه ، واختلف علماء السلف فيه ، فمن ذلك المباشرة . قال علماؤنا : يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها ، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم . روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم ، وهذا - والله أعلم - خوف ما يحدث عنهما ، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه ، وكذلك إن باشر . وروى البخاري عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم ، وممن كره القبلة للصائم عبد الله بن مسعود وعروة بن الزبير ، وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه ، والحديث حجة عليهم . قال أبو عمر : ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه ، فإن قبل فأمنى عليه القضاء ولا كفارة ، قاله أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي ، واختاره ابن المنذر وقال : لا ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة . قال أبو عمر : ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم ، وقال أحمد : من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه ، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا ، وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء ، وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي . قال القاضي أبو محمد : واتفق أصحابنا على ألا كفارة عليه ، وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء ، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل ، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل ، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون : لا كفارة عليه حتى يكرر ، وقال ابن القاسم : يكفر في ذلك كله ، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر . وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى : الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق ، وهو قول مالك في المدونة ، وحجة قول أشهب : أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها ، وإنما يبقى أن تئول إلى الأمر الذي يقع به الفطر ، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها ، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر . قال اللخمي : واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر ألا كفارة عليه إلا أن يتابع ، والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم ، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك ، فإن كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة ، أو كانت عادته مختلفة : مرة ينزل ، ومرة لا ينزل ، رأيت عليه الكفارة ; لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له ، وإن كانت عادته السلامة فقدر أن يكون منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة ، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة ; لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفى بما ظهر منه . وحمل أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك ، وقولهم في النظر دليل على ذلك .قلت : ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك ، فقد حكى الباجي في المنتقى " فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فقد قال الشيخ أبو الحسن : عليه القضاء والكفارة . قال الباجي : وهو الصحيح عندي ; لأنه إذا قصد به الاستمتاع كان كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع ، والله أعلم " ، وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى : فلا قضاء عليه ولا كفارة ، قاله ابن المنذر . قال الباجي : وروى في المدونة ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة .الرابعة عشرة : والجمهور على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وذلك جائز إجماعا ، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح .قلت : أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور ، وذلك قول أبي هريرة : من أصبح جنبا فلا صوم له ، أخرجه الموطأ وغيره ، وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع : والله ما أنا قلته ، محمد صلى الله عليه وسلم والله قاله . وقد اختلف في رجوعه عنها ، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له ، حكاه ابن المنذر ، وروي عن الحسن بن صالح ، وعن أبي هريرة أيضا قول ثالث قال : إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر ، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم ، روي ذلك عن عطاء وطاوس وعروة بن الزبير ، وروي عن الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض .قلت : فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا ، والصحيح منها مذهب الجمهور ، لحديث عائشة رضي الله عنها وأم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم ، أخرجهما البخاري ومسلم ، وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى : فالآن باشروهن الآية ، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب ، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر ، وقد قال الشافعي : ولو كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه ، وقال المزني : عليه القضاء لأنه من تمام الجماع ، والأول أصح لما ذكرنا ، وهو قول علمائنا .الخامسة عشرة : واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح ، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه ، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب ، وهو قول مالك وابن القاسم ، وقال عبد الملك : إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ; لأنها في بعضه غير طاهرة ، وليست كالجنب لأن الاحتلام لا ينقض الصوم ، والحيضة تنقضه . هكذا ذكره أبو الفرج في كتابه عن عبد الملك ، وقال الأوزاعي : تقضي لأنها فرطت في الاغتسال ، وذكر ابن الجلاب عن عبد الملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب ، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر ، وقاله مالك ، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض ، وقال محمد بن مسلمة في هذه : تصوم وتقضي ، مثل قول الأوزاعي ، وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء .السادسة عشرة : وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده ، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا ، ولا كفارة عليها .السابعة عشرة : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفطر الحاجم والمحجوم . من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وصحح أحمد حديث شداد بن أوس ، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج ، وقال مالك والشافعي والثوري : لا قضاء عليه ، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير ، وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قيل له : أكنتم تكرهون الحجامة للصائم ؟ قال لا ، إلا من أجل الضعف ، وقال أبو عمر : حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( احتجم صائما محرما ) لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أنه صلى الله عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان فقال : أفطر الحاجم والمحجوم واحتجم هو صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم ، فإذا كانت حجته صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدركه بعد ذلك رمضان ; لأنه توفي في ربيع الأول .الثامنة عشرة : قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف . وإلى غاية ، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقوله اشتريت الفدان إلى حاشيته ، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر ، فإن الشجرة داخلة في المبيع . بخلاف قولك : اشتريت الفدان إلى الدار ، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليس من جنسه ، فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل ، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار .التاسعة عشرة : من تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها ، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء ، وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه ، قال : ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية ، وقيل : عليه القضاء والكفارة ، وقال سحنون : إنما يكفر من بيت الفطر ، فأما من نواه في نهاره فلا يضره ، وإنما يقضي استحسانا .قلت : هذا حسن .الموفية عشرين : قوله تعالى : إلى الليل إذا تبين الليل سن الفطر شرعا ، أكل أو لم يأكل . قال ابن العربي : وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يفطر على حار ولا بارد ، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : إذا جاء الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم ، وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال : لا بد أن يفطر على حار أو بارد ، وما أجاب به الإمام أبو إسحاق أولى ; لأنه مقتضى الكتاب والسنة .الحادية والعشرون : فإن ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء ، وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس ، قيل لهشام : فأمروا بالقضاء ، قال : فلا بد من قضاء ؟ . قال عمر في الموطأ في هذا : الخطب يسير ، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء ، وروي عن عمر أنه قال : لا قضاء عليه ، وبه قال الحسن البصري : لا قضاء عليه كالناسي ، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر ، وقول الله تعالى : إلى الليل يرد هذا القول ، والله أعلم .الثانية والعشرون : فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء ، قاله مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها ، ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل ، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي ، لم يختلف في ذلك قوله ، ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر ، وبه قال ابن المنذر ، وقال إلكيا الطبري : ( وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه ، كذلك قال مجاهد وجابر بن زيد ، ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان ، والذي نحن فيه مثله ، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه ) .الثالثة والعشرون : قوله تعالى : إلى الليل فيه ما يقتضي النهي عن الوصال ، إذ الليل غاية الصيام ، وقالته عائشة ، وهذا موضع اختلف فيه ، فمن واصل عبد الله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم . كان ابن الزبير يواصل سبعا ، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه ، قال : وكانت تيبس أمعاؤه ، وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها ، وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع ، قال صلى الله عليه وسلم : إذا غابت الشمس من ها هنا وجاء الليل من ها هنا فقد أفطر الصائم . خرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى . ونهى عن الوصال ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا . أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، وفي حديث أنس : لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم . خرجه مسلم أيضا ، وقال صلى الله عليه وسلم : إياكم والوصال إياكم والوصال تأكيدا في المنع لهم منه ، أخرجه البخاري ، وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء ، وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب ، قال صلى الله عليه وسلم : إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر . خرجه مسلم وأبو داود . وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ؟ قال : لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني . قالوا : وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر ، وهو غاية في الوصال لمن أراده ، ومنع من اتصال يوم بيوم ، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك . واحتج من أجاز الوصال بأن قال : إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو ، ومع حاجتهم في ذلك الوقت ، وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات ، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم ، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال : لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ، فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم ، واصل أولياء الله وألزموا أنفسهم أعلى المقامات والله أعلم .قلت : ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى ، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات ، والدليل على ذلك ما ذكرناه ، وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي ، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل ، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا : إنك تواصل ، فأخبر أنه يطعم ويسقى ، وظاهر هذه الحقيقة : وأنه صلى الله عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها ، وقيل : إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف ، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها ، ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه ، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا ، وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم ، وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله : ( أطعم وأسقى ) المعنى لكان مفطرا حكما ، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما ، ولا فرق بينهما ، قال صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ، فكان تركه أولى ، وبالله التوفيق .الرابعة والعشرون : ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء ، لما رواه أبو داود عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء ، وأخرجه الدارقطني وقال فيه : إسناد صحيح ، وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال : لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وعن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر : ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله . خرجه أبو داود أيضا . وقال الدارقطني : تفرد به الحسين بن واقد إسناده حسن ، وروى ابن ماجه عن عبد الله بن الزبير قال : أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال : أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ، وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد . قال ابن أبي مليكة : سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه .الخامسة والعشرون : ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام ، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر هذا حديث حسن صحيح من حديث سعد بن سعيد الأنصاري المدني ، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا ، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : جعل الله الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة . رواه النسائي ، واختلف في صيام هذه الأيام ، فكرهها مالك في موطئه خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه ، وقد وقع ما خافه حتى إنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان ، وروى مطرف عن نافع أنه كان يصومها في خاصة نفسه ، واستحب صيامها الشافعي ، وكرهه أبو يوسف .السادسة والعشرون : قوله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد بين جل وتعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف . وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه ، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك ، فقال الحسن البصري والزهري : عليه ما على المواقع أهله في رمضان ، فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة ، وإن لم يقصد لم يكره ; لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف ، وكانت لا محالة تمس بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة ، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر . قال أبو عمر : وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل ، واختلفوا فيما عليه إن فعل ، فقال مالك والشافعي : إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه ، قاله المزني ، وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف : لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد ، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم .السابعة والعشرون : قوله تعالى : وأنتم عاكفون جملة في موضع الحال ، والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه . قال الراجز :عكف النبيط يلعبون الفنزجاوقال الشاعر :وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريعولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم ، وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص ، وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .الثامنة والعشرون : أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد ، لقول الله تعالى : في المساجد واختلفوا في المراد بالمساجد ، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد ، وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد إيلياء ، روي هذا عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب ، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها ، وقال آخرون : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجماعة ; لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد ، روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي ، وهو أحد قولي مالك ، وقال آخرون : الاعتكاف في كل مسجد جائز ، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما ، وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن ، وهو أحد قولي مالك وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر ، وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح . قال الدارقطني : والضحاك لم يسمع من حذيفة .التاسعة والعشرون : وأقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة ، فإن قال : لله علي اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم ، وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة ، وقال سحنون : من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة ، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه ، كما قال سحنون . قال الشافعي : عليه ما نذر ، إن نذر ليلة فليلة ، وإن نذر يوما فيوما . قال الشافعي : أقله لحظة ولا حد لأكثره ، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة : يصح الاعتكاف ساعة ، وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم ، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، وهو قول داود بن علي وابن علية ، واختاره ابن المنذر وابن العربي ، واحتجوا بأن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في رمضان ، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره ، ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه ، ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره ، وأن ليله داخل في اعتكافه ، وأن الليل ليس بموضع صوم ، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم ، وإن صام فحسن ، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر : لا يصح إلا بصوم ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ، وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبد الله بن عمر : لا اعتكاف إلا بصيام ، لقول الله تعالى في كتابه : وكلوا واشربوا إلى قوله : في المساجد وقالا : فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام . قال يحيى قال مالك : وعلى ذلك الأمر عندنا ، واحتجوا بما رواه عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اعتكف وصم . أخرجه أبو داود ، وقال الدارقطني : تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف ، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا اعتكاف إلا بصيام . قال الدارقطني : تفرد به سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة . وقالوا : ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف ، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره ، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع ، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه ، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها .الموفية ثلاثين : وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه ، لما روى الأئمة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان تريد الغائط والبول ، ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة ، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه ، ومن الضرورة المرض البين والحيض . واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك ، فمذهب مالك ما ذكرنا ، وكذلك مذهب الشافعي وأبي حنيفة ، وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي : يعود المريض ويشهد الجنائز ، وروي عن علي وليس بثابت عنه ، وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع ، فقال في الاعتكاف الواجب : لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز ، وقال في التطوع : يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة ، وقال الشافعي : يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه ، واختلف فيه عن أحمد ، فمنع منه مرة وقال مرة : أرجو ألا يكون به بأس ، وقال الأوزاعي كما قال مالك : لا يكون في الاعتكاف شرط . قال ابن المنذر : لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه ، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج له .الحادية والثلاثون : واختلفوا في خروجه للجمعة ، فقالت طائفة : يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم ; لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه . ورواه ابن الجهم عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة ، واختاره ابن العربي وابن المنذر ، ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع ، وإذا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه ، وقال عبد الملك : يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه .قلت : وهو صحيح لقوله تعالى : وأنتم عاكفون في المساجد نعم ، وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة ، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان ، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد ، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب ، ولم يقل أحد بترك الخروج إليها ، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان .الثانية والثلاثون : المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه ; لأن الكبيرة ضد العبادة ، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة ، وترك ما حرم الله تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة . قاله ابن خويز منداد عن مالك .الثالثة والثلاثون : روى مسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه . . . الحديث ، واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه ، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث ، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه ، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين . وقال أبو ثور : إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام ، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس ، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر ، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم . قال مالك : وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر ، وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون ; لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها ، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم ، وقال الشافعي : إذا قال لله علي يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس ، خلاف قوله في الشهر ، وقال الليث في أحد قوليه وزفر : يدخل قبل طلوع الفجر ، والشهر واليوم عندهم سواء ، وروي مثل ذلك عن أبي يوسف وبه قال القاضي عبد الوهاب ، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع ، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم ، فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل .قلت : وحديث عائشة يرد هذا القول وهو الحجة عند التنازع ، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته .الرابعة والثلاثون : استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى ، وبه قال أحمد ، وقال الشافعي والأوزاعي : يخرج إذا غابت الشمس ، ورواه سحنون عن ابن القاسم ; لأن العشر يزول بزوال الشهر ، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان ، وقال سحنون : إن ذلك على الوجوب ، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه ، وقال ابن الماجشون : وهذا يرده ما ذكرنا من
2:188
وَ لَا تَاْكُلُوْۤا اَمْوَالَكُمْ بَیْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُوْا بِهَاۤ اِلَى الْحُكَّامِ لِتَاْكُلُوْا فَرِیْقًا مِّنْ اَمْوَالِ النَّاسِ بِالْاِثْمِ وَ اَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ۠(۱۸۸)
اور آپس میں ایک دوسرے کا مال ناحق نہ کھاؤ اور نہ حاکموں کے پاس ان کا مقدمہ اس لئے پہنچاؤ کہ لوگوں کا کچھ مال ناجائز طور پر کھاؤ (ف۳۴۳) جان بوجھ کر،

قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمونفيه ثمان مسائل :الأولى : قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم قيل : إنه نزل في عبدان بن أشوع الحضرمي ، ادعى مالا على امرئ القيس الكندي واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكر امرؤ القيس وأراد أن يحلف فنزلت هذه الآية ، فكف عن اليمين وحكم عبدان في أرضه ولم يخاصمه .الثانية : الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق ، فيدخل في هذا : القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق ، وما لا تطيب به نفس مالكه ، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه ، كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك ، ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لأن الغبن كأنه هبة ، على ما يأتي بيانه في سورة " النساء " ، وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه ، كما قال : ولا تقتلوا أنفسكم . وقال قوم : المراد بالآية ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة ، فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين .الثالثة : من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل ، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل ، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي ; لأنه إنما يقضي بالظاهر ، وهذا إجماع في الأموال ، وإن كان عند أبي حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا ، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال فهو في الفروج أولى . وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار - في رواية - فليحملها أو يذرها ، وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء ، وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن ، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج ، إلا ما حكي عن أبي حنيفة في الفروج ، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما لعدالتهما عنده فإن فرجها يحل لمتزوجها - ممن يعلم أن القضية باطل - بعد العدة ، وكذلك لو تزوجها أحد الشاهدين جاز عنده ; لأنه لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره سواء ; لأن قضاء القاضي قطع عصمتها ، وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعا ، ولولا ذلك ما حلت للأزواج ، واحتج بحكم اللعان وقال : معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب ، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما ، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه السلام : فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه . . . الحديث .الرابعة : وهذه الآية متمسك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز ، فيستدل عليه بقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، فجوابه أن يقال له : لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل ، وحينئذ يدخل في هذا العموم ، فهي دليل على أن الباطل في المعاملات لا يجوز ، وليس فيها تعيين الباطل .الخامسة : قوله تعالى : بالباطل الباطل في اللغة : الذاهب الزائل ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا ، وجمع الباطل بواطل ، والأباطيل جمع البطولة . وتبطل أي اتبع اللهو ، وأبطل فلان إذا جاء بالباطل ، وقوله تعالى : لا يأتيه الباطل قال قتادة : هو إبليس ، لا يزيد في القرآن ولا ينقص ، وقوله : ويمح الله الباطل يعني الشرك ، والبطلة : السحرة .السادسة : قوله تعالى : وتدلوا بها إلى الحكام الآية . قيل : يعني الوديعة وما لا تقوم فيه بينة ، عن ابن عباس والحسن . وقيل : هو مال اليتيم الذي هو في أيدي الأوصياء ، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقتطع بعضه وتقوم له في الظاهر حجة ، وقال الزجاج : تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق . يقال : أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به ، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر ، يقال : أدلى دلوه : أرسلها ، ودلاها : أخرجها ، وجمع الدلو والدلاء : أدل ودلاء ودلي ، والمعنى في الآية : لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة ، وهو كقوله : ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق . وهو من قبيل قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وقيل : المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها ، فالباء إلزاق مجرد . قال ابن عطية : وهذا القول يترجح ; لأن الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل ، وأيضا فإن اللفظين متناسبان : تدلوا من إرسال الدلو ، والرشوة من الرشاء ، كأنه يمد بها ليقضي الحاجة .قلت : ويقوي هذا قوله : وتدلوا بها تدلوا في موضع جزم عطفا على تأكلوا كما ذكرنا ، وفي مصحف أبي " ولا تدلوا " بتكرار حرف النهي ، وهذه القراءة تؤيد جزم تدلوا في قراءة الجماعة ، وقيل : تدلوا في موضع نصب على الظرف ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه " أن " مضمرة ، والهاء في قوله بها ترجع إلى الأموال ، وعلى القول الأول إلى الحجة ولم يجر لها ذكر ، فقوي القول الثاني لذكر الأموال ، والله أعلم . في الصحاح . " والرشوة معروفة ، والرشوة بالضم مثله ، والجمع رشى ورشى ، وقد رشاه يرشوه ، وارتشى : أخذ الرشوة ، واسترشى في حكمه : طلب الرشوة عليه " .قلت : فالحكام اليوم عين الرشا لا مظنته ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ! .السابعة : قوله تعالى : لتأكلوا نصب بلام كي . فريقا أي قطعة وجزءا ، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض ، والفريق : القطعة من الغنم تشذ عن معظمها ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس . بالإثم معناه بالظلم والتعدي ، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم يتعلق بفاعله . وأنتم تعلمون أي بطلان ذلك وإثمه ، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية .الثامنة : اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك ، وأنه محرم عليه أخذه . خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا : إن المكلف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك ، وخلافا لابن الجبائي حيث قال : إنه يفسق بأخذ عشرة دراهم ولا يفسق بدونها ، وخلافا لابن الهذيل حيث قال : يفسق بأخذ خمسة دراهم ، وخلافا لبعض قدرية البصرة حيث قال : يفسق بأخذ درهم فما فوق ، ولا يفسق بما دون ذلك ، وهذا كله مردود بالقرآن والسنة وباتفاق علماء الأمة ، قال صلى الله عليه وسلم : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام الحديث ، متفق على صحته .
2:189
یَسْــٴَـلُوْنَكَ عَنِ الْاَهِلَّةِؕ-قُلْ هِیَ مَوَاقِیْتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّؕ-وَ لَیْسَ الْبِرُّ بِاَنْ تَاْتُوا الْبُیُوْتَ مِنْ ظُهُوْرِهَا وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقٰىۚ-وَ اْتُوا الْبُیُوْتَ مِنْ اَبْوَابِهَا۪-وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ(۱۸۹)
تم سے نئے چاند کو پوچھتے ہیں (ف۳۴۴) تم فرمادو وہ وقت کی علامتیں ہیں لوگوں اور حج کے لئے (ف۳۴۵) اور یہ کچھ بھلائی نہیں کہ (ف۳۴۶) گھروں میں پچھیت (پچھلی دیوار) توڑ کر آ ؤ ہاں بھلائی تو پرہیزگاری ہے، اور گھروں میں دروازوں سے آ ؤ (ف۳۴۷) اور اللہ سے ڈرتے رہو اس امید پر کہ فلاح پاؤ

قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحونفيه اثنتا عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال معاذ : يا رسول الله ، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير ، ثم ينتقص حتى يعود كما كان ؟ فأنزل الله هذه الآية . وقيل : إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ، قاله ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم .الثانية : قوله تعالى : عن الأهلة الأهلة جمع الهلال ، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر ، غير كونه هلالا في آخر ، فإنما جمع أحواله من الأهلة . ويريد بالأهلة شهورها ، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلول فيه ، كما قال :أخوان من نجد على ثقة والشهر مثل قلامة الظفروقيل : سمي شهرا لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه ، ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر ، وليلتين من أوله ، وقيل : لثلاث من أوله ، وقال الأصمعي : هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق ، وقيل : بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء ، وذلك ليلة سبع . قال أبو العباس : وإنما قيل له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه . ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه ، واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور . قال أبو كبير :وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهللويقال : أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه . قال الجوهري : " وأهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله ، ويقال أيضا : استهل بمعنى تبين ، ولا يقال : أهل ويقال : أهللنا عن ليلة كذا ، ولا يقال : أهللناه فهل ، كما يقال : أدخلناه فدخل ، وهو قياسه " : قال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : ويقال : أهل الهلال واستهل وأهللنا الهلال واستهللنا .الثالثة : قال علماؤنا : من حلف ليقضين غريمه أو ليفعلن كذا في الهلال أو رأس الهلال أو عند الهلال ، ففعل ذلك بعد رؤية الهلال بيوم أو يومين لم يحنث . وجميع الشهور تصلح لجميع العبادات والمعاملات على ما يأتي .قوله تعالى : قل هي مواقيت للناس والحج تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه ، وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والإيمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والأكرية ، إلى غير ذلك من مصالح العباد ، ونظيره قوله الحق : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب على ما يأتي ، وقوله : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام .الرابعة : وبهذا الذي قررناه يرد على أهل الظاهر ومن قال بقولهم : إن المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة ، واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير توقيت ، وهذا لا دليل فيه ; لأنه عليه السلام قال لليهود : أقركم فيها ما أقركم الله . وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له ، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه ، وليس كذلك غيره ، وقد أحكمت الشريعة معاني الإجارات وسائر المعاملات ، فلا يجوز شيء منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة ، وقال به علماء الأمة .الخامسة : مواقيت المواقيت : جمع الميقات وهو الوقت ، وقيل : الميقات منتهى الوقت . ومواقيت لا تنصرف ; لأنه جمع لا نظير له في الآحاد ، فهو جمع ونهاية جمع ، إذ ليس يجمع فصار كأن الجمع تكرر فيها ، وصرفت " قوارير " في قوله : قواريرا لأنها وقعت في رأس آية فنونت كما تنون القوافي ، فليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تمكن الاسم .السادسة : والحج بفتح الحاء قراءة الجمهور ، وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وفي قوله : حج البيت في " آل عمران " . سيبويه : الحج كالرد والشد ، والحج كالذكر ، فهما مصدران بمعنى وقيل : الفتح مصدر ، والكسر الاسم .السابعة : أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت ، وأنه لا يجوز النسيء فيه عن وقته ، بخلاف ما رأته العرب ، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور ، فأبطل الله قولهم وفعلهم ، على ما يأتي بيانه في " براءة " إن شاء الله تعالى .الثامنة : استدل مالك رحمه الله وأبو حنيفة وأصحابهما في أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الآية ; لأن الله تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك ، فصح أن يحرم في جميعها بالحج ، وخالف في ذلك الشافعي ، لقوله تعالى : الحج أشهر معلومات على ما يأتي ، وأن معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس ، وبعضها مواقيت للحج ، وهذا كما تقول : الجارية لزيد وعمرو ، وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو ، ولا يجوز أن يقال : جميعها لزيد وجميعها لعمرو ، والجواب أن يقال : إن ظاهر قوله هي مواقيت للناس والحج يقتضي كون جميعها مواقيت للناس وجميعها مواقيت للحج ، ولو أراد التبعيض لقال : بعضها مواقيت للناس وبعضها مواقيت للحج ، وهذا كما تقول : إن شهر رمضان ميقات لصوم زيد وعمرو ، ولا خلاف أن المراد بذلك أن جميعه ميقات لصوم كل واحد منهما ، وما ذكروه من الجارية فصحيح ; لأن كونها جمعاء لزيد مع كونها جمعاء لعمرو مستحيل ، وليس كذلك في مسألتنا ، فإن الزمان يصح أن يكون ميقاتا لزيد وميقاتا لعمرو ، فبطل ما قالوه .التاسعة : لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب أو إلى أيام معروفة العدد أن البيع جائز ، وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم ، واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء وشبه ذلك ، فقال مالك : ذلك جائز لأنه معروف ، وبه قال أبو ثور ، وقال أحمد : أرجو ألا يكون به بأس ، وكذلك إلى قدوم الغزاة ، وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء ، وقالت طائفة . ذلك غير جائز ; لأن الله تعالى وقت المواقيت وجعلها علما لآجالهم في بياعاتهم ومصالحهم . كذلك قال ابن عباس ، وبه قال الشافعي والنعمان . قال ابن المنذر : قول ابن عباس صحيح .العاشرة : إذا رئي الهلال كبيرا فقال علماؤنا : لا يعول على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلته . روى مسلم عن أبي البختري قال : خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال : تراءينا الهلال ، فقال بعض القوم : هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم : هو ابن ليلتين . قال : فلقينا ابن عباس فقلنا : إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين ، فقال : أي ليلة رأيتموه ؟ قال فقلنا : ليلة كذا وكذا ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله مده للرؤية فهو لليلة رأيتموه .الحادية عشرة : قوله تعالى : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها ، فنزلت الآية فيهما جميعا ، وكان الأنصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ، فإنهم كانوا إذا أهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك ، أي من بعد إحرامه من بيته ، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء ، فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته . فكانوا يرون هذا من النسك والبر ، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكا ، فرد عليهم فيها ، وبين الرب تعالى أن البر في امتثال أمره . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر - يعني من أهل البيوت - نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج ، أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه ، وإن كان من أهل الوبر - يعني أهل الخيام - يدخل من خلف الخيام الخيمة ، إلا من كان من الحمس ، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري منبني سلمة ، فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لم دخلت وأنت قد أحرمت ) ، فقال : دخلت أنت فدخلت بدخولك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني أحمس ) أي من قوم لا يدينون بذلك ، فقال له الرجل : وأنا ديني دينك ، فنزلت الآية ، وقال ابن عباس وعطاء وقتادة ، وقيل : إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الأنصاري .والحمس : قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية ، وسموا حمسا لتشديدهم في دينهم ، والحماسة الشدة . قال العجاج :وكم قطعنا من قفاف حمسأي شداد ، ثم اختلفوا في تأويلها ، فقيل ما ذكرنا ، وهو الصحيح ، وقيل : إنه النسيء وتأخير الحج به ، حتى كانوا يجعلون الشهر الحلال حراما بتأخير الحج إليه ، والشهر الحرام حلالا بتأخير الحج عنه ، فيكون ذكر البيوت على هذا مثلا لمخالفة الواجب في الحج وشهوره . وسيأتي بيان النسيء في سورة ( براءة ) إن شاء الله تعالى ، وقال أبو عبيدة : الآية ضرب مثل ، المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله واسألوا العلماء ، فهذا كما تقول : أتيت هذا الأمر من بابه ، وحكى المهدوي ومكي عن ابن الأنباري ، والماوردي عن ابن زيد أن الآية مثل في جماع النساء ، أمر بإتيانهن في القبل لا من الدبر ، وسمي النساء بيوتا للإيواء إليهن كالإيواء إلى البيوت . قال ابن عطية : وهذا بعيد مغير نمط الكلام ، وقال الحسن : كانوا يتطيرون ، فمن سافر ولم تحصل حاجته كان يأتي بيته من وراء ظهره تطيرا من الخيبة ، فقيل لهم : ليس في التطير بر ، بل البر أن تتقوا الله وتتوكلوا عليه .قلت : القول الأول أصح هذه الأقوال ، لما رواه البراء قال : كان الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت من أبوابها ، قال : فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه ، فقيل له في ذلك ، فنزلت هذه الآية : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها وهذا نص في البيوت حقيقة . خرجه البخاري ومسلم ، وأما تلك الأقوال فتؤخذ من موضع آخر لا من الآية ، فتأمله ، وقد قيل : إن الآية خرجت مخرج التنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه ، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به ، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا ليشير به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه .قلت : فعلى هذا يصح ما ذكر من الأقوال . والبيوت جمع بيت ، وقرئ بضم الباء وكسرها . وتقدم معنى التقوى والفلاح فلا معنى للإعادة .الثانية عشرة : في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب . قال ابن خويز منداد : إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل ، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون ، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة . قال : وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر حديث ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه ، فقالوا : هو أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته ، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن .
2:190
وَ قَاتِلُوْا فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِ الَّذِیْنَ یُقَاتِلُوْنَكُمْ وَ لَا تَعْتَدُوْاؕ-اِنَّ اللّٰهَ لَا یُحِبُّ الْمُعْتَدِیْنَ(۱۹۰)
اور اللہ کی راہ میں لڑو (ف۳۴۸) ان سے جو تم سے لڑتے ہیں (ف۳۴۹) اور حد سے نہ بڑھو (ف۳۵۰) اللہ پسند نہیں رکھتا حد سے بڑھنے والوں کو،

قوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدينفيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : وقاتلوا هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال ، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله : ادفع بالتي هي أحسن وقوله : فاعف عنهم واصفح وقوله : واهجرهم هجرا جميلا وقوله : لست عليهم بمسيطر وما كان مثله مما نزل بمكة ، فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم قاله الربيع بن أنس وغيره ، وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، والأول أكثر ، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن لم يقاتل من المشركين ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة ، فلما نزل الحديبية بقرب مكة - والحديبية اسم بئر ، فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر - فصده المشركون عن البيت ، وأقام بالحديبية شهرا ، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء ، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام ، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين ، ورجع إلى المدينة ، فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام ، فنزلت هذه الآية ، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار ، فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها ، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه ، حتى نزل فاقتلوا المشركين فنسخت هذه الآية ، قاله جماعة من العلماء ، وقال ابن زيد والربيع : نسخها وقاتلوا المشركين كافة فأمر بالقتال لجميع الكفار ، وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد : هي محكمة أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم ، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم ، على ما يأتي بيانه . قال أبو جعفر النحاس : وهذا أصح القولين في السنة والنظر ، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك ، ونهى عن قتل النساء والصبيان ، رواه الأئمة ، وأما النظر فإن " فاعل " لا يكون في الغالب إلا من اثنين ، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة ، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم ، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون ، وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام ، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية ، أخرجه مالك وغيره ، وللعلماء فيهم صور ست :الأولى : النساء إن قاتلن قتلن ، قال سحنون : في حالة المقاتلة وبعدها ، لعموم قوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم . وللمرأة آثار عظيمة في القتال ، منها الإمداد بالأموال ، ومنها التحريض على القتال ، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار ، وذلك يبيح قتلهن ، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن ، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال .الثانية : الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية ; ولأنه لا تكليف عليهم ، فإن قاتل [ الصبي ] قتل .الثالثة : الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون ، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم ، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول أبي بكر ليزيد : " وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له " فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا ، ولو ترهبت المرأة فروى أشهب أنها لا تهاج . وقال سحنون : لا يغير الترهب حكمها . قال القاضي أبو بكر بن العربي : " والصحيح عندي رواية أشهب ; لأنها داخلة تحت قوله : " فذرهم وما حبسوا أنفسهم له " .الرابعة : الزمنى . قال سحنون : يقتلون ، وقال ابن حبيب : لا يقتلون ، والصحيح أن تعتبر أحوالهم ، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا ، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة .الخامسة : الشيوخ . قال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون ، والذي عليه جمهور الفقهاء : إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال ، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل ، وبه قال مالك وأبو حنيفة . وللشافعي قولان : أحدهما : مثل قول الجماعة ، والثاني : يقتل هو والراهب ، والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد ، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع ، وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة ، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء : القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية .السادسة : العسفاء ، وهم الأجراء والفلاحون ، فقال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون وقال الشافعي : يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية . والأول أصح ، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن الربيع الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا ، وقال عمر بن الخطاب : اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذي لا ينصبون لكم الحرب ، وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حراثا ، ذكره ابن المنذر .الثانية : روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم ، والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين ، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه . ألا تراه كيف بينها في سورة " براءة " بقوله : قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم ، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة ، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة ، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ، وقيل : غايته نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ، وهو موافق للحديث الذي قبله ; لأن نزوله من أشراط الساعة .الثالثة : ولا تعتدوا قيل في تأويله ما قدمناه ، فهي محكمة ، فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة ، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة ، ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب . وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق ، وقال قوم : المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله ، كالحمية وكسب الذكر ، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، يعني دينا وإظهارا للكلمة ، وقيل : لا تعتدوا أي لا تقاتلوا من لم يقاتل ، فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار ، والله أعلم .
2:191
وَ اقْتُلُوْهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوْهُمْ وَ اَخْرِجُوْهُمْ مِّنْ حَیْثُ اَخْرَجُوْكُمْ وَ الْفِتْنَةُ اَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِۚ-وَ لَا تُقٰتِلُوْهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّٰى یُقٰتِلُوْكُمْ فِیْهِۚ-فَاِنْ قٰتَلُوْكُمْ فَاقْتُلُوْهُمْؕ-كَذٰلِكَ جَزَآءُ الْكٰفِرِیْنَ(۱۹۱)
اور کافروں کو جہاں پاؤ مارو (ف۳۵۱) اور انہیں نکال دو (ف۳۵۲) جہاں سے انہوں نے تمہیں نکا لا تھا (ف۳۵۳) اور ان کا فساد تو قتل سے بھی سخت ہے (ف۳۵۴) اور مسجد حرام کے پاس ان سے نہ لڑو جب تک وہ تم سے وہاں نہ لڑیں (ف۳۵۵) اور اگر تم سے لڑیں تو انہیں قتل کرو (ف۳۵۶) کافروں کی یہی سزا ہے،

قوله تعالى : واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرينفيه مسائل :الأولى : قوله تعالى : ثقفتموهم يقال : ثقف يثقف ثقفا وثقفا ، ورجل ثقف لقف : إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور . وفي هذا دليل على قتل الأسير ، وسيأتي بيان هذا في " الأنفال " إن شاء الله تعالى . وأخرجوهم من حيث أخرجوكم أي مكة . قال الطبري : الخطاب للمهاجرين والضمير لكفار قريش .الثانية : قوله تعالى : والفتنة أشد من القتل أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل . قال مجاهد : أي من أن يقتل المؤمن ، فالقتل أخف عليه من الفتنة ، وقال غيره : أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشد من القتل الذي عيروكم به ، وهذا دليل على أن الآية نزلت في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله واقد بن عبد الله التميمي في آخر يوم من رجب الشهر الحرام ، حسب ما هو مذكور في سرية عبد الله بن جحش ، على ما يأتي بيانه ، قاله الطبري وغيره .الثالثة : قوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه الآية . للعلماء في هذه الآية قولان : أحدهما : أنها منسوخة ، والثاني : أنها محكمة . قال مجاهد : الآية محكمة ، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل ، وبه قال طاوس ، وهو الذي يقتضيه نص الآية ، وهو الصحيح من القولين ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه ، وفي الصحيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وقال قتادة : الآية منسوخة بقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وقال مقاتل : نسخها قوله تعالى : واقتلوهم حيث ثقفتموهم ثم نسخ هذا قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، فيجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، ومما احتجوا به أن " براءة " نزلت بعد سورة " البقرة " بسنتين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه المغفر ، فقيل : إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ، فقال : ( اقتلوه ) .وقال ابن خويز منداد : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام منسوخة ; لأن الإجماع قد تقرر بأن عدوا لو استولى على مكة وقال : لأقاتلكم ، وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال ، فمكة وغيرها من البلاد سواء . وإنما قيل فيها : هي حرام تعظيما لها ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد يوم الفتح وقال : احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا حتى جاء العباس فقال : يا رسول الله ، ذهبت قريش ، فلا قريش بعد اليوم . ألا ترى أنه قال في تعظيمها : ولا يلتقط لقطتها إلا منشد واللقطة بها وبغيرها سواء ، ويجوز أن تكون منسوخة بقوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة . قال ابن العربي : حضرت في بيت المقدس - طهره الله - بمدرسة أبي عقبة الحنفي ، والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة ، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار ، فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدارع الرعاء ، فقال القاضي الزنجاني : من السيد ؟ فقال : رجل سلبه الشطار أمس ، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس ، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم ، فقال القاضي مبادرا : سلوه - على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم - ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا ؟ فأفتى بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل ، فقال قوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه قرئ " ولا تقتلوهم ، ولا تقاتلوهم " فإن قرئ " ولا تقتلوهم " فالمسألة نص ، وإن قرئ " ولا تقاتلوهم " فهو تنبيه ; لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل ، فاعترض عليه القاضي منتصرا للشافعي ومالك ، وإن لم ير مذهبهما ، على العادة ، فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، فقال له الصاغاني : هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه ، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن ، والتي احتججت بها خاصة ، ولا يجوز لأحد أن يقول : إن العام ينسخ الخاص ، فبهت القاضي الزنجاني ، وهذا من بديع الكلام . قال ابن العربي : فإن لجأ إليه كافر فلا سبيل إليه ، لنص الآية والسنة الثابتة بالنهي عن القتال فيه ، وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه ، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيقتل بنص القرآن .قلت : وأما ما احتجوا به من قتل ابن خطل وأصحابه فلا حجة فيه ، فإن ذلك كان في الوقت الذي أحلت له مكة وهي دار حرب وكفر ، وكان له أن يريق دماء من شاء من أهلها في الساعة التي أحل له فيها القتال . فثبت وصح أن القول الأول أصح ، والله أعلم .الرابعة : قال بعض العلماء : في هذه الآية دليل على أن الباغي على الإمام بخلاف الكافر ، فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع ، ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح . على ما يأتي بيانه من أحكام الباغين في " الحجرات " إن شاء الله تعالى .
2:192
فَاِنِ انْتَهَوْا فَاِنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ(۱۹۲)
پھر اگر وہ باز رہیں (ف۳۵۷) تو بیشک اللہ بخشنے والا مہربان ہے،

الخامسة : فإن انتهوا أي عن قتالكم بالإيمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم ، ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم ، نظيره قوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف . وسيأتي .
2:193
وَ قٰتِلُوْهُمْ حَتّٰى لَا تَكُوْنَ فِتْنَةٌ وَّ یَكُوْنَ الدِّیْنُ لِلّٰهِؕ-فَاِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ اِلَّا عَلَى الظّٰلِمِیْنَ(۱۹۳)
اور ان سے لڑو یہاں تک کہ کوئی فتنہ نہ رہے اور ایک اللہ کی پوجا ہو پھر اگر وہ باز آئیں (ف۳۵۸) تو زیادتی نہیں مگر ظالموں پر،

قوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين فيه مسألتان :الأولى : وقاتلوهم أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع ، على من رآها ناسخة ، ومن رآها غير ناسخة قال : المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم : فإن قاتلوكم والأول أظهر ، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار . دليل ذلك قوله تعالى : " ويكون الدين لله " ، وقال عليه السلام : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر ; لأنه قال : حتى لا تكون فتنة أي كفر ، فجعل الغاية عدم الكفر ، وهذا ظاهر . قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم : الفتنة هناك الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين ، وأصل الفتنة : الاختبار والامتحان مأخوذ من فتنت الفضة إذا أدخلتها في النار لتميز رديئها من جيدها . وسيأتي بيان محاملها إن شاء الله تعالى .الثانية : قوله تعالى : فإن انتهوا أي عن الكفر ، إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل ، أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب ، على ما يأتي بيانه في " براءة " وإلا قوتلوا وهم الظالمون لا عدوان إلا عليهم ، وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان ، إذ الظلم يتضمن العدوان ، فسمي جزاء العدوان عدوانا ، كقوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها . والظالمون هم على أحد التأويلين : من بدأ بقتال ، وعلى التأويل الآخر : من بقي على كفر وفتنة .
2:194
اَلشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَ الْحُرُمٰتُ قِصَاصٌؕ-فَمَنِ اعْتَدٰى عَلَیْكُمْ فَاعْتَدُوْا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدٰى عَلَیْكُمْ۪-وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِیْنَ(۱۹۴)
ماہ حرام کے بدلے ماہ حرام اور ادب کے بدلے ادب ہے (ف۳۵۹) جو تم پر زیادتی کرے اس پر زیادتی کرو اتنی ہی جتنی اس نے کی اور اللہ سے ڈرتے رہو اور جان رکھو کہ اللہ ڈر والوں کے ساتھ ہے،

قوله تعالى : الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقينفيه عشر مسائل :الأولى : قوله تعالى : الشهر الحرام قد تقدم اشتقاق الشهر ، وسبب نزولها ما روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم قالوا : نزلت في عمرة القضية وعام الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف ، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله ، فدخله سنة سبع وقضى نسكه ، فنزلت هذه الآية ، وروي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام ؟ قال : ( نعم ) . فأرادوا قتاله ، فنزلت الآية . المعنى : إن استحلوا ذلك فيه فقاتلهم ، فأباح الله بالآية مدافعتهم ، والقول الأول أشهر وعليه الأكثر .الثانية : قوله تعالى : والحرمات قصاص الحرمات جمع حرمة ، كالظلمات جمع ظلمة ، والحجرات جمع حجرة ، وإنما جمعت الحرمات لأنه أراد [ حرمة ] الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام ، وحرمة الإحرام . والحرمة : ما منعت من انتهاكه ، والقصاص المساواة ، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع . ف والحرمات قصاص على هذا متصل بما قبله ومتعلق به . وقيل : هو مقطوع منه ، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام : إن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك ، ثم نسخ ذلك بالقتال ، وقالت طائفة : ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والجنايات ونحوها لم ينسخ ، وجاز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه إذا خفي له ذلك ، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شيء ، قاله الشافعي وغيره ، وهي رواية في مذهب مالك ، وقالت طائفة من أصحاب مالك : ليس ذلك له ، وأمور القصاص وقف على الحكام ، والأموال يتناولها قوله صلى الله عليه وسلم : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك . خرجه الدارقطني وغيره ، فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمنه عليه ، وهو المشهور من المذهب ، وبه قال أبو حنيفة تمسكا بهذا الحديث ، وقوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وهو قول عطاء الخراساني . قال قدامة بن الهيثم : سألت عطاء بن ميسرة الخراساني فقلت له : لي على رجل حق ، وقد جحدني به وقد أعيا علي البينة ، أفأقتص من ماله ؟ قال : أرأيت لو وقع بجاريتك ، فعلمت ما كنت صانعا .قلت : والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا ، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك ، وقال به ابن المنذر ، واختاره ابن العربي ، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انصر أخاك ظالما أو مظلوما وأخذ الحق من الظالم نصر له ، وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه ، فهل علي جناح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف . فأباح لها الأخذ وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها ، وهذا كله ثابت في الصحيح ، قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم قاطع في موضع الخلاف .الثالثة : واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله ، فقيل : لا يأخذ إلا بحكم الحاكم ، وللشافعي قولان ، أصحهما الأخذ ، قياسا على ما لو ظفر له من جنس ماله ، والقول الثاني لا يأخذ لأنه خلاف الجنس ، ومنهم من قال : يتحرى قيمة ما له عليه ويأخذ مقدار ذلك ، وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل ، والله أعلم .الرابعة : وإذا فرعنا على الأخذ فهل يعتبر ما عليه من الديون وغير ذلك ، فقال الشافعي : لا ، بل يأخذ ما له عليه ، وقال مالك : يعتبر ما يحصل له مع الغرماء في الفلس ، وهو القياس ، والله أعلم .الخامسة قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم عموم متفق عليه ، إما بالمباشرة إن أمكن ، وإما بالحكام ، واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانا أم لا ، فمن قال : ليس في القرآن مجاز ، قال : المقابلة عدوان ، وهو عدوان مباح ، كما أن المجاز في كلام العرب كذب مباح ; لأن قول القائل :فقالت له العينان سمعا وطاعةوكذلك :امتلأ الحوض وقال قطنيوكذلك :شكا إلي جملي طول السرىومعلوم أن هذه الأشياء لا تنطق ، وحد الكذب : إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به ، ومن قال في القرآن مجاز سمى هذا عدوانا على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله ، كما قال عمرو بن كلثوم :ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهليناوقال الآخر :ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرجومن رام تقويمي فإني مقوم ومن رام تعويجي فإني معوجيريد : أكافئ الجاهل والمعوج ، لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج .السادسة : واختلف العلماء فيمن استهلك أو أفسد شيئا من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن ، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وجماعة من العلماء : عليه في ذلك المثل ، ولا يعدل إلى القيمة إلا عند عدم المثل ، لقوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به . قالوا : وهذا عموم في جميع الأشياء كلها ، وعضدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس القصعة المكسورة في بيت التي كسرتها ودفع الصحيحة وقال : إناء بإناء وطعام بطعام خرجه أبو داود قال : حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا خالد عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه ، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم قصعة فيها طعام ، قال : فضربت بيدها فكسرت القصعة . قال ابن المثنى : فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى ، فجعل يجمع فيها الطعام ويقول : غارت أمكم . زاد ابن المثنى ( كلوا ) فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها ، ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد وقال : ( كلوا ) وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا ، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته . حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال وحدثنا فليت العامري - قال أبو داود : وهو أفلت بن خليفة - عن جسرة بنت دجاجة قالت : قالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية ، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به ، فأخذني أفكل فكسرت الإناء ، فقلت : يا رسول الله ، ما كفارة ما صنعت ؟ قال : إناء مثل إناء وطعام مثل طعام . قال مالك وأصحابه : عليه في الحيوان والعروض التي لا تكال ولا توزن القيمة لا المثل ، بدليل تضمين النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعتق نصف عبده قيمة نصف شريكه ، ولم يضمنه مثل نصف عبده . ولا خلاف بين العلماء على تضمين المثل في المطعومات والمشروبات والموزونات ، لقوله عليه السلام : طعام بطعام .السابعة : لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص ، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به ، وهو قول الجمهور ، ما لم يقتله بفسق كاللوطية وإسقاء الخمر فيقتل بالسيف ، وللشافعية قول : إنه يقتل بذلك ، فيتخذ عود على تلك الصفة ويطعن به في دبره حتى يموت ، ويسقى عن الخمر ماء حتى يموت . وقال ابن الماجشون : إن من قتل بالنار أو بالسم لا يقتل به ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يعذب بالنار إلا الله ، والسم نار باطنة ، وذهب الجمهور إلى أنه يقتل بذلك ، لعموم الآية .الثامنة : وأما القود بالعصا فقال مالك في إحدى الروايتين : إنه إن كان في القتل بالعصا تطويل وتعذيب قتل بالسيف ، رواه عنه ابن وهب ، وقاله ابن القاسم ، وفي الأخرى : يقتل بها وإن كان فيه ذلك ، وهو قول الشافعي ، وروى أشهب وابن نافع عن مالك في الحجر والعصا أنه يقتل بهما إذا كانت الضربة مجهزة ، فأما أن يضرب ضربات فلا ، وعليه لا يرمى بالنبل ولا بالحجارة لأنه من التعذيب ، وقاله عبد الملك . قال ابن العربي : " والصحيح من أقوال علمائنا أن المماثلة واجبة ، إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف " ، واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقأ عينه قصد التعذيب فعل به ذلك ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتلة الرعاء ، وإن كان في مدافعة أو مضاربة قتل بالسيف . وذهبت طائفة إلى خلاف هذا كله فقالوا : لا قود إلا بالسيف ، وهو مذهب أبي حنيفة والشعبي والنخعي . واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا قود إلا بحديدة ، وبالنهي عن المثلة ، وقوله : لا يعذب بالنار إلا رب النار . والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، لما رواه الأئمة عن أنس بن مالك أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين ، فسألوها : من صنع هذا بك ! أفلان ، أفلان ؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي فأقر ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترض رأسه بالحجارة ، وفي رواية : فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين ، وهذا نص صريح صحيح ، وهو مقتضى قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، وقوله : فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم . وأما ما استدلوا به من حديث جابر فحديث ضعيف عند المحدثين ، لا يروى من طريق صحيح ، لو صح قلنا بموجبه ، وأنه إذا قتل بحديدة قتل بها ، يدل على ذلك حديث أنس : أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين ، وأما النهي عن المثلة فنقول أيضا بموجبها إذا لم يمثل ، فإذا مثل مثلنا به ، يدل على ذلك حديث العرنيين ، وهو صحيح أخرجه الأئمة ، وقوله : لا يعذب بالنار إلا رب النار صحيح إذا لم يحرق ، فإن حرق حرق ، يدل عليه عموم القرآن . قال الشافعي : إن طرحه في النار عمدا طرحه في النار حتى يموت ، وذكره الوقار في مختصره عن مالك ، وهو قول محمد بن عبد الحكم . قال ابن المنذر : وقول كثير من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل : عليه القود ، وخالف في ذلك محمد بن الحسن فقال : لو خنقه حتى مات أو طرحه في بئر فمات ، أو ألقاه من جبل أو سطح فمات ، لم يكن عليه قصاص وكان على عاقلته الدية ، فإن كان معروفا بذلك - قد خنق غير واحد - فعليه القتل . قال ابن المنذر : ولما أقاد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهودي الذي رض رأس الجارية بالحجر كان هذا في معناه ، فلا معنى لقوله .قلت : وحكى هذا القول غيره عن أبي حنيفة فقال : وقد شذ أبو حنيفة فقال فيمن قتل بخنق أو بسم أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة : إنه لا يقتل ولا يقتص منه ، إلا إذا قتل بمحدد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بالخنق والتردية وكان على عاقلته الدية ، وهذا منه رد للكتاب والسنة ، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الأمة ، وذريعة إلى رفع القصاص الذي شرعه الله للنفوس ، فليس عنه مناص .التاسعة : واختلفوا فيمن حبس رجلا وقتله آخر ، فقال عطاء : يقتل القاتل ويحبس الحابس حتى يموت ، وقال مالك : إن كان حبسه وهو يرى أنه يريد قتله قتلا جميعا ، وفي قول الشافعي وأبي ثور والنعمان يعاقب الحابس ، واختاره ابن المنذر .قلت : قول عطاء صحيح ، وهو مقتضى التنزيل ، وروى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل القاتل ويحبس الذي أمسكه . رواه سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر ، ورواه معمر وابن جريج عن إسماعيل مرسلا .العاشرة : قوله تعالى : فمن اعتدى الاعتداء هو التجاوز ، قال الله تعالى : ومن يتعد حدود الله أي يتجاوزها ، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك ، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله ، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه ، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه ، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك ، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية ، فلو قال لك مثلا : يا كافر ، جاز لك أن تقول له : أنت الكافر ، وإن قال لك : يا زان ، فقصاصك أن تقول له : يا كذاب يا شاهد زور ، ولو قلت له يا زان ، كنت كاذبا وأثمت في الكذب ، وإن مطلك وهو غني دون عذر فقال : يا ظالم ، يا آكل أموال الناس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته . أما عرضه فبما فسرناه ، وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه ، وقال ابن عباس : نزل هذا قبل أن يقوى الإسلام ، فأمر من أوذي من المسلمين أن يجازي بمثل ما أوذي به ، أو يصبر أو يعفو ، ثم نسخ ذلك بقوله : وقاتلوا المشركين كافة ، وقيل : نسخ ذلك بتصييره إلى السلطان ، ولا يحل لأحد أن يقتص من أحد إلا بإذن السلطان .
2:195
وَ اَنْفِقُوْا فِیْ سَبِیْلِ اللّٰهِ وَ لَا تُلْقُوْا بِاَیْدِیْكُمْ اِلَى التَّهْلُكَةِ ﳝ- وَ اَحْسِنُوْاۚۛ-اِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ الْمُحْسِنِیْنَ(۱۹۵)
اور اللہ کی راہ میں خرچ کرو (ف۳۶۰) اور اپنے ہاتھوں، ہلاکت میں نہ پڑو (ف۳۶۱) اور بھلائی والے ہو جاؤ بیشک بھلائی والے اللہ کے محبوب ہیں،

قوله تعالى : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنينفيه ثلاث مسائل :الأولى : روى البخاري عن حذيفة : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال : نزلت في النفقة ، وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال : غزونا القسطنطينية ، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة ، فحمل رجل على العدو ، فقال الناس : مه مه ! لا إله إلا الله ، يلقي بيديه إلى التهلكة ! فقال أبو أيوب : سبحان الله ! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه ، قلنا : هلم نقيم في أموالنا ونصلحها ، فأنزل الله عز وجل : وأنفقوا في سبيل الله الآية ، والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد ، فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية ، فقبره هناك ، فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله ، وأن الآية نزلت في ذلك . وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك .قلت : وروى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران هذا الخبر بمعناه فقال : " كنا بمدينة الروم ، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : يا أيها الناس ، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه ، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد عليه ما قلنا : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة . فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح . وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس : المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة ، فيقول الرجل : ليس عندي ما أنفقه ، وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره ، والله أعلم . قال ابن عباس : أنفق في سبيل الله ، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص ، ولا يقولن أحدكم : لا أجد شيئا ، ونحوه عن السدي : أنفق ولو عقالا ، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول : ليس عندي شيء ، وقول ثالث قاله ابن عباس ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الأعراب حاضرين بالمدينة فقالوا : بماذا نتجهز ! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد ، فنزل قوله تعالى : وأنفقوا في سبيل الله يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله ، يعني في طاعة الله . ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا ، وهكذا قال مقاتل ، ومعنى ابن عباس : ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا ، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء ، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا ، وقول رابع - قيل للبراء بن عازب في هذه الآية : أهو الرجل يحمل على الكتيبة ؟ فقال لا ، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول : قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة ، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي ، فالهلاك : اليأس من الله ، وقال عبيدة السلماني . وقال زيد بن أسلم : المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد ، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق ، أو يكون عالة على الناس ، فهذه خمسة أقوال . سبيل الله هنا : الجهاد ، واللفظ يتناول بعد جميع سبله ، والباء في بأيديكم زائدة ، التقدير تلقوا أيديكم ، ونظيره : ألم يعلم بأن الله يرى . وقال المبرد : بأيديكم أي بأنفسكم ، فعبر بالبعض عن الكل ، كقوله : فبما كسبت أيديكم ، بما قدمت يداك ، وقيل : هذا ضرب مثل ، تقول : فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم ; لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : [ والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز ] وقال قوم : التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم ، كما تقول : لا تفسد حالك برأيك . التهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة ، أي لا تأخذوا فيما يهلككم ، قاله الزجاج وغيره . أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم ، وقيل : إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم ، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم ، ومعنى آخر : ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة . ويقال : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا ، ونحوه عن عكرمة قال : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال : ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون وقال الطبري : قوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه ، إذ اللفظ يحتمله .الثانية : اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده ، فقال القاسم ابن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا : لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة ، وكان لله بنية خالصة ، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة ، وقيل : إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل ; لأن مقصوده واحد منهم ، وذلك بين في قوله تعالى : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ، وقال ابن خويز منداد : فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان : إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن ، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكى نكاية أو سيبلى أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا ، وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة ، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه ، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له : إنه قاتلك ، فقال : لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين . وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة ، قال رجل من المسلمين : ضعوني في الحجفة وألقوني إليهم ، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب .قلت : ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ؟ قال : فلك الجنة ، فانغمس في العدو حتى قتل . وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش ، فلما رهقوه قال : من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، ثم رهقوه أيضا فقال : من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة ، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل . فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنصفنا أصحابنا . هكذا الرواية ( أنصفنا ) بسكون الفاء ( أصحابنا ) بفتح الباء ، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا . وروي بفتح الفاء ورفع الباء ، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه ، والله أعلم ، وقال محمد بن الحسن : لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده ، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ; لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين ، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ; ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه ، وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه ، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم الآية ، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه ، وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء ، قال الله تعالى : وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور . وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله ، وسيأتي القول في هذا في [ آل عمران ] إن شاء تعالى .الثالثة : قوله تعالى : وأحسنوا أي في الإنفاق في الطاعة ، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم ، وقيل : أحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ، روي ذلك عن بعض الصحابة .
2:196
وَ اَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّٰهِؕ-فَاِنْ اُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَیْسَرَ مِنَ الْهَدْیِۚ-وَ لَا تَحْلِقُوْا رُءُوْسَكُمْ حَتّٰى یَبْلُغَ الْهَدْیُ مَحِلَّهٗؕ-فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَّرِیْضًا اَوْ بِهٖۤ اَذًى مِّنْ رَّاْسِهٖ فَفِدْیَةٌ مِّنْ صِیَامٍ اَوْ صَدَقَةٍ اَوْ نُسُكٍۚ-فَاِذَاۤ اَمِنْتُمْٙ-فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ اِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَیْسَرَ مِنَ الْهَدْیِۚ-فَمَنْ لَّمْ یَجِدْ فَصِیَامُ ثَلٰثَةِ اَیَّامٍ فِی الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ اِذَا رَجَعْتُمْؕ-تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌؕ-ذٰلِكَ لِمَنْ لَّمْ یَكُنْ اَهْلُهٗ حَاضِرِی الْمَسْجِدِ الْحَرَامِؕ-وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ شَدِیْدُ الْعِقَابِ۠(۱۹۶)
اور حج اور عمرہ اللہ کے لئے پورا کرو (ف۳۶۲) پھر اگر تم روکے جاؤ (ف۳۶۳) تو قربانی بھیجو جو میسر آئے (ف۳۶۴) اور اپنے سر نہ منڈاؤ جب تک قربانی اپنے ٹھکانے نہ پہنچ جائے (ف۳۶۵) پھر جو تم میں بیمار ہو یا اس کے سر میں کچھ تکلیف ہے (ف۳۶۶) تو بدلے دے روزے (ف۳۶۷) یا خیرات (ف۳۶۸) یا قربانی، پھر جب تم اطمینان سے ہو تو جو حج سے عمرہ ملانے کا فائدہ اٹھائے (ف۳۶۹) اس پر قربانی ہے جیسی میسر آئے (ف۳۷۰) پھر جسے مقدور نہ ہو تو تین روزے حج کے دنوں میں رکھے (ف۳۷۱) اور سات جب اپنے گھر پلٹ کر جاؤ یہ پورے دس ہوئے یہ حکم اس کے لئے ہے جو مکہ کا رہنے والا نہ ہو (ف۳۷۲) اور اللہ سے ڈرتے رہو اور جان رکھو کہ اللہ کا عذاب سخت ہے،

وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فيها سبع مسائل :الأولى : اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله ، فقيل : أداؤهما والإتيان بهما ، كقوله : فأتمهن وقوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل أي ائتوا بالصيام ، وهذا على مذهب من أوجب العمرة ، على ما يأتي ، ومن لم يوجبها قال : المراد تمامهما بعد الشروع فيهما ، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه ، قال معناه الشعبي وابن زيد ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ، وفعله عمران بن حصين ، وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويقوي هذا قوله " لله " . وقال عمر : إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران ، وقاله ابن حبيب ، وقال مقاتل : إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم ، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، فقال : فأتموهما ولا تخلطوهما بشيء آخر .قلت : أما ما روي عن علي وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبد الله بن مسعود وجماعة من السلف ، وثبت أن عمر أهل من إيلياء ، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم ، ورخص فيه الشافعي ، وروى أبو داود والدارقطني عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحرم من بيت المقدس بحج أو عمرة كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه في رواية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وخرجه أبو داود وقال : " يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس ، يعني إلى مكة " ، ففي هذا إجازة الإحرام قبل الميقات ، وكره مالك رحمه الله أن يحرم أحد قبل الميقات ، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب ، وأنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة ، وأنكر عثمان على ابن عمر إحرامه قبل الميقات ، وقال أحمد وإسحاق : وجه العمل المواقيت ، ومن الحجة لهذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت وعينها ، فصارت بيانا لمجمل الحج ، ولم يحرم صلى الله عليه وسلم من بيته لحجته ، بل أحرم من ميقاته الذي وقته لأمته ، وما فعله صلى الله عليه وسلم فهو الأفضل إن شاء الله ، وكذلك صنع جمهور الصحابة والتابعين بعدهم ، واحتج أهل المقالة الأولى بأن ذلك أفضل بقول عائشة : ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وبحديث أم سلمة مع ما ذكر عن الصحابة في ذلك ، وقد شهدوا إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته من ميقاته ، وعرفوا مغزاه ومراده ، وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته .الثانية : روى الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة يهلون منها ، وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله ، لا يخالفون شيئا منه ، واختلفوا في ميقات أهل العراق وفيمن وقته ، فروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق . قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وروي أن عمر وقت لأهل العراق ذات عرق ، وفي كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق ، وهذا هو الصحيح ومن روى أن عمر وقته لأن العراق في وقته وقد افتتحت ، فغفلة منه ، بل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وقت لأهل الشام الجحفة ، والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق وغيرها يومئذ من البلدان ، ولم تفتح العراق ولا الشام إلا على عهد عمر . وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل السير . قال أبو عمر : كل عراقي أو مشرقي أحرم من ذات عرق فقد أحرم عند الجميع من ميقاته والعقيق أحوط عندهم وأولى من ذات عرق ، وذات عرق ميقاتهم أيضا بإجماع .الثالثة : أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم ، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل ، كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه ، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه ، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك ; لأنه زاد ولم ينقص .الرابعة : في هذه الآية دليل على وجوب العمرة ; لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج . قال الصبي بن معبد : أتيت عمر رضي الله عنه فقلت إني كنت نصرانيا فأسلمت ، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي ، وإني أهللت بهما جميعا ، فقال له عمر هديت لسنة نبيك قال ابن المنذر : ولم ينكر عليه قوله : " وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي " ، وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس ، وروى الدارقطني عن ابن جريج قال : أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا ، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع . قال : ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئا . قال ابن جريج : وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال : العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا ، وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبد الله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين . وقال الثوري : سمعنا أنها واجبة وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج ، فقال : صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت ، ذكره الدارقطني ، وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت وكان مالك يقول : العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها ، وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج ، وبأنها سنة ثابتة ، قال ابن مسعود وجابر بن عبد الله . روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة والحج : أواجب هو ؟ قال : نعم فسأله عن العمرة : أواجبة هي ؟ قال : لا وأن تعتمر خير لك . رواه يحيى بن أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر فهذه حجة من لم يوجبها من السنة قالوا : وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب ; لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء ، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وابتدأ بإيجاب الحج فقال : ولله على الناس حج البيت ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها ، فلو حج عشر حجج ، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها ، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء ، والله أعلم ، واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال : عماد الحج الوقوف بعرفة ، وليس في العمرة وقوف ، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله ، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها .الخامسة : قرأ الشعبي وأبو حيوة برفع التاء في " العمرة " وهي تدل على عدم الوجوب ، وقرأ الجماعة العمرة بنصب التاء ، وهي تدل على الوجوب ، وفي مصحف ابن مسعود " وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله " وروي عنه " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق ، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة ، ولا حظ بقصد ، ولا قربة بمعتقد ، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه ، ثم سامح في التجارة ، على ما يأتي .السادسة : لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة والقلم جار له وعليه أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه ، وأن النية تجب فرضا ، لقوله تعالى : وأتموا ومن تمام العبادة حضور النية ، وهي فرض كالإحرام عند الإحرام ، لقوله عليه السلام لما ركب راحلته : لبيك بحجة وعمرة معا على ما يأتي ، وذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال : ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن حاجا ولا معتمرا ، ولو نوى ولم يلب حتى قضى المناسك كان حجه تاما ، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات . قال : ومن فعل مثل ما فعل علي حين أهل على إهلال النبي صلى الله عليه وسلم أجزته تلك النية ; لأنها وقعت على نية لغيره قد تقدمت ، بخلاف الصلاة .السابعة : واختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة ، فقال مالك : لا سبيل لهما إلى رفض الإحرام ولا لأحد متمسكا بقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله ومن رفض إحرامه فلا يتم حجه ولا عمرته ، وقال أبو حنيفة : جائز للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفة أن يجدد إحراما ، فإن تمادى على حجه ذلك لم يجزه من حجة الإسلام ، واحتج بأنه لما لم يكن الحج يجزي عنه ، ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم بالحج ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه ، كمن دخل في نافلة وأقيمت عليه المكتوبة وخشي فوتها قطع النافلة ودخل في المكتوبة ، وقال الشافعي : إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه من حجة الإسلام ، وكذلك العبد . قال : ولو عتق بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزت عنهما من حجة الإسلام ، ولم يكن عليهما دم ، ولو احتاطا فأهراقا دما كان أحب إلي ، وليس ذلك بالبين عندي ، واحتج في إسقاط تجديد الإحرام بحديث علي رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من اليمن مهلا بالحج : بم أهللت قال قلت : لبيك اللهم بإهلال كإهلال نبيك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أهللت بالحج وسقت الهدي . قال الشافعي : ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، ولا أمره بتجديد نية لإفراد أو تمتع أو قران ، وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج : أجزأه من حجة الإسلام ، وكذلك العبد يعتق ، والصبي يبلغ إذا لم يكونوا محرمين ولا دم على واحد منهم ، وإنما يلزم الدم من أراد الحج ولم يحرم من الميقات . وقال أبو حنيفة : يلزم العبد الدم ، وهو كالحر عندهم في تجاوز الميقات ، بخلاف الصبي والنصراني فإنهما لا يلزمهما الإحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عنهما ، فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي كان حكمهما حكم المكي ، ولا شيء عليهما في ترك الميقات .قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي فيها اثنتا عشرة مسألة :الأولى : قال ابن العربي : هذه آية مشكلة ، عضلة من العضل .قلت : لا إشكال فيها ، ونحن نبينها غاية البيان فنقول : الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة " فجملة " أي بأي عذر كان ، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان ، واختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين : الأول : قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما : هو المرض لا العدو . وقيل : العدو خاصة ، قال ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي . قال ابن العربي : وهو اختيار علمائنا ، ورأى أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن " أحصر " عرض للمرض ، و " حصر " نزل به العدو .قلت : ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده ، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا : الإحصار إنما هو المرض ، وأما العدو فإنما يقال فيه : حصر حصرا فهو محصور ، قاله الباجي في المنتقى . وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة ، على ما يأتي ، وقال أبو عبيدة والكسائي : " أحصر " بالمرض ، و " حصر " بالعدو ، وفي المجمل لابن فارس على العكس ، فحصر بالمرض ، وأحصر بالعدو ، وقالت طائفة : يقال أحصر فيهما جميعا من الرباعي ، حكاه أبو عمر .قلت : وهو يشبه قول مالك حيث ترجم في موطئه " أحصر " فيهما ، فتأمله ، وقال الفراء : هما بمعنى واحد في المرض والعدو . قال القشيري أبو نصر : وادعت الشافعية أن الإحصار يستعمل في العدو ، فأما المرض فيستعمل فيه الحصر ، والصحيح أنهما يستعملان فيهما .قلت : ما ادعته الشافعية قد نص الخليل بن أحمد وغيره على خلافه . قال الخليل : حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته ، وأحصر الحاج عن بلوغ المناسك من مرض أو نحوه ، هكذا قال ، جعل الأول ثلاثيا من حصرت ، والثاني في المرض رباعيا ، وعلى هذا خرج قول ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو ، وقال ابن السكيت : أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها ، وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه فأطافوا به ، وحاصروه محاصرة وحصارا . قال الأخفش : حصرت الرجل فهو محصور ، أي حبسته . قال : وأحصرني بولي ، وأحصرني مرضي ، أي جعلني أحصر نفسي . قال أبو عمرو الشيباني : حصرني الشيء وأحصرني ، أي حبسني .قلت : فالأكثر من أهل اللغة على أن " حصر " في العدو ، و " أحصر " في المرض ، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله وقال ابن ميادة :وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغولوقال الزجاج : الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض ، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حصر ، يقال : حصر حصرا ، وفي الأول أحصر إحصارا ، فدل على ما ذكرناه . وأصل الكلمة من الحبس ، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسره ، والحصير : الملك لأنه كالمحبوس من وراء الحجاب . والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات البردي إلى بعض ، كحبس الشيء مع غيره .الثانية : ولما كان أصل الحصر الحبس قالت الحنفية : المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غير ذلك ، واحتجوا بمقتضى الإحصار مطلقا ، قالوا : وذكر الأمن في آخر الآية لا يدل على أنه لا يكون من المرض ، قال صلى الله عليه وسلم : الزكام أمان من الجذام وقال : من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص . الشوص : وجع السن ، واللوص : وجع الأذن . والعلوص : وجع البطن . أخرجه ابن ماجه في سننه . قالوا : وإنما جعلنا حبس العدو حصارا قياسا على المرض إذا كان في حكمه ، لا بدلالة الظاهر ، وقال ابن عمر وابن الزبير وابن عباس والشافعي وأهل المدينة : المراد بالآية حصر العدو ; لأن الآية نزلت في سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة . قال ابن عمر : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه ، ودل على هذا قوله تعالى : فإذا أمنتم ، ولم يقل : برأتم ، والله أعلم .الثالثة : جمهور الناس على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه ، وقال قتادة وإبراهيم : يبعث بهديه إن أمكنه ، فإذا بلغ محله صار حلالا ، وقال أبو حنيفة : دم الإحصار لا يتوقف على يوم النحر ، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر إذا بلغ محله ، وخالفه صاحباه فقالا : يتوقف على يوم النحر ، وإن نحر قبله لم يجزه ، وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان .الرابعة : الأكثر من العلماء على أن من أحصر بعدو كافر أو مسلم أو سلطان حبسه في سجن أن عليه الهدي ، وهو قول الشافعي ، وبه قال أشهب ، وكان ابن القاسم يقول : ليس على من صد عن البيت في حج أو عمرة هدي إلا أن يكون ساقه معه ، وهو قول مالك ، ومن حجتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نحر يوم الحديبية هديا قد كان أشعره وقلده حين أحرم بعمرة ، فلما لم يبلغ ذلك الهدي محله للصد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحر ; لأنه كان هديا وجب بالتقليد والإشعار ، وخرج لله فلم يجز الرجوع فيه ، ولم ينحره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الصد ، فلذلك لا يجب على من صد عن البيت هدي ، واحتج الجمهور بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدي ، فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده ، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به ، وهو مقتضى قوله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وقد قيل : يحل ويهدي إذا قدر عليه ، والقولان للشافعي ، وكذلك من لا يجد هديا يشتريه ، قولان .الخامسة : قال عطاء وغيره : المحصر بمرض كالمحصر بعدو ، وقال مالك والشافعي وأصحابهما : من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت وإن أقام سنين حتى يفيق ، وكذلك من أخطأ العدد أو خفي عليه الهلال . قال مالك : وأهل مكة في ذلك كأهل الآفاق . قال : وإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى وبقي على إحرامه لا يحل من شيء حتى يبرأ من مرضه ، فإذا برئ من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعا ، وسعى بين الصفا والمروة ، وحل من حجته أو عمرته ، وهذا كله قول الشافعي ، وذهب في ذلك إلى ما روي عن عمر وابن عباس وعائشة وابن عمر وابن الزبير أنهم قالوا في المحصر بمرض أو خطأ العدد : إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت . وكذلك من أصابه كسر أو بطن منخرق ، وحكم من كانت هذه حاله عند مالك وأصحابه أن يكون بالخيار إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لمرضه ، إن شاء مضى إذا أفاق إلى البيت فطاف وتحلل بعمرة ، وإن شاء أقام على إحرامه إلى قابل ، وإن أقام على إحرامه ولم يواقع شيئا مما نهي عنه الحاج فلا هدي عليه ، ومن حجته في ذلك الإجماع من الصحابة على أن من أخطأ العدد أن هذا حكمه ؛ لا يحله إلا الطواف بالبيت . وقال في المكي إذا بقي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم : فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعله المعتمر ويحل ، فإذا كان قابل حج وأهدى . وقال ابن شهاب الزهري في إحصار من أحصر بمكة من أهلها : لا بد له من أن يقف بعرفة وإن نعش نعشا ، واختار هذا القول أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير المالكي فقال : قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على الآفاق من إعادة الحج والهدي خلاف ظاهر الكتاب ، لقول الله عز وجل : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . قال : والقول عندي في هذا قول الزهري في أن الإباحة من الله عز وجل لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج ، فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد وإن نعش نعشا لقرب المسافة بالبيت ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : كل من منع من الوصول إلى البيت بعدو أو مرض أو ذهاب نفقة أو إضلال راحلة أو لدغ هامة فإنه يقف مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو بثمن هديه ، فإذا نحر فقد حل من إحرامه . كذلك قال عروة وقتادة والحسن وعطاء والنخعي ومجاهد وأهل العراق ، لقوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي الآية .السادسة : قال مالك وأصحابه : لا ينفع المحرم الاشتراط في الحج إذا خاف الحصر بمرض أو عدو ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابهم ، والاشتراط أن يقول إذا أهل : لبيك اللهم لبيك ، ومحلي حيث حبستني من الأرض ، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور : لا بأس أن يشترط وله شرطه ، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين ، وحجتهم حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني أردت الحج ، أأشترط ؟ قال : نعم . قالت : فكيف أقول ؟ قال : قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني . أخرجه أبو داود والدارقطني وغيرهما . قال الشافعي : لو ثبت حديث ضباعة لم أعده ، وكان محله حيث حبسه الله .قلت : قد صححه غير واحد ، منهم أبو حاتم البستي وابن المنذر ، قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير : حجي واشترطي ، وبه قال الشافعي إذ هو بالعراق ، ثم وقف عنه بمصر . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول ، وذكره عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال : أخبرنا أبو الزبير أن طاوسا وعكرمة أخبراه عن ابن عباس قال : جاءت ضباعة بنت الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج ، فكيف تأمرني أن أهل ؟ قال : أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني . قال : فأدركت ، وهذا إسناد صحيح .السابعة : واختلفت العلماء أيضا في وجوب القضاء على من أحصر ، فقال مالك والشافعي : من أحصر بعدو فلا قضاء عليه بحجه ولا عمرته ، إلا أن يكون ضرورة لم يكن حج ، فيكون عليه الحج على حسب وجوبه عليه ، وكذلك العمرة عند من أوجبها فرضا . وقال أبو حنيفة : المحصر بمرض أو عدو عليه حجة وعمرة ، وهو قول الطبري . قال أصحاب الرأي : إن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة ; لأن إحرامه بالحج صار عمرة . وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين ، وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة ، وسواء عندهم المحصر بمرض أو عدو ، على ما تقدم ، واحتجوا بحديث ميمون ابن مهران قال : خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي ، فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم ، فنحرت الهدي مكاني ثم حللت ثم رجعت ، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي ، فأتيت ابن عباس فسألته ، فقال : أبدل الهدي ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء ، واستدلوا بقوله عليه السلام : من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى أو عمرة أخرى . رواه عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى . قالوا : فاعتمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة ، قالوا : ولذلك قيل لها عمرة القضاء . واحتج مالك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء ، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه ، ولا قال في العام المقبل : إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي حصرت فيها ، ولم ينقل ذلك عنه . قالوا : وعمرة القضاء وعمرة القضية سواء ، وإنما قيل لها ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا وصالحهم في ذلك العام على الرجوع عن البيت وقصده من قابل ، فسميت بذلك عمرة القضية .الثامنة : لم يقل أحد من الفقهاء فيمن كسر أو عرج أنه يحل مكانه بنفس الكسر غير أبي ثور على ظاهر حديث الحجاج بن عمرو ، وتابعه على ذلك داود بن علي وأصحابه ، وأجمع العلماء على أنه يحل من كسر ، ولكن اختلفوا فيما به يحل ، فقال مالك وغيره : يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره ، ومن خالفه من الكوفيين يقول : يحل بالنية وفعل ما يتحلل به ، على ما تقدم من مذهبه .التاسعة : لا خلاف بين علماء الأمصار أن الإحصار عام في الحج والعمرة ، وقال ابن سيرين : لا إحصار في العمرة ; لأنها غير مؤقتة ، وأجيب بأنها وإن كانت غير مؤقتة لكن في الصبر إلى زوال العذر ضرر ، وفي ذلك نزلت الآية ، وحكي عن ابن الزبير أن من أحصره العدو أو المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت ، وهذا أيضا مخالف لنص الخبر عام الحديبية .العاشرة : الحاصر لا يخلو أن يكون كافرا أو مسلما ، فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو وثق بالظهور عليه ، ويتحلل بموضعه ، لقوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام كما تقدم ولو سأل الكافر جعلا لم يجز ; لأن ذلك وهن في الإسلام ، فإن كان مسلما لم يجز قتاله بحال ، ووجب التحلل ، فإن طلب شيئا ويتخلى عن الطريق جاز دفعه ، ولم يجز القتال لما فيه من إتلاف المهج ، وذلك لا يلزم في أداء العبادات ، فإن الدين أسمح . وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما ; ولأن الحج مما ينفق فيه المال ، فيعد هذا من النفقة .الحادية عشرة : والعدو الحاصر لا يخلو أن يتيقن بقاؤه واستيطانه لقوته وكثرته أو لا ، فإن كان الأول حل المحصر مكانه من ساعته ، وإن كان الثاني وهو مما يرجى زواله فهذا لا يكون محصورا حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه إن زال العدو لا يدرك فيه الحج ، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون ، وقال أشهب : لا يحل من حصر عن الحج بعدو حتى يوم النحر ، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة ، وجه قول ابن القاسم : أن هذا وقت يأس من إكمال حجه لعدو غالب ، فجاز له أن يحل فيه ، أصل ذلك يوم عرفة ، ووجه قول أشهب أن عليه أن يأتي من حكم الإحرام بما يمكنه والتزامه له إلى يوم النحر ، الوقت الذي يجوز للحاج التحلل بما يمكنه الإتيان به [ فكان ذلك عليه ] .قوله تعالى : فما استيسر من الهدي " ما " في موضع رفع ، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، أي فانحروا أو فاهدوا . وما استيسر عند جمهور أهل العلم شاة وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير : ما استيسر جمل دون جمل ، وبقرة دون بقرة لا يكون من غيرهما ، وقال الحسن : أعلى الهدي بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة ، وفي هذا دليل على ما ذهب إليه مالك من أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاء ، لقوله : فما استيسر من الهدي ولم يذكر قضاء ، والله أعلم .الثانية عشرة : قوله تعالى : من الهدي الهدي والهدي لغتان . وهو ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها ، والعرب تقول : كم هدي بني فلان ، أي كم إبلهم . وقال أبو بكر : سميت هديا لأن منها ما يهدى إلى بيت الله ، فسميت بما يلحق بعضها ، كما قال تعالى : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . أراد فإن زنى الإماء فعلى الأمة منهن إذا زنت نصف ما على الحرة البكر إذا زنت ، فذكر الله المحصنات وهو يريد الأبكار ; لأن الإحصان يكون في أكثرهن فسمين بأمر يوجد في بعضهن ، والمحصنة من الحرائر هي ذات الزوج ، يجب عليها الرجم إذا زنت ، والرجم لا يتبعض ، فيكون على الأمة نصفه ، فانكشف بهذا أن المحصنات يراد بهن الأبكار لا أولات الأزواج ، وقال الفراء : أهل الحجاز وبنو أسد يخففون الهدي ، قال : وتميم وسفلى قيس يثقلون فيقولون : هدي . قال الشاعر :حلفت برب مكة والمصلى وأعناق الهدي مقلداتقال : وواحد الهدي هدية ، ويقال في جمع الهدي : أهداء .قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فيه سبع مسائل :الأولى : قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى ، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة ، أي لا تتحللوا من الإحرام حتى ينحر الهدي . والمحل : الموضع الذي يحل فيه ذبحه ، فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي : موضع الحصر ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية قال الله تعالى : والهدي معكوفا أن يبلغ محله قيل : محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق ، وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار : الحرم ، لقوله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق ، وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن الذي يجد الوصول إلى البيت ، فأما المحصر فخارج من قول الله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم بالحديبية وليست من الحرم ، واحتجوا من السنة بحديث ناجية بن جندب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ابعث معي الهدي فأنحره بالحرم . قال : فكيف تصنع به قال : أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه ، فأنطلق به حتى أنحره في الحرم ، وأجيب بأن هذا لا يصح ، وإنما ينحر حيث حل ، اقتداء بفعله عليه السلام بالحديبية ، وهو الصحيح الذي رواه الأئمة ; ولأن الهدي تابع للمهدي ، والمهدي حل بموضعه ، فالمهدى أيضا يحل معه .الثانية : واختلف العلماء على ما قررناه في المحصر هل له أن يحلق أو يحل بشيء من الحل قبل أن ينحر ما استيسر من الهدي ، فقال مالك : السنة الثابتة التي لا اختلاف فيها عندنا أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه ، قال الله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم ، ويعود حرما كما كان حتى ينحر هديه ، وإن أصاب صيدا قبل أن ينحر الهدي فعليه الجزاء ، وسواء في ذلك الموسر والمعسر لا يحل أبدا حتى ينحر أو ينحر عنه . قالوا : وأقل ما يهديه شاة ، لا عمياء ولا مقطوعة الأذنين ، وليس هذا عندهم موضع صيام . قال أبو عمر : قول الكوفيين فيه ضعف وتناقض ; لأنهم لا يجيزون لمحصر بعدو ولا مرض أن يحل حتى ينحر هديه في الحرم . وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدي ويواعد حامله يوما ينحره فيه فيحل ويحلق فقد أجازوا له أن يحل على غير يقين من نحر الهدي وبلوغه ، وحملوه على الإحلال بالظنون ، والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شيء من فرائضه أن يخرج منه بالظن ، والدليل على أن ذلك ظن قولهم : لو عطب ذلك الهدي أو ضل أو سرق فحل مرسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراما وعليه جزاء ما صاد ، فأباحوا له فساد الحج وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه ، وهذا ما لا خفاء فيه من التناقض وضعف المذاهب ، وإنما بنوا مذهبهم هذا كله على قول ابن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له ، وقال الشافعي في المحصر إذا أعسر بالهدي : فيه قولان : لا يحل أبدا إلا بهدي ، والقول الآخر : أنه مأمور أن يأتي بما قدر عليه ، فإن لم يقدر على شيء كان عليه أن يأتي به إذا قدر عليه . قال الشافعي : ومن قال هذا قال : يحل مكانه ويذبح إذا قدر ، فإن قدر على أن يكون الذبح بمكة لم يجزه أن يذبح إلا بها ، وإن لم يقدر ذبح حيث قدر . قال ويقال : لا يجزيه إلا هدي ، ويقال : إذا لم يجد هديا كان عليه الإطعام أو الصيام ، وإن لم يجد واحدا من الثلاثة أتى بواحد منها إذا قدر ، وقال في العبد : لا يجزيه إلا الصوم ، تقوم له الشاة دراهم ، ثم الدراهم طعاما ثم يصوم عن كل مد يوما .الثالثة : واختلفوا إذا نحر المحصر هديه هل له أن يحلق أو لا فقالت طائفة : ليس عليه أن يحلق رأسه ; لأنه قد ذهب عنه النسك ، واحتجوا بأنه لما سقط عنه بالإحصار جميع المناسك كالطواف والسعي - وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه - سقط عنه سائر ما يحل به المحرم من أجل أنه محصر ، وممن احتج بهذا وقال به أبو حنيفة ومحمد بن الحسن قالا : ليس على المحصر تقصير ولا حلاق . وقال أبو يوسف : يحلق المقصر ، فإن لم يحلق فلا شيء عليه ، وقد حكى ابن أبي عمران عن ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره أن عليه الحلاق ، والتقصير لا بد له منه واختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين : أحدهما أن الحلاق للمحصر من النسك ، وهو قول مالك ، والآخر ليس من النسك كما قال أبو حنيفة والحجة لمالك أن الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة قد منع من ذلك كله المحصر وقد صد عنه ، فسقط عنه ما قد حيل بينه وبينه ، وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه ، وهو قادر على أن يفعله ، وما كان قادرا على أن يفعله فهو غير ساقط عنه ومما يدل على أن الحلاق باق على المحصر كما هو باق على من قد وصل إلى البيت سواء قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله وما رواه الأئمة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة ، وهو الحجة القاطعة والنظر الصحيح في هذه المسألة ، وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه ، والحلاق عندهم نسك على الحاج الذي قد أتم حجه ، وعلى من فاته الحج ، والمحصر بعدو والمحصر بمرض .الرابعة : روى الأئمة واللفظ لمالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : والمقصرين . قال علماؤنا : ففي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة دليل على أن الحلق في الحج والعمرة أفضل من التقصير ، وهو مقتضى قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم الآية ، ولم يقل تقصروا ، وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ عن الرجال ، إلا شيء ذكر عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة يحجها الإنسان .الخامسة : لم تدخل النساء في الحلق ، وأن سنتهن التقصير ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير . خرجه أبو داود عن ابن عباس . وأجمع أهل العلم على القول به . ورأت جماعة أن حلقها رأسها من المثلة ، واختلفوا في قدر ما تقصر من رأسها ، فكان ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون : تقصر من كل قرن مثل الأنملة . وقال عطاء : قدر ثلاث أصابع مقبوضة ، وقال قتادة : تقصر الثلث أو الربع ، وفرقت حفصة بنت سيرين بين المرأة التي قعدت فتأخذ الربع ، وفي الشابة أشارت بأنملتها تأخذ وتقلل ، وقال مالك : تأخذ من جميع قرون رأسها ، وما أخذت من ذلك فهو يكفيها ، ولا يجزي عنده أن تأخذ من بعض القرون وتبقي بعضا . قال ابن المنذر : يجزي ما وقع عليه اسم تقصير ، وأحوط أن تأخذ من جميع القرون قدر أنملة .السادسة : لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه ، وذلك أن سنة الذبح قبل الحلاق ، والأصل في ذلك قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه سلم ، بدأ فنحر هديه ثم حلق بعد ذلك ، فمن خالف هذا فقدم الحلاق قبل النحر فلا يخلو أن يقدمه خطأ وجهلا أو عمدا وقصدا ، فإن كان الأول فلا شيء عليه ، رواه ابن حبيب عن ابن القاسم ، وهو المشهور من مذهب مالك ، وقال ابن الماجشون : عليه الهدي ، وبه قال أبو حنيفة . وإن كان الثاني فقد روى القاضي أبو الحسن أنه يجوز تقديم الحلق على النحر ، وبه قال الشافعي . والظاهر من المذهب المنع ، والصحيح الجواز ، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال : لا حرج رواه مسلم ، وخرج ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن ذبح قبل أن يحلق ، أو حلق قبل أن يذبح فقال : لا حرج .السابعة : لا خلاف أن حلق الرأس في الحج نسك مندوب إليه وفي غير الحج جائز ، خلافا لمن قال : إنه مثلة ، ولو كان مثلة ما جاز في الحج ولا غيره ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة ، وقد حلق رءوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام ، ولو لم يجز الحلق ما حلقهم ، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلق رأسه . قال ابن عبد البر : وقد أجمع العلماء على حبس الشعر وعلى إباحة الحلق . وكفى بهذا حجة ، وبالله التوفيق .قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فيها تسع مسائل :الأولى : قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا استدل بعض علماء الشافعية بهذه الآية على أن المحصر في أول الآية العدو لا المرض ، وهذا لا يلزم ، فإن معنى قوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق ففدية أي فعليه فدية ، وإذا كان واردا في المرض بلا خلاف كان الظاهر أن أول الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها ، لاتساق الكلام بعضه على بعض ، وانتظام بعضه ببعض ، ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أولها ، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدل الدليل على العدول عنه ، ومما يدل على ما قلناه سبب نزول هذه الآية ، روى الأئمة واللفظ للدارقطني : ( عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يتساقط على وجهه فقال : أيؤذيك هوامك قال نعم . فأمره أن يحلق وهو بالحديبية ، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة ، فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام ) . خرجه البخاري بهذا اللفظ أيضا ، فقوله : ولم يبين لهم أنهم يحلون بها ، يدل على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدو لهم ، فإذا الموجب للفدية الحلق للأذى والمرض ، والله أعلم .الثانية : قال الأوزاعي في المحرم يصيبه أذى في رأسه : إنه يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق .قلت : فعلى هذا يكون المعنى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك إن أراد أن يحلق ، ومن قدر فحلق ففدية ، فلا يفتدي حتى يحلق ، والله أعلم .الثالثة : قال ابن عبد البر : كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكره بشاة ، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء ، وأما الصوم والإطعام فاختلفوا فيه ، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام ، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة . وجاء عن الحسن وعكرمة ونافع قالوا : الصوم في فدية الأذى عشرة أيام ، والإطعام عشرة مساكين ، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الأمصار ولا أئمة الحديث ، وقد جاء من رواية أبي الزبير عن مجاهد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة أنه حدثه أنه كان أهل في ذي القعدة ، وأنه قمل رأسه فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوقد تحت قدر له ، فقال له : كأنك يؤذيك هوام رأسك ، فقال أجل . قال : احلق واهد هديا ، فقال : ما أجد هديا . قال : فأطعم ستة مساكين ، فقال : ما أجد . قال : صم ثلاثة أيام . قال أبو عمر : كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب وليس كذلك ، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أولا فأولا ، وعامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير ، وهو نص القرآن ، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم ، وبالله التوفيق .الرابعة : اختلف العلماء في الإطعام في فدية الأذى ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول أبي ثور وداود ، وروي عن الثوري أنه قال في الفدية : من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير والزبيب صاع . وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله ، جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر . قال ابن المنذر : وهذا غلط ; لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : أن تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين ، وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي ، ومرة قال : إن أطعم برا فمد لكل مسكين ، وإن أطعم تمرا فنصف صاع .الخامسة : ولا يجزي أن يغدي المساكين ويعشيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن ، وقال أبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم .السادسة : أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من حلق شعره وجزه وإتلافه بحلق أو نورة أو غير ذلك إلا في حالة العلة كما نص على ذلك القرآن ، وأجمعوا على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة ، واختلفوا فيما على من فعل ذلك ، أو لبس أو تطيب بغير عذر عامدا ، فقال مالك : بئس ما فعل ! وعليه الفدية ، وهو مخير فيها ، وسواء عنده العمد في ذلك والخطأ ، لضرورة وغير ضرورة ، وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وأبو ثور : ليس بمخير إلا في الضرورة ; لأن الله تعالى قال : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فإذا حلق رأسه عامدا أو لبس عامدا لغير عذر فليس بمخير وعليه دم لا غير .السابعة : واختلفوا فيمن فعل ذلك ناسيا ، فقال مالك رحمه الله : العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفدية ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث ، وللشافعي في هذه المسألة قولان : أحدهما : لا فدية عليه ، وهو قول داود وإسحاق ، والثاني : عليه الفدية ، وأكثر العلماء يوجبون الفدية على المحرم بلبس المخيط وتغطية الرأس أو بعضه ، ولبس الخفين وتقليم الأظافر ومس الطيب وإماطة الأذى ، وكذلك إذا حلق شعر جسده أو اطلى ، أو حلق مواضع المحاجم ، والمرأة كالرجل في ذلك ، وعليها الفدية في الكحل وإن لم يكن فيه طيب . وللرجل أن يكتحل بما لا طيب فيه ، وعلى المرأة الفدية إذا غطت وجهها أو لبست القفازين ، والعمد والسهو والجهل في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك . وقال داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد .الثامنة : واختلف العلماء في مواضع الفدية المذكورة ، فقال عطاء : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء ، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي ، وعن الحسن أن الدم بمكة ، وقال طاوس والشافعي : الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة ، والصوم حيث شاء ; لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم ، وقد قال الله سبحانه هديا بالغ الكعبة رفقا لمساكين جيران بيته ، فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام ، والله أعلم ، وقال مالك : يفعل ذلك أين شاء ، وهو الصحيح من القول ، وهو قول مجاهد ، والذبح هنا عند مالك نسك وليس بهدي لنص القرآن والسنة ، والنسك يكون حيث شاء ، والهدي لا يكون إلا بمكة ، ومن حجته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه ، وفيه : فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين - فحلق ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا . قال مالك قال يحيى بن سعيد : وكان حسين خرج مع عثمان في سفره ذلك إلى مكة ، ففي هذا أوضح دليل على أن فدية الأذى جائز أن تكون بغير مكة ، وجائز عند مالك في الهدي إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم ; لأن البغية فيه إطعام مساكين المسلمين . قال مالك : ولما جاز الصوم أن يؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم ، ثم إن قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا الآية ، أوضح الدلالة على ما قلناه ، فإنه تعالى لما قال : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك لم يقل في موضع دون موضع ، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه . وقال : أو نسك فسمى ما يذبح نسكا ، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ولم يسمه هديا ، فلا يلزمنا أن نرده قياسا على الهدي ، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن علي ، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعبا بالفدية ما كان في الحرم ، فصح أن ذلك كله يكون خارج الحرم ، وقد روي عن الشافعي مثل هذا في وجه بعيد .التاسعة : قوله تعالى : أو نسك النسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى ، ويجمع أيضا على نسائك ، والنسك : العبادة في الأصل ، ومنه قوله تعالى : وأرنا مناسكنا أي متعبداتنا ، وقيل : إن أصل النسك في اللغة الغسل ، ومنه نسك ثوبه إذا غسله ، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة . وقيل : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها .قوله تعالى : فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فيه ثلاث عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : فإذا أمنتم قيل : معناه برأتم من المرض ، وقيل : من خوفكم من العدو المحصر ، قاله ابن عباس وقتادة ، وهو أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه ، كما تقدم ، والله أعلم .الثانية : قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية . اختلف العلماء من المخاطب بهذا ؟ فقال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم . وصورة المتمتع عند ابن الزبير : أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ، ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ، ثم يقضي الحج من قابل ، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء ، وصورة المتمتع المحصر عند غيره : أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه ، وقال ابن عباس وجماعة : الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله .الثالثة : لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز على ما يأتي تفصيله ، وأن الإفراد جائز وأن القرآن جائز ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه ، بل أجازه لهم ورضيه منهم ، صلى الله عليه وسلم . وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما في حجته وفي الأفضل من ذلك ، لاختلاف الآثار الواردة في ذلك ، فقال قائلون منهم مالك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفردا ، والإفراد أفضل من القران . قال : والقران أفضل من التمتع ، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل قالت عائشة : فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت فيمن أهل بالعمرة ، رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وقال بعضهم فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأما أنا فأهل بالحج وهذا نص في موضع الخلاف ، وهو حجة من قال بالإفراد وفضله ، وحكى محمد بن الحسن عن مالك أنه قال : إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به ، واستحب أبو ثور الإفراد أيضا وفضله على التمتع والقران ، وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه . واستحب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج ، قالوا : وذلك أفضل . وهو مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وهو أحد قولي الشافعي . قال الدارقطني قال الشافعي : اخترت الإفراد ، والتمتع حسن لا نكرهه . احتج من فضل التمتع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل
2:197
اَلْحَجُّ اَشْهُرٌ مَّعْلُوْمٰتٌۚ-فَمَنْ فَرَضَ فِیْهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَ لَا فُسُوْقَۙ-وَ لَا جِدَالَ فِی الْحَجِّؕ-وَ مَا تَفْعَلُوْا مِنْ خَیْرٍ یَّعْلَمْهُ اللّٰهُ ﳳ-وَ تَزَوَّدُوْا فَاِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوٰى٘-وَ اتَّقُوْنِ یٰۤاُولِی الْاَلْبَابِ(۱۹۷)
حج کے کئی مہینہ ہیں جانے ہوئے (ف۳۷۳) تو جو ان میں حج کی نیت کرے (ف۳۷۴) تو نہ عورتوں کے سامنے صحبت کا تذکرہ ہو نہ کوئی گناہ، نہ کسی سے جھگڑا (ف۳۷۵) حج کے وقت تک اور تم جو بھلائی کرو اللہ اسے جانتا ہے (ف۳۷۶) اور توشہ ساتھ لو کہ سب سے بہتر توشہ پرہیزگاری ہے (ف۳۷۷) اور مجھ سے ڈرتے رہو اے عقل والو، ف۳۷۸)

قوله تعالى : الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب فيه أربع عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : الحج أشهر معلومات لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله : وأتموا الحج والعمرة لله بين اختلافهما في الوقت ، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة ، ووقت العمرة ، وأما الحج فيقع في السنة مرة ، فلا يكون في غير هذه الأشهر . والحج أشهر معلومات ابتداء وخبر ، وفي الكلام حذف تقديره : أشهر الحج أشهر ، أو وقت الحج أشهر ، أو وقت عمل الحج أشهر ، وقيل التقدير : الحج في أشهر ، ويلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ، ولم يقرأ أحد بنصبها ، إلا أنه يجوز في الكلام النصب على أنه ظرف . قال الفراء : الأشهر رفع ; لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات . قال الفراء : وسمعت الكسائي يقول : إنما الصيف شهران ، وإنما الطيلسان ثلاثة أشهر . أراد وقت الصيف ، ووقت لباس الطيلسان ، فحذف .الثانية : واختلف في الأشهر المعلومات ، فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري : أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كله . وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي : هي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة ، وروي عن ابن مسعود وقاله ابن الزبير ، والقولان مرويان عن مالك ، حكى الأخير ابن حبيب ، والأول ابن المنذر ، وفائدة الفرق تعلق الدم ، فمن قال : إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم ير دما فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر ; لأنها في أشهر الحج ، وعلى القول الأخير ينقضي الحج بيوم النحر ، ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك لتأخيره عن وقته .الثالثة : لم يسم الله تعالى أشهر الحج في كتابه ; لأنها كانت معلومة عندهم ، ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث ; لأن بعض الشهر يتنزل منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا ، أو على عهد فلان ، ولعله إنما رآه في ساعة منها ، فالوقت يذكر بعضه بكله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : أيام منى ثلاثة . وإنما هي يومان وبعض الثالث . ويقولون : رأيتك اليوم ، وجئتك العام ، وقيل : لما كان الاثنان وما فوقهما جمع قال أشهر ، والله أعلم .الرابعة : اختلف في الإهلال بالحج غير أشهر الحج ، فروي عن ابن عباس : من سنة الحج أن يحرم به في أشهر الحج ، وقال عطاء ومجاهد وطاوس والأوزاعي : من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه ويكون عمرة ، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة ، وبه قال الشافعي وأبو ثور ، وقال الأوزاعي : يحل بعمرة ، وقال أحمد بن حنبل : هذا مكروه ، وروي عن مالك ، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة كلها ، وهو قول أبي حنيفة ، وقال النخعي : لا يحل حتى يقضي حجه ، لقوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وقد تقدم القول فيها ، وما ذهب إليه الشافعي أصح ; لأن تلك عامة ، وهذه الآية خاصة ، ويحتمل أن يكون من باب النص على بعض أشخاص العموم ، لفضل هذه الأشهر على غيرها ، وعليه فيكون قول مالك صحيحا ، والله أعلم .الخامسة : قوله تعالى : فمن فرض فيهن الحج أي ألزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا ، وبالإحرام فعلا ظاهرا ، وبالتلبية نطقا مسموعا ، قاله ابن حبيب وأبو حنيفة في التلبية . وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج ، وهو قول الحسن بن حي . قال الشافعي : تكفي النية في الإحرام بالحج ، وأوجب التلبية أهل الظاهر وغيرهم ، وأصل الفرض في اللغة : الحز والقطع ، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل ، ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحز للقدح ، وقيل : فرض أي أبان ، وهذا يرجع إلى القطع ; لأن من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره . و " من " رفع بالابتداء ومعناها الشرط ، والخبر قوله : فرض لأن " من " ليست بموصولة ، فكأنه قال : رجل فرض . وقال : فيهن ولم يقل فيها ، فقال قوم : هما سواء في الاستعمال . وقال المازني أبو عثمان : الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة ، والقليل ليس كذلك ، تقول : الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ويؤيد ذلك قول الله تعالى : إن عدة الشهور ثم قال : منها .السادسة : قوله تعالى : فلا رفث قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك : الرفث الجماع ، أي فلا جماع لأنه يفسده ، وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج ، وعليه حج قابل والهدي . وقال عبد الله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم : الرفث الإفحاش للمرأة بالكلام ، لقوله : إذا أحللنا فعلنا بك كذا ، من غير كناية ، وقاله ابن عباس أيضا ، وأنشد وهو محرم :وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسافقال له صاحبه حصين بن قيس : أترفث وأنت محرم فقال : إن الرفث ما قيل عند النساء ، وقال قوم : الرفث الإفحاش بذكر النساء ، كان ذلك بحضرتهن أم لا ، وقيل : الرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله ، وقال أبو عبيدة : الرفث اللغا من الكلام ، وأنشد :ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلميقال : رفث يرفث ، بضم الفاء وكسرها ، وقرأ ابن مسعود " فلا رفوث " على الجمع . قال ابن العربي : المراد بقوله [ تعالى ] فلا رفث نفيه مشروعا لا موجودا ، فإنا نجد الرفث فيه ونشاهده ، وخبر الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا ، كقوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء معناه : شرعا لا حسا ، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي ، وهذا كقوله تعالى : لا يمسه إلا المطهرون إذا قلنا : إنه وارد في الآدميين - وهو الصحيح - أن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا ، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النهي ، وما وجد ذلك قط ، ولا يصح أن يوجد ، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادان وصفا .السابعة : قوله تعالى : ولا فسوق يعني جميع المعاصي كلها ، قاله ابن عباس وعطاء والحسن ، وكذلك قال ابن عمر وجماعة : الفسوق إتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج ، كقتل الصيد وقص الظفر وأخذ الشعر ، وشبه ذلك ، وقال ابن زيد ومالك : الفسوق الذبح للأصنام ، ومنه قوله تعالى : أو فسقا أهل لغير الله به . وقال الضحاك : الفسوق التنابز بالألقاب ، ومنه قوله : بئس الاسم الفسوق . وقال ابن عمر أيضا : الفسوق السباب ، ومنه قوله عليه السلام : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ، والقول الأول أصح ; لأنه يتناول جميع الأقوال . قال صلى الله عليه وسلم : من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة خرجه مسلم وغيره ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال ، وقال الفقهاء : الحج المبرور هو الذي لم يعص الله تعالى فيه أثناء أدائه ، وقال الفراء : هو الذي لم يعص الله سبحانه بعده ، ذكر القولين ابن العربي رحمه الله .قلت : الحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه لا بعده . قال الحسن : الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة ، وقيل غير هذا ، وسيأتي .الثامنة : قوله تعالى : ولا جدال في الحج قرئ " فلا رفث ولا فسوق " بالرفع والتنوين فيهما ، وقرئا بالنصب بغير تنوين ، وأجمعوا على الفتح في ولا جدال ، وهو يقوي قراءة النصب فيما قبله ; ولأن المقصود النفي العام من الرفث والفسوق والجدال ، وليكون الكلام على نظام واحد في عموم المنفي كله ، وعلى النصب أكثر القراء ، والأسماء الثلاثة في موضع رفع ، كل واحد مع " لا " ، وقوله " في الحج " خبر عن جميعها ، ووجه قراءة الرفع أن " لا " بمعنى " ليس " فارتفع الاسم بعدها ; لأنه اسمها ، والخبر محذوف تقديره : فليس رفث ولا فسوق في الحج ، دل عليه في الحج الثاني الظاهر وهو خبر لا جدال ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الرفع بمعنى فلا يكونن رفث ولا فسوق ، أي شيء يخرج من الحج ، ثم ابتدأ النفي فقال : ولا جدال .قلت : فيحتمل أن تكون كان تامة ، مثل قوله : وإن كان ذو عسرة فلا تحتاج إلى خبر . ويحتمل أن تكون ناقصة والخبر محذوف ، كما تقدم آنفا ، ويجوز أن يرفع رفث وفسوق بالابتداء ، ولا للنفي ، والخبر محذوف أيضا . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة ، ورويت عن عاصم في بعض الطرق وعليه يكون في الحج خبر الثلاثة ، كما قلنا في قراءة النصب ، وإنما لم يحسن أن يكون في الحج خبر عن الجميع مع اختلاف القراءة ; لأن خبر ليس منصوب وخبر ولا جدال مرفوع ; لأن ولا جدال مقطوع من الأول وهو في موضع رفع بالابتداء ، ولا يعمل عاملان في اسم واحد ، ويجوز فلا رفث ولا فسوق تعطفه على الموضع ، وأنشد النحويون [ الشاعر أبو العباس السلمي ] :لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقعويجوز في الكلام فلا رفث ولا فسوقا ولا جدال في الحج عطفا على اللفظ على ما كان يجب في لا قال الفراء : ومثله :فلا أب وابنا مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتأزراوقال أبو رجاء العطاردي : " فلا رفث ولا فسوق " بالنصب فيهما ، " ولا جدال " بالرفع والتنوين ، وأنشد الأخفش :هذا وجدكم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أبوقيل : إن معنى فلا رفث ولا فسوق النهي ، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا . ومعنى ولا جدال النفي ، فلما اختلفا في المعنى خولف بينهما في اللفظ . قال القشيري : وفيه نظر ، إذ قيل : ولا جدال نهي أيضا ، أي لا تجادلوا ، فلم فرق بينهماالتاسعة : ولا جدال الجدال وزنه فعال من المجادلة ، وهي مشتقة من الجدل وهو الفتل ، ومنه زمام مجدول . وقيل : هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه ، فيكون كمن ضرب به الجدالة . قال الشاعر :قد أركب الآلة بعد الآلة وأترك العاجز بالجدالهمنعفرا ليست له محالهالعاشرة : واختلفت العلماء في المعنى المراد به هنا على أقوال ستة ، فقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء : الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه فينتهي إلى السباب ، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها ، وقال قتادة : الجدال السباب ، وقال ابن زيد ومالك بن أنس : الجدال هنا أن يختلف الناس : أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب ، ثم يتجادلون بعد ذلك ، فالمعنى على هذا التأويل : لا جدال في مواضعه ، وقالت طائفة : الجدال هنا أن تقول طائفة : الحج اليوم ، وتقول طائفة : الحج غدا ، وقال مجاهد وطائفة معه : الجدال المماراة في الشهور حسب ما كانت عليه العرب من النسيء ، كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة ، ويقف بعضهم بجمع وبعضهم بعرفة ، ويتمارون في الصواب من ذلك .قلت : فعلى هذين التأويلين لا جدال في وقته ولا في موضعه ، وهذان القولان أصح ما قيل في تأويل قوله ولا جدال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . . . الحديث ، وسيأتي في " براءة " . يعني رجع أمر الحج كما كان ، أي عاد إلى يومه ووقته ، وقال صلى الله عليه وسلم لما حج : خذوا عني مناسككم فبين بهذا مواقف الحج ومواضعه ، وقال محمد بن كعب القرظي : الجدال أن تقول طائفة : حجنا أبر من حجكم ، ويقول الآخر مثل ذلك ، وقيل : الجدال كان في الفخر بالآباء ، والله أعلم .الحادية عشرة : قوله تعالى : وما تفعلوا من خير يعلمه الله شرط وجوابه ، والمعنى : أن الله يجازيكم على أعمالكم ; لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء ، وقيل : هو تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش ، وعلى البر والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال . وقيل : جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد ما نهوا عنه .الثانية عشرة : قوله تعالى : وتزودوا أمر باتخاذ الزاد . قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد : نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد ، ويقول بعضهم : كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا ، فكانوا يبقون عالة على الناس ، فنهوا عن ذلك ، وأمروا بالزاد . وقال عبد الله بن الزبير : كان الناس يتكل بعضهم على بعض بالزاد ، فأمروا بالزاد ، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلة عليها زاد ، وقدم عليه ثلثمائة رجل من مزينة ، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال : ( يا عمر زود القوم ) ، وقال بعض الناس : تزودوا الرفيق الصالح ، وقال ابن عطية : وهذا تخصيص ضعيف ، والأولى في معنى الآية : وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة .قلت : القول الأول أصح ، فإن المراد الزاد المتخذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا ، كما روى البخاري عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن المتوكلون ، فإذا قدموا مكة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى وهذا نص فيما ذكرنا ، وعليه أكثر المفسرين : قال الشعبي : الزاد التمر والسويق . ابن جبير : الكعك والسويق . قال ابن العربي : " أمر الله تعالى بالتزود لمن كان له مال ، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه ، وإنما خاطب الله أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون : نحن المتوكلون والتوكل له شروط ، من قام بها خرج بغير زاد ولا يدخل في الخطاب ، فإنه خرج على الأغلب من الخلق وهم المقصرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه ، والله عز وجل أعلم " . قال أبو الفرج الجوزي : وقد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل ، فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم على غاية الخطأ . قال رجل لأحمد بن حنبل : أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل بغير زاد ، فقال له أحمد : اخرج في غير القافلة ، فقال لا ، إلا معهم . قال : فعلى جرب الناس توكلت ؟ !الثالثة عشرة : قوله تعالى : فإن خير الزاد التقوى أخبر تعالى أن خير الزاد اتقاء المنهيات فأمرهم أن يضموا إلى التزود التقوى ، وجاء قوله فإن خير الزاد التقوى محمولا على المعنى ; لأن معنى وتزودوا اتقوا الله في اتباع ما أمركم به من الخروج بالزاد : وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة أو الحاجة إلى السؤال والتكفف ، وقيل : فيه تنبيه على أن هذه الدار ليست بدار قرار . قال أهل الإشارات : ذكرهم الله تعالى سفر الآخرة وحثهم على تزود التقوى ، فإن التقوى زاد الآخرة . قال الأعشى :إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزوداندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصداوقال آخر :الموت بحر طامح موجه تذهب فيه حيلة السابحيا نفس إني قائل فاسمعي مقالة من مشفق ناصحلا يصحب الإنسان في قبره غير التقى والعمل الصالحالرابعة عشرة : قوله تعالى : واتقون ياأولي الألباب خص أولي الألباب بالخطاب - وإن كان الأمر يعم الكل - لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله ، وهم قابلو أوامره والناهضون بها ، والألباب جمع لب ، ولب كل شيء : خالصه ، ولذلك قيل للعقل : لب . قال النحاس : سمعت أبا إسحاق يقول قال لي أحمد بن يحيى ثعلب : أتعرف في كلام العرب شيئا من المضاعف جاء على فعل ؟ قلت نعم ، حكى سيبويه عن يونس : لببت تلب ، فاستحسنه وقال : ما أعرف له نظيرا .
2:198
لَیْسَ عَلَیْكُمْ جُنَاحٌ اَنْ تَبْتَغُوْا فَضْلًا مِّنْ رَّبِّكُمْؕ-فَاِذَاۤ اَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفٰتٍ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ۪-وَ اذْكُرُوْهُ كَمَا هَدٰىكُمْۚ-وَ اِنْ كُنْتُمْ مِّنْ قَبْلِهٖ لَمِنَ الضَّآلِّیْنَ(۱۹۸)
تم پر کچھ گناہ نہیں (ف۳۷۹) کہ اپنے رب کا فضل تلاش کرو، تو جب عرفات سے پلٹو (ف۳۸۰) تو اللہ کی یاد کرو (ف۳۸۱) مشعر حرام کے پاس (ف۳۸۲) اور اس کا ذکر کرو جیسے اس نے تمہیں ہدایت فرمائی اور بیشک اس سے پہلے تم بہکے ہوئے تھے، ف۳۸۳)

قوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالينقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : جناح أي إثم ، وهو اسم ليس . أن تبتغوا في موضع نصب خبر ليس ، أي في أن تبتغوا ، وعلى قول الخليل والكسائي أنها في موضع خفض ، ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال رخص في التجارة ، المعنى : لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله ، وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة ، قال الله تعالى : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج .الثانية : إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة ، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه ، خلافا للفقراء . أما إن الحج دون تجارة أفضل ، لعروها عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها . روى الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر : إني رجل أكري في هذا الوجه ، وإن ناسا يقولون إنه لا حج لك ، فقال ابن عمر : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله مثل هذا الذي سألتني ، فسكت حتى نزلت هذه الآية : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لك حجا .قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين فيه ست عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : فإذا أفضتم أي اندفعتم ، ويقال : فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصب عن نواحيه ، ورجل فياض ، أي مندفق بالعطاء . قال زهير :وأبيض فياض يداه غمامة على معتفيه ما تغب فواضلهوحديث مستفيض ، أي شائع .الثانية : قوله تعالى : " من عرفات " قراءة الجماعة عرفات بالتنوين ، وكذلك لو سميت امرأة بمسلمات ; لأن التنوين هنا ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه ، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين . قال النحاس : هذا الجيد . وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات ، يقوله : هذه عرفات يا هذا ، ورأيت عرفات يا هذا ، بكسر التاء وبغير تنوين ، قال : لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين ، وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء ، تشبيها بتاء فاطمة وطلحة ، وأنشدوا :تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالوالقول الأول أحسن ، وأن التنوين فيه على حده في مسلمات ، الكسرة مقابلة الياء في مسلمين ، والتنوين مقابل النون . وعرفات : اسم علم ، سمي بجمع كأذرعات ، وقيل : سمي بما حوله ، كأرض سباسب ، وقيل : سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها ، وقيل : لأن آدم لما هبط وقع بالهند ، وحواء بجدة ، فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة وتعارفا ، فسمي اليوم عرفة ، والموضع عرفات ، قاله الضحاك ، وقيل غير هذا لما تقدم ذكره عند قوله تعالى : وأرنا مناسكنا . قال ابن عطية : والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع ، وعرفة هي نعمان الأراك ، وفيها يقول الشاعر :تزودت من نعمان عود أراكة لهند ولكن من يبلغه هنداوقيل : هي مأخوذة من العرف وهو الطيب ، قال الله تعالى : عرفها لهم أي طيبها ، فهي طيبة بخلاف منى التي فيها الفروث والدماء ، فلذلك سميت عرفات . ويوم الوقوف يوم عرفة ، وقال بعضهم : أصل هذين الاسمين من الصبر ، يقال : رجل عارف . إذا كان صابرا خاشعا ، ويقال في المثل : النفس عروف وما حملتها تتحمل . قال [ عنترة ] :فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلعأي نفس صابرة .وقال ذو الرمة :[ إذا خاف شيئا وقرنه طبيعة ] عروف لما خطت عليه المقادرأي صبور على قضاء الله ، فسمي بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم ، وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمال الشدائد ، لإقامة هذه العبادة .الثالثة : أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال ، وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل ، إلا مالك بن أنس فإنه قال : لا بد أن يأخذ من الليل شيئا ، وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه ، والحجة للجمهور مطلق قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات ولم يخص ليلا من نهار ، وحديث عروة بن مضرس قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من جمع ، فقلت يا رسول الله ، جئتك من جبلي طيئ أكللت مطيتي ، وأتعبت نفسي ، والله إن تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد قضى تفثه وتم حجه . أخرجه غير واحد من الأئمة ، منهم أبو داود والنسائي والدارقطني واللفظ له وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال أبو عمر : حديث عروة بن مضرس الطائي حديث ثابت صحيح ، رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس ، منهم إسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة وعبد الله بن أبي السفر ومطرف ، كلهم عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام ، وحجة مالك من السنة الثابتة : حديث جابر الطويل ، خرجه مسلم ، وفيه : فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأفعاله على الوجوب ، لا سيما في الحج وقد قال : خذوا عني مناسككم .الرابعة : واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه مع صحة الحج ، فقال عطاء وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم : عليه دم ، وقال الحسن البصري : عليه هدي ، وقال ابن جريج : عليه بدنة ، وقال مالك : عليه حج قابل ، والهدي ينحره في حج قابل ، وهو كمن فاته الحج . فإن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فقال الشافعي : لا شيء عليه ، وهو قول أحمد وإسحاق وداود ، وبه قال الطبري ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري : لا يسقط عنه الدم وإن رجع بعد غروب الشمس ، وبذلك قال أبو ثور .الخامسة : ولا خلاف بين العلماء في أن الوقوف بعرفة راكبا لمن قدر عليه أفضل ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك وقف إلى أن دفع منها بعد غروب الشمس ، وأردف أسامة بن زيد وهذا محفوظ في حديث جابر الطويل وحديث علي ، وفي حديث ابن عباس أيضا . قال جابر : ( ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة بن زيد خلفه . . . ) الحديث . فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا ، ما دام يقدر ، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف ، وفي الوقوف راكبا مباهاة وتعظيم للحج ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب . قال ابن وهب في موطئه قال لي مالك : الوقوف بعرفة على الدواب والإبل أحب إلي من أن أقف قائما ، قال : ومن وقف قائما فلا بأس أن يستريح .السادسة : ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد أنه عليه السلام كان إذا أفاض من عرفة يسير العنق فإذا وجد فجوة نص قال هشام بن عروة : والنص فوق العنق وهكذا ينبغي على أئمة الحاج فمن دونهم ; لأن في استعجال السير إلى المزدلفة استعجال الصلاة بها ، ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة ، وتلك سنتها ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .السابعة : ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على أن عرفة كلها موقف ، قال صلى الله عليه وسلم : ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل ، وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر . قال ابن عبد البر : هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله ، ومن حديث ابن عباس ، ومن حديث علي بن أبي طالب ، وأكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة ، وبطن محسر من المزدلفة ، وكذلك نقلها الحفاظ الثقات الأثبات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر . قال أبو عمر : واختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة بعرنة ، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه : يهريق دما وحجه تام ، وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك ، وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجه فائت ، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة ، وروي عن ابن عباس قال : من أفاض من عرنة فلا حج له ، وهو قول ابن القاسم وسالم ، وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي ، قال وبه أقول : لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يوقف به . قال ابن عبد البر : الاستثناء ببطن عرنة من عرفة لم يجئ مجيئا تلزم حجته ، لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع ، وحجة من ذهب مذهب أبي المصعب أن الوقوف بعرفة فرض مجمع عليه في موضع معين ، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف . وبطن عرنة يقال بفتح الراء وضمها ، وهو بغربي مسجد عرفة ، حتى لقد قال بعض العلماء : إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة ، وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل ، وعرنة في الحرم . قال أبو عمر : وأما بطن محسر فذكر وكيع : حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في بطن محسر .الثامنة : ولا بأس بالتعريف في المساجد يوم عرفة بغير عرفة ، تشبيها بأهل عرفة . روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال : أول من صنع ذلك ابن عباس بالبصرة . يعني اجتماع الناس يوم عرفة في المسجد بالبصرة ، وقال موسى بن أبي عائشة : رأيت عمر بن حريث يخطب يوم عرفة وقد اجتمع الناس إليه ، وقال الأثرم : سألت أحمد بن حنبل عن التعريف في الأمصار ، يجتمعون يوم عرفة ، فقال : أرجو ألا يكون به بأس ، قد فعله غير واحد : الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع ، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة .التاسعة : في فضل يوم عرفة : يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم ، يكفر الله فيه الذنوب العظام ، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال ، قال صلى الله عليه وسلم : صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية . أخرجه الصحيح ، وقال صلى الله عليه وسلم : أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وروى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء ، وفي الموطأ عن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر . قيل : وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ قال : أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة . قال أبو عمر : روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد بن كريز عن أبيه ، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء ، والصواب ما في الموطأ ، وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول : حدثنا حاتم بن نعيم التميمي أبو روح قال حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال حدثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة والرحمة ، وأكثر الدعاء فأجابه : إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها . قال : يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشية ، فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه : إني قد غفرت لهم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : تبسمت يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها ؟ فقال : تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثي التراب على رأسه ويفر ، وذكر أبو عبد الغني الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له . قال أبو عمر : هذا حديث غريب من حديث مالك ، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه وأبو عبد الغني لا أعرفه ، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد ، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام .العاشرة : استحب أهل العلم صوم يوم عرفة إلا بعرفة . روى الأئمة واللفظ للترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة ، وأرسلت إليه أم الفضل بلبن فشرب . قال : حديث حسن صحيح . وقد روي عن ابن عمر قال : حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه ، ومع عمر فلم يصمه والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم ، يستحبون الإفطار بعرفة ليتقوى به الرجل على الدعاء ، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة ، وأسند عن ابن عمر مثل الحديث الأول ، وزاد في آخره : ومع عثمان فلم يصمه ، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه ، حديث حسن ، وذكره ابن المنذر . وقال عطاء في صوم يوم عرفة : أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف . وقال يحيى الأنصاري : يجب الفطر يوم عرفة ، وكان عثمان بن أبي العاصي وابن الزبير وعائشة يصومون يوم عرفة . قال ابن المنذر : الفطر يوم عرفة بعرفات أحب إلي ، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصوم بغير عرفة أحب إلي ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن صوم يوم عرفة فقال : يكفر السنة الماضية والباقية ، وقد روينا عن عطاء أنه قال : من أفطر يوم عرفة ليتقوى على الدعاء فإن له مثل أجر الصائم .الحادية عشرة : في قوله تعالى : فاذكروا الله عند المشعر الحرام أي اذكروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام ، ويسمى جمعا لأنه يجمع ثم المغرب والعشاء ، قاله قتادة ، وقيل : لاجتماع آدم فيه مع حواء ، وازدلف إليها ، أي دنا منها ، وبه سميت المزدلفة . ويجوز أن يقال : سميت بفعل أهلها ; لأنهم يزدلفون إلى الله ، أي يتقربون بالوقوف فيها . وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة ; لأنه معلم للحج والصلاة والمبيت به ، والدعاء عنده من شعائر الحج ، ووصف بالحرام لحرمته .الثانية عشرة : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا ، وأجمع أهل العلم - لا اختلاف بينهم - أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء ، واختلفوا فيمن صلاها قبل أن يأتي جمعا ، فقال مالك : من وقف مع الإمام ودفع بدفعه فلا يصلي حتى يأتي المزدلفة فيجمع بينها ، واستدل على ذلك بقوله لأسامة بن زيد : الصلاة أمامك . قال ابن حبيب : من صلى قبل أن يأتي المزدلفة دون عذر يعيد متى ما علم ، بمنزلة من قد صلى قبل الزوال ، لقوله عليه السلام : الصلاة أمامك ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال أشهب : لا إعادة عليه ، إلا أن يصليهما قبل مغيب الشفق فيعيد العشاء وحدها ، وبه قال الشافعي ، وهو الذي نصره القاضي أبو الحسن ، واحتج له بأن هاتين صلاتان سن الجمع بينهما ، فلم يكن ذلك شرطا في صحتهما ، وإنما كان على معنى الاستحباب ، كالجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، واختار ابن المنذر هذا القول ، وحكاه عن عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وأبي ثور ويعقوب ، وحكي عن الشافعي أنه قال : لا يصلي حتى يأتي المزدلفة ، فإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما .الثالثة عشرة : ومن أسرع فأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق فقد قال ابن حبيب : لا صلاة لمن عجل إلى المزدلفة قبل مغيب الشفق [ لا لإمام ولا غيره حتى يغيب الشفق ] لقوله عليه السلام : الصلاة أمامك ثم صلاها بالمزدلفة بعد مغيب الشفق [ ومن جهة المعنى أن وقت هذه الصلاة بعد مغيب الشفق ] فلا يجوز أن يؤتى بها قبله ، ولو كان لها وقت قبل مغيب الشفق لما أخرت عنه .الرابعة عشرة : وأما من أتى عرفة بعد دفع الإمام ، أو كان له عذر ممن وقف مع الإمام فقد قال ابن المواز : من وقف بعد الإمام فليصل كل صلاة لوقتها ، وقال مالك فيمن كان له عذر يمنعه أن يكون مع الإمام : إنه يصلي إذا غاب الشفق الصلاتين يجمع بينهما ، وقال ابن القاسم فيمن وقف بعد الإمام : إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل فليؤخر الصلاة حتى يأتي المزدلفة ، وإلا صلى كل صلاة لوقتها ، فجعل ابن المواز تأخير الصلاة إلى المزدلفة لمن وقف مع الإمام دون غيره ، وراعى مالك الوقت دون المكان ، واعتبر ابن القاسم الوقت المختار للصلاة والمكان ، فإذا خاف فوات الوقت المختار بطل اعتبار المكان ، وكان مراعاة وقتها المختار أولى .الخامسة عشرة : اختلف العلماء في هيئة الصلاة بالمزدلفة على وجهين : أحدهما : الأذان والإقامة ، والآخر : هل يكون جمعهما متصلا لا يفصل بينهما بعمل ، أو يجوز العمل بينهما وحط الرحال ونحو ذلك ، فأما الأذان والإقامة فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين . أخرجه الصحيح من حديث جابر الطويل ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وابن المنذر . وقال مالك : يصليهما بأذانين وإقامتين ، وكذلك الظهر والعصر بعرفة ، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع . قال أبو عمر : لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه ، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب ، وزاد ابن المنذر ابن مسعود ، ومن الحجة لمالك في هذا الباب من جهة النظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن في الصلاتين بمزدلفة وعرفة أن الوقت لهما جميعا وقت واحد ، وإذا كان وقتهما واحدا وكانت كل صلاة تصلى في وقتها لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من الأخرى ; لأن ليس واحدة منهما تقضى ، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها ، وكل صلاة صليت في وقتها سنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة ، وهذا بين ، والله أعلم ، وقال آخرون : أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة ، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة . قالوا : وإنما أمر عمر بالتأذين الثاني لأن الناس قد تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم . قالوا : وكذلك نقول إذا تفرق الناس عن الإمام لعشاء أو غيره ، أمر المؤذنين فأذنوا ليجمعهم ، وإذا أذن أقام . قالوا : فهذا معنى ما روي عن عمر ، وذكروا حديث عبد الرحمن بن يزيد قال : كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين ، وفي طريق أخرى وصلى كل صلاة بأذان وإقامة ، ذكره عبد الرزاق ، وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شيء منهما ، روي عن ابن عمر وبه قال الثوري ، وذكر عبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع ، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ، وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس بن عبيد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ، لم يجعل بينهما شيئا ، وروي مثل هذا مرفوعا من حديث خزيمة بن ثابت ، وليس بالقوي ، وحكى الجوزجاني عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين ، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط ، وإلى هذا ذهب الطحاوي لحديث جابر ، وهو القول الأول وعليه المعول . وقال آخرون : تصلى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما ، وممن قال ذلك الشافعي وأصحابه وإسحاق وأحمد بن حنبل في أحد قوليه ، وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد ، واحتجوا بما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء ، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئا قال أبو عمر : والآثار عن ابن عمر في هذا القول من أثبت ما روي عنه في هذا الباب ، ولكنها محتملة للتأويل ، وحديث جابر لم يختلف فيه ، فهو أولى ، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر ، وإنما فيها الاتباع .السادسة عشرة : وأما الفصل بين الصلاتين بعمل غير الصلاة فثبت عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت الصلاة فصلاها ، ولم يصل بينهما شيئا في رواية : ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا وقد ذكرنا آنفا عن ابن مسعود أنه كان يجعل العشاء بين الصلاتين ، ففي هذا جواز الفصل بين الصلاتين بجمع ، وقد سئل مالك فيمن أتى المزدلفة : أيبدأ بالصلاة أو يؤخر حتى يحط عن راحلته ؟ فقال : أما الرحل الخفيف فلا بأس أن يبدأ به قبل الصلاة ، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك ، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط عن راحلته ، وقال أشهب في كتبه : له حط رحله قبل الصلاة ، وحطه له بعد أن يصلي المغرب أحب إلي ما لم يضطر إلى ذلك ، لما بدابته من الثقل ، أو لغير ذلك من العذر ، وأما التنفل بين الصلاتين فقال ابن المنذر : ولا أعلمهم يختلفون أن من السنة ألا يتطوع بينهما الجامع بين الصلاتين ، وفي حديث ابن أسامة : ولم يصل بينهما شيئا .السابعة عشرة : وأما المبيت بالمزدلفة فليس ركنا في الحج عند الجمهور ، واختلفوا فيما يجب على من لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر ولم يقف بجمع ، فقال مالك : من لم يبت بها فعليه دم ، ومن قام بها أكثر ليله فلا شيء عليه ; لأن المبيت بها ليلة النحر سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه ، لا فرض ، ونحوه قول عطاء والزهري وقتادة وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي فيمن لم يبت ، وقال الشافعي : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه ، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى ، والفدية شاة ، وقال عكرمة والشعبي والنخعي والحسن البصري : الوقوف بالمزدلفة فرض ، ومن فاته جمع ولم يقف فقد فاته الحج ، ويجعل إحرامه عمرة ، وروي ذلك عن ابن الزبير وهو قول الأوزاعي ، وروي عن الثوري مثل ذلك ، والأصح عنه أن الوقوف بها سنة مؤكدة ، وقال حماد بن أبي سليمان . من فاتته الإفاضة من جمع فقد فاته الحج ، وليتحلل بعمرة ثم ليحج قابلا ، واحتجوا بظاهر الكتاب والسنة ، فأما الكتاب فقول الله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم : من أدرك جمعا فوقف مع الناس حتى يفيض فقد أدرك ومن لم يدرك ذلك فلا حج له . ذكره ابن المنذر ، وروى الدارقطني عن عروة بن مضرس : قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بجمع فقلت له : يا رسول الله ، هل لي من حج ؟ فقال : من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا حتى نفيض وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه . قال الشعبي : من لم يقف بجمع جعلها عمرة ، وأجاب من احتج للجمهور بأن قال : أما الآية فلا حجة فيها على الوجوب في الوقوف ولا المبيت ، إذ ليس ذلك مذكورا فيها ، وإنما فيها مجرد الذكر ، وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام ، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج فشهود الموطن أولى بألا يكون كذلك . قال أبو عمر : وكذلك أجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجمع ، وأن من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك ، ممن يقول إن ذلك فرض ، ومن يقول إن ذلك سنة ، وأما حديث عروة بن مضرس فقد جاء في بعض طرقه بيان الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة ، ومثله حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ، وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه رواه النسائي قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت . . . ، فذكره ، ورواه ابن عيينة عن بكير عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيام منى ثلاثة ؛ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ، وقوله في حديث عروة : من صلى صلاتنا هذه ، فذكر الصلاة بالمزدلفة ، فقد أجمع العلماء أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصل مع الإمام حتى فاتته إن حجه تام ، فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك . قالوا : فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة .الثامنة عشرة : قوله تعالى : واذكروه كما هداكم كرر الأمر تأكيدا ، كما تقول : ارم . ارم ، وقيل : الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام ، والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص وقيل : المراد بالثاني تعديد النعمة وأمر بشكرها ، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام فقال : وإن كنتم من قبله لمن الضالين والكاف في " كما " نعت لمصدر محذوف ، و " ما " مصدرية أو كافة والمعنى : اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة ، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه . و " إن " مخففة من الثقيلة ، يدل على ذلك دخول اللام في الخبر ، قاله سيبويه . الفراء : نافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا ، كما قال :ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليك عقوبة الرحمنأو بمعنى قد أي قد كنتم ، ثلاثة أقوال والضمير في " قبله " عائد إلى الهدى ، وقيل إلى القرآن ، أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين . وإن شئت على النبي صلى الله عليه وسلم كناية عن غير مذكور ، والأول أظهر والله أعلم .
2:199
ثُمَّ اَفِیْضُوْا مِنْ حَیْثُ اَفَاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللّٰهَؕ-اِنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌ(۱۹۹)
پھر بات یہ ہے کہ اے قریشیو! تم بھی وہیں سے پلٹو جہاں سے لوگ پلٹتے ہیں (ف۳۸۴) اور اللہ سے معافی مانگو، بیشک اللہ بخشنے والا مہربان ہے،

قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيمفيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس قيل : الخطاب للحمس ، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات ، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم ، وكانوا يقولون : نحن قطين الله ، فينبغي لنا أن نعظم الحرم ، ولا نعظم شيئا من الحل ، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم ، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة ، فقيل لهم : أفيضوا مع الجملة . وثم ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة ، وقال الضحاك : المخاطب بالآية جملة الأمة ، والمراد ب الناس إبراهيم عليه السلام ، كما قال : الذين قال لهم الناس وهو يريد واحدا . ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة ، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى ، وهي التي من المزدلفة ، فتجيء " ثم " على هذا الاحتمال على بابها ، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري ، والمعنى : أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم من مزدلفة جمع ، أي ثم أفيضوا إلى منى لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع .قلت : ويكون في هذا حجة لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة ، للأمر بالإفاضة منها ، والله أعلم ، والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأول . روى الترمذي عن عائشة قالت : كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة يقولون : نحن قطين الله ، وكان من سواهم يقفون بعرفة ، فأنزل الله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس هذا حديث حسن صحيح ، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : الحمس هم الذين أنزل الله فيهم : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس قالت : كان الناس يفيضون من عرفات ، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة ، يقولون : لا نفيض إلا من الحرم ، فلما نزلت : أفيضوا من حيث أفاض الناس رجعوا إلى عرفات ، وهذا نص صريح ، ومثله كثير صحيح ، فلا معول على غيره من الأقوال . والله المستعان ، وقرأ سعيد بن جبير " الناسي " وتأويله آدم عليه السلام ، لقوله تعالى : فنسي ولم نجد له عزما ، ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس ، كالقاض والهاد . ابن عطية : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه ، وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه ، ومظان القبول ومساقط الرحمة ، وقالت فرقة : المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة دون عرفة .الثانية : روى أبو داود عن علي قال : فلما أصبح - يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قزح فقال : هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف ونحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم . فحكم الحجيج إذا دفعوا من عرفة إلى المزدلفة أن يبيتوا بها ثم يغلس بالصبح الإمام بالناس ويقفون بالمشعر الحرام ، وقزح هو الجبل الذي يقف عليه الإمام ، ولا يزالون يذكرون الله ويدعون إلى قرب طلوع الشمس ، ثم يدفعون قبل الطلوع ، على مخالفة العرب ، فإنهم كانوا يدفعون بعد الطلوع ويقولون : أشرق ثبير ، كيما نغير ، أي كيما نقرب من التحلل فنتوصل إلى الإغارة ، وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال : شهدت عمر صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال : إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون : أشرق ثبير ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وروى ابن عيينة عن ابن جريج عن محمد بن مخرمة عن ابن طاوس عن أبيه أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس ، وكانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس ، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعجل هذا ، أخر الدفع من عرفة ، وعجل الدفع من المزدلفة مخالفا هدي المشركين .الثالثة : فإذا دفعوا قبل الطلوع فحكمهم أن يدفعوا على هيئة الدفع من عرفة ، وهو أن يسير الإمام بالناس سير العنق ، فإذا وجد أحدهم فرجة زاد في العنق شيئا ، والعنق : مشي للدواب معروف لا يجهل ، والنص : فوق العنق ، كالخبب أو فوق ذلك . وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما وسئل : كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة ؟ قال : كان يسير العنق ، فإذا وجد فجوة نص . قال هشام : والنص فوق العنق ، وقد تقدم ، ويستحب له أن يحرك في بطن محسر قدر رمية بحجر ، فإن لم يفعل فلا حرج ، وهو من منى ، وروى الثوري وغيره عن أبي الزبير عن جابر قال : دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وقال لهم : أوضعوا في وادي محسر وقال لهم : خذوا عني مناسككم ، فإذا أتوا منى وذلك غدوة يوم النحر ، رموا جمرة العقبة بها ضحى ركبانا إن قدروا ، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار ، ويرمونها بسبع حصيات ، كل حصاة منها مثل حصى الخذف - على ما يأتي بيانه - فإذا رموها حل لهم كل ما حرم عليهم من اللباس والتفث كله ، إلا النساء والطيب والصيد عند مالك وإسحاق في رواية أبي داود الخفاف عنه . وقال عمر بن الخطاب وابن عمر : يحل له كل شيء إلا النساء والطيب ، ومن تطيب عند مالك بعد الرمي وقبل الإفاضة لم ير عليه فدية ، لما جاء في ذلك ، ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء . وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور : يحل له كل شيء إلا النساء ، وروي عن ابن عباس .الرابعة : ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة ، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها ، وهو جائز مباح عند مالك ، والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة ، على ما ذكر في موطئه عن علي ، وقال : هو الأمر عندنا .قلت : والأصل في هذه الجملة من السنة ما رواه مسلم عن الفضل بن عباس ، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا : عليكم بالسكينة وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا ( وهو من منى ) قال : عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة ، وقال : لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة . في رواية : والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان ، وفي البخاري عن عبد الله أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ، ورمى بسبع وقال : هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم وروى الدارقطني عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وحل لكم الثياب والطيب ، وفي البخاري عن عائشة قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين ، حين أحرم ، ولحله حين أحل قبل أن يطوف ، وبسطت يديها ، وهذا هو التحلل الأصغر عند العلماء . والتحلل الأكبر : طواف الإفاضة ، وهو الذي يحل النساء وجميع محظورات الإحرام وسيأتي ذكره في سورة " الحج " إن شاء الله تعالى .
2:200
فَاِذَا قَضَیْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ كَذِكْرِكُمْ اٰبَآءَكُمْ اَوْ اَشَدَّ ذِكْرًاؕ-فَمِنَ النَّاسِ مَنْ یَّقُوْلُ رَبَّنَاۤ اٰتِنَا فِی الدُّنْیَا وَ مَا لَهٗ فِی الْاٰخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ(۲۰۰)
پھر جب اپنے حج کے کام پورے کرچکو (ف۳۸۵) تو اللہ کا ذکر کرو جیسے اپنے باپ دادا کا ذکر کرتے تھے (ف۳۸۶) بلکہ اس سے زیادہ اور کوئی آدمی یوں کہتا ہے کہ اے رب ہمارے ہمیں دنیا میں دے اور آخرت میں اس کا کچھ حصہ نہیں،

قوله تعالى : فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاقفيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : فإذا قضيتم مناسككم قال مجاهد : المناسك الذبائح وهراقة الدماء وقيل : هي شعائر الحج ، لقوله عليه السلام : خذوا عني مناسككم . فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بآلائه عندكم ، وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف وكذلك ما سلككم لأنهما مثلان وقضيتم هنا بمعنى أديتم وفرغتم ، قال الله تعالى : فإذا قضيت الصلاة أي أديتم الجمعة . وقد يعبر بالقضاء عما فعل من العبادات خارج وقتها المحدود لها .الثانية : فاذكروا الله كذكركم آباءكم كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة ، فتفاخر بالآباء ، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم ، وغير ذلك ، حتى إن الواحد منهم ليقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة ، عظيم الجفنة ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه ، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية هذا قول جمهور المفسرين ، وقال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع : معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم : أبه أمه ؛ أي فاستغيثوا به والجئوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم ، وقالت طائفة : معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه ، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره ، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم ، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم . وقال أبو الجوزاء لابن عباس : إن الرجل اليوم لا يذكر أباه ، فما معنى الآية ؟ قال : ليس كذلك ، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما ، والكاف من قوله كذكركم في موضع نصب ، أي ذكرا كذكركم . أو أشد قال الزجاج : أو أشد في موضع خفض عطفا على ذكركم ، المعنى : أو كأشد ذكرا ، ولم ينصرف لأنه " أفعل " صفة ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشد . وذكرا نصب على البيانقوله تعالى : فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا " من " في موضع رفع بالابتداء وإن شئت بالصفة يقول ربنا آتنا في الدنيا صلة " من " المراد المشركون . قال أبو وائل والسدي وابن زيد : كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط ، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو ، ولا يطلبون الآخرة ، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها ، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا ، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم ، ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا ، وعلى هذا ف ما له في الآخرة من خلاق أي كخلاق الذي يسأل الآخرة ، والخلاق النصيب . و " من " زائدة وقد تقدم .
  FONT
  THEME
  TRANSLATION
  • English | Ahmed Ali
  • Urdu | Ahmed Raza Khan
  • Turkish | Ali-Bulaç
  • German | Bubenheim Elyas
  • Chinese | Chineese
  • Spanish | Cortes
  • Dutch | Dutch
  • Portuguese | El-Hayek
  • English | English
  • Urdu | Fateh Muhammad Jalandhry
  • French | French
  • Hausa | Hausa
  • Indonesian | Indonesian-Bahasa
  • Italian | Italian
  • Korean | Korean
  • Malay | Malay
  • Russian | Russian
  • Tamil | Tamil
  • Thai | Thai
  • Farsi | مکارم شیرازی
  TAFSEER
  • العربية | التفسير الميسر
  • العربية | تفسير الجلالين
  • العربية | تفسير السعدي
  • العربية | تفسير ابن كثير
  • العربية | تفسير الوسيط لطنطاوي
  • العربية | تفسير البغوي
  • العربية | تفسير القرطبي
  • العربية | تفسير الطبري
  • English | Arberry
  • English | Yusuf Ali
  • Dutch | Keyzer
  • Dutch | Leemhuis
  • Dutch | Siregar
  • Urdu | Sirat ul Jinan
  HELP

اَلْبَقَرَة
اَلْبَقَرَة
  00:00



Download

اَلْبَقَرَة
اَلْبَقَرَة
  00:00



Download