READ

Surah Al-Maa'idah

اَلْمَـآئِدَة
120 Ayaat    مدنیۃ


5:81
وَ لَوْ كَانُوْا یُؤْمِنُوْنَ بِاللّٰهِ وَ النَّبِیِّ وَ مَاۤ اُنْزِلَ اِلَیْهِ مَا اتَّخَذُوْهُمْ اَوْلِیَآءَ وَ لٰكِنَّ كَثِیْرًا مِّنْهُمْ فٰسِقُوْنَ(۸۱)
اور اگر وہ ایمان لاتے (ف۲۰۱) اللہ اور ان نبی پر اور اس پر جو ان کی طرف اترا تو کافروں سے دوستی نہ کرتے (ف۲۰۲) مگر ان میں تو بہتیرے فاسق ہیں،

ثم بين- سبحانه- الدوافع التي حملت هؤلاء الفاسقين من أهل الكتاب على ولاية الكافرين ومصادقتهم ومعاونتهم على حرب المسلمين فقال:وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ، وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ.فالضمير في قوله كانُوا يعود إلى أولئك الكثيرين من أهل الكتاب الذين حملهم حقدهم وبغضهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأتباعه على موالاة الكافرين.والمراد- هنا- بالنبي: موسى- عليه السلام- وبما أنزل إليه التوراة، لأن الحديث مع الكافرين من بنى إسرائيل الذين يزعمون أنهم من أتباع موسى.وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بما أنزل إليه: القرآن.أى: ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله إيمانا حقا، ويؤمنون بنبيهم موسى إيمانا صادقا ويؤمنون بالتوراة التي أنزلها الله عليه إيمانا سليما، لو كانوا مؤمنين هذا الإيمان الصادق، لكفوا عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصفياء، لأن تحريم موالاة المشركين متأكدة في التوراة وفي كل شريعة أنزلها الله على نبي من أنبيائه.وقوله: وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ استدراك لبيان حالهم، ولبيان سبب موالاتهم للكافرين وعداوتهم للمسلمين.أى: ولكن كثيرا من هؤلاء اليهود فاسقون، أى: خارجون عن الدين الحق إلى الأديان الباطلة، فدفعهم هذا الفسق وما صاحبه من حقد وعناد على موالاة الكافرين ومعاداة المؤمنين.وقد كرر سبحانه وصف الكثيرين منهم بالصفات الذميمة، إنصافا للقلة التي آمنت وتمييزا لها عن تلك الكثرة الكافرة الفاسقة..وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت ما عليه الكافرون من بنى إسرائيل من صفات ذميمة، أفضت إلى لعنهم وطردهم من رحمة الله، حتى يحذرهم المسلمون ويجتنبوا سلوكهم السيئ، وخلقهم القبيح.وبعد هذا الحديث الطويل الذي طوفت فيه سورة المائدة مع أهل الكتاب بصفة عامة ومع اليهود بصفة خاصة، والذي تحدثت خلاله عن علاقة المؤمنين بهم وعن العهود التي أخذها الله عليهم وموقفهم منها، وعن دعاواهم الباطلة وكيف رد القرآن عليها، وعن أخلاقهم السيئة، وعن مسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين، وعن المصير السيئ الذي ينتظرهم إذا ما استمروا على كفرهم وضلالهم، وعن المنهاج القويم الذي استعمله القرآن معهم في دعوتهم إلى الدين الحق، بعد هذا الحديث الطويل معهم في تلك الموضوعات وفي غيرها نرى السورة الكريمة في نهاية المطاف تحدثنا عن أشد الناس عداوة للمؤمنين وعن أقربهم مودة لهم فتقول:
5:82
لَتَجِدَنَّ اَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِیْنَ اٰمَنُوا الْیَهُوْدَ وَ الَّذِیْنَ اَشْرَكُوْاۚ-وَ لَتَجِدَنَّ اَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِیْنَ اٰمَنُوا الَّذِیْنَ قَالُوْۤا اِنَّا نَصٰرٰىؕ-ذٰلِكَ بِاَنَّ مِنْهُمْ قِسِّیْسِیْنَ وَ رُهْبَانًا وَّ اَنَّهُمْ لَا یَسْتَكْبِرُوْنَ(۸۲)
ضرور تم مسلمانوں کا سب سے بڑھ کر دشمن یہودیوں اور مشرکوں کو پاؤ گے اور ضرور تم مسلمانوں کی دوستی میں سب سے زیادہ قریب ان کو پاؤ گے جو کہتے تھے ہم نصاریٰ ہیں (ف۲۰۳) یہ اس لئے کہ ان میں عالم اور درویش ہیں اور یہ غرور نہیں کرتے -(ف۲۰۴)

أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ وفدا إلى رسول صلى الله عليه وسلم فأسلموا، قال: فأنزل الله فيهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ إلى آخر الآية. قال:فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه فأسلم النجاشيّ فلم يزل مسلما حتى مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن أخاكم النجاشيّ قد مات فصلوا عليه فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والنجاشيّ بالحبشة.ثم قال ابن جرير بعد أن ساق روايات أخرى في سبب نزول هذه الآيات: والصواب في ذلك من القول عندي، أن الله- تعالى- وصف صفة قوم قالوا: إنا نصارى، وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس مودة لأهل الايمان بالله ورسوله، ولم يسم لنا أسماءهم وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشيّ ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الإسلام فأسلموا، لما سمعوا القرآن، وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه» .فقوله- تعالى- لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من آيات سجلت على اليهود كثيرا من الصفات القبيحة والمسالك الخبيثة.وقد أكد- سبحانه- هذه الجملة بلام القسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها، والخطاب للنبي- صلى الله عليه وسلم ويصح أن يكون لكل من يصلح للخطاب للإيذان بأن حالهم لا تخفى على أحد من الناس.والمعنى: أقسم لك يا محمد بأنك عند مخالطتك للناس ودعوتهم إلى الدين الحق، ستجد أشدهم عداوة لك ولأتباعك فريقين منهم: وهما اليهود والذين أشركوا، لأن عداوتهم منشؤها الحقد والحسد والعناد والغرور. وهذه الرذائل متى تمكنت في النفس حالت بينها وبين الهداية والإيمان بالحق.وقوله أَشَدَّ النَّاسِ مفعول أول لقوله لَتَجِدَنَّ ومفعوله الثاني الْيَهُودَ وقوله عَداوَةً تمييز.قال الآلوسى: والظاهر أن المراد من اليهود العموم، أى من كان منهم بحضرة الرسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة وغيرهم ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله» وقيل المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد، وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم الذين أشركوا. والمراد من النَّاسِ. كما قال أبو حيان- الكفار: أى لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء.ووصفهم- سبحانه- بذلك لشدة كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وقربهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، وقد قيل: إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأى طريق كان وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة» .وقوله: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى معطوف على ما قبله لزيادة التوضيح والبيان.أى: لتجدن يا محمد أشد الناس عداوة لك ولأتباعك- اليهود- والذين أشركوا. ولتجدن أقربهم مودة ومحبة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى.قال ابن كثير: أى الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة: وما ذاك إلا لما في قلوبهم- من لين عريكة- إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال- تعالى- وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً وفي كتابهم: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» وليس القتال مشروعا في ملتهم .وقال الجمل: فإن قلت: كفر النصارى أشد من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الألوهية فيدعون أن لله ولدا، واليهود ينازعون في النبوة فينكرون نبوة بعض الأنبياء فلم ذم اليهود ومدح النصارى؟قلت: هذا مدح في مقابلة ذم وليس مدحا على إطلاقه، وأيضا الكلام في عداوة المسلمين وقرب مودتهم لا في شدة الكفر وضعفه «3» .وقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تعليل لقرب مودة النصارى للمؤمنين.والقسيسين: جمع قسيس. وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه، وهم علماء النصارى والمرشدون لهم.والرهبان: جمع راهب كركبان جمع راكب وتطلق كلمة رهبان على المفرد كما تطلق على الجمع، والراهب هو الرجل العابد الزاهد المنصرف عن الدنيا، مأخوذ من الرهبة بمعنى الخوف. يقال: رهب فلان ربه يرهبه، أى: خافه.والمعنى: ولتجدن يا محمد أقرب الناس مودة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى، وذلك لأن منهم القسيسين الذين يرغبون في طلب العلم ويرشدون غيرهم إليه، ومنهم الرهبان الذين تفرغوا لعبادة الله وانصرفوا عن ملاذ الدنيا وشهواتهم وأيضا فلأن هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى من صفاتهم أنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم متواضعون وليسوا مغرورين أو متكبرين.وفي ذلك تعريض باليهود والمشركين لأن غرورهم واستكبارهم جعلهم ينصرفون عن الحق فاليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار، وأن النبوة يجب أن تكون فيهم والمشركون يرون أن النبوة يجب أن تكون في أغنيائهم وزعمائهم. وقد حملهم هذا الغرور على الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا أكثر أتباعه من الفقراء.قال الآلوسى: وفي الآية دليل على أن صفات التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كانت.
5:83
وَ اِذَا سَمِعُوْا مَاۤ اُنْزِلَ اِلَى الرَّسُوْلِ تَرٰۤى اَعْیُنَهُمْ تَفِیْضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوْا مِنَ الْحَقِّۚ-یَقُوْلُوْنَ رَبَّنَاۤ اٰمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّٰهِدِیْنَ(۸۳)
اور جب سنتے ہیں وہ جو رسول کی طرف اترا (ف۲۰۵) تو ان کی آنکھیں دیکھو کہ آنسوؤں سے ابل رہی ہیں (ف۲۰۶) اس لیے کہ وہ حق کو پہچان گئے، کہتے ہیں اے رب ہمارے! ہم ایمان لائے (ف۲۰۷) تو ہمیں حق کے گواہوں میں لکھ لے (ف۲۰۸)

ثم حكى- سبحانه- ما كان منهم عند سماعهم لما أنزل الله- تعالى- على رسوله من هدايات فقال: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ والمراد بالرسول: محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه: القرآن الكريم.والجملة الكريمة معطوفة على قوله وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ والضمير في قوله سَمِعُوا يعود على الذين قالوا إنا نصارى بعد أن عرفوا الحق وآمنوا به.أى، أن من صفات هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى زيادة على ما تقدم، أنهم إذا سمعوا ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن تأثرت قلوبهم. وخشعت نفوسهم وسالت الدموع من أعينهم بغزارة وكثرة من أجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القرآن الكريم بعد أن كانوا غافلين عنه.وفي التعبير عنهم بقوله: تَرى الدالة على الرؤية البصرية والتي هي أقوى أسباب العلم الحسى، مبالغة في مدحهم، حيث يراهم الرائي وهم على تلك الصورة من رقة القلب وشدة التأثر عند سماع الحق.فلقد كانوا يحسون أنهم في ظلام وضلال فلما سمعوا الحق أشرقت له نفوسهم ودخلوا في نوره وهدايته وأعينهم تتدفق بالدموع من شدة تأثرهم به وحبهم له.وقوله تَفِيضُ من الفيض وهو انصباب عن امتلاء: يقال فاض الإناء إذا امتلأ حين سال من جوانبه.وقد أجاد صاحب الكشاف في تصوير هذا المعنى فقال: فإن قلت: ما معنى قوله: تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِقلت: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه. فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها. أى: تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك: دمعت عينه دمعا.فإن قلت: أى فرق بين من ومن في قوله: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله وبسببه، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق، فأبكاهم وبلغ منهم فكيف إذا عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ .ثم حكى- سبحانه- ما قالوه بعد سماعهم للحق فقال: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ.أى: يقولون بعد أن سمعوا الحق: يا ربنا إننا آمنا بما سمعنا إيمانا صادقا فاكتبنا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي آمنت به وشهدت بصدق رسولك محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق كل رسول أرسلته إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
5:84
وَ مَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ مَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّۙ-وَ نَطْمَعُ اَنْ یُّدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصّٰلِحِیْنَ(۸۴)
اور ہمیں کیا ہوا کہ ہم ایمان نہ لائیں اللہ پر اور اس حق پر کہ ہمارے پاس آیا اور ہم طمع کرتے ہیں کہ ہمیں ہمارا رب نیک لوگوں کے ساتھ داخل کرے(ف۲۰۹)

ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك عنهم ما علمه منهم من إصرارهم على الدخول في الدين الحق، فقال. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ.فالآية الكريمة من تتمة قولهم.والاستفهام هنا لإنكار انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجباته، وظهور أماراته ووضوح أدلته وشواهده.والمعنى: وأى مانع يمنعنا من الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وبما جاءنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من قرآن يهدى إلى الرشد ومن توجيهات توصل إلى السعادة ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا- بسبب إيماننا- مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقيدة السليمة، وبالعبادات الصحيحة وبالأخلاق الفاضلة وهم أتباع هذا النبي الأمى محمد صلى الله عليه وسلم فأنت تراهم بعد أن استمعوا إلى القرآن تأثرت نفوسهم به تأثرا شديدا فاضت معه أعينهم بالدمع. ثم بعد ذلك التمسوا من الله- تعالى- أن يكتبهم مع الأمة الإسلامية التي تشهد على غيرها يوم القيامة. ثم بعد ذلك استنكروا واستبعدوا أن يعوقهم معوق عن الإيمان الصحيح مع قيام موجباته. وهذا كله يدل على صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم ومسارعتهم إلى قبول الحق عند ظهوره بدون تردد أو تقاعس:وقولهم- كما حكى القرآن عنهم- وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا يدل على قوة إيمانهم، وصدق يقينهم، لأنهم مع هذا الإقبال الشديد على الدين الحق والمسارعة إلى العمل الصالح، لم يجزموا بحسن عاقبتهم، بل التمسوا من الله- تعالى- الطمع في مغفرته، وفي أن يجعلهم مع القوم الصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.وهكذا المؤمن الصادق يستصغر عمله بجانب فضل الله ونعمه، ويقف من جزائه وثوابه- سبحانه- موقف الخوف والرجاء.
5:85
فَاَثَابَهُمُ اللّٰهُ بِمَا قَالُوْا جَنّٰتٍ تَجْرِیْ مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهٰرُ خٰلِدِیْنَ فِیْهَاؕ-وَ ذٰلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِیْنَ(۸۵)
تو اللہ نے ان کے اس کہنے کے بدلے انہیں باغ دیے جن کے نیچے نہریں رواں ہمیشہ ان میں رہیں گے، یہ بدلہ ہے نیکوں کا (ف ۲۱۰)

ولقد كان ما أعده الله- تعالى- لهؤلاء الأصفياء من ثواب شيئا عظيما، عبر عنه- سبحانه- بقوله: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ.أى: فكافأهم الله- تعالى- بسبب أقوالهم الطيبة الدالة على إيمانهم وإخلاصهم، جنات تجرى من تحت بساتينها وأشجارها الأنهار خالِدِينَ فِيها أى: باقين في تلك الجنات بقاء لا موت معه، وَذلِكَ العطاء الجزيل الذي منحه الله لهم جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أى: المؤمنين المخلصين في أقوالهم وأعمالهم.والمراد بقوله بِما قالُوا: ما سبق أن حكاه عنهم- سبحانه- من قولهم: رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ورتب الثواب المذكور على القول: لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم، وعلى صدق يقينهم، والقول إذا اقترن بذلك فهو الإيمان.قال الآلوسى: قوله. فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أى بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد، فإن القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له، كما إذا قيل: هذا قول فلان، لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لإفادة الاعتقاد.وقيل: إن القول هنا مجاز عن الرأى والاعتقاد والمذهب كما يقال: هذا قول الامام الأعظم أى: هذا مذهبه واعتقاده. وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم: رَبَّنا آمَنَّا. وقولهم وَما لَنا لا نُؤْمِنُ وقد بينت هذه الآية الكريمة أنه- سبحانه- قد أجابهم إلى ما طلبوا، بل أكبر مما طلبوا، فقد كانوا يطمعون في أن يكونوا مع القوم الصالحين، وأن يكتبهم مع الشاهدين. فأعطاهم- سبحانه- جنات تجرى من تحتها الأنهار. وسماهم محسنين. والإحسان أعلى درجات الإيمان، وأكرم أوصاف المتقين.هذا جزاء الذين سمعوا ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، وقالوا ما قالوا مما يشهد بصفاء نفوسهم.
5:86
وَ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا وَ كَذَّبُوْا بِاٰیٰتِنَاۤ اُولٰٓىٕكَ اَصْحٰبُ الْجَحِیْمِ۠(۸۶)
اور وہ جنہوں کفر کیا اور ہماری آیتیں جھٹلائیں وہ ہیں دوزخ والے،

أما الذين سمعوا فأعرضوا وجحدوا فقد بين- سبحانه- مصيرهم السيئ بقوله:وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.أى: والذين كفروا وجحدوا الحق الذي جاءهم، وكذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق رسلنا فأولئك أصحاب الجحيم، أى: النار الشديدة الاتقاد. يقال: جحم فلان النار إذا شدد إيقادها.وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت أولئك الذين قالوا إنا نصارى، لأنهم تأثروا بالقرآن عند سماعه فدخلوا في الدين الحق بسرعة ورغبة، فأكرمهم الله غاية الإكرام، وهذا ينطبق على كل نصراني ينهج نهجهم، ويسلك مسلكهم، فيدخل في الدين الحق كما دخل هؤلاء المحسنون.أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله وحججه فأولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير.ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين نهاهم عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم، وأمرهم أن يتمتعوا بما رزقهم من رزق طيب حلال فقال- تعالى:
5:87
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا لَا تُحَرِّمُوْا طَیِّبٰتِ مَاۤ اَحَلَّ اللّٰهُ لَكُمْ وَ لَا تَعْتَدُوْاؕ-اِنَّ اللّٰهَ لَا یُحِبُّ الْمُعْتَدِیْنَ(۸۷)
اے ایمان والو! (ف۲۱۱) حرام نہ ٹھہراؤ وہ ستھری چیزیں کہ اللہ نے تمہارے لیے حلال کیں (ف۲۱۲) اور حد سے نہ بڑھو، بیشک حد سے بڑھنے والے اللہ کو ناپسند ہیں،

قال صاحب المنار بدأ الله- هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك.ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك، ولم يتخلله إلا قليل من الأحكام. وهاتان الآيتان وما بعدهما عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدئت بها السورة.وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة وتجعل الآيات في أهل الكتاب مفصلا بعضها ببعض في باقيها. لما بيناه غير مرة من حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها، لا كتابا فنيا ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين.على أن نظمه وترتيب آياته يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتنسيقه كما ترى في مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما مباشرة.ذلك أنه- تعالى- ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله- تعالى- وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات. وقد أزال الله- تعالى- هذا الظن وقطع طريق تلك الرغبة بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ .هذا، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات متعددة منها ما أخرجه الترمذي وابن جرير عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى إذا أكلت انتشرت للنساء، وأخذتنى شهوتي فحرمت على اللحم. فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا.الآية .وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال، كان: أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء، فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وعن أبى قلابة قال: أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا، ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة. ثم قال: «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واستقيموا» . قال: ونزلت فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا الآية وعن أبى طلحة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكني أصوم وأفطر، وأصلى وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو منى، ومن لم يأخذ بسنتي فليس منى» .وقد وجه سبحانه النداء للمؤمنين بوصف الإيمان لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يمتثلوا أوامر الله ونواهيه.والمراد بقوله: لا تُحَرِّمُوا: لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم من طيبات بأن تأخذوا على أنفسكم عهدا بعدم تناولها أو الانتفاع بها.فالنهي عن التحريم هنا ليس منصبا على الترك المجرد. فقد يترك الإنسان بعض الطيبات لأسباب تتعلق بالمرض أو غيره. وإنما هو منصب على اعتقاد أن هذه الطيبات يجب تركها ويأخذ الشخص على نفسه عهدا بذلك.والمراد بالطيبات: الأشياء المستلذة المستطابة المحللة التي تقوى بدن الإنسان وتعينه على الجهاد في سبيل الله، من طعام شهى، وشراب سائغ. وملبس جميل.والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، لا تحرموا على أنفسكم شيئا من الطيبات التي أحلها الله لكم، فإنه- سبحانه- ما أحلها لكم إلا لما فيها من منافع وفوائد تعينكم على شئون دينكم ودنياكم.وقوله: وَلا تَعْتَدُوا تأكيد للنهى السابق. والتعدي معناه: تجاوز الحدود التي شرعها الله- تعالى- عن طريق الإسراف أو عن طريق التقتير. أو عن طريق الاعتداء على حق الغير أو عن أى طريق يخالف ما شرعه الله- تعالى-.وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في موضع التعليل لما قبله.أى: لا تحرموا- أيها المؤمنون- على أنفسكم ما أحله الله لكم من طيبات ولا تتجاوزوا حدوده بالإسراف. أو بالتقتير أو بتناول ما حرمه عليكم فإنه- سبحانه- لا يحب الذين يتجاوزون حدود شريعته، وسنن فطرته. وهدى نبيه صلى الله عليه وسلم.
5:88
وَ كُلُوْا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ حَلٰلًا طَیِّبًا۪-وَّ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِیْۤ اَنْتُمْ بِهٖ مُؤْمِنُوْنَ(۸۸)
اور کھاؤ جو کچھ تمہیں اللہ نے روزی دی حلال پاکیزہ او ر ڈرو اللہ سے جس پر تمہیں ایمان ہے،

وبعد أن نهى- سبحانه- عن تحريم الطيبات أمر بتناولها والتمتع بها فقال: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.والأمر في قوله وَكُلُوا للإباحة. وقيل إنه للندب. ويرى بعضهم أنه للوجوب لأن من الواجب على المؤمن ألا يترك أمرا أباحه الله- تعالى- تركا مطلقا لأن هذا الترك يكون من باب تحريم ما أحله الله.أى: وكلوا- أيها المؤمنون- من الرزق الحلال الطيب الذي رزقكم الله إياه، وتفضل عليكم به وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه، وتلتزموا في مأكلكم ومشربكم وملبسكم وسائر شئونكم حدود شريعته، وتوجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم.والمراد بالأكل هنا التمتع بألوان الطيبات التي أحلها الله، فيدخل فيه الشرب مما كان حلالا، وكذلك يدخل فيه كل ما أباحه- سبحانه- من متعة طيبة تميل إليها النفوس وتشتهيها.وعبر عن مطلق التمتع بما أحله الله بالأكل، لأنه أعظم أنواع المتع، وأهم ألوان منافع الإنسان التي عليها قوام حياته.وقد زكى- سبحانه- طلب التمتع بعطائه وخيره بأمور منها: أنه جعله مما رزقهم إياه، وأنه وصفه بكونه حلالا وليس محرما، ويكونه طيبا وليس خبيثا.والمأكول أو المشروب أو غيرهما متى كان كذلك اتجهت نفس المؤمن إليه بارتياح وطمأنينة واجتهدت في الشكر لواهب النعم على ما أنعم وأعطى.قال الآلوسى: قوله: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أى: كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله- تعالى- فحلالا مفعول به لكلوا. ومِمَّا رَزَقَكُمُ حال منه وقد كان في الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالا. والآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التوكيد وهو خلاف الظاهر في مثل ذلك.وقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن.والآية ظاهرة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى. وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم ثريد اللحم ومدحه، وكان يحب الحلوى» .وقال القرطبي: قال علماؤنا: في هذه الآية وما شابهها، والأحاديث الواردة في معناها، رد على غلاة المتزهدين، وعلى كل أهل البطالة من المتصوفين، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه.قال الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء على نفسه مما أحل الله لعباده المؤمنين من طيبات المطاعم والملابس والمناكح. ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون.وقد جاء رجل إلى الحسن البصري فقال له: إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال له ولم؟قال: يقول، لا يؤدى شكره. فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد؟ قال: نعم. فقال الحسن: إن جارك جاهل، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج .والخلاصة أن هاتين الآيتين تنهيان المؤمنين عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم، وتأمرانهم بالتمتع بها بدون إسراف أو تقتير مع خشيتهم لله- تعالى- وشكره على ما وهبهم من نعم.وذلك لأن ترك هذه الطيبات يؤدى إلى ضعف العقول والأجسام، والإسلام يريد من أتباعه أن يكونوا أقوياء في عقولهم وفي أجسامهم وفي سائر شئونهم، لأن المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف- كما جاء في الحديث الشريف.ولأن دين الإسلام ليس دين رهبانية، وفي الحديث الشريف «إن الله لم يبعثني بالرهبانية» وإنما دين الإسلام دين عبادة وعمل، فهو لا يقطع العابد عن الحياة، ولكنه يأمره أن يعيش عاملا فيها غير منقطع عنها.وإن التفاضل بين المؤمنين يكون باستقامة النفس، وسلامة العبادة وكثرة إيصال النفع للناس. ولا يكون بالانقطاع عن الدنيا، وتحريم طيباتها التي أحلها الله- تعالى.وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تؤيد معنى هاتين الآيتين الكريمتين.أما الآيات فمنها قوله- تعالى- يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ .ومنها قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ .وأما الأحاديث فمنها ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها- أى عدوها قليلة- فقالوا:وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم: أما أنا فإنى أصلى الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى»ورحم الله الحسن البصري فقد قال: إن الله- تعالى- أدب عباده فأحسن أدبهم فقال- تعالى- لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ما عاب قوما ما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه» .فعلى المؤمن أن يجتنب تحريم الطيبات التي أحلها الله له، وأن يتمتع بها بدون إسراف أو تقتير، وأن يداوم على شكر الله على نعمه وآلائه، وأن يجعل جانبا من هذه النعم للإحسان إلى الفقراء والمحتاجين.قال الفخر الرازي: لم يقل- سبحانه-: وكلوا ما رزقكم الله، ولكن قال: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وكلمة «من» للتبعيض. فكأنه قال: اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات لأنه إرشاد إلى ترك الإسراف كما قال: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ .ثم بين- سبحانه- كفارة اليمين، وأمر المؤمنين بحفظ أيمانهم فلا يكثروا منها، فقال- تعالى-
5:89
لَا یُؤَاخِذُكُمُ اللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِیْۤ اَیْمَانِكُمْ وَ لٰكِنْ یُّؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الْاَیْمَانَۚ-فَكَفَّارَتُهٗۤ اِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسٰكِیْنَ مِنْ اَوْسَطِ مَا تُطْعِمُوْنَ اَهْلِیْكُمْ اَوْ كِسْوَتُهُمْ اَوْ تَحْرِیْرُ رَقَبَةٍؕ-فَمَنْ لَّمْ یَجِدْ فَصِیَامُ ثَلٰثَةِ اَیَّامٍؕ-ذٰلِكَ كَفَّارَةُ اَیْمَانِكُمْ اِذَا حَلَفْتُمْؕ-وَ احْفَظُوْۤا اَیْمَانَكُمْؕ-كَذٰلِكَ یُبَیِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ اٰیٰتِهٖ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ(۸۹)
اللہ تمہیں نہیں پکڑتا تمہاری غلط فہمی کی قسموں پر (ف۲۱۳) ہاں ان قسموں پر گرفت فرماتے ہے جنہیں تم نے مضبوط کیا (ف۲۱۴) تو ایسی قسم کا بدلہ دس مسکینوں کو کھانا دینا (ف۲۱۵) اپنے گھر والوں کو جو کھلاتے ہو اس کے اوسط میں سے (ف۲۱۶) یا انہیں کپڑے دینا (ف۲۱۷) یا ایک بردہ آزاد کرنا تو جو ان میں سے کچھ نہ پائے تو تین دن کے روزے (ف۲۱۸) یہ بدلہ ہے تمہاری قسموں کا، جب قسم کھاؤ (ف۲۱۹) اور اپنی قسموں کی حفاظت کرو (ف۲۲۰) اسی طرح اللہ تم سے اپنی آیتیں بیان فرماتا ہے کہ کہیں تم احسان مانو،

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرموا على أنفسهم النساء واللحم: قالوا يا رسول الله. كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله- تعالى- قوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ الآية واللغو من الكلام- كما يقول الراغب: ما لا يعتد به منه، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور. وقد يسمى كل قبيح لغوا. قال- تعالى- وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ .ولغو اليمين. أن يحلف الحالف على شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك.ويرى بعضهم أن لغو اليمين هو الذي يجرى على اللسان بدون قصد، كقولك لا والله وبلى والله.وقد رجح هذا القول ابن كثير فقال ما ملخصه. واللغو في اليمين هو قول الرجل في الكلام من غير قصد: لا والله وبلى والله وهو مذهب الشافعى. وقيل هو في الهزل. وقيل في المعصية:وقيل على غلبة الظن وهو قول أبى حنيفة وأحمد والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله:وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ .وقوله: عَقَّدْتُمُ من العقد وهو الجمع بين أطراف الشيء لتوثيقه وهو نقيض الحل: وقرأ حمزة والكسائي عَقَّدْتُمُ بالتخفيف. وقرأ ابن عامر «عاقدتم» .والمراد بعقد الأيمان توكيدها وتوثيقها قصدا ونية.والمعنى: لا يؤاخذكم الله- أيها المؤمنون- فضلا منه وكرما على اللغو في اليمين وهو ما يجرى على ألسنتكم بدون قصد. ولكن يؤاخذكم بالعقوبة في الآخرة أو بوجوب الكفارة بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية، إذا حنثتم فيها، بأن تعمدتم الكذب في أيمانكم.فالمراد بعدم المؤاخذة في قوله لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ: عدم المعاقبة في الدنيا بالكفارة ولا في الآخرة بالعقوبة.والمراد بالمؤاخذة في قوله: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ: العقوبة الأخروية عند جمهور الفقهاء ويرى الشافعى أن المراد بها الكفارة التي تجب على الحانث.وقوله فِي أَيْمانِكُمْ متعلق باللغو. وما في قوله بِما عَقَّدْتُمُ مصدرية أى: ولكن يؤاخذكم بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها. ويحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف. أى ولكن يؤاخذكم بالذي عقدتم الأيمان عليه.وقوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ بيان لكيفية الكفارة والضمير في قوله: فكفارته يعود على الحنث الدال عليه سياق الكلام وإن لم يجر له ذكر.أى: فكفارة الحنث. ولا مانع من عودته إلى الحالف إذا حنث في يمينه فيكون المعنى:فكفارة الحالف إذا حنث في يمينه إطعام عشرة مساكين لأن الشخص الحانث في يمينه هو الذي يجب عليه التكفير عن حنثه.والكفارة من الكفر بمعنى الستر، وهي اسم للفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة، أى تسترها وتمحوها، لأن الشيء الممحى يكون كالشىء المستور الذي لا يرى ولا يشاهد.وكلمة أَوْسَطِ يرى بعضهم أنها بمعنى الأمثل والأحسن، لأن لفظ الأوسط كثيرا ما يستعمل بهذا المعنى ومنه قوله- تعالى قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أى:قال أحسنهم عقلا وأمثلهم فكرا ونظرا.ويرى آخرون أن الأوسط هنا بمعنى المتوسط لأن هذا هو الغالب في استعمال هذه الكلمة، أى يطعمهم لا من أفخر أنواع الطعام ولا من أردئه ولكن من الطعام الذي يطعم منه أهله في الغالب.والمعنى: لقد تفضل الله عليكم- أيها المؤمنون- بأن رفع عنكم العقوبة والكفارة في الأيمان اللغو، ولكنه- سبحانه- يؤاخذكم بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها إذا ما حنثتم فيها ومتى حنث أحدكم في يمينه، فمن الواجب عليه لتكفير هذا اليمين ومحو إثمه أن يطعم عشرة مساكين طعاما يكون من متوسط ما يطعم منه أهله في الجودة والمقدار، أو أن يكسو هؤلاء المساكين العشرة كساء مناسبا ساترا للبدن أو أن يحرر رقبة بأن يعتق عبدا من الرق فيجعله حرا.قال الجمل ما ملخصه: وقوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ مبتدأ وخبر.وقوله: إطعام مصدر مضاف لمفعوله، وهو مقدر بحرف وفعل مبنى للفاعل أى فكفارته أن يطعم الحانث عشرة، وفاعل المصدر يحذف كثيرا.وقوله: مِنْ أَوْسَطِ في محل نصب مفعول ثان لإطعام ومفعوله الأول عشرة أى:فكفارته أن تطعموا عشرة مساكين إطعاما من أوسط ما تطعمون أهليكم.. وقوله: ما تُطْعِمُونَ مفعوله الأول: أهليكم، ومفعوله الثاني: محذوف أى: «تطعمونه أهليكم» .فأنت ترى أن الله- تعالى- قد خير الحانث في يمينه بين أمور ثلاثة يختار إحداها، فإذا لم يستطع إحداها، فقد بين سبحانه له حكما آخر فقال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ.أى: فمن لم يجد ما يكفر حنثه في يمينه من إطعام أو كساء أو تحرير رقبة فعليه حينئذ أن يصوم ثلاثة أيام، تطهيرا لنفسه، وتكفيرا عن ذنبه، وتقوية لإرادته وعزيمته.واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ يعود إلى المذكور من الإطعام والكساء وتحرير الرقبة والصوم.أى: ذلك الذي شرعناه لكم كفارة لأيمانكم إذا حلفتم وحنثتم فيها، وخالفتم طريق الحق الذي أمركم الله تعالى باتباعه.وقوله: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أمر من الله تعالى لعباده بأن يصونوا أنفسهم عن الحنث في أيمانهم، وعن الإكثار منها لغير ضرورة، فإن الإكثار من الحلف بغير ضرورة يؤدى إلى قلة الحياء من الله تعالى. كما أن الحلف الكاذب يؤدى إلى سخطه سبحانه على الحالف وبغضه له.وقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تذييل قصد به التذكير بنعم الله حتى يداوم الناس على شكرها وطاعة واهبها عز وجل.أى: مثل هذا البيان البديع الجامع لوجوه الخير والفلاح، يبين الله لكم آياته المشتملة على الأحكام الميسرة، والتشريعات الحكيمة، والهدايات الجليلة لعلكم بذلك تستمرون على شكر الله وطاعته، وتواظبون على خشيته ومراقبته فتنالون ما وعدكم من فلاح وسعادة.هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:1- أن اليمين اللغو لا مؤاخذة فيها. أى: لا عقوبة عليها في الآخرة ولا كفارة لها في الدنيا لقوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ.ونعنى بها- كما سبق أن أشرنا- أن يقول الرجل من غير قصد الحلف لا والله وبلى والله.ومع هذا فمن الأفضل للمؤمن ألا يلجأ إلى الحلف إلا إذا كانت هناك ضرورة تدعو لذلك لأن الإكثار من الحلف يسقط مهابة الإنسان، وقد يفضى به إلى الاستهانة بالآداب الحميدة التي شرعها الله.قال تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ .2- أن اليمين التي يحلفها الحالف بالقصد والنية وهو كاذب فيها، يستحق صاحبها العذاب الشديد من الله- تعالى-، وهي التي يسميها الفقهاء باليمين الغموس، أى التي تغمس صاحبها في النار- قال- تعالى- وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ.أى: بما صممتم عليه منها وقصدتموه وأنتم حانثون فيها.قال القرطبي ما ملخصه: خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: «الإشراك بالله. قال:: ثم ماذا؟ قال: عقوق الوالدين. قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس» قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو كاذب فيها» .وخرج مسلم عن أبى أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: وإن كان قضيبا من أراك» .وقد اختلف في اليمين الغموس فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها. لأن هذا الحالف قد جمع بين الكذب، واستحلال مال الغير، والاستخفاف باليمين بالله. فأهان ما عظمه الله، وعظم ما حقره الله، ولهذا قيل: إنما سميت اليمين الغموس غموسا، لأنها تغمس صاحبها في النار.وقال الشافعى: «هي يمين منعقدة، لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله- تعالى-، وفيها الكفارة.والصحيح الأول: وهو قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال الأوزاعى والثوري وأهل العراق وأحمد وإسحاق وأصحاب الحديث وأصحاب الرأى من أهل الكوفة :3- أن أَوْ في قوله- تعالى-: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ للتخيير.أى: أن الحالف إذا حنث في يمينه فهو مخير بين واحد من أمور ثلاثة ليكفر عن يمينه التي حنث فيها. وهذه الثلاثة هي الإطعام أو الكسوة، أو عتق الرقبة. فإذا لم يجد إحدى هذه الكفارات الثلاث انتقل إلى الصوم.قال الفخر الرازي: وأعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير، فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر وهو الصوم.ومعنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة ولا يجوز له تركها جميعا. ومتى أتى بأى واحد شاء من هذه الثلاثة فإنه يخرج عن العهدة. فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير» .وللعلماء أقوال متعددة في الإطعام المطلوب لكفارة اليمين.قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ لا بد عندنا- أى المالكية- وعند الشافعى من تمليك ما يخرج لهم ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه.وقال أبو حنيفة: لو غداهم وعشاهم جاز. والأوسط هنا منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين- أى يطعمهم من غالب الطعام الذي يطعم منه أهله لا من أدناه حتى لا يبخس المساكين حقهم ولا من أعلاه حتى لا يتكلف ما يشق عليه- والإطعام عند مالك: مد لكل واحد من المساكين العشرة. وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة: يخرج من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعا. أى يخرج ما يجب في صدقة الفطر.ولا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد وبه قال الشافعى، لأن الله- تعالى- نص على العشرة فلا يجوز العدول عنهم، وأيضا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا، فيتفرغون فيه لعبادة الله ولدعائه، فغفر للمكفر بسبب ذلك.وقال أبو حنيفة: يجزئه- أى: إذا أطعم واحدا عشر مرات أغنى عن إطعام العشرة- لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه» .والكسوة التي تصلح لكفارة اليمين يلاحظ فيها أن تكون سابغة في الجملة وهي تختلف باختلاف الأزمان والأحوال.قال الشافعى: لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة- من قميص أو سراويل- أجزأه ذلك.وقال مالك وأحمد: لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلى فيه، إن كان رجلا أو امرأة كل بحسبه.وقال أبو حنيفة: الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار. ولا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة عند الشافعى.وقال أبو حنيفة: تجزئ القيمة، لأن الغرض سد حاجة المحتاج، وقد تكون القيمة أنفع له.والنوع الثالث الذي به تكون كفارة اليمين: تحرير رقبة أى: إعتاقها من الرق، والمراد بالرقبة جملة الإنسان.قال الرازي: المراد بالرقبة: الجملة قيل: الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كانت تجمع يداه إلى رقبته بحبل. فإذا أطلق حل ذلك الحبل. فسمى الإطلاق من الرقبة فك الرقبة.ثم جرى ذلك على العتق. وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال: تجزئ الكافرة كما تجزى المؤمنة. وقال الشافعى وآخرون: لا بد أن تكون مؤمنة.فإن قيل: أى فائدة في تقديم الإطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة؟ قلنا له وجوه.أحدها: أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب، لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ.وثانيها: قدم الإطعام لأنه أسهل، لكون الطعام أعم وجودا، والمقصود منه التنبيه على أنه- تعالى- يراعى التخفيف والتسهيل في التكاليف.وثالثها: أن الإطعام أفضل، لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر. أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته .4- يرى مالك والشافعى أن قوله: تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يصدق على الصيام المتتابع والمتفرق، فلو صام الحالف ثلاثة أيام متفرقة أجزأه ذلك، لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما.ويرى أبو حنيفة وأحمد صوم الثلاثة أيام متتابعة، فقد قرأ أبى بن كعب وعبد الله بن مسعود «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما.وقال ابن كثير: واختلف العلماء هل يجب فيها التتابع أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق؟ قولان:أحدهما: لا يجب وهذا منصوص الشافعى في كتاب الأيمان. وهو قول مالك، لإطلاق قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وهو صادق على المجموعة والمفرقة كما في قضاء رمضان لقوله:فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ونص الشافعى في موضع آخر في الأم على وجوب التتابع كما هو مذهب الحنفية والحنابلة لأنه قد روى عن أبى بن كعب وغيره أنه كان يقرؤها «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود. وهذه، إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترا فلا أقل من أن يكون خبر واحد أو تفسيرا من الصحابة وهو في حكم المرفوع.وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله نحن بالخيار؟ قال: أنت بالخيار. إن شئت أعتقت. وإن شئت كسوت. وإن شئت أطعمت.فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات .ويبدو لنا أن الصيام المتتابع أفضل، لأن قراءة أبى وحديث حذيفة يزكيانه، ولأنه رأى عدد كبير من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود.5- أخذ بعض العلماء من قوله- تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ... إلخ. أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث لأن السبب في الكفارة هو الحنث، وما دام لم يتحقق فإنه لا كفارة.وقال آخرون يجوز أن تتقدم الكفارة عند نية الحنث، وتقوم النية مقام الحنث بالفعل.وقد تكلم عن هذه المسألة الإمام القرطبي فقال ما ملخصه: اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث أتجزئ أم لا على ثلاثة أقوال:أحدها: يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة وعشرين من الصحابة، وجمهور الفقهاء، وهو مشهور مذهب مالك، فقد قال أبو موسى الأشعرى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وإنى والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» رواه وأخرجه أبو داود.ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة، لقوله- تعالى ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها. وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث.وثانيها: قال أبو حنيفة وأصحابه لا يجزئ بوجه لما رواه مسلم عن عدى بن حاتم قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حلف يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير- زاد النسائي- وليكفر عن يمينه» .ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها. وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارا بالصلوات وسائر العبادات.وثالثها: قال الشافعى: تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة ولا تجزئ بالصوم لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته. ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة» .6- أخذ العلماء من قوله- تعالى- وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أن من الواجب على المؤمن أن يقلل من الأيمان فلا يلجأ إليها إلا عند الضرورة، وأن يحرص على أن يكون صادقا فيها حتى لا يحتاج إلى التكفير عنها وأن يبادر إلى التكفير عنها إذا كانت المصلحة تستدعى الحنث فيها، لما سبق أن ذكره القرطبي من حديث أبى موسى الأشعرى وحديث عدى بن حاتم.ولما رواه الشيخان عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وأن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها. وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير» .هذا «وقد ساق صاحب المنار في نهاية تفسيره لهذه الآية بحوثا تتعلق بالأيمان فقال ما ملخصه:(أ) لا يجوز في الإسلام الحلف بغير الله تعالى- وأسمائه وصفاته، لما رواه الشيخان من حديث ابن عمر: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» ورويا عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يحلف بأبيه فقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» .روى أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عمر أيضا قال: كان أكثر ما يحلف به النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: لا ومقلب القلوب.وهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في حظر الحلف بغير الله تعالى ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عموم غير الله وكذلك الكعبة وسائر ما هو معظم شرعا تعظيما يليق به.(ب) ثم قال ويجوز الحنث للمصلحة الراجحة فقد روى الشيخان وأحمد عن عبد الرحمن ابن سمرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك وفي رواية فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير» .وينقسم الحلف باعتبار المحلوف عليه إلى أقسام:1- أن يحلف على فعل واجب وترك حرام، فهذا تأكيد لما كلفه الله إياه فيحرم الحنث ويكون إثمه مضاعفا.2- أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم، فهذا يجب عليه الحنث، لأنه يمين معصية على ترك فريضة من الفرائض، أو حق من الحقوق الواجبة عليه.3- أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه، فهذا طاعة فيندب له الوفاء ويكره الحنث كذا قال بعضهم. والظاهر وجوب الوفاء كما قالوا في النذر.4- أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه، فيستحب له الحنث ويكره التمادي كذا قالوا. وظاهر الحديث وجوب الكفارة والحنث مطلقا.5- أن يحلف على ترك مباح وقد اختلفوا فيه: فقال ابن الصباغ: إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال.أى أن الحالف يوازن بين مقدار الضرر الذي سيترتب على الاستمرار في الترك، والخير الذي يجلبه الحنث، فإن رجح أحدهما مضى فيه.(ج) ثم قال: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأيمان- بحسب صيغتها وأحكامها- ثلاثة أقسام:أحدهما: ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء ونحو ذلك، فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء بل هي منهى عنها باتفاق أهل العلم والنهى نهى تحريم في أصح الأقوال. ففي الحديث: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» :الثاني: اليمين بالله كقول القائل: والله لأفعلن كذا. فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين.الثالث: أيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله، ومقصود الحالف بها تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كالحلف بالنذر والطلاق والعتاق كقوله إن فعلت كذا فعلى صيام شهر أو الحج إلى بيت الله.فهذه الأيمان للعلماء فيها أقوال أظهرها أنه إذا حنث فيها لزمته كفارة يمين كما قال- تعالى- ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ. وقال تعالى قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ.(د) ثم ختم صاحب المنار مباحثه بقوله: واليمين الغموس التي يهضم بها الحق أو يقصد بها الغش والخيانة، لن يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام، بل لا بد من التوبة وأداء الحقوق والاستقامة. قال- تعالى- وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها، وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ .وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم إذا ما حنثوا في أيمانهم، وحضتهم على حفظ أيمانهم، لكي ينالوا من الله- تعالى- الرضا والفلاح.وبعد أن نهى الله المؤمنين عن تحريم ما أحله لهم، وأمرهم بأن يتمتعوا بما رزقهم من خير بدون إسراف أو تقتير، وبين لهم حكم ما عقدوه من أيمان بعد كل ذلك وجه- سبحانه- نداء ثانيا إليهم بين لهم فيه مضار الخمر وأشباهها من الرذائل، وأمرهم باجتنابها، فقال تعالى:
5:90
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْۤا اِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الْاَنْصَابُ وَ الْاَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطٰنِ فَاجْتَنِبُوْهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ(۹۰)
اے ایمان والو! شراب اور جوا اور بت اور پانسے ناپاک ہی ہیں شیطانی کام تو ان سے بچتے رہنا کہ تم فلاح پاؤ،

قال الفخر الرازي: اعلم أن هذا النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع- فقد أمر الله المؤمنين بعدم تحريم الطيبات ثم بين حكم الأيمان المنعقدة.ووجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه- تعالى- قال فيما تقدم: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إلى قوله: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً. ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر، لا جرم أنه- تعالى- بين أنهما غير داخلين في المحلات بل في المحرمات .والخمر- بمعنى المصدر- هو الستر، ولذلك يقال لما يستر به الرأس عند النساء خمار.والخمر- بمعنى الاسم- ما يخمر العقل ويستره، ويمنعه من التقدير السليم: قال القرطبي: والخمر مأخوذة من خمر، إذا ستر، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها. وكل شيء غطى شيئا فقد خمره. ومنه: خمروا آنيتكم أى: غطوها.وقيل: إنما سميت الخمر خمرا، لأنها تركت حتى أدركت كما يقال: قد اختمر العجين، أى:: بلغ إدراكه. وخمر الرأى، أى ترك حتى يتبين فيه الوجه.وقيل: إنما سميت الخمر خمرا، لأنها تخالط العقل. من المخامرة وهي المخالطة. ومنه قولهم: دخلت في خمار الناس- بفتح الخاء وضمها- أى: اختلطت بهم. فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته والأصل الستر» .والميسر: القمار- بكسر القاف- وهو في الأصل مصدر ميمى من يسر كالموعد من وعد.وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة، لأن المال يجيء، للكاسب من غير جهد، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزأ، ثم أصبح علما على كل ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه.قال القرطبي: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمى ميسرا لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضوع التجزئة. وكل شيء جزأته فقد يسرته. والياسر: الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور. ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: يأسرون لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك» .والمراد بالميسر ما يشمل كل كسب يجيء بطريق الحظ المبنى على المصادفة فاللعب بالنرد على مال يسمى قمارا، واللعب بالشطرنج على مال يسمى قمارا وهكذا ما يشبه ذلك من ألوان تمليك المال بالمخاطرة وبطريق الحظ المبنى على المصادفة.وتحريم الميسر تحريم لذات الفعل. فالعمل في ذاته حرام، والكسب عن طريقه حرام.والأنصاب: جمع نصب، وتطلق على الأصنام التي كانت تنصب للعبادة لها أو على الحجارة التي كانت تخصص للذبح عليها تقربا للأصنام.والأزلام: جمع زلم. وهي السهام التي كانوا يتقاسمون بها الجزور أو البقرة إذا ذبحت.فسهم عليه واحد، وسهم اثنان وهكذا إلى عشرة. أو هي السهام التي كانوا يكتبون على أحدها: أمرنى ربي وعلى الآخر نهاني ربي، ويتركون الثالث غفلا من الكتابة فإذا أرادوا سفرا أو حربا أو زواجا أو غير ذلك، أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها، فإن خرج أمرنى ربي أقدموا على ما يرونه، وإن خرج نهاني ربي أمسكوا عنه، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي.وقد نهى الله- تعالى- في أوائل هذه السورة عن الاستقسام بالأزلام فقال وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ .وقوله: رِجْسٌ أى قذر تأباه النفوس الكريمة والعقول السليمة لقذارته ونجاسته.قال الفخر الرازي: والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل. يقال: رجس الرجل رجسا إذا عمل عملا قبيحا: وأصله من الرجس- بفتح الراء- وهو شدة الصوت. يقال:سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد. فكأن الرجس هو العمل الذي يكون قوى الدرجة كامل الرتبة في القبح» .وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها: ما جاء في صحيح مسلم عن سعد بن أبى وقاص أنه قال: نزلت فىّ آيات من القرآن، وفيه قال. وأتيت على نفر من الأنصار فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمرا وذلك قبل أن تحرم الخمر- قال فأتيتهم في حش- أى بستان- فإذا رأس جزور مشوى عندهم وزق من خمر قال: فأكلت وشربت معهم. قال:فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار. قال. فأخذ رجل- من الأنصار- لحى جمل فضربني به فجرح أنفى، فأتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ.. الآيات .ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار. شربوا حتى ثملوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا، جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل هذا بي أخى فلان- وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن- والله لو كان بي رءوفا رحيما ما فعل بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ. إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ .والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقا. إنما تعاطى الْخَمْرُ أى: الشراب الذي يخامر العقل ويخالطه ويمنعه من التفكير السليم وَالْمَيْسِرُ أى القمار الذي عن طريقه يكون تمليك المال بالحظ المبنى على المصادفة والمخاطرة وَالْأَنْصابُ أى: الحجارة التي تذبح عليها الحيوانات تقربا للأصنام. وَالْأَزْلامُ أى: السهام التي عن طريقها يطلب الشخص معرفة ما قسم له من خير أو شر. هذه الأنواع الأربعة رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أى: مستقذرة تعافها النفوس الكريمة، وتأباها العقول السليمة، لأنها من تزيين الشيطان الذي هو عدو للإنسان، ولا يريد له إلا ما كان شيئا قبيحا.قال- تعالى-: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ.والفاء في قوله فَاجْتَنِبُوهُ للإفصاح، والضمير فيه يعود على الرجس الذي هو خبر عن تلك الأمور الأربعة وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.أى: إذا كان تعاطى هذه الأشياء الأربعة رجسا وقذرا ينأى عنه العقلاء فاجتنبوه لعلكم بسبب هذا الاجتناب والترك لذلك الرجس تنالون الفلاح والظفر في دنياكم وآخرتكم.والنداء بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عام لجميع المؤمنين، وقد ناداهم- سبحانه- بهذه الصيغة لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يستجيبوا لما نودوا من أجله، وهو اجتناب تلك الرذائل وتركها تركا تاما.وقوله: رِجْسٌ خبر عن هذه الرذائل الأربعة. وصح الإخبار به- مع أنه مفرد- عن متعدد هو هذه الأربعة، لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير وشبيه بذلك قوله- تعالى- إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.وقيل: لأنه خبر عن الخمر، وخبر المعطوفات عليها محذوف ثقة بالمذكور وقيل: لأن في الكلام مضافا إلى تلك الأشياء، وهو خبر عنه. أى: إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس.وقوله: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ في محل رفع على أنه صفة لقوله: رِجْسٌ أى: رجس كائن من عمل الشيطان، لأنه ناجم عن تزيينه وتسويله، إذ هو خبيث والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث فالمراد من إضافة العمل إلى الشيطان المبالغة في كمال قبح ذلك العمل.وعبر بقوله: فَاجْتَنِبُوهُ للمبالغة في الأمر بترك هذه الرذائل، فكأنه سبحانه يقول لا آمركم فقط بترك الرذائل، بل أمركم أيضا بأن تكونوا أنتم في جانب وهذه المنكرات في جانب آخر. فالأمر هنا منصب على الترك وعلى كل ما يؤدى إلى اقتراف هذه المنكرات كمخالطة المرتكبين لها. وغشيان مجالسها. إلخ.
5:91
اِنَّمَا یُرِیْدُ الشَّیْطٰنُ اَنْ یُّوْقِعَ بَیْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَآءَ فِی الْخَمْرِ وَ الْمَیْسِرِ وَ یَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰوةِۚ-فَهَلْ اَنْتُمْ مُّنْتَهُوْنَ(۹۱)
شیطان یہی چاہتا ہے کہ تم میں بَیر اور دشمنی ڈلوا دے شراب اور جوئے میں اور تمہیں اللہ کی یاد اور نماز سے روکے (ف۲۲۱) تو کیا تم باز آئے،

ثم أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية فقال تعالى إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.أى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ بتزيينه المنكرات لكم أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بأن يقطع ما بينكم من صلات، ويثير في نفوسكم الأحقاد والضغائن بسبب تعاطيكم للخمر والميسر، وذلك لأن شارب الخمر إذا ما استولت الخمر على عقله أزالت رشده. وأفقدته وعيه، وتجعله قد يسيء إلى من أحسن إليه، ويعتدى على صديقه وجليسه. وذلك يورث أشد ألوان العداوة والبغضاء بين الناس.ولأن متعاطى الميسر كثيرا ما يخسر ما له على مائدة الميسر. والمال كما نعلم شقيق الروح، فإذا ما خسره هذا المقامر صار عدوا لمن سلب ماله منه عند المقامرة، وأصبح يضمر له السوء. وقد يؤدى به الحال إلى قتله حتى يشفى غيظه منه، لأنه قد جعله فقيرا بائسا مجردا من أمواله بعد أن كان مالكها وفي ذلك ما فيه من تولد العداوة والبغضاء وإيقاد نار الفتن والشرور بين الناس.فقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية.أما مفاسدهما الدينية فقد أشار إليها سبحانه بقوله: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ.أى: ويريد الشيطان أيضا بسبب تعاطيكم للخمر والميسر- أن يصدكم أى يشغلكم ويمنعكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أى: عن طاعته ومراقبته والتقرب إليه وَعَنِ الصَّلاةِ التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام.وذلك لأن شارب الخمر يمنعه ما حل به من نشوة كاذبة، ومن فقدان لرشده عن طاعة الله وعن أداء ما أوجبه عليه من صلاة وغيرها.ولأن متعاطى الميسر بسبب استحلاله لكسب المال عن هذا الطريق الخبيث، ويسبب فقدانه للعاطفة الدينية السليمة صار لا يفكر في القيام بما أوجبه الله عليه من عبادات.ورحم الله الآلوسى، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: ووجه صد الشيطان لهم عن ذكر الله وعن الصلاة بسبب تعاطيهم للخمر والميسر أن الخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس.والاستغراق في الملاذ الجسمانية، تلهى عن ذكر الله تعالى- وعن الصلاة.وأن الميسر إن كان اللاعب به غالبا، انشرحت نفسه، وصده حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر، وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يخطر بقلبه غير ذلك.وقد شاهدنا كثيرا ممن يلعب بالشطرنج يجرى بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن ذكر الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويحار لشناعته الفهم وتسود رقعة الأعمال .وجمع- سبحانه- الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية الأولى ثم أفردهما بالذكر في هذه الآية، لأن الخطاب للمؤمنين، والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر، وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة، أى أن مجيء الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر إنما هو لتقبيح تعاطيهما، وتأكيد حرمتهما، حتى لكأن متعاطى الخمر والميسر يفعل أفعال أهل الجاهلية، وأهل الشرك بالله- تعالى- وكأنه- كما يقول الزمخشري-: لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله في علم الغيب، وبين من شرب خمرا أو قامر.وخص الصلاة بالذكر مع أنها لون من ألوان ذكر الله، تعظيما لشأنها، كما هو الحال في ذكر الخاص بعد العام، وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان، لما أنها عماد الدين والفارق بين المسلم وبين الكافر.والاستفهام في قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ لإنكار استمرارهم على الخمر والميسر بعد أن بين لهم ما بين من مضارهما الدنيوية والدينية ولحضهم على ترك تعاطيهما فورا، أى: انتهوا سريعا عنهما فقد بينت لكم ما يدعو إلى ذلك.ولقد لبى الصحابة- رضى الله عنهم- هذا الأمر فقالوا: «انتهينا يا رب انتهينا يا رب» وألقوا ما عندهم من خمر في طرقات المدينة.
5:92
وَ اَطِیْعُوا اللّٰهَ وَ اَطِیْعُوا الرَّسُوْلَ وَ احْذَرُوْاۚ-فَاِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَاعْلَمُوْۤا اَنَّمَا عَلٰى رَسُوْلِنَا الْبَلٰغُ الْمُبِیْنُ(۹۲)
اور حکم مانو اللہ کا اور حکم مانو رسول کا اور ہوشیار رہو، پھر اگر تم پھر جاؤ (ف۲۲۲) تو جان لو کہ ہمارے رسول کا ذمہ صرف واضح طور پر حکم پہنچادینا ہے (ف۲۲۳)

ثم أكد- سبحانه- وجوب هذا الانتهاء بأن أمر بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا.أى: اجتنبوا- أيها المؤمنون- هذه الرذائل وانتهوا عنها فقد بينت لكم مضارها، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في جميع ما أمرا به ونهيا عنه وَاحْذَرُوا مخالفتهما، لأن مخالفة أوامرهما تؤدى إلى الحسرة والخسران.وأمر- سبحانه- بطاعته وبطاعته رسوله مع أن طاعة رسوله طاعة له- سبحانه- لتأكيد الدعوة إلى هذه الطاعة، ولتكريم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جعلت طاعته مجاورة لطاعة الله- تعالى-.وقوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تأكيد للتحذير السابق وتنبيه إلى سوء عاقبة العاصين لأمر الله ورسوله.وجواب الشرط محذوف والتقدير: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول- أيها المؤمنون- واحذروا مخالفة أمرهما، فإن توليتم وأعرضتم عن طاعتهما، فقد وقعتم في الخطيئة وستعاقبون عليها عقابا شديدا، واعلموا أنه ليس على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم سوى التبليغ الواضح البين عن الله- تعالى- أما الحساب والجزاء، والثواب والعقاب فمن الله وحده.فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أنواعا من التأكيدات، وألوانا من التهديدات التي تدعو إلى اجتناب الخمر والميسر اجتنابا تاما وتركهما تركا لا عودة بعده إليهما.وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى بقوله: أكد- سبحانه- تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد:منها: تصدير الجملة بإنما.ومنها: قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله- صلى الله عليه وسلم «شارب الخمر كعابد الوثن» .ومنها: أنه جعلهما رجسا كما قال- تعالى- فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان، لا يأتى منه إلا الشر البحت.ومنها: أنه أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب.ومنها: أنه جعل الاجتناب من الفلاح. وإذا كان الاجتناب فلاحا، كان الارتكاب خيبة وخسرانا.ومنها: أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال- وهو وقوع التعادي والتباغض- وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة.ومنها: قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فهو من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم باقون على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟؟؟» .هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:1- أن هذه الآيات الكريمة هي آخر ما نزل في القرآن لتحريم الخمر تحريما قاطعا لأن التعبير بالانتهاء والأمر به فيه إشارة إلى تمهيدات سابقة للتحريم.قال القرطبي: تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة. فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأن الخمر قوله- تعالى- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أى: في تجارتهم. فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس. وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة فيما يشغلنا عن الصلاة وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية. فصارت حراما عليهم حتى صار بعضهم يقول: ما حرم الله شيئا أشد من الخمر» .وأخرج عبد بن حميد عن الربيع أنه قال: لما نزلت آية البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ، ثم نزلت آية النساء: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فقال صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ، ثم نزلت آية المائدة:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فحرمت عند ذلك.ولما سمع عمر قوله- تعالى- فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: انتهينا يا رب ولا شك في أن تدرج القرآن في تحريم الخمر يدل دلالة واضحة على رحمة الله- تعالى- بعباده المؤمنين وتربية حكيمة حتى يقلعوا عما تعودوه بسهولة ويسر وذلك لأن شرب الخمر كان من العادات المتأصلة في النفوس ويكفى للدلالة على حب العرب لها قول أنس بن مالك: حرمت الخمر ولم يكن للعرب عيش أعجب منها. وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر» .ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يحبونه ويشتهونه، يمثل اسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأمر الله- تعالى- فعند ما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها في الطرقات، بل وحطموا الأوانى التي كانت توضع فيها الخمر.أخرج البخاري عن أنس قال: كنت ساقى القوم في منزل أبى طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ- أى: نقيع البسر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادى «ألا إن الخمر قد حرمت» .قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها. قال: فخرجت فهرقتها فجرت في سكك المدينة وأخرج ابن جرير عن قتادة عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبى طلحة، وأبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبى دجانة حتى مالت رءوسهم منخليط بسر وتمر، فسمعنا مناديا ينادى: إن الخمر قد حرمت. قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا ثم خرجنا إلى المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.فقال رجل لقتادة: سمعته من أنس بن مالك؟ قال: نعم وقال رجل لأنس أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. وحدثني من لم يكذب: والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب .وأخرج ابن جرير- أيضا- عن أبى بريدة عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شراب لنا، ونحن نشرب الخمر حلا، إذ قمت حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. الآيات. فجئت إلى أصحابى فقرأتها عليهم، إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضا وبقي بعض الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا، كما يفعل الحجام. ثم صبوا ما في باطيتهم، فقالوا:انتهينا ربنا، انتهينا ربنا» .وهكذا ترى أن قوة الإيمان التي غرسها الإسلام في نفوس أتباعه عن طريق تعاليمه الحكيمة وتربيته السامية. قد تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع إلفا شديدا.2- أن كلمة خمر اسم لما خامر العقل وغطاه من الأشربة المسكرة، سواء كانت من عصير العنب، أم من الشعير، أم من التمر، أم من غير ذلك وكلها سواء في التحريم قل المشروب منها أو كثر، سكر شاربها أو لم يسكر، وأن على الشارب حد الشرب في الجميع.وبهذا القول قال جمهور العلماء: ومن أدلتهم النقلية ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال:خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر وهي خمسة أشياء: «العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل» .وأخرج أيضا عن عائشة قالت: «سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن التبع- وهو نبيذ العسل- وكانأهل اليمن يشربونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل ما أسكر فهو حرام» .وأخرج كذلك عن أنس قال: «حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد- يعنى بالمدينة- خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر» .فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في أن ما أسكر من هذه الأشربة المأخوذة من التمر أو الحنطة أو الشعير أو العنب يسمى خمرا.ومن أدلتهم العقلية أصل الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره.ويرى الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبى ليلى:أن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط. أما المسكر من غيره كالشراب الذي من التمر والشعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذا.ومن حججهم أن الخمر حرمت ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط. وما وجد فيه مخامرة للعقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا: لأن اللغة لا تثبت من طريق القياس.وقد ورد عن ابن عمر أنه قال: «حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء» .ولقد كان بالمدينة من المسكرات نقيع التمر والبسر، فدل على أن ابن عمر- وهو عربي- ما كان يرى أن اسم الخمر يتناول هذين.ويقول الأحناف ومن وافقهم: إن الأحاديث التي استشهد بها الجمهور على أن الخمر اسم لكل مسكر من عصير العنب أو غيره هذه الأحاديث لبيان الحكم الشرعي، والحرمة بالقياس لتحقيق علة الحرمة وهي الإسكار في القدر المسكر من هذه الأشياء.وقد ابتنى على هذا الخلاف بين الجمهور والأحناف أحكام أخرى تتعلق بنجاسة هذه الأشياء، وبوجوب إقامة الحد على شاربها.. إلخ وتفصيل هذه الأحكام يرجع فيه إلى كتب الفقه وأصوله.هذا، وقد رجح المحققون من العلماء ما ذهب إليه الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم.قال ابن العربي: وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها والصحيح ما رواه الأئمة أن أنسا قال: «حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا القليل، وعامة خمرها البسر والتمر» .واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم- أى: أوانى الخمر- وبادروا إلى الامتثال لاعتقادهم أن ذلك كله خمر - أى: وأقرهم رسول الله على ذلك.وقال الآلوسى: وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأى اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده فهو حرام، وقليله ككثيره، ويحد شاربه ويقع طلاقه، ونجاسته غليظة. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع- وهو نبيذ العسل- فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» .وروى أبو داود: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر» .وصح عنه صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . والأحاديث متضافرة على ذلك.ولعمري إن اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر، ورغبتهم فيها، فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير. وقد وضعوا لها أسماء- كالعنبرية والإكسير- ونحوهما، ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة، وتبيح شربها للأمة- وهيهات هيهات- فالأمر وراء ما يظنون وإنا لله وإنا إليه راجعون .3- قال القرطبي ما ملخصه: «فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها.وخالفهم في ذلك- ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعى. وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة وأن المحرم إنما هو شربها.والصحيح ما عليه الجمهور لأن وصفها بأنها رِجْسٌ يدل على نجاستها فإن الرجس في اللسان النجاسة.وقوله: فَاجْتَنِبُوهُ يقتضى الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في هذا الباب.روى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، - أى قربة خمر-فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل علمت أن الله حرمها» قال: لا. قال: فسار رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بم ساررته» ؟ قال: أمرته أن يبيعها، فقال: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» .ثم قال القرطبي: وهذه الآيات تدل على أن كل لهو دعا قليله إلى كثيره، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، ووجب أن يكون حراما مثله .4- هذه الآيات الكريمة تدل على تأكيد تحريم الخمر وما ذكر معها من رذائل، كما تدل على تحريم ما تؤدى إليه من مفاسد ومضار، وما يحيق بمرتكبها من سوء عاقبة.وقد ساق ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث في هذا المعنى، ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنت الخمر على عشرة أوجه: «لعنت الخمر بعينها، وشاربها، وساقيها وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها» .وقال ابن وهب- قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى» .وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «صديد أهل النار» .هذا جانب من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة، ومن الأحاديث التي وردت في حرمة الخمر وفي سوء مصير شاربها.وقد أتبع- سبحانه- ذلك ببيان حكم من شربها ومات قبل أن ينزل تحريمها فقال- تعالى-:
5:93
لَیْسَ عَلَى الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا وَ عَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ جُنَاحٌ فِیْمَا طَعِمُوْۤا اِذَا مَا اتَّقَوْا وَّ اٰمَنُوْا وَ عَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَّ اٰمَنُوْا ثُمَّ اتَّقَوْا وَّ اَحْسَنُوْاؕ-وَ اللّٰهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِیْنَ۠(۹۳)
جو ایمان لائے اور نیک کام کیے ان پر کچھ گناہ نہیں (ف۲۲۴) جو کچھ انہوں نے چکھا جب کہ ڈریں اور ایمان رکھیں اور نیکیاں کریں پھر ڈریں اور ایمان رکھیں پھر ڈریں اور نیک رہیں، اور اللہ نیکوں کو دوست رکھتا ہے (ف۲۲۵)

روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات متقاربة في معناها، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن البراء بن عازب قال: مات ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر. فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها قال: فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية وعن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله، أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر «لما نزل تحريم الخمر» فنزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الآية.وروى الإمام أحمد من حديث أبى هريرة أنه بعد أن نزل قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآيات، قال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر وقد جعله الله رجسا ومن عمل الشيطان؟فأنزل الله- تعالى-: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية.قال القرطبي: وهذه الآية وتلك الأحاديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح، لأن المباح مستوى الطرفين بالنسبة إلى الشرع، وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله- تعالى- وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم، فرفع الله التوهم بقوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية.وقال الآلوسى: وقيل إن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار».وقوله- تعالى- فِيما طَعِمُوا أى: ذاقوا، مأخوذ من الطعم- بالفتح- وهو تذوق الشيء والتلذذ به، سواء أكان مأكولا أم مشروبا وهو المراد هنا.قال القرطبي: وأصل هذه الكلمة في الأكل. يقال: طعم الطعام وشرب الشراب لكن قد تجوز في ذلك فيقال: لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما» .والمعنى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أى: حرج أو إثم فِيما طَعِمُوا أى فيما تناولوه من خمر أو ما يشبهها من محرمات قبل أن يحرمها الله- تعالى- وكذلك لا إثم ولا حرج على من مات قبل التحريم.وقوله: إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تحريض للمؤمنين على الازدياد من الإيمان والتقوى والعمل الصالح.أى: إذا ما اتقوا الله وخافوه وتلقوا أوامره بالقبول، وثبتوا على الإيمان، وأكثروا من الأعمال الصالحات.وقوله: ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا معطوف على ما قبله.أى: ثم استمروا على تقواهم وامتلاء قلوبهم بخشية الله، والإيمان الحق به- سبحانه- فتكرير التقوى والإيمان هنا لبيان أنه يجب استمرارهم ومواظبتهم على ذلك، مع تمسكهم بما يقتضيه الإيمان والتقوى من فعل الخير وابتعاد عن الشر.وقوله: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا معطوف على ما قبله- أيضا- لتأكيد معنى الاستمرار على هذه التقوى طول مدة حياتهم مع إحسانهم إلى أنفسهم بالإكثار من العمل الصالح، وإلى غيرهم بما يستطيعونه من إسداء الخير إليه.وقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الحض على الإيمان والتقوى والإحسان، ومدح المتمسكين بتلك الصفات الحميدة.أى: والله- تعالى- يحب المحسنين إلى أنفسهم بإلزامها بالوقوف عند حدود الله، والاستجابة له فيما أمر أو نهى أو أحل أو حرم برغبة ومسارعة، وإلى غيرهم بمديد العون إليهم.فالآية الكريمة من مقاصدها بيان جانب من مظاهر رحمة الله بعباده، ورأفته بهم حيث بين لهم: أن من شرب الخمر أو لعب الميسر أو فعل ما يشبههما من محرمات، ثم مات قبل أن ينزل الأمر بتحريم هذه الأشياء فإن الله- تعالى- لا يؤاخذه على ذلك. لأن المؤاخذة على الفعل تبدأ من وقت تحريمه لا من قبل تحريمه.وكذلك الحال بالنسبة لمن وقع في هذه الأشياء قبل أن تحرم فإن الله لا يؤاخذه عليها، وإنما يؤاخذه عليها بعد نزول تحريمها وهذا من فضل الله على عباده، ورحمته بهم.هذا، وقد تعددت أقوال المفسرين حول مسألتين تتعلقان بهذه الآية الكريمة.أما المسألة الأولى فهي: كيف شرط الله في رفع الجناح أى الإثم عن المطعومات والمشروبات الإيمان والتقوى، مع أن الجناح مرفوع عن المباح من هذه الأشياء حتى عن الكافرين؟وقد قالوا في الإجابة عن ذلك: إن تعليق نفى الجناح أى الإثم بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها فإن نفى الإثم عن الذي يتناول المباح قبل أن يحرم لا يشترط بشرط، وإنما تعليق نفى الجناح بهذه الأحوال- وهي التقوى والإيمان- وارد على سبيل المدح لهم، والثناء عليهم والدلالة على أنهم جديرون بهذه الصفات، ولإدخال الطمأنينة على قلوبهم حتى يوقنوا بأن من تعاطى شيئا من المحرمات قبل تحريمها فلا يؤاخذه الله على ذلك، وإنما يؤاخذه إذا تعاطاها بعد تحريمها.وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: «قيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة:يا رسول الله!! كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر؟ فنزلت الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ.. إلخ يعنى أن المؤمنين لا جناح عليهم في أى شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم، ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا، على معنى: أن أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. ومثاله أن يقال لك: هل على زيد جناح فيما فعل؟ فتقول: وقد علمت أن ذلك أمر مباح: ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم، وكان مؤمنا محسنا. تريد: أن زيدا تقى مؤمن محسن، وأنه غير مؤاخذ بما فعل».وقال أبو السعود ما ملخصه: ما عدا التقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة، لا دخل لها في انتفاء الجناح. وإنما ذكرت في حيز إِذا شهادة باتصاف الذين سألوا عن حالهم بها، ومدحا لهم بذلك، وحمدا لأحوالهم. فكأنه قيل: ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى: مع مالهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال، وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك، ولو حرما في عصرهم لا لاتقوهما بالمرة».وأما المسألة الثانية التي كثرت أقوال المفسرين فيها فهي: تكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح. ومرة مع الإيمان ومرة مع الإحسان؟وقد ذكر القرطبي في ذلك أربعة أقوال فقال:الأول: أنه ليس في ذكر التقوى تكرار، والمعنى: اتقوا شربها وآمنوا بتحريمها، أو دام اتقاؤهم وإيمانهم، أو على معنى إضافة الإحسان إلى الاتقاء.والثاني: اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم وأحسنوا العمل.الثالث: اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانا، والمعنى الثالث، ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أى تنفلوا.الرابع: قال ابن جرير: الاتقاء الأول: هو الاتقاء بتلقى أمر الله بالقبول والتصديق، والدينونة به العمل. والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث: الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل».والذي يبدو لنا أن ما قاله ابن جرير أقرب إلى الصواب، وأن تكرير التقوى إنما هو لتأكيد وجوب امتلاء قلب المؤمن بها، واستمراره على ذلك حتى يلقى الله. فإن المؤمن بمداومته على خشيته- سبحانه- يتدرج من الكمال إلى الأكمل حتى يصل في إيمانه وتقواه إلى مرتبة الإحسان التي ترفعه إلى أعلى عليين، والتي عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .ولقد بين لنا القرآن في مواطن كثيرة أن المؤمن يقوى إيمانه ويزداد، بكثرة تدبره ما أنزله الله من شرائع وهدايات. ومن ذلك قوله- تعالى- وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ.وقال تعالى- وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً .وبذلك نرى الآية الكريمة قد طمأنت المؤمنين إلى أن الله- تعالى- لن يؤاخذهم بما تعاطوه من محرمات قبل تحريمها. وأن الواجب عليهم أن يستمروا على مراقبتهم له، وخشيتهم منه حتى يلقوه- عز وجل-.وبعد أن حذر الله- تعالى- المؤمنين من تعاطى المنكرات كالخمر والميسر وبين لهم حكم من مات قبل تحريم هذه الأشياء بعد كل ذلك بين- سبحانه- بشيء من التفصيل بعض الأحكام التي تتعلق بالصيد فقال تعالى-:
5:94
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا لَیَبْلُوَنَّكُمُ اللّٰهُ بِشَیْءٍ مِّنَ الصَّیْدِ تَنَالُهٗۤ اَیْدِیْكُمْ وَ رِمَاحُكُمْ لِیَعْلَمَ اللّٰهُ مَنْ یَّخَافُهٗ بِالْغَیْبِۚ-فَمَنِ اعْتَدٰى بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهٗ عَذَابٌ اَلِیْمٌ(۹۴)
اے ایمان والوں ضرور اللہ تمہیں آزمائے گا ایسے بعض شکار سے جس تک تمہارا ہاتھ اور نیزے پہنچیں (ف۲۲۶) کہ اللہ پہچان کرادے ان کی جو اس سے بن دیکھے ڈرتے ہیں، پھر اس کے بعد جو حد سے بڑھے (ف۲۲۷) اس کے لئے دردناک عذاب ہے،

قال الآلوسى: هذه الآية- كما خرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حيان- نزلت في عمرة الحديبية، حيث ابتلاهم الله- تعالى- بالصيد وهم محرمون، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم فهموا بأخذها فنزلت .وقوله: لَيَبْلُوَنَّكُمُ أى: ليختبرنكم وليمتحننكم من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان.ولفظ الصيد في قوله: مِنَ الصَّيْدِ مصدر بمعنى المصيد أى: ما يصطادونه.والمعنى: يا أيها الذين آمنوا ليختبرن الله- سبحانه- إيمانكم ومبلغ قوته بأن يرسل إليكم وأنتم محرمون شيئا من الصيد الذي تحبونه، بحيث يكون في متناول أيديكم ورماحكم.وقوله: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ جواب قسم محذوف والتقدير: والله ليعاملنكم سبحانه معاملة المختبر ليتبين المطيع من العاصي.وأكد- سبحانه- هذا الخبر بلام القسم ونون التوكيد للإشارة إلى أهمية هذا الاختبار حتى يسارعوا إلى طاعته- سبحانه وامتثال أمره.والتنوين في قوله بِشَيْءٍ للتقليل والتحقير. وإنما امتحنوا بهذا الشيء الصغير، تنبيها إلى أن من لم يثبت ويعصم نفسه عن ارتكاب هذه الأشياء الصغيرة فإنه لن يثبت أمام التكاليف الكبيرة.ويمكن أن يقال، إن التنوين هنا للتعظيم باعتبار الجزاء الأليم المترتب على الاعتداء على الصيد في حال الإحرام.قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما معنى التقليل والتصغير في قوله: بشيء من الصيد؟قلت: قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين- كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال- وأنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشد منه» .وقوله: بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ هو موضع الاختبار ومِنَ في قوله مِنَ الصَّيْدِ لبيان الجنس. أو التبعيض، لأن المراد صيد البر دون البحر، وصيد الإحرام دون صيد الإحلال.ومعنى تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ تستطيع أيديكم أن تأخذ هذا الصيد بسهولة ويسر إذا كان صغيرا وقريبا منكم، وتستطيع رماحكم أن تناله إذا كان كبيرا أو بعيدا بعدا نسبيا منكم.وخص الأيدى والرماح بالذكر، لأن معظم التصرفات التي تتعلق بالصيد تكون بالأيدى، ولأن معظم الآلات التي تستعمل في الصيد تكون الرماح.وقوله: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ تعليل قصد به بيان الحكمة من وراء الابتلاء والاختبار.والمراد بالعلم في قوله: لِيَعْلَمَ اللَّهُ.. إظهار ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته، حتى يتميز الخبيث من الطيب.والمعنى: اختبرناكم أيها المؤمنون بنوع من البلايا- وهو تحريم صيد البر صغارا وكبارا- وأنتم محرمون أو في الحرم، ليظهر ما علمه أزلا-- سبحانه- من أهل طاعته ومعصيته، وبذلك يتميز للناس الخبيث من الطيب، ويعرف الشخص الذي يخاف الله ويراقبه- مع أنه لم ير الله- سبحانه- من الشخص الذي لا يخافه بالغيب.قال الجمل: وقوله بِالْغَيْبِ حال من فاعل يخافه، أى: يخاف الله حالة كونه غائبا عن الله ومعنى كون العبد غائبا عن الله، أنه لم ير الله تعالى.أو حال من المفعول. أى: يخاف الله حال كونه- تعالى- ملتبسا بالغيب عن العبد، أى غير مرئى له .وقوله: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ بيان لسوء عاقبة المخالف لأوامر الله، والمتجاوز لحدوده.واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى ما بينه- سبحانه- لعباده من أحكام.والمعنى: لقد اختبرناكم- أيها المؤمنون- بما اختبرناكم به، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه، فمن تعدى منكم حدود الله بعد هذا البيان والإعلام، فله عذاب شديد الآلام عظيم الإهانة، لأن التعدي بعد الإنذار، دليل على عدم المبالاة بأوامر الله ومن لم يبال بأوامر الله ساءت عاقبته وقبح مصيره. هذا، ولقد نجحت الأمة الإسلامية وخصوصا سلفها الصالح في هذا الاختبار فقد تجنب أبناؤها وهم محرمون أو في الحرم مصيد البر مهما أغراهم قربه منهم، وحبهم له على صيده والانتفاع به.بينما أخفق بنو إسرائيل فيما يشبه هذا الاختبار فقد نهاهم الله- تعالى- عن الصيد في يوم السبت، فكانت الأسماك تظهر لهم في هذا اليوم امتحانا من الله لهم، فما كان منهم إلا أن تحايلوا على صيدها، بأن حبسوها في يوم السبت ليصيدوها في غيره.. فاستحقوا من الله اللعنة والمسخ واستحقت الأمة الإسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس.ثم نهى- سبحانه- المؤمنين نهيا صريحا عن قتل الصيد وهم حرم وبين ما يجب على القاتل.وكرر تحذيره وتهديده لمن يتعدى حدوده فقال- تعالى-:
5:95
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا لَا تَقْتُلُوا الصَّیْدَ وَ اَنْتُمْ حُرُمٌؕ-وَ مَنْ قَتَلَهٗ مِنْكُمْ مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ یَحْكُمُ بِهٖ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْیًۢا بٰلِغَ الْكَعْبَةِ اَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسٰكِیْنَ اَوْ عَدْلُ ذٰلِكَ صِیَامًا لِّیَذُوْقَ وَ بَالَ اَمْرِهٖؕ-عَفَا اللّٰهُ عَمَّا سَلَفَؕ-وَ مَنْ عَادَ فَیَنْتَقِمُ اللّٰهُ مِنْهُؕ-وَ اللّٰهُ عَزِیْزٌ ذُو انْتِقَامٍ(۹۵)
اے ایمان والو! شکار نہ مارو جب تم احرام میں ہو (ف۲۲۸) اور تم میں جو اسے قصداً قتل کرے (ف۲۲۹) تو اس کا بدلہ یہ ہے کہ ویسا ہی جانور مویشی سے دے (ف۲۳۰) تم میں کہ دو ثقہ آدمی اس کا حکم کریں (ف۲۳۱) یہ قربانی ہو کہ کعبہ کو پہنچتی (ف۲۳۲) یا کفار ہ دے چند مسکینوں کا کھانا (ف۲۳۳) یا اس کے برابر روزے کہ اپنے کام کا وبال چکھے اللہ نے معاف کیا جو ہو گزرا (ف۲۳۴) اور جو اب کرے گا اس سے بدلہ لے گا، اور اللہ غالب ہے بدلہ لینے والا،

قال القرطبي: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب عام لكل مسلم، وهذا النهى هو الابتلاء المذكور في قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ..الآية وروى أن أبا اليسر- واسمه عمرو بن مالك الأنصارى- كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت هذه الآية .والمراد بالصيد هنا المصيد، لأنه هو الذي يقع عليه القتل.وقوله حُرُمٌ جمع حرام. وهذا اللفظ يتناول المحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما وإن كان في الحل، كما يتناول من كان في الحرم وإن كان حلالا.قال ابن جرير: والحرم جمع حرام، يقال: هذا رجل حرام، وهذه امرأة حرام، فإذا قيل محرم، قيل للمرأة محرمة والإحرام: هو الدخول فيه. يقال: أحرم القوم: إذا دخلوا في الشهر الحرام أو في الحرم، فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون»والصيد المنهي عن قتله هنا: صيد البر، لأن صيد البحر قد أحله الله بعد ذلك بقوله:أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ الآية.والنهى كما يتناول قتل صيد البر بإزهاق روحه بأى طريق من طرق الإزهاق، يتناول- أيضا- قتله بطريق التسبب كالإشارة إليه مثلا. ويتناول كذلك حظر الصيد نفسه، لقوله- تعالى- في مطلع هذه السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.ولقوله- تعالى- بعد هذه الآية التي معنا: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً.فالنهي في قوله- تعالى- لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يتناول القتل عن طريق المباشرة أو التسبب كما يتناول أى عمل يؤدى إلى صيد الحيوان.وإنما كان النهى في الآية منصبا على القتل، لأنه هو المقصود الأعظم من وراء مباشرة عملية الصيد إذ الصائد يريد قتل المصيد لكي يأكله في الغالب.هذا، وقد اختلف الفقهاء في المصيد الذي يحرم صيده على المحرم.فذهب بعضهم إلى أن المراد به ما يصاد مطلقا سواء أكان مأكولا أم غير مأكول ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاء النص باستثنائه، وذلك لأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول.وبهذا الرأى قال الأحناف ومن وافقهم من الفقهاء.ويرى الشافعية أن المراد به المأكول فقط، لأن الصيد إنما يطلق على ما يحل أكله فحسب.وقد انبنى على هذا الخلاف أن من قتل وهو محرم سبعا، فالأحناف يرون أنه يجب عليه الجزاء الذي فصلته الآية. والشافعية يرون أنه لا يجب عليه ذلك.قال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.هذا تحريم منه- تعالى- لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهى عن تعاطيه فيه. وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول ولو ما تولد منه ومن غيره، فأما غير المأكول من حيوانات البر، فعند الشافعى يجوز قتلها، والجمهور على تحريم قتلها أيضا ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» - وفي رواية الحية بدل العقرب- ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور: الذئب والسبع والنمر والفهد، لأنها أشد ضررا منه» .وقوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ بيان لما يجب على المحرم في حال قتله للصيد.قال الآلوسى ما ملخصه: والمعنى: وَمَنْ قَتَلَهُ كائنا مِنْكُمْ حال كونه مُتَعَمِّداً أى: ذاكرا لإحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله، ومثله من قتله خطأ.والفاء في قوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ جزائية إذا اعتبرنا مَنْ شرطية وهو الظاهر، وإذا اعتبرناها موصولة تكون زائدة لشبه المبتدأ بالشرط.وقوله: فَجَزاءٌ بالرفع والتنوين- مبتدأ، ومِثْلُ مرفوع على أنه صفته، والخبر محذوف. أى: فعليه جزاء مماثل لما قتله، وبهذا قرأ الكوفيون ويعقوب. وقرأ باقى السبعة برفع جزاء بدون تنوين- ويجر «مثل» بالإضافة.وقد خرجت هذه القراءة بتخريجات منها: أن تعتبر الإضافة بيانية أى: جزاء هو مثل ما قتل .وظاهر الآية يفيد ترتيب الجزاء على القتل العمد، إلا أنهم اختلفوا هنا على أقوال ذكرها القرطبي فقال ما ملخصه:قوله- تعالى-: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ذكر- سبحانه- المتعمد ولم يذكر المخطئ ولا الناسي، والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام.والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا. والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه. واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال:الأول: ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا.الثاني: أن قوله مُتَعَمِّداً خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة.الثالث: أنه لا شيء على المخطئ والناسي وبه قال الطبري وأحمد- في إحدى روايته- وطاوس وداود وأبو ثور..الرابع: أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان، وبه قال مالك والشافعى وأبو حنيفة وأصحابهم.قال الزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة. فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال: «هي صيد» وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ.الخامس: أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه- وهو قول مجاهد-، لقوله- تعالى- بعد ذلك وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ قال: ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة.قال: فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه» .ويبدو لنا أن القول الرابع الذي قال به الأئمة أبو حنيفة والشافعى، ومالك أقرب إلى الصواب، لأن تخصيص العمد بالذكر في الآية، لأجل أن يرتب عليه الانتقام عند العود، لأن العمد هو الذي يترتب عليه ذلك دون الخطأ، ولأن جزاء الخطأ معروف من الأدلة التي قررت التسوية في ضمان المتلفات، إذ من المعروف أن من قتل صيد إنسان عمدا أو خطأ في غير الحرم فعليه جزاؤه، فهذا حكم عام في جميع المتلفات ومادام الأمر كذلك كان الجزاء ثابتا على المحرم متى قتل الصيد سواء أكان قتله له عمدا أم خطأ.وقد اختلف العلماء- أيضا في المراد بالمثل في قوله- تعالى- وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ.فجمهور الفقهاء يرون أن المراد بالمثل النظير. أى أن الجزاء يكون بالمماثلة بين الصيد المقتول وبين حيوان يقاربه في الحجم والمنظر من النعم وهي الإبل والبقر والغنم.ومن حججهم أن الله أوجب مثل المصيد المقتول مقيدا بكونه من النعم، فلا بد أن يكون الجزاء مثلا من النعم، وعليه فلا تصح القيمة لأنها ليست من النعم.قال ابن كثير: وفي قوله- تعالى-: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ دليل لما ذهب إليه مالك والشافعى وأحمد من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسى، خلافا لأبى حنيفة حيث أوجب القيمة سواء أكان الصيد المقتول مثليا أم غير مثلي.قال: وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه. وإن شاء اشترى به هديا.والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع، فإنهم حكموا في النعامة ببدنه، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز. وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمن يحمل إلى مكة» .ثم بين- سبحانه- بعد ذلك طريق معرفة الجزاء، ومآله، وأنواعه، فقال- تعالى- يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً.والضمير في قوله بِهِ يعود على الجزاء المماثل للمصيد المقتول.وقوله: هَدْياً حال من جزاء، أو منصوب على المصدرية. أى يهديه هديا.والهدى: اسم لما يذبح في الحج لإهدائه إلى فقراء مكة.وقوله بالِغَ الْكَعْبَةِ صفة لقوله هَدْياً لأنه إضافته لفظية.وقوله: أَوْ كَفَّارَةٌ معطوف على جزاء. وأو للتخيير، وكذلك في قوله أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً.والعدل- بالفتح- ما عادل الشيء من غير جنسه. وأما بالكسر فما عادله من جنسه. وقيل هما سيان ومعناهما المثل مطلقا.والمعنى الإجمالى للآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون، ومن قتل منكم الصيد وهو بهذه الصفة فعليه جزاء من النعم مماثل الصيد المقتول ومقارب له في الخلقة والمنظر، أو في القيمة، وهذا الجزاء المماثل للصيد المقتول يحكم به رجلان منكم تتوافر فيهما العدالة والخبرة حتى يكون حكمهما أقرب إلى الحق والصواب، ويكون هذا الجزاء الواجب على قاتل الصيد هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أى: يصل إلى الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه، أو يكون على قاتل الصيد كَفَّارَةٌ هي طَعامُ مَساكِينَ بأن يطعمهم من غالب قوت البلد ما يساوى قيمة هذا الجزاء المماثل للصيد المقتول بحيث يعطى لكل مسكين نصف صاغ من بر أو صاعا من غيره، أو يكون عليه ما يعادل هذا الطعام صياما، بأن يصوم عن طعام كل مسكين يوما، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يوما كاملا.وإذا لم يجد للصيد المقتول مماثلا كالعصفور وما يشبهه فعليه قيمته، يشترى بها طعاما لكل مسكين مد، أو يصوم عن كل مد يوما.وبهذا نرى أن المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاء من النعم مماثل للصيد المقتول في الخلقة والمنظر أو عليه ما يساوى قيمة هذا الجزاء طعاما، أو عليه ما يعادل هذا الطعام صياما. وهذا ما يقول به جمهور الفقهاء.أما أبو حنيفة فيرى- كما سبق أن أشرنا- أن المماثلة إنما تعتبر ابتداء بحسب القيمة، فيقوم الصيد المقتول من حيث هو، فإن بلغت قيمته قيمة هدى يخير الجاني بين أن يشترى بها هديا يهدى إلى الكعبة ويذبح في الحرم ويتصدق بلحمه على الفقراء، وبين أن يشترى بها طعاما للمساكين، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما.والمراد من الكعبة هنا الحرم وإنما خصت بالذكر تعظيما لها.قال بعض العلماء: ولا شك أن التخيير هنا ليس على حقيقته، إنما هو ترتيب مراتب على حسب القدرة على كل رتبة، فالأصل بلا ريب شراء هدى وذبحه في الحرم، فإن تعذر ذلك كان الطعام، فإن تعذر كان الصيام.هذا هو الظاهر عند الحنفية. وروى عنهم أنهم قالوا بالتخيير إذا عرفت القيمة بين الذبح عند الكعبة وبين إطعام المساكين، وبين الصوم.وعندي أن الترتيب حسب القدرة أوضح وذلك هو رأى أحمد وزفر.والمذاهب الأخرى تلتقي في الجملة مع المذهب الحنفي بيد أنها تعتبر المماثلة في الأوصاف.وعندي أن المذهب الحنفي أوضح وأسهل تطبيقا، وأدق في تعرف المثل وقد اضطروا إليه عند استبدال الطعام بالذبح، إذ لا يعرف مقدار الطعام إلا بمعرفة القيمة» .هذا، وقوله- تعالى- لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ تعليل لإيجاب الجزاء السابق على المحرم القاتل للصيد عن تعمد.وقوله لِيَذُوقَ من الذوق وهو إدراك المطعومات باللسان لمعرفة ما فيها من حلاوة أو مرارة أو غير ذلك. والمراد به هنا: إدراك ألم العذاب على سبيل الاستعارة.والوبال في الأصل: الثقل والشدة والوخامة. ومنه طعام وبيل إذا كان ثقيلا على المعدة.ومرعى وبيل وهو الذي يتأذى به بعد أكله.والمراد به هنا: سوء عاقبة فعله.والمعنى: شرعنا ما شرعنا من جزاء على المحرم في حالة قتله للصيد، ليدرك سوء عاقبة قتله وفعله السيئ، وليعلم أن مخالفته لأمر الله تؤدى إلى الخسارة في الدنيا والآخرة.قال الإمام الرازي: وإنما سمى الله- تعالى- ذلك وبالا، لأنه خيره بين ثلاثة أشياء: اثنان منها توجب تنقيص المال- وهو ثقيل على الطبع- وهما: الجزاء بالمثل والإطعام. والثالث:يوجب إيلام البدن وهو الصوم، وذلك أيضا ثقيل على الطبع.والمعنى أنه- تعالى- أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام» .وقوله: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله بعباده ولطفه بهم، لأنه- سبحانه- لم يؤاخذهم على قتلهم للصيد وهم محرمون قبل تحريمها والنهى عنها.ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بتهديد شديد لمن تتكرر منه المخالفة لأوامر الله ونواهيه فقال: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ.أى: ومن عاد وهو محرم إلى قتل الصيد بعد ورود النهى عن ذلك فإن الله- تعالى- ينتقم منه ويعاقبه عقابا شديدا فهو- سبحانه- العزيز الذي لا يغالب ولا يقاوم، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه بأى وسيلة من الوسائل.هذا وجمهور العلماء على أن المحرم يتكرر الجزاء عليه في قتل الصيد بتكرر القتل وأن عقوبة الآخرة- وهي انتقام الله من الجاني- لا تمنع وجوب الجزاء عليه في الدنيا.قال ابن كثير. ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد.وقال على بن طلحة عن ابن عباس قال: من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم يحكم عليه فيه كلما قتله. فإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة. فإن عاد يقال له ينتقم الله منك» .وبذلك نرى الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين من التعرض للصيد في حالة إحرامهم، وبينت الجزاء المترتب على من يفعل ذلك، وهددت من يستهين بحدود الله بالعذاب الشديد.ثم بين- سبحانه- ما أحله للمحرم وما حرمه عليه مما يتعلق بالصيد فقال- تعالى-:
5:96
اُحِلَّ لَكُمْ صَیْدُ الْبَحْرِ وَ طَعَامُهٗ مَتَاعًا لَّكُمْ وَ لِلسَّیَّارَةِۚ-وَ حُرِّمَ عَلَیْكُمْ صَیْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًاؕ-وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِیْۤ اِلَیْهِ تُحْشَرُوْنَ(۹۶)
حلال ہے تمہارے لیے دریا کا شکار اور اس کا کھانا تمہارے اور مسافروں کے فائدے کو اور تم پرحرام ہے خشکی کا شکار (ف۲۳۵) جب تک تم احرام میں ہو اور اللہ سے ڈرو جس کی طرف تمہیں اٹھنا ہے،

والمراد بصيد البحر: ما توالده ومثواه في الماء. والمراد بالبحر: ما يشمل جميع المياه العذبة والملحة سواء أكانت أنهارا أم غدرانا أم غيرهما.والمراد بالصيد: الاصطياد أو ما يصاد منه.والمراد بطعامه: ما يطعم من صيده. وهو عطف على صَيْدُ من عطف الخاص على العام، ويكون الحل الواقع على الصيد المقصود به حل الانتفاع مطلقا ثم عطف عليه ما يفيد حل الأكل خاصة من باب إظهار الامتنان بالإنعام بما هو قوام الحياة وهو الأكل فإن صيد البحر قد يقصد لمنافع أخرى غير الأكل، كالانتفاع بزيت بعض أنواع المصيد منه.ويرى ابن أبى ليلى أن المراد بالصيد والطعام المعنى المصدري، وقدر مضافا في صيد البحر، وجعل الضمير في طَعامُهُ يعود إليه لا إلى البحر، فيكون المعنى:أحل لكم صيد حيوان البحر كما أحل لكم أن تأكلوا ما صدتموه منه. فهو يرى حل الأكل من جميع حيوانات البحر.وقيل: بل المراد بصيد البحر ما أخذ بحيلة، وبطعامه ما ألقاه البحر من حيواناته أو انحسر عنه الماء وأخذه الآخذ من غير حيلة أو معالجة.وقوله: مَتاعاً مفعول لأجله.وقوله: وَلِلسَّيَّارَةِ متعلق بأحل. وهو جمع سيار باعتبار الجماعة.والمراد بالسيارة: القوم المسافرون.والمعنى: أحل الله لكم أيها المحرمون صيد البحر كما أحل لكم أكل ما يؤكل منه، لأجل تمتعكم وانتفاعكم بذلك في حال إقامتكم وفي حال سفركم فأنتم تتمتعون بهذه النعم مقيمين ومسافرين، وذلك يقتضى منكم الشكر لله لكي يزيدكم من هذه النعم.قال ابن كثير ما ملخصه: وقد استدل الجمهور على حل ميتة البحر بهذه الآية وبما أخرجه الشيخان عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة وهم ثلاثمائة- قال: وأنا فيهم- قال فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فنى الزاد. قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت كبير. فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: هو رزق أخرجه الله لكم. هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله» .وأخرج الإمام أحمد وأهل السنن ومالك والشافعى عن أبى هريرة: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله!! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. فإن توضأنا به عطشنا أنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» .وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» .رواه الشافعى وأحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وله شواهد.وقد احتج بهذه الآية أيضا من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ولم يستثن من ذلك شيئا. وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها.وقال أبو حنيفة: لا يؤكل ما مات في البحر كما لا يؤكل ما مات في البر لعموم قوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ .ثم أكد- سبحانه- حرمة صيد البر للمحرمين فقال. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً والمراد بصيد البر: ما كان توالده ومأواه في البر مما هو متوحش بأصل خلقته.وبعض الفقهاء يرى أن التحريم هنا منصب على الفعل، وعليه فالآية إنما تدل على حرمة الاصطياد فقط، وأما الأكل منه- أى من الصيد- بأن يصيده حلال فلا تدل عليه الآية.وبعضهم يرى أن التحريم هنا منصب على ذات الصيد. وعليه فتكون الآية تقتضي تحريم جميع وجوه الانتفاع بالصيد إلا ما يخرجه الدليل.وقد بسط القرطبي الكلام في هذه المسألة فقال ما ملخصه: قوله- تعالى- وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً التحريم ليس صفة للأعيان وإنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ أى فعل الصيد وهو المنع من الاصطياد.أو يكون الصيد بمعنى المصيد وهو الأظهر لإجماع العلماء أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه، ولا اصطياده، ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه.وقد اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد، فقال مالك والشافعى وأحمد. إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله، لما رواه الترمذي والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» وقال أبو حنيفة: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال- سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله- تعالى- لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فحرم صيده وقتله على المحرمين دون ما صاده غيرهم.وروى عن على بن أبى طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد. لحديث الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهى قال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» خرجه الأثمة واللفظ لمالك .ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالدعوة إلى خشيته وتقواه وبالتذكير بالحشر وما فيه من حساب وعقاب فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.أى: واتقوا الله في كل أحوالكم، وقفوا عند حدوده فلا تتجاوزوها، واعلموا أن مرجعكم وحشركم إليه وحده، وسيجازيكم على أعمالكم التي عملتموها في دنياكم.وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أحلت للمحرم صيد البحر- فضلا من الله ورحمة- لأن البحر بعيد عن الحرم، والمحرم قد يحرم في منطقة قد تكون فيها بحار فتحريم صيد البحر عليه قد يؤدى إلى تعبه وإجهاده دون أن تكون هناك فائدة تعود على سكان الحرم.أما الحكمة من وراء تحريم الصيد البرى على المحرمين فمنها: أن البيت الحرام بواد غير زرع، وسكان هذه المنطقة من وسائل حياتهم الصيد، فلو أبيح الصيد للمحرمين القادمين لزيارة البيت من كل فج عميق.. لأدى ذلك إلى قتل الكثير من الصيد البرى الذي هو مصدر انتفاع للقاطنين في تلك المناطق. وفضلا عن كل ذلك ففي تحريم الصيد البرى الذي يعيش في مناطق الحرم، تكريم لهذه المناطق، وتشريف لها، وإعلاء لشأنها ومكانتها. فهي أماكن الأمان والاطمئنان والسلام. لا للبشر وحدهم، بل للبشر ولغير البشر من مخلوقات الله التي نهت شريعته عن التعرض لها بسوء.وبعد هذا النهى الشديد للمحرمين عن صيد البر وهم على هذه الحالة بين- سبحانه- المنزلة السامية للكعبة التي هي أشرف مكان، وأصلحه لأمان الناس واطمئنانهم كما بين- سبحانه- مكانة الأشهر الحرم وما يقدم فيها من خيرات لسكان الحرم- فقال- تعالى-:
5:97
جَعَلَ اللّٰهُ الْكَعْبَةَ الْبَیْتَ الْحَرَامَ قِیٰمًا لِّلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَ الْهَدْیَ وَ الْقَلَآىٕدَؕ-ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ یَعْلَمُ مَا فِی السَّمٰوٰتِ وَ مَا فِی الْاَرْضِ وَ اَنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَیْءٍ عَلِیْمٌ(۹۷)
اللہ نے ادب والے گھر کعبہ کو لوگوں کے قیام کا باعث کیا (ف۲۳۶) اور حرمت والے مہینہ (ف۲۳۷) اور حرم کی قربانی اور گلے میں علامت آویزاں جانوروں کو (ف۲۳۸) یہ اس لیے کہ تم یقین کرو کہ اللہ جانتا ہے جو کچھ آسمانوں میں ہے اور جو کچھ زمین میں اور یہ کہ اللہ سب کچھ جانتا ہے،

قال الفخر الرازي: «اعلم أن اتصال هذه الآية- جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ بما قبلها هو ان الله- تعالى- حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم. فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير. فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة» .والكعبة في اللغة: البيت المكعب أى المربع. وقيل المرتفع.قال القرطبي: وقد سميت الكعبة كعبة، لأنها مربعة.. وقيل: إنما سميت كعبة لنتوئها وبروزها، فكل ناتئ بارز كعب، ومنه كعب القدم وكعوب الفتاة، وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها» .وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى فيتعدى لاثنين أو لهما الكعبة وثانيهما قياما ويحتمل أن يكون بمعنى خلق أو شرع فيتعدى لواحد وهو الكعبة ويكون قوله: قِياماً حال من البيت الحرام.والبيت الحرام: بدل من الكعبة أو عطف بيان جيء به على سبيل المدح والتعظيم ووصف بالحرام إيذانا بحرمته وإشعارا بشرفه، حيث حرم- سبحانه- القتل فيه، وجعله مكان أمان الناس واطمئنانهم.وقوله قِياماً أصله قواما فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.والقيام والقوام ما به صلاح الشيء، كما يقال: الملك العادل قوام رعيته. لأنه يدبر أمرهم ويردع ظالمهم، ويحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم.والمراد بالشهر الحرام: الأشهر الحرم على إرادة الجنس وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.وقيل المراد به شهر ذي الحجة فحسب، لأنه هو الذي تؤدى فيه فريضة الحج، فالتعريف للعهد وليس للجنس.والهدى: اسم لما يهدى إلى الحرم من حيوان ليتقرب بذبحه إلى الله تعالى- وهو جمع هدية- بسكون الدال- والقلائد جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء.فالمراد بالقلائد هنا الحيوانات ذوات القلائد التي تساق إلى الحرم لذبحها فيه، فيكون ذكر القلائد بعد الهدى من باب التخصيص بالذكر على سبيل الاهتمام بشأنها، لأن الثواب فيها أكثر.وقيل المراد بها: ما كان يفعله بعض الناس من وضع قلادة من شعر أو من غيره في أعناقهم عند ما يحرمون حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء.وقوله: وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ معطوف على ما قبله وهو الكعبة.والمعنى: اقتضت حكمة الله- تعالى- ورحمته بعباده أن يصير الكعبة التي هي البيت الحرام قِياماً لِلنَّاسِ أى به قوامهم في إصلاح أمورهم دينا ودنيا، وكذلك جعل الأشهر الحرم والهدى وخصوصا ما يقلد منه قياما للناس أيضا.وذلك لأن البيت الحرام الذي يأتى الناس إليه من كل فج عميق، يجدون في رحابه ما يقوى إيمانهم، ويرفع درجاتهم، ويغسل سيئاتهم، ويصلح من شئون دنياهم عن طريق تبادل المنافع، وبذل الأموال، والشعور بالأمان والاطمئنان، وتوثيق الصلات الدينية والدنيوية التي ترضى الله- تعالى-، وتجعلهم أهلا لفضله ورحمته.ولأن الأشهر الحرم تأتى للناس فتجعلهم يمتنعون عن القتال فيها، فتهدأ نفوسهم، ويحصل التالف والتزاور بعد التدابر والتقاطع والتعادي ولأن الهدى والقلائد التي يسوقها المحرمون إلى الحرم لذبحها فيها ما فيها من التوسعة على الفقراء. وإشاعة روح المحبة والتسامح والإخاء.ورحم الله الإمام القرطبي حيث يقول: «والحكمة في جعل الله- تعالى- هذه الأشياء قياما للناس، أن الله- سبحانه- خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتقاطع والسلب والغارة. فلم يكن بد في الحكمة الإلهية من وازع يزعهم- أى يزجرهم- عن التنازع، ويحملهم على التآلف، ويرد الظالم عن المظلوم، فقد روى مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن» .فجعل- سبحانه- الخليفة في الأرض حتى لا يكون الناس فوضى، وعظم في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه.ولما كان لهذا البيت موضع مخصوص- ومكان معين- لا يدركه كل مظلوم، فقد جعل- سبحانه- الأشهر الحرم ملجأ آخر. وقرر في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا- أى نفسا- ولا يطلبون فيها دما، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. ثم شرع لهم الهدى والقلائد، فكانوا إذا أخذوا بعيرا وأشعروه دما، أو علقوا عليه قلادة أو فعل ذلك الرجل بنفسه. لم يروعه أحد حيث لقيه» .واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.يعود على الجعل المذكور الذي هو تصيير البيت الحرام وما عطف عليه قياما للناس، أى صلاحا لأحوالهم الدينية والدنيوية.والمعنى: فعل الله- تعالى- ذلك لتعلموا أنه- سبحانه- يعلم علما تاما شاملا ما في السموات وما في الأرض، ولتوقنوا بأنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم، وهتاف أرواحهم. لأن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار ولجلب المصالح الدينية والدنيوية دليل على أنه- سبحانه- يعلم ما في السموات وما في الأرض. وعلى أنه بكل شيء عليم دون أن تخفى عليه خافية مما في هذا الكون: وكرر- سبحانه- «ما. وفي» في المعطوف والمعطوف عليه للإشارة إلى دقة العلم وشموله، وأنه- سبحانه- لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.وقوله وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعميم إثر تخصيص. للتأكيد وقدم الخاص على العام ليكون ذكر الخاص كالدليل على العام.قال الجمل: واسم الإشارة ذلِكَ فيه ثلاثة أوجه:أحدها: أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: الحكم الذي حكمناه ذلك لا غير.والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف أى: ذلك الحكم هو الحق لا غيره.والثالث: أنه منصوب بفعل مقدر يدل عليه السياق. أى: شرع الله ذلك. وهذا أقواها، لتعلق لام العلة به. وقوله لِتَعْلَمُوا منصوب بإضمار أن بعد لام كي. وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معطوف على ما قبله وهو أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ .
5:98
اِعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ شَدِیْدُ الْعِقَابِ وَ اَنَّ اللّٰهَ غَفُوْرٌ رَّحِیْمٌؕ(۹۸)
جان رکھو کہ اللہ کا عذاب سخت ہے (ف۲۳۹) اور اللہ بخشنے والا مہربان،

ثم رهب الله- تعالى- عباده من عقابه ورغبهم في ثوابه فقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.أى: اعلموا- أيها الناس- أن الله شديد العقاب لمن انتهك حرماته، وتجاوز حدوده، وأنه- سبحانه- واسع المغفرة والرحمة لمن أطاعه وتاب إليه توبة صادقة.وفي تصدير الآية الكريمة بفعل الأمر اعْلَمُوا تنبيه شديد إلى أهمية ما سيلقى عليهم من أمر أو نهى، حتى يستقر في قلوبهم، ويرسخ في نفوسهم، فيسهل عليهم تنفيذه.وجمع- سبحانه- بين الترهيب والترغيب، حتى يكون المؤمن بين الرجاء والخوف، فلا يقنط من رحمة الله ولا يجترئ على ارتكاب ما يغضبه- سبحانه-.
5:99
مَا عَلَى الرَّسُوْلِ اِلَّا الْبَلٰغُؕ-وَ اللّٰهُ یَعْلَمُ مَا تُبْدُوْنَ وَ مَا تَكْتُمُوْنَ(۹۹)
رسول پر نہیں مگر حکم پہنچانا (ف۲۴۰) اور اللہ جانتا ہے جو تم ظاہر کرتے اور جو تم چھپاتے ہو(ف۲۴۱)

وبعد هذا الترغيب والترهيب بين- سبحانه- وظيفة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ.وأصل البلاغ- كما يقول القرطبي- البلوغ، وهو الوصول. يقال: بلغ يبلغ بلوغا وأبلغه إبلاغا. وبلغه تبليغا، ومنه البلاغة، لأنها إيصال المعنى إلى النفس في أحسن صورة من اللفظ» .أى: ليس على رسولنا- أيها الناس- إلا تبليغ ما أمرناه بتبليغه إليكم وتوصيل ما كلفناه بتوصيله لكم، وهو لم يقصر في ذلك، ولم يأل جهدا في نصحكم وإرشادكم فأطيعوه لتسعدوا.واعلموا أن الله- تعالى- يعلم ما تظهرون وما تخفون من خير أو شر، وسيجازيكم بما تستحقون يوم القيامة.فالآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من ترغيب وترهيب، ومن تبشير وإنذار، وتصريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه تبليغ ما كلفه الله بتبليغه إلى الناس، وليس عليه بعد ذلك هدايتهم أو ضلالهم، وإنما الله وحده هو الذي بيده ذلك، وهو الذي بيده حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم.
5:100
قُلْ لَّا یَسْتَوِی الْخَبِیْثُ وَ الطَّیِّبُ وَ لَوْ اَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِیْثِۚ-فَاتَّقُوا اللّٰهَ یٰۤاُولِی الْاَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ۠(۱۰۰)
تم فرمادو کہ گندہ اور ستھرا برابر نہیں (ف۲۴۲) اگرچہ تجھے گندے کی کثرت بھائے، تو اللہ سے ڈرتے رہو اے عقل والو! کہ تم فلاح پاؤ،

ثم صرح- سبحانه- بعد ذلك بأنه لا يستوي عنده الخبيث والطيب فقال: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ.والخبيث- كما يقول الراغب- ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أم معقولا، وأصله الرديء الدخلة الجاري مجرى خبث الحديد كما قال الشاعر:سبكناه ونحسبه لجينا ... فأبدى الكير عن خبث الحديدوذلك يتناول الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح في الفعال .والطيب: الشيء الحسن الذي أباحته الشريعة ورضيته العقول السليمة، ويتناول الاعتقاد الحق، والمقال الصدق، والعمل الصالح.والمعنى: قل- يا محمد- للناس: إنه لا يستوي عند الله ولا عند العقلاء القبيح والحسن من كل شيء، لأن الشيء القبيح- في ذاته أو في سببه أو في غير ذلك من أشكاله- بغيض إلى الله وإلى كل عاقل، وسيكون مصيره إلى الهلاك والبوار.أما الشيء الطيب الحسن فهو محبوب من الله ومن كل عاقل، ومحمود العاقبة دنيا ودينا.وقوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ زيادة في التنفير من الشيء الخبيث، وحض على التمسك بما هو طيب.أى: لا يستوي في ميزان الله ولا في ميزان العقلاء الخبيث والطيب، حتى ولو كان الفريق الخبيث كثير المظهر، براق الشكل، تعجب الناظرين هيئته فلا تغتر به أيها العاقل، ولا تؤثر في نفسك كثرته وسطوته فإنه مهما كثر وظهر وفشا. فإنه سيئ العاقبة، سريع الزوال، لذته تعقبها الحسرة، وشهوته تتلوها الندامة، وسطوته تصحبها الخسارة والكراهية، وطريقه المليئة بالدنس والقذر يجب أن يوصد أبوابها الأخيار الشرفاء.أما الفريق الطيب أو الشيء الطيب فهو محمود العاقبة، لذته الحلال يباركها الله، وثماره الحسنة تؤيدها شريعته وتستريح لها العقول السليمة، والقلوب النقية من كل دنس وباطل وطريقه المستقيم- مهما قل- سالكوه- هو الطريق الذي يوصل إلى كل خير وفلاح.ولا شك أن العقل عند ما يتخلص من الهوى سيختار الطيب على الخبيث لأن في الطيب سعادة الدنيا والآخرة.وما أحسن قول أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها: «ما تمتع الأشرار بشيء إلا وتمتع به الأخيار، وزادوا عليهم رضا الله- عز وجل-.والفاء في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ للافصاح عن كلام مقدر، والتقدير:إذا كان الأمر كما بينت لكم- أيها الناس- من أنه لا يستوي الخبيث والطيب، لأن أهل الخبيث سيعاقبون ويندمون مهما كثروا وأهل الطيب سيثابون ويفرحون، إذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله يا أصحاب العقول السليمة بأن تجتنبوا كل ما هو خبيث، وتقلبوا على كل ما هو طيب، لعلكم بسبب هذه التقوى والخشية من الله تنالون الفلاح والنجاح في دنياكم وآخرتكم.والجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد ما مر من الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي.قال الفخر الرازي: لما ذكر- سبحانه- هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة، والتحذيرات من المعصية. أتبعها بوجه آخر يؤكدها فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:أى: فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجليلة والتعريفات القوية، ولا تقدموا على مخالفته لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة .وبعد هذا الحديث المستفيض عن الحلال والحرام في شريعة الإسلام اتجهت آيات السورة الكريمة إلى تربية المسلمين وإرشادهم إلى الآداب التي يجب أن يتمسكوا بها ونهيهم عن الأسئلة التي لا خير يرجى من وراء إثارتها.. فقال تعالى:
5:101
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا لَا تَسْــٴَـلُوْا عَنْ اَشْیَآءَ اِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْۚ-وَ اِنْ تَسْــٴَـلُوْا عَنْهَا حِیْنَ یُنَزَّلُ الْقُرْاٰنُ تُبْدَ لَكُمْؕ-عَفَا اللّٰهُ عَنْهَاؕ-وَ اللّٰهُ غَفُوْرٌ حَلِیْمٌ(۱۰۱)
اے ایمان والو! ایسی باتیں نہ پوچھو جو تم پر ظاہر کی جائیں تو تمہیں بری لگیں (ف۲۴۳) اور اگر انہیں اس وقت پوچھو گے کہ قرآن اتر رہا ہے تو تم پر ظاہر کردی جائیں گی، اللہ انہیں معاف کرچکا ہے (ف۲۴۴) اور اللہ بخشنے والا حلم والا ہے،

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات متعددة، منها ما حكاه القرطبي في قوله: روى البخاري ومسلم وغيرهما- واللفظ للبخاري- عن أنس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله من أبى؟ قال: «أبوك فلان»وخرج البخاري أيضا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «فو الله لا تسألونى عن شيء إلا أخبرتكم به مادمت في مقامي هذا» فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال «النار» فقام عبد الله بن حذافة- وكان إذا لا حي يدعى إلى غير أبيه- فقال من أبى يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة..وروى الدّارقطنيّ والترمذي عن على رضى الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت.فقالوا: أفي كل عام؟ قال: «لا ولو قلت نعم لوجبت» فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ.. الآية.وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.ثم قال القرطبي: ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع، فيكون السؤال قريبا بعضه من بعض» .والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله حق الإيمان، لا تسألوا نبيكم صلى الله عليه وسلم أو غيره، عن أشياء تتعلق بالعقيدة أو بالأحكام الشرعية أو بغيرهما. هذه الأشياء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ وتظهر تَسُؤْكُمْ أى:تغمكم وتحزنكم وتندموا على السؤال عنها لما يترتب عليها من إحراجكم، ومن المشقة عليكم، ومن الفضيحة لبعضكم.فالآية الكريمة- كما يقول ابن كثير- تأديب من الله لعباده المؤمنين، ونهى لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها، لأنها إن ظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم، وشق عليهم سماعها، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، فإنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» .وقد وجه- سبحانه- النداء إليهم بصفة الإيمان، لتحريك حرارة العقيدة في نفوسهم، حتى يستجيبوا بسرعة ورغبة إلى ما كلفوا به.وقوله: أَشْياءَ اسم جمع من لفظ شيء، فهو مفرد لفظا جمع معنى كطرفاء وقصباء- وهذا رأى الخليل وسيبويه وجمهور البصريين-.ويرى الفراء أن أشياء جمع لشيء. وهو ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة، ومتعلق بقوله: تَسْئَلُوا.ومفعول تَسْئَلُوا محذوف للتعميم. أى: لا تسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تسألوا غيره عن أشياء لا فائدة من السؤال عنها، بل إن السؤال عنها قد يؤدى إلى إحراجكم وإلى المشقة عليكم.وقوله: إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها.وعبر «بإن» المفيدة للشك وعدم القطع بوقوع الشرط والجزاء للإشارة إلى أن هذا الشك كاف في تركهم للسؤال عن هذه الأشياء، فإن المؤمن الحق يبتعد عن كل ما لا فائدة من ورائه من أسئلة أو غيرها.وقوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ معطوف على ما قبله وهو قوله: إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.والضمير في قوله عَنْها يعود على أَشْياءَ وحِينَ ظرف زمان منصوب بالفعل تَسْئَلُوا.والمعنى: لا تكثروا- أيها المؤمنون- من الأسئلة التي لا خير لكم في السؤال عنها، وإن تسألوا عن أشياء نزل بها القرآن مجملة، فتطلبوا بيانها تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها.قال الفخر الرازي: السؤال على قسمين:أحدهما: السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه. فهذا السؤال منهى عنه بقوله: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.والنوع الثاني من السؤال: السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فهاهنا السؤال واجب، وهو المراد بقوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ.والفائدة في ذكر هذا القسم، أنه لما منع في الجملة الأولى من السؤال، أو هم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه، فذكر ذلك تمييزا لهذا القسم عن ذلك القسم.فإن قيل: إن قوله وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها هذا الضمير عائد على الأشياء المذكورة في قوله:لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ فكيف يعقل في أَشْياءَ بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعا وجائزا معا؟قلنا: الجواب عنه من وجهين:الأول: جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعا قبل نزول القرآن بها ومأمورا به بعد نزول القرآن بها. والثاني: أنهما وإن كانا نوعين مختلفين، إلا أنهما في حكم شيء واحد، فلهذا حسن اتحاد الضمير، وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين» :وقال القرطبي: قوله- تعالى- وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فيه غموض.وذلك أن في أول الآية النهى عن السؤال، ثم قال: وَإِنْ تَسْئَلُوا.. إلخ. فأباحه لهم.فقيل: المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه، فحذف المضاف ولا يصح حمله على غير الحذف.قال الجرجانى: الكناية في «عنها» ترجع إلى أشياء أخر، كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ يعنى آدم، ثم قال: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً أى: ابن آدم، لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال.فالمعنى: وإن تسألوا عن أشياء- أخر- حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم فقد أباح- سبحانه- هذا النوع من السؤال» .والضمير في قوله عَفَا اللَّهُ عَنْها يعود إلى أشياء، والجملة في محل جر صفه أخرى لأشياء.أى: أن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها هي مما عفا الله عنه- رحمة منه وفضلا- حيث لم يكلفكم بها. ولم يفضحكم ببيانها.ويجوز أن يعود الضمير إلى الأسئلة المدلول عليها بقوله لا تَسْئَلُوا فتكون الجملة مستأنفة، ويكون المعنى: عفا الله عن أسئلتكم السالفة التي سألتموها قبل النهى، وتجاوز- سبحانه- عن معاقبتكم عليها رحمة منه وكرما فمن الواجب عليكم بعد ذلك ألا تعودوا إلى مثلها أبدا.قال صاحب المنار: ولا مانع عندنا يمنعنا من إرادة المعنيين معا. فإن كل ما تدل عليه عبارات القرآن من المعاني الحقيقة والمجازية والكناية يجوز عندنا أن يكون مرادا منها مجتمعة تلك المعاني أو منفردة ما لم يمنع مانع من ذلك كأن تكون تلك المعاني مما لا يمكن اجتماعها شرعا أو عقلا، فحينئذ لا يصح أن تكون كلها مرادة بل يرجح بعضها على بعض بطرق الترجيح المعروفة من لفظية ومعنوية.وقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ اعتراض تذييلى مقرر لعفوه- سبحانه- أى: عفا الله عن كل ذلك، وهو- سبحانه- واسع المغفرة والحلم والصفح ولذا لم يكلفكم بما يشق عليكم، ولم يؤاخذكم بما فرط منكم من أقوال وأعمال قبل النهى عنها.
5:102
قَدْ سَاَلَهَا قَوْمٌ مِّنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ اَصْبَحُوْا بِهَا كٰفِرِیْنَ(۱۰۲)
تم سے اگلی ایک قوم نے انہیں پوچھا (ف ۲۴۵) پھر ان سے منکر ہو بیٹھے،

ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر العبر والعظات والحكم من وراء نهيهم عن الأسئلة التي لا خير يرجى من ورائها فقال: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ.والضمير في قوله: قَدْ سَأَلَها يعود إلى الأسئلة المنهي عنها في قوله- تعالى- لا تَسْئَلُوا.أى: قد سأل قوم من قبلكم- أيها المؤمنون- أمثال هذه الأسئلة التي لا خير يرجى من ورائها، ثم أصبحوا بعد إظهار الإجابة عنها كافرين بها، لأنهم استقلوا الإجابة عما سألوا عنه، وتركوا العمل بما تطلعوا إلى معرفته ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى أشياء في قوله لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ على تقدير السؤال عن حكمها أو عن سببها أو عن أصلها، أو عن غير ذلك مما لا فائدة من السؤال عنه.إلى هذين المعنيين أشار الآلوسى بقوله: قَدْ سَأَلَها أى: المسألة، فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به. والمراد: سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال قَوْمٌ. وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير.وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير المضاف أيضا، فالضمير في موقع المفعول به، وذلك من باب الحذف والإيصال. والمراد: سأل عنها واختلف في تعيين القوم: فعن ابن عباس هم قوم عيسى: سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها وقيل: هم قوم صالح- عليه السلام- سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل: هم بنو إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم» :والذي نراه أن لفظ قَوْمٌ يشمل هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم الآلوسى كما يشمل غيرهم ممن سألوا عن أشياء لا خير من السؤال عنها فلما أجيبوا عما سألوا عنه لم يعملوا بما أخبروا به بل كفروا به وهجروه وأنكروه.ونكر- سبحانه- لفظ قَوْمٌ لأنه ليس الغرض تعيين ذواتهم، بل الغرض النهى عن التشبه بهم مهما كانت أجناسهم أو أزمانهم.وجاء العطف في الآية «بثم» المفيدة للتراخي، للدلالة على التباعد المعنوي بين اللجاجة في السؤال وبين الجحود والكفر بعد ذلك فكأنهم كانوا يريدون حكما يناسب أهواءهم فلما جاءهم الحكم الذي لا يهوونه كفروا به.وقوله ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ يؤذن بأنهم قبل السؤال عن تلك الأشياء أو قبل الخوض في تلك الأسئلة لم يكونوا كافرين، ولكنهم أصبحوا بسبب الخوض فيها والتفتيش عنها كافرين لأنهم لم يمتثلوا ما أجيبوا به، وإنما نبذوه وراء ظهورهم.وبذلك ترى أن الآيتين الكريمتين تنهيان المؤمنين في كل زمان ومكان عن الخوض في الأسئلة عن أشياء يسوءهم الكشف عنها، وضربتا لهم الأمثال بحال الذين من قبلهم ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالأسئلة عن التكاليف والأحكام، فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها، ولو سكتوا عن هذه الأسئلة التي لا فائدة من ورائها لكان خيرا لهم وأقوم.هذا، وقد ساق الشيخ القاسمى- رحمه الله- عقب تفسيره لهاتين الآيتين أقوالا متعددة للعلماء فيما يؤخذ منهما من آداب وأحكام، فقال- ما ملخصه-:قال ابن كثير: ظاهر الآية النهى عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته فالأولى الإعراض عنها:فقد روى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أبى هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» .وروى الدّارقطنيّ وأبو نعيم عن أبى ثعلبة الخشني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله- تعالى- فرض فرائض فلا تضيعوها. وحد حدودا فلا تعتدوها. وحرم أشياء فلا تقربوها. وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» .ثم قال الشيخ القاسمى: ثم رأيت في «موافقات» الامام الشاطبي في هذا الموضوع- مبحثا جليلا قال فيه.الإكثار من الأسئلة مذموم. والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح. وهذه مواضع يكره السؤال فيها:1- السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة: من أبى يا رسول الله؟فأجابه أبوك حذافة.2- أن يسأل عن شيء بينه القرآن، كما سأل الرجل عن الحج: أكل عام يا رسول الله؟ مع أن قوله- تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه.3- السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا- والله أعلم- خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله: «ذروني ما تركتكم» . وقوله: «وسكت عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها» .4- أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في النهى عن الأغلوطات .5- أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات، أو يكون السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال- كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.- فقد أخرج مسلم في صحيحه عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت عائشة: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة.6- أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وعلى ذلك يدل ما أخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب، فيهم عمرو بن العاص. حتى وردوا حوضا. فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض!! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا. فإنا نرد على السباع وترد علينا.7- السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله- تعالى- فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ.. الآية.وعن عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل.ومن ذلك سؤال رجل مالكا عن الاستواء فقد جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله «الرحمن على العرش استوى» كيف استوى؟قال راوي الحديث: فما رأيت مالكا وجد- أى غضب- في شيء كموجدته من مقالته.وعلاه الرحضاء- أى العرق- وأطرق القوم. فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول. والإيمان به واجب. والسؤال عنه بدعة وإنى أخاف أن تكون ضالا.8- السؤال عما شجر بين السلف الصالح، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب أن ألطخ بها لساني.9- سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة عند الخصام: وقد ذم القرآن هذا اللون من الناس فقال. وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وقال، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ . وفي الحديث:أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، ويقاس عليها ما سواها، وليس النهى فيها واحدا، بل فيها ما تشتد كراهيته ومنها ما يخفف، ومنها ما يحرم. ومنها ما يكون محل اجتهاد.والنهى في الآية مقيد بما لا تدعو إليه الحاجة من الأسئلة لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .وفي الحديث: «قاتلهم الله!! هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء الجهل بالسؤال» .ثم حكى- سبحانه- بعض الأوهام والخرافات التي كان أهل الجاهلية يتمسكون بها، ويعتبرونها من العادات الدينية الراسخة في نفوسهم، مع أنها لا أصل لها، وإنما هم الذين ابتدعوها ونسبوها إلى دين الله بدون دليل أو برهان فقال- تعالى:
5:103
مَا جَعَلَ اللّٰهُ مِنْۢ بَحِیْرَةٍ وَّ لَا سَآىٕبَةٍ وَّ لَا وَصِیْلَةٍ وَّ لَا حَامٍۙ-وَّ لٰكِنَّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا یَفْتَرُوْنَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَؕ-وَ اَكْثَرُهُمْ لَا یَعْقِلُوْنَ(۱۰۳)
اللہ نے مقرر نہیں کیا ہے کان چِرا ہوا اور نہ بجار اور نہ وصیلہ اور نہ حامی (ف۲۴۶) ہاں کافر لوگ اللہ پر جھوٹا افترا باندھتے ہیں (ف۲۴۷) اور ان میں اکثر نرے بے عقل ہیں(ف۲۴۸)

قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها. ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات- وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها- بين تعالى- أن ذلك باطل فقال: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وجعل هنا بمعنى شرع ووضع، ومِنْ زائدة لتأكيد النفي والبحيرة بزنة فعلية بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق.وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها، وتركوها لآلهتهم وامتنعوا عن نحرها وركوبها. وسموها «البحيرة» أى: مشقوقه الأذن.وعن قتادة أنهم كانوا إذا أنجبت خمسة أبطن نظروا في الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى دون أن يستعملها أحد في حلب أو ركوب.والسائبة بزنة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض. يقال ساب الماء إذا ترك يجرى.قال أبو عبيدة: كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر أو شفى من مرض. سيب ناقته وخلاها وجعلها كالبحيرة وتسمى السائبة.وقال محمد بن إسحاق: السائبة هي الناقة تلد عشرة أبطن إناث، فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها، ولا يشرب لبنها إلا ضيف.وعن ابن عباس: هي التي تسيب للأصنام، فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم.والوصيلة بزنة فعلية بمعنى فاعله. قال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين- أى اثنين اثنين- وإذا ولدت في آخرها أنثى وذكرا. قيل: وصلت أخاها. فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء، وتجرى مجرى السائبة في تركها دون أن يجز وبرها.وقال الزجاج: هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلا تذبح ويكون الذكر لآلهتهم.وقيل: هي الناقة تبكر بأنثى ثم تثنى بأنثى، فكانوا يتركونها للطواغيت، ويقولون: قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر.والحام اسم فاعل من حمى يحمى أى منع.قال الفراء: هو الفحل إذا لقح ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء أو مرعى.وقال أبو عبيدة: هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون: حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء أو مرعى.هذه بعض الأقوال التي ذكرها العلماء في تفسير هذه الألفاظ الأربعة، وهناك أقوال أخرى سواها تختلف عنها.ويبدو أن الخلاف في حقيقة هذه الأربعة مرجعه إلى اختلاف القبائل في بلاد العرب واختلاف الأماكن التي يقيمون فيها، والعادات الباطلة التي شبوا عليها وألفوها.هذا، وقد ذكر ابن كثير بعض الروايات التي وردت في تفسيره هذه الألفاظ، كما ذكر أول من أدخل هذه العادات الباطلة في بلاد العرب فقال ما ملخصه: «روى البخاري ومسلم والنسائي عن سعيد بن المسيب قال. البحيرة: هي التي تكون درها للطواغيت. والسائبة:هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. والحام: فحل الإبل يضرب الضرائب المعدود فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت ولا يحملون عليه شيئا.وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن لحى وإنى رأيته يجر أمعاءه في النار.والمعنى: ما شرع الله- تعالى- شيئا مما حرمه أهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وهذه الحيوانات إنما حرم أهل الجاهلية أكلها والانتفاع بها من عند أنفسهم بدون علم أو برهان، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح القاطع بسبب كفرهم وضلالهم وأكثرهم لا يفقهون الحق ولا يستجيبون له انقيادا لأهوائهم ورؤسائهم.والمراد بالذين كفروا في قوله وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ رؤساؤهم وزعماؤهم الذين يأتون لعوامهم بالأحكام الفاسدة والمزاعم الباطلة، وينسبونها إلى دين الله كذبا وزورا.والمراد بأكثرهم في قوله: وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ عوامهم ودهماؤهم الذين يسيرون خلف كل ناعق بدون تفكير أو تدبر.وقد عبر- سبحانه- بقوله وَأَكْثَرُهُمْ إنصافا للقلة العاقلة التي خالفت هذه الأوهام الباطلة، واستجابت للحق عند ظهوره.
5:104
وَ اِذَا قِیْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا اِلٰى مَاۤ اَنْزَلَ اللّٰهُ وَ اِلَى الرَّسُوْلِ قَالُوْا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَیْهِ اٰبَآءَنَاؕ-اَوَ لَوْ كَانَ اٰبَآؤُهُمْ لَا یَعْلَمُوْنَ شَیْــٴًـا وَّ لَا یَهْتَدُوْنَ(۱۰۴)
اور جب ان سے کہا جائے آؤ اس طرف جو اللہ نے اُتارا اور رسول کی طرف (ف۲۴۹) کہیں ہمیں وہ بہت ہے جس پر ہم نے اپنے باپ دادا کو پایا، کیا اگرچہ ان کے باپ دادا نہ کچھ جانیں نہ راہ پر ہوں (ف۲۵۰)

ثم حكى- سبحانه- ما كان عليه هؤلاء العوام المقلدون من جمود وخضوع للباطل فقال.وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا.أى: وإذا قال قائل- على سبيل النصح والإرشاد إلى الخير- لهؤلاء المقلدين المنقادين انقيادا أعمى للأوهام إذا قال لهم هذا القائل: تعالوا أى: أقبلوا واستجيبوا لما أنزل الله في كتابه، ولما أنزل على رسوله من هدايات لتسعدوا وتفوزوا قالوا: بعناد وغباء- حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا: كافينا في هذا الشأن ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وتقاليد وعادات. فلا نلتفت إلى ما سواه.وهذه حجة كل ضال مقلد لمن سبقوه بغير تعقل ولا تدبر. إنه يترك معاني العزة والكرامة وإعمال الفكر ليعيش أسير ذلته للأوهام التي شب عليها وسار خلفها مقلدا غيره ومنقادا له انقياد الخانعين الأذلاء.ولم يذكر- سبحانه- القائل في قوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ للإشارة إلى أن الذين يدعونهم إلى طريق الحق متعددون، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم، والمؤمنون يدعونهم. والأدلة الدالة على صدق هذا الدين تدعوهم. ومع كل ذلك فهم في ضلالهم سادرون، وتحت سلطان سادتهم خانعون.وقوله- تعالى- أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ رد عليهم بأسلوب التأنيب والتعجيب من جهالاتهم وخضوعهم للباطل بدون مراجعة أو تفكير.والواو في قوله أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ واو الحال. والهمزة التي دخلت عليها للإنكار والتعجب من ضلالهم.والمعنى: أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا. ويغلقون على أنفسهم باب الهداية ليبقوا في ظلمات الضلالة ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الحق ولا يهتدون إليه لانطماس بصيرتهم.وليس المراد أن آباءهم لو كانوا يعلمون شيئا أو يهتدون إلى شيء لجاز لهم ترك ما أنزل الله وإنما المراد هنا تسجيل الواقع المظلم الذي كانوا عليه وكان عليه آباؤهم من قبلهم. فآباؤهم كانوا كذلك يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم بدون تأمل أو تفكير.فالآية الكريمة زيادة في توبيخهم وتوبيخ آبائهم لأنهم جميعا مشتركون في الانغماس في الضلال والجهل.وبعد أن بين- سبحانه- ما بين من التكاليف والأحكام والحلال والحرام، وذم المقلدين لآبائهم تقليدا أعمى. وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين، أمرهم فيه بأن يلزموا أنفسهم طاعة الله، وأنهم ليس عليهم شيء من آثام غيرهم ماداموا قد نصحوهم وأرشدوهم إلى الخير فقال- تعالى-:
5:105
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا عَلَیْكُمْ اَنْفُسَكُمْۚ-لَا یَضُرُّكُمْ مَّنْ ضَلَّ اِذَا اهْتَدَیْتُمْؕ-اِلَى اللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِیْعًا فَیُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ(۱۰۵)
اے ایمان والو! تم اپنی فکر رکھو تمہارا کچھ نہ بگاڑے گا جو گمراہ ہوا جب کہ تم راہ پر ہو (ف۲۵۱) تم سب کی رجوع اللہ ہی کی طرف ہے پھر وہ تمہیں بتا دے گا جو تم کرتے تھے،

وقوله عَلَيْكُمْ اسم فعل أمر بمعنى: الزموا وقوله: أَنْفُسَكُمْ منصوب على الإغراء بقوله: عَلَيْكُمْ.قال الجمل: واختلف النحويون في الضمير المتصل بها- أى بكلمة عَلَيْكُمْ- والصحيح أنه في موضع جر كما كان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء» » .والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، الزموا العمل بطاعة الله، بأن تؤدوا ما أمركم به، وتنتهوا عما نهاكم عنه، وأنتم بعد ذلك «لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» أى: لا يضركم ضلال من ضل وغوى، ما دمتم أنتم قد أديتم حق أنفسكم عليكم بصيانتها عما يغضب الله وأديتم حق غيركم عليكم بإرشاده ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. فإن أبى هذا الغير الاستجابة لكم بعد النصح والإرشاد والأخذ على يده من الوقوع في الظلم فلا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله، فإن مصيركم ومرجعكم جميعا إلى الله- تعالى- وحده فَيُنَبِّئُكُمْ يوم القيامة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من خير أو شر، ويجازى أهل الخير بما يستحقون من ثواب، ويجازى أهل الشر بما يستحقون من عقاب.هذا، وقد يقول قائل: إن ظاهر هذه الآية قد يفهم منه بعض الناس، أنه لا يضر المؤمنين أن يتركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ماداموا قد أصلحوا أنفسهم لأنها تقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فهل هذا الفهم مقبول؟والجواب على ذلك، أن هذا الفهم ليس مقبولا، لأن الآية الكريمة مسوقة لتسلية المؤمنين، ولإدخال الطمأنينة على قلوبهم إذا لم يجدوا أذنا صاغية لدعوتهم.فكأنها تقول لهم: إنكم- أيها المؤمنون- إذا قمتم بما يجب عليكم، لا يضركم تقصير غيركم. ولا شك أن مما يجب عليهم القيام به: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إذ لا يكون المرء مهتديا إلى الحق مع تركه لفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنما يكون مهتديا متى أصلح نفسه ودعا غيره إلى الخير والصلاح.أى أن الهداية التي ذكرها- سبحانه- في قولهم إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لا تتم إلا بإصلاح النفس ودعوة الغير إلى الخير والبر.وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المعاني بقوله: كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يَضُرُّكُمْ الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين. وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن من تركهما مع القدرة عليهما لا يكون مهتديا، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه .ويبدو أن هذه الآية الكريمة قد فهمها بعض الناس فهما غير سليم- حتى في الصدر الأول من الإسلام.قال القرطبي: روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس بن أبى حازم قال: خطبنا أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- فقال: أيها الناس- إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده» .وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبى أمية الشعبانى قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال: أية آية؟ قلت: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر. حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة. وإعجاب كل ذي رأى برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم.وفي رواية قيل يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال «بل أجر خمسين منكم» .وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنى لأصغر القوم فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فقلت أنا: أليس الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فأقبلوا على بلسان واحد وقالوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها.ولا تدرى ما تأويلها- حتى تمنيت أنى لم أكن تكلمت- ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن وإنك نزعت آية لا تدرى ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت» .والخلاصة أن الآية الكريمة لا ترخص في ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إنها- كما قال الحاكم- لو استدل بها على وجوبهما لكان أولى، لأن قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ معناه: الزموا أن تصلحوا أنفسكم باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله والعقليات المؤيدة بها، ودعوة الإخوان إلى ذلك، بإقامة الحجج ودفع الشبه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولا تقصروا في ذلك» .ونقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإنه- سبحانه- قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعنى عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار. وهذا كقوله فاقتلوا أنفسكم، يعنى أهل دينكم فقوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعنى بأن يعظ بعضكم بعضا. ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات» ثم ختمت السورة حديثها الطويل المتنوع عن الأحكام الشرعية ببيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع الإسلامى فتحدثت عن التشريع الخاص بالإشهاد على الوصية في حالة السفر، وعن الضمانات التي شرعتها لكي يصل الحق إلى أهله كاملا غير منقوص فقال- تعالى:
5:106
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا شَهَادَةُ بَیْنِكُمْ اِذَا حَضَرَ اَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِیْنَ الْوَصِیَّةِ اثْنٰنِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ اَوْ اٰخَرٰنِ مِنْ غَیْرِكُمْ اِنْ اَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِی الْاَرْضِ فَاَصَابَتْكُمْ مُّصِیْبَةُ الْمَوْتِؕ-تَحْبِسُوْنَهُمَا مِنْۢ بَعْدِ الصَّلٰوةِ فَیُقْسِمٰنِ بِاللّٰهِ اِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِیْ بِهٖ ثَمَنًا وَّ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبٰىۙ-وَ لَا نَكْتُمُ شَهَادَةَۙ-اللّٰهِ اِنَّاۤ اِذًا لَّمِنَ الْاٰثِمِیْنَ(۱۰۶)
اے ایمان والوں (ف۲۵۲) تمہاری آپس کی گواہی جب تم میں کسی کو موت آئے (ف۲۵۳) وصیت کرتے وقت تم میں کے دو معتبر شخص ہیں یا غیروں میں کے دو جب تم ملک میں سفر کو جاؤ پھر تمہیں موت کا حادثہ پہنچے، ان دونوں کو نماز کے بعد روکو (ف۲۵۴) وہ اللہ کی قسم کھائیں اگر تمہیں کچھ شک پڑے (ف۲۵۵) ہم حلف کے بدلے کچھ مال نہ خریدیں گے (ف۲۵۶) اگرچہ قریب کا رشتہ دار ہو اور اللہ کی گواہی نہ چھپائیں گے ایسا کریں تو ہم ضرور گنہگاروں میں ہیں،

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة في تفاصيلها إلا أنها متقاربة في مغزاها.ومن ذلك ما ذكره ابن كثير بقوله: روى ابن أبى حاتم عن أبن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ قال: برىء الناس منها غيرى وغير عدى بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له «بديل بن أبى مريم» بتجارة، معه جام من فضة أى إناء من فضة- يريد به الملك، وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك إلى أهله- أى:يوصلا ما تركه من متاع لورثته.قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمنا الثمن أنا وعدى، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه، فحلف فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ الآيات فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفاه فنزعت الخمسمائة من عدى بن بداء وقال القرطبي: ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدى بن بداء، روى البخاري والدّارقطنيّ وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدى بن بداء يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بنى سهم فتوفى بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب- أى عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل- فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما كتمتما ولا اطلعتما» ثم وجد الجام بمكة فقالوا:اشتريناه من عدى وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن الجام للسهمى، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا، قال: فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآيات .هذا، والمعنى الإجمالى لهذه الآيات: أن الله- تعالى- شرع لكم- أيها المؤمنون- الوصية في السفر فعلى من يحس منكم بدنو أجله وهو في السفر أن يحضر رجلا مسلما يوصيه بإيصال ماله لورثته فإذا لم يجد رجلا مسلما فليحضر كافرا، والاثنان أحوط، فإذا أوصلا ما عندهما إلى ورثة الميت. وارتاب الورثة في أمانة هذين الرجلين، فعليهم في هذه الحالة أن يرفعوا الأمر للحاكم، وعلى الحاكم أن يستحلف الرجلين بالله بعد الصلاة بأنهما ما كتما شيئا من وصية وما خانا.فإذا ظهر بعد ذلك للحاكم أو لورثة الميت أن هذين الرجلين لم يكونا أمينين في أداء ما كلفهما الميت بأدائه، فعندئذ يقوم رجلان من أقرب ورثة الميت، ليحلفا بالله أن شهادتهما أحق وأولى من شهادة الرجلين الأولين، وأن هذين الرجلين لم يؤديا الوصية على وجهها.ثم بين- سبحانه- في الآية الثالثة أن ما شرعه الله لهم هو أضمن طريق لأداء الشهادة على وجهها الصحيح وعليهم أن يراقبوه ويتقوه لكي يكونوا من المؤمنين الصادقين:هذا هو المعنى الإجمالى للآيات الكريمة سقناه قبل تفصيل القول في تفسيرها حتى يتهيأ الذهن لفهمها بوضوح.قال الآلوسى: وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ.. إلخ استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم، إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم وفيه من إظهار العناية بمضمونه ما لا يخفى.وللشهادة معان منها، الإحضار والقضاء، والحكم، والحلف، والعلم والإيصاء، والمراد بها هنا الأخير، كما نص عليه جماعة من المفسرين» .وقوله: شَهادَةُ يصح أن يكون مبتدأ وخبره قوله: اثْنانِ على حذف مضاف. أى:شهادة اثنين.ويصح أن يكون مبتدأ والخبر محذوف. أى: فيما أمرتم به أن يشهد اثنان: ويكون قوله اثْنانِ فاعلا لقوله شَهادَةُ وعليه تكون إضافة قوله شَهادَةُ إلى الظرف وهو بَيْنِكُمْ على التوسع.قال القرطبي: قوله شَهادَةُ بَيْنِكُمْ قيل: معناه شهادة ما بينكم فحذفت «ما» وأضيفت الشهادة إلى الظرف،، واستعمل اسما على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة. ومنه قوله- تعالى- هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أى،: ما بيني وبينك» والمراد بقوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ظهور أماراته وعلاماته وهو ظرف متعلق بقوله:«شهادة» .وقوله: حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل من الظرف. وفي هذا الإبدال تنبيه على أن الوصية لا ينبغي أن يتهاون فيها.وقوله: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صفة لقوله اثْنانِ وقوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ معطوف على قوله اثْنانِ.والمراد من غير المسلمين، ويرى بعضهم أن المراد بقوله مِنْكُمْ أى: من قبيلتكم، وبقوله: مِنْ غَيْرِكُمْ أى: من غير قبيلتكم.وقوله: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ بيان لمكان الوصية وزمانها.والمراد بالضرب في الأرض السفر فيها وقيل للمسافر ضارب في الأرض لأنه يضربها برجليه أو بعصاه.والمراد بقوله: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أى: فقاربتم نهاية أجلكم بأن أحسستم بدنو الموت منكم. فليس المراد الموت بالفعل وإنما المراد مشارفته ومقاربته.وسمى- سبحانه- الموت مصيبة، لأنه بطبيعته يؤلم، أو يصحبه أو يقاربه أو يسبقه آلام نفسية.قال القرطبي: وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما، وادعو عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة، أى تستوثقوا منهما»فقوله: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ كلام مستأنف لبيان ما يجب على الحاكم أن يفعله عند الشك في أمانة الرجلين اللذين دفع إليهما الميت ما له ليوصلاه إلى أهله.ومعنى تَحْبِسُونَهُما توقفونهما وتمسكونهما لأداء اليمين اللازمة عليهما والمراد بالصلاة: صلاة العصر. وقد روى ذلك عن ابن عباس وجماعة من التابعين.قال الفخر الرازي: إنما عرف هذا التعيين بوجوه:أحدها: أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده، فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ.وثانيها: ما روى أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر، ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر فصار فعل الرسول دليلا على التقييد.وثالثها: أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه، ويحترزون عن الحلف الكاذب .وقال الزهري: المراد بالصلاة، الصلاة مطلقا: وإنما كان الحلف بعد الصلاة، لأنها داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور.أى: توقفون- أيها المسلمون- هذين الرجلين بعد الصلاة لأداء اليمين فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أى: فيحلفان بالله إِنِ ارْتَبْتُمْ في صدقهما، بأن يقولا: لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أى: لا نحصل بيمين الله عرضا من أعراض الدنيا، ولو كان من نقسم له ونشهد عليه قريبا لنا.وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أى: ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله بإظهارها وأدائها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أى: إنا إذا لنكونن معدودين من المستقرين في الذنوب والآثام إن كتمناها وبدلناها عن وجهها الصحيح.وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين.وجواب الشرط محذوف للعلم به مما قبله. أى: إن ارتبتم فحلفوهما.والضمير في قوله: بِهِ يعود إلى القسم المفهوم من قوله: فَيُقْسِمانِ أى: فيقسمان بالله لا نشتري بصحة القسم ثمنا مهما كان هذا الثمن.وقوله: وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى تأكيد لتنزههما عن الحلف الكاذب.قال صاحب الكشاف: والضمير في بِهِ للقسم وفي كانَ للمقسم له. يعنى:لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا. أى: لا نحلف كاذبين لأجل المال، ولو كان من يقسم له قريبا منا، على معنى: أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا، وأنهم داخلون تحت قوله- تعالى- كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ .فأنت ترى أن الله- تعالى- قد أكد هذا القسم بجملة من المؤكدات منها: أن الحالفين يحلفان بأنهما لا يحصلان بيمين الله ثمنا مهما كانت قيمته، وبأنهما لن يحابيا إنسانا مهما بلغت درجة قرابته وبأنهما لن يكتما الشهادة التي أمرهما الله بأدائها على وجهها الصحيح، وبأنهما يقران على أنفسهما باستحقاق عقوبة الآثم المذنب إن كتما أو خانا أو حادا عن الحق، وهذا كله لأجل أن تصل وصية الميت إلى أهله كاملة غير منقوصة.
5:107
فَاِنْ عُثِرَ عَلٰۤى اَنَّهُمَا اسْتَحَقَّاۤ اِثْمًا فَاٰخَرٰنِ یَقُوْمٰنِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِیْنَ اسْتَحَقَّ عَلَیْهِمُ الْاَوْلَیٰنِ فَیُقْسِمٰنِ بِاللّٰهِ لَشَهَادَتُنَاۤ اَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَ مَا اعْتَدَیْنَاۤ ﳲ اِنَّاۤ اِذًا لَّمِنَ الظّٰلِمِیْنَ(۱۰۷)
پھر اگر پتہ چلے کہ وہ کسی گناہ کے سزاوار ہوئے (ف۲۵۷) تو ان کی جگہ دو اور کھڑے ہوں ان میں سے کہ اس گناہ یعنی جھوٹی گواہی نے ان کا حق لے کر ان کو نقصان پہنچایا (ف۲۵۸) جو میت سے زیادہ قریب ہوں تو اللہ کی قسم کھائیں کہ ہماری گواہی زیادہ ٹھیک ہے ان دو کی گواہی سے اور ہم حد سے نہ بڑھے (ف۲۵۹) ایسا ہو تو ہم ظالموں میں ہوں،

ثم بين- سبحانه- الحكم فيما إذا تبين أن الرجلين اللذين دفع إليهما الموصى ما له لم يكونا أمينين فقال: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ.وقوله: عُثِرَ أى: اطلع. يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا اطلع عليه. ويقال:عثرت منه على خيانة أى: اطلعت.وقوله: الْأَوْلَيانِ تثنية أولى بمعنى أقرب. فالمراد بقوله الْأَوْلَيانِ أى: الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما بأحوال الميت.والمعنى: فان اطلع بعد تحليف الشاهدين الوصيين من جهة الميت على أنهما اسْتَحَقَّا إِثْماً أى: فعلا ما يوجب الإثم من خيانة أو كتمان أو ما يشبههما فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أى:فرجلان آخران يقومان مقام اللذين اطلع على خيانتهما: أى يقفان موقفهما في الحبس بعد الصلاة والحلف ويكون هذان الرجلان الآخران مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ.قال القرطبي: قال ابن السرى: أى من الذين استحق عليهم الإيصاء واختاره ابن العربي وأيضا فإن التفسير عليه، لأن المعنى عند أهل التفسير: من الذين استحقت عليهم الوصية وقال بعض العلماء: قوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ أى: من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان أى: الأقربان إلى الميت، الوارثان له. الأحقان بالشهادة، أى:اليمين. فقوله الْأَوْلَيانِ فاعل اسْتَحَقَّ.ومفعول اسْتَحَقَّ محذوف، قدره بعضهم «وصيتهما» وقدره ابن عطية «ما لهم وتركتهم» وقدره الزمخشري. أن يجردوهما للقيام بالشهادة لأنها حقهما ويظهروا بهما كذب الكاذبين.وقرئ اسْتَحَقَّ على البناء للمفعول. أى من الذين استحق عليهم الإثم أى «جنى عليهم» ، وهم أهل الميت وعشريته. وعليه فقوله: الْأَوْلَيانِ هو بدل من الضمير في يَقُومانِ أو من فَآخَرانِ .وقوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ بيان لكيفية اليمين التي يحلفها هذان الأوليان.أى: فيحلف بالله هذان الأوليان- أى الأقربان إلى الميت- قائلين لَشَهادَتُنا أى:ليميننا أَحَقُّ بالقبول مِنْ شَهادَتِهِما أى: من يمينهما وَمَا اعْتَدَيْنا أى: وما تجاوزنا الحق في يميننا وفيما نسبناه إليهما من خيانة إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أى إنا إذا اعتدينا وقلنا فيهما خلاف الحق لنكونن في زمرة الظالمين لأنفسهم المستحقين لسخط الله وعقابه.قال الآلوسى: وقوله فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ معطوف على يَقُومانِ في قوله: فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما والسببية ظاهرة وقوله: لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما جواب القسم. والمراد بالشهادة هنا- عند الكثيرين- اليمين كما في قوله- تعالى- فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ.وصيغة التفضيل أَحَقُّ إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما» .
5:108
ذٰلِكَ اَدْنٰۤى اَنْ یَّاْتُوْا بِالشَّهَادَةِ عَلٰى وَجْهِهَاۤ اَوْ یَخَافُوْۤا اَنْ تُرَدَّ اَیْمَانٌۢ بَعْدَ اَیْمَانِهِمْؕ-وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اسْمَعُوْاؕ-وَ اللّٰهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفٰسِقِیْنَ۠(۱۰۸)
یہ قریب تر ہے اس سے کہ گواہی جیسی چاہیے ادا کریں یا ڈریں کہ کچھ قسمیں رد کردی جائیں ان کی قسموں کے بعد (ف۲۶۰) اور اللہ سے ڈرو اور حکم سنو، اور اللہ بے حکموں کو راہ نہیں دیتا،

ثم بين - سبحانه - وجه الحكمة والمصلحة فيما شرعه مما تقدم تفصيله فقال ( ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) .فاسم الإِشارة ( ذلك ) يعود إلى ما شرعه الله من أحكام تتعلق بالوصية التي تكون في السفر ويموت صاحبها .أي : ذلك الحكم المذكور ( أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ ) أي : أقرب إلى أن يؤدي الأوصياء الشهادة في هذه الحادثة وأمثالها على وجهها الصحيح . أي : على حقيقتها من غير تغيير لها خوفا من عذاب الآخرة . فالوجه في قوله ( على وَجْهِهَآ ) بمعنى الذات والحقيقة .والجملة الكريمة بيان لحكمة مشروعية التحليف بالتغليظ المتقدم ، وقوله : ( أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) بيان لحكمة رد اليمين على الورثة . وهو معطوف على مقدر ينبئ عنه المقام فكأنه قيل : ذلك الذي شرعناه لكم أقرب إلى أن يأتي الأوصياء بالشهادة على وجهها الصحيح فكأنه قيل : ذلك الذي شرعناه لكم أقرب إلى أن يأتي الأوصياء بالشهادة على وجهها الصحيح ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة ، أو يخافوا أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم فيظهر كذبهم على رؤوس الأشهاد ، فيكون ذلك الخوف داعيا لهم إلى النطق بالحق وترك الكذب والخيانة .فأي الخوفين حصل عندهم سيقودهم إلى التزام الحق وترك الخيانة وإيصال الحقوق لذويها كاملة غير منقوصة .فمن لم يمنعه خوف اله من أن يكذب أو يخون لضعف دينه منعه خوف الفضيحة على رءوس الأشهاد .ثم قال - سبحانه ( ذلك أدنى ) أي أقرب إلى الحق وأبعد عن الباطل لأن معرفة الحق من كل وجوهه وجزئياته ، مرجعها إلى الله العليم بخفايا الأمور وبواطنها وبواعثها . أما الحاكم فإنه يحكم على حسب ما يظهر له من حق ، وحكمه قابل للخطأ والصواب .والضمير في قوله ( يَأْتُواْ ) ( يخافوا ) ( وَأَيْمَانِهِمْ ) يعود إلى الأوصياء الذين أوصاهم الميت بإيصال ما يريد إيصاله لورثته ، ثم حدث شك من الورثة في أمانتهم .وجاء الضمير مجموعا مع أن السياق لاثنين فقط ، لأن المراد ما يعم هذين المذكورين وما يعم غيرهما من بقية الناس .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : ( واتقوا الله واسمعوا والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ) .أي : واتقوا الله في كل ما يأتون وتذرون من أموركم واسمعوا ما تؤمرون به سماع إذاعان وقبول وطاعة واعلموا أن الله - تعالى - لا يوفق القوم الخارجين عن طاعته إلى طريق الخير والفلاح ، لأنهم آثروا الغي على الرشد واستحبوا العمى على الهدى .فهذا الخنام للآية الكريمة اشتمعل على ابلغ ألوان التحذير من معصية الله ومن مخالفة أمره .هذا؛ ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتي :1 - الحث على الوصية وتأكيد أمرها ، وعدم التهاون فيها بسبب السفر أو غيره ، لأن الوصية تثبت الحقوق ، وتمنع التنازل ولهذا شدد الإِسلام في ضرورة كتابة الوصية ، والشخص قوى معافي ، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " .قال ابن عمر - راوي هذا الحديث - : " ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك إلا وعندي وصيتي " .2 - الإِشهاد على الوصية في الحضر والسفر ، ليكون أمرها أمرها أثبت ، والرجاء في تنفيذها أقوى ، فإن عدم الإِشهاد عليها كثيراً ما يؤدي إلى التنازل وإلى التشكك في صحتها .3 - شرعية اختيار الأوقات والأمكنة والصيغ المغلظة التي تؤثر في قلوب الشهود وفي قلوب مقسمى الأِيمان ، وتحملهم على النطق بالحق .قال صاحب المنار : ويشهد لاختيار الأوقات جعل القسم بعد الصلاة ، ومثله في ذلك اختيار المكان ومما ورد في السنة في ذلك ما رواه مالك وأحمد وأبو داود . عن جابر مرفوعا ، " لا يحلف أحد عند منبري كاذاب إلا تبوأ مقعده من النار " .ويشهد بجواز التغليظ على الحالف على صيغة اليمين - بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب - ما جاء في الآيات الكريمة من قوله - تعالى - ( فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين ) .4 - جواز تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام أو الخصوم في شهادتهم ، وقد روى عن ابن عباس أنه حلف المرأة التي شهدت في قضية رضاع بين زوجين .5 - جواز شهادة غير المسلمين على المسلمين عند الضرورة ، وقد بسط الإِمام القرطبي القول في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :الأول : أن الكاف والميم في قوله ( اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ) ضمير للمسلمين ، وفي قوله ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) للكافرين . فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية . وهو الأشبه بسياق مع ما تقرر من الأحاديث .وهوقول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل وهم : أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود وعبدالله بن عباس ، وتبعهم في ذلك جمع من التابعين ، واختاره أحمد بن حنبل وقال : شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ، كلهم يقولون : " منكم " من المؤمنين . ومعنى ( مِنْ غَيْرِكُمْ ) يعني الكفار .القول الثاني : أن قوله - سبحانه - ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) منسوخ وهذا قول زيد بن أسلم؛ والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء .واحتجوا بقوله - تعالى - ( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء ) وبقوله : ( وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ ) فهؤلاء زعموا أن الآية الدين من آخر ما نزل وأن فيها ( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء ) فهو ناسخ لذلك ، ولم يكن الإِسلام يومئذ إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب . وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم .قال القرطبي : قلت : ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم وأما مع وجو مسلم فلا .ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل ، وقد قال بالأولى ثلاثة من الصحابة ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم .ويقوى هذا أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا ، حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما : إنه لا منسوخ فيها ، وما ادعوه من النسخ لا يصح ، فإن النسخ لابد فيه من إثبات الناسخ على وجه ينافي الجمع بينهما مع تراخي الناسخ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا ، فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة ، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات .القول الثالث : أن الآية لا نسخ فيها . قاله الزهري والحسن وعكرمة ، ويكون معنى قوله ( منكم ) أي من عشيرتكم وقرابتكم . . ومعنى ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) أي : من غيرالقرابة والعشيرة .وهذا ينبي على معنى غامض في العربية ، وذلك أن معنى ( آخر ) في العربية من جنس الأول ، تقول : مررت بكريم وكريم آخر ولا تقول مررت بكريم وخسيس آخر ، فوجب على هذا أن يكون قوله ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) أي عدلان من غير عشيرتكم من المسلمين .
5:109
یَوْمَ یَجْمَعُ اللّٰهُ الرُّسُلَ فَیَقُوْلُ مَا ذَاۤ اُجِبْتُمْؕ-قَالُوْا لَا عِلْمَ لَنَاؕ-اِنَّكَ اَنْتَ عَلَّامُ الْغُیُوْبِ(۱۰۹)
جس دن اللہ جمع فرمائے گا رسولوں کو (ف۲۶۱) پھر فرمائے گا تمہیں کیا جواب ملا (ف۲۶۲) عرض کریں گے ہمیں کچھ علم نہیں، بیشک تو ہی ہے سب غیبوں کا جاننے والا(ف۲۶۳)

قال الفخر الرازي: اعلم أن عادة الله تعالى- جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام، أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر- فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع، أتبعها بوصف أحوال القيامة.ثم قال وفي هذه الآية قولان:أحدهما: أنها متصلة بما قبلها والتقدير: واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل- فيكون قوله:يَوْمَ يَجْمَعُ بدل اشتمال من قوله في الآية السابقة وَاتَّقُوا اللَّهَ والقول الثاني: أنها منقطعة عما قبلها والتقدير:اذكروا يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ .والمعنى: لقد سقنا لكم- أيها الناس- ما سقنا من الترغيب والترهيب وبينا لكم ما بينا من الأحكام والآداب، فمن الواجب عليكم أن تتقوا الله وأن تحذروا عقابه، وأن تذكروا ذلك اليوم الهائل الشديد يوم يجمع الله الرسل الذين أرسلهم إلى مختلف الأقوام. في شتى الأمكنة والأزمان فيقول لهم: ماذا أجبتم من أقوامكم؟أى: ما الإجابة التي أجابكم بها أقوامكم؟وخص- سبحانه- الرسل بالذكر- مع أن الرسل وغيرهم سيجمعون للحساب يوم القيامة- لإظهار شرفهم وللإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم من الأقوام لأن هؤلاء الأقوام إنما هم تبع لهم.وقال- سبحانه-ماذا أُجِبْتُمْ ولم يقل- مثلا- «هل بلغتم رسالتي أولا» ؟ للإشعار بأن الرسل الكرام قد بلغوا رسالة الله على أكمل وجه وأن الذين خالفوهم من أقوامهم سيتحملون وزر مخالفتهم يوم القيامة.وقوله: قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ حكاية لإجابة الرسل فإن قيل: لماذا نفوا عن أنفسهم العلم مع أن عندهم بعض العلم؟ فالجواب على ذلك أن هذا من باب التأدب مع الله- تعالى- فكأنهم يقولون: لا علم لنا يذكر بجانب علمك المحيط بكل شيء، ونحن وإن كنا قد عرفنا ما أجابنا به أقوامنا، إلا أن معرفتنا هذه لا تتعدى الظواهر، أما علمك أنت- يا ربنا- فشامل للظواهر والبواطن، أو أنهم قالوا ذلك إظهارا للتشكى والالتجاء إلى الله ليحكم بينهم وبين أقوامهم الذين كذبوهم. أو أن مرادهم لا علم لنا بما كان منهم بعد أن فارقناهم وفارقنا من جاء بعدنا من الناس، لأن علمنا مقصور على حال من شاهدناهم وعاصرناهم.ورحم الله صاحب الكشاف فقد حكى هذه الأقوال وغيرها بأسلوبه البليغ فقال:فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم. كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد.فإن قلت: كيف يقولون: «لا علم لنا وقد علموا بما أجيبوا؟» .قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم- أى: بما ابتلوا به منهم-، وكابدوا من سوء إجابتهم، إظهارا للتشكى واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة، وأنت في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ الله لهم وتشكى أنبيائه منهم. ومثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه. فجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي؟ - وهو عالم بما فعل به- يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه، وإظهارا للشكاية وتعظيما لما حل به منه. - ولله المثل الأعلى- وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم.وقيل معناه: علمنا ساقط مع علمك ومغمور، لأنك علام الغيوب، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم.وقيل معناه: لا علم لنا بما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة، وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه موبخين» .
5:110
اِذْ قَالَ اللّٰهُ یٰعِیْسَى ابْنَ مَرْیَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِیْ عَلَیْكَ وَ عَلٰى وَ الِدَتِكَۘ-اِذْ اَیَّدْتُّكَ بِرُوْحِ الْقُدُسِ- تُكَلِّمُ النَّاسَ فِی الْمَهْدِ وَ كَهْلًاۚ-وَ اِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتٰبَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْرٰىةَ وَ الْاِنْجِیْلَۚ-وَ اِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّیْنِ كَهَیْــٴَـةِ الطَّیْرِ بِاِذْنِیْ فَتَنْفُخُ فِیْهَا فَتَكُوْنُ طَیْرًۢا بِاِذْنِیْ وَ تُبْرِئُ الْاَكْمَهَ وَ الْاَبْرَصَ بِاِذْنِیْۚ-وَ اِذْ تُخْرِ جُ الْمَوْتٰى بِاِذْنِیْۚ-وَ اِذْ كَفَفْتُ بَنِیْۤ اِسْرَآءِیْلَ عَنْكَ اِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَیِّنٰتِ فَقَالَ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا مِنْهُمْ اِنْ هٰذَاۤ اِلَّا سِحْرٌ مُّبِیْنٌ(۱۱۰)
جب اللہ فرمائے گا اے مریم کے بیٹے عیسیٰ! یاد کر میرا احسان اپنے اوپر اور اپنی ماں پر (ف۲۶۴) جب میں نے پاک روح سے تیری مدد کی (ف۲۶۵) تو لوگوں سے باتیں کرتا پالنے میں (ف۲۶۶) اور پکی عمر ہوکر (ف۲۶۷) اور جب میں نے تجھے سکھائی کتاب اور حکمت (ف۲۶۸) اور توریت اور انجیل اور جب تو مٹی سے پرند کی سی مورت میرے حکم سے بناتا پھر اس میں پھونک مارتا تو وہ میرے حکم سے اڑنے لگتی (ف۲۶۹) اور تو مادر زاد اندھے اور سفید داغ والے کو میرے حکم سے شفا دیتا اور جب تو مُردوں کو میرے حکم سے زندہ نکالتا (ف۲۷۰) اور جب میں نے بنی اسرائیل کو تجھ سے روکا (ف۲۷۱) جب تو ان کے پاس روشن نشانیاں لے کر آیا تو ان میں کے کافر بولے کہ یہ (ف۲۷۲) تو نہیں مگر کھلا جادو،

ثم ذكر- سبحانه- بعض النعم التي أنعم بها على عيسى وأمه فقال: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ.وقوله: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بدل من قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وقد نصب بإضمار اذكر.والمعنى: اذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ يوم يجمع الله الرسل فيقول لهم ماذا أجبتم؟.واذكر- أيضا- زيادة في العبرة والعظة قوله- سبحانه- يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ تذكر يا عيسى نعمى المتعددة عليك وعلى والدتك- وعبر بالماضي في قوله: إِذْ قالَ اللَّهُ مع أن هذا القول سيكون في الآخرة، للدلالة على تحقيق الوقوع، وأن هذا القول سيحصل بلا أدنى ريب يوم القيامة.قال أبو السعود: قوله- تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ شروع في بيان ما جرى بينه- تعالى- وبين واحد من الرسل المجموعين، من المفاوضة على التفصيل، إثر بيان ما جرى بينه- تعالى- وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص شأن عيسى بالبيان، لما أن شأنه- عليه السلام- متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعت عليهم هذه السورة جناياتهم. فتفصيل شأنه يكون أعظم عليهم، وأجلب لحسراتهم، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم» .والمراد بالنعمة في قوله اذْكُرْ نِعْمَتِي النعم المتعددة التي أنعم بها- سبحانه- على عيسى وعلى والدته مريم حيث طهرها من كل ريبة، واصطفاها على نساء العالمين. وفي ندائه- سبحانه- لعيسى بقوله يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إشارة إلى أنه ابن لها وليس ابنا لأحد سواها، فقد ولد من غير أب، ومن كان شأنه كذلك لا يصلح أن يكون إلها، لأن الإله الحق لا يمكن أن يكون مولودا أو محدثا.وقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا تعديد للنعم التي أنعم الله- تعالى- بها على عيسى.وقوله أَيَّدْتُكَ أى قويتك من التأييد بمعنى التقوية.والمراد بروح القدس: جبريل- عليه السلام- فإن من وظيفته أن يؤيد الله به رسله بالتعليم الإلهى، وبالتثبيت في المواطن التي من شأن البشر أن يضعفوا فيها.وقيل: المراد بِرُوحِ الْقُدُسِ روح عيسى حيث أيده- سبحانه- بطبيعة روحانية مطهرة في وقت سادت فيه المادية وسيطرت.أى: أيدتك بروح الطهارة والنزاهة والكمال، فكنت متسما بهذه الروح الطاهرة من كل سوء.والمهد: سن الطفولة والصبا- والكهولة: السن التي يكون في أعقاب سن الشباب.والمعنى: اذكر يا عيسى نعمى عليك وعلى والدتك، وقت أن قويتك بروح القدس الذي تقوم به حجتك، ووقت أن جعلتك تكلم الناس في طفولتك بكلام حكيم لا يختلف عن كلامك معهم في حال كهولتك واكتمال رجولتك.وقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ ظرف لنعمتي. أى: اذكر إنعامى عليكما وقت تأييدى لك. وذكر- سبحانه- كلامه في حال الكهولة- مع أن الكلام في هذه الحالة معهود في الناس- للإيذان بأن كلامه في هاتين الحالتين- المهد والكهولة- كان على نسق واحد بديع صادر عن كمال العقل والتدبير، دون أن يكون هناك فرق بين حالة الضعف وحالة القوة. قال الرازي: وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.وقال ابن كثير: قوله اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ أى في خلقي إياك من أم بلا ذكر، وجعلى إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي وَعَلى والِدَتِكَ حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة وإِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وهو جبريل،وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك. فأنطقتك في المهد صغيرا: فشهدت ببراءة أمك من كل عيب. واعترفت لي بالعبودية. وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي ولهذا قال: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أى: تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك. وضمّن تُكَلِّمُ معنى تدعو، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب» .وقوله: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بيان لنعمة أخرى من النعم التي أنعم بها- سبحانه- على عيسى.والمراد بالكتاب: الكتابة. أى أن عيسى- عليه السلام- لم يكن أميا بل كان قارئا وكاتبا وقيل المراد به ما سبقه من كتب النبيين كزبور داود، وصحف إبراهيم، وأخبار الأنبياء الذين جاءوا من قبله.والمراد بالحكمة: الفهم العميق للعلوم مع العمل بما فهمه وإرشاد الغير إليه.أى: واذكر وقت أن علمتك الكتابة حتى تستطيع أن تتحدى من يعرفونها من قومك.ووقت أن علمتك الْحِكْمَةَ بحيث تفهم أسرار العلوم فهما سليما تفوق به غيرك، كما علمتك أحكام الكتاب الذي أنزلته على أخيك موسى وهو التوراة وأحكام الكتاب الذي أنزلته عليك وهو الإنجيل.ثم ذكر- سبحانه- بعض معجزات عيسى، بعد أن بين بعض ما منحه من علم ومعرفة، فقال: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي أى: واذكر وقت أن وفقتك لأن تخلق أى تصور من الطين صورة مماثلة لهيئة الطير فَتَنْفُخُ فِيها أى في تلك الهيئة المصورة فَتَكُونُ أى فتصير تلك الهيئة المصورة طَيْراً بِإِذْنِي أى: تصير كذلك بقدرتي وإرادتى وأمرى.ثم قال- تعالى: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وهو الذي يولد أعمى وتبرئ كذلك الْأَبْرَصَ وهو المريض بهذا المرض العضال بِإِذْنِي.وقوله: وَتُبْرِئُ معطوف على تَخْلُقُ.وقوله: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي معطوف على قوله: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ.أى: واذكر وقت أن جعلت من معجزاتك أن تخرج الموتى من القبور أحياء ينطقون ويتحركون. وكل ذلك بإذنى ومشيئتى وإرادتى.وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء، وكان دعاؤه يا حي يا قيوم، وذكروا من بين من أحياهم سام بن نوح .وبعد أن ذكر- سبحانه- بعض المعجزات التي أعطاها لعيسى لكي ينفع بها الناس، أتبعها بذكر ما دفعه عنه من مضار فقال: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ.أى: واذكر نعمتي عليك وقت أن صرفت عنك اليهود الذين أرادوا السوء، وسعوا في قتلك وصلبك مع أنك قد بشرتهم وأنذرتهم وجئتهم بالمعجزات الواضحات التي تشهد بصدقك في نبوتك.وقوله فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تذييل قصد به ذمهم وتسجيل الحقد والجحود عليهم.أى: لقد أعطيناك يا عيسى ما أعطيناك من النعم والمعجزات لتكون دليلا ناطقا بصدقك، وشاهدا يحمل الناس على الإيمان بنبوتك، ولكن الكافرين من بنى إسرائيل الذين أرسلت إليهم لم يصدقوا ما جئتهم به من معجزات واضحات، بل سارعوا إلى تكذيبك قائلين: ما هذا الذي جئتنا به يا عيسى إلا سحر ظاهر، وتخييل بين.وهكذا نرى أن الكافرين من بنى إسرائيل، لم تزدهم البينات التي جاء بها عيسى إلا جحودا وعنادا.ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما قاله الحواريون لعيسى، وما طلبوه منه، مما يدل على إكرام الله- تعالى- لنبيه عيسى فقال:
5:111
وَ اِذْ اَوْحَیْتُ اِلَى الْحَوَارِیّٖنَ اَنْ اٰمِنُوْا بِیْ وَ بِرَسُوْلِیْۚ-قَالُوْۤا اٰمَنَّا وَ اشْهَدْ بِاَنَّنَا مُسْلِمُوْنَ(۱۱۱)
اور جب میں نے حواریوں (ف۲۷۳) کے دل میں ڈالا کہ مجھ پر اور میرے رسول پر (ف۲۷۴) ایمان لاؤ بولے ہم ایمان لائے اور گواہ رہ کہ ہم مسلمان ہیں(ف۲۷۵)

قال ابن كثير ما ملخصه: وقوله وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ هذا أيضا من الامتنان على عيسى، بأن جعل الله له أصحابا وأنصارا- وهم الحواريون- والمراد بهذا الوحى الإلهام كما في قوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وكما في قوله وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وقال بعض السلف في هذه الآية وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أى: ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا .فأنت ترى أن الإمام ابن كثير يرى أن المراد بالوحي هنا الإلهام. وعلى ذلك كثير من المفسرين، ومنهم من يرى أن المراد بقوله وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أى: أمرتهم في الإنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي.قال الآلوسى معززا هذا الرأى: وقد جاء استعمال الوحى بمعنى الأمر في كلام العرب، كما قال الزجاج وأنشد:الحمد لله الذي استقلت ... بإذنه السماء واطمأنتأوحى لها القرار فاستقرت أى: أمرها أن تقر فامتثلت .والحواريون جمع حوارى. وهم أنصار عيسى الذين لازموه وآمنوا به وصدقوه. وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق.يقال: فلان حوارى فلان. أى: خاصته من أصحابه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الزبير بن العوام: لكل نبي حوارى وحوارى الزبير» .وأصل مادة «حور» الدلالة على شدة الصفاء ونصوع البياض، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق: الحوارى وقالوا في النساء البيض: الحواريات والحواريات.وقد سمى الله- تعالى- أنصار عيسى بالحواريين، لأنهم أخلصوا لله نياتهم، وطهروا نفوسهم من النفاق والخداع فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص البياض.قال الراغب: والحواريون أنصار عيسى- عليه السلام- قيل كانوا صيادين وقال بعض العلماء إنما سموا حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم .والمعنى: اذكر نعمتي عليك- يا عيسى- حين أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ بطريق الإلهام أو بطريق الأمر على لسانك، وقلت لهم: أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي أى: آمنوا وصدقوا بأنى أنا الواحد الأحد المستحق للعبادة والخضوع وآمنوا برسولي عيسى بأنه مرسل من جهتي لهدايتكم وسعادتكم.وفي ذكر كلمة بِرَسُولِي إشارة إلى مقامه من الله- عز وجل- وانفصال شخصه عن ذات الله- سبحانه- وأن عيسى ما هو إلا رسول من رب العالمين وأن من زعموا أنه غير ذلك جاهلون وضالون.وقوله: قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ حكاية لما نطق به الحواريون من إيمان وطاعة.أى: أن الحواريين عند ما دعوا إلى الدين الحق قالُوا آمَنَّا بأن الله هو الواحد الأحد المستحق للعبادة وأنه لا والد له ولا ولد. ثم أكدوا إيمانهم هذا، بأن قالوا وَاشْهَدْ علينا يا إلهنا واشهد لنا يا عيسى يوم القيامة بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أى: منقادون لكل ما جئتنا به وما تدعونا إليه.وقدموا ذكر الإيمان لأنه صفة القلب، وأخروا ذكر الإسلام لأنه عبارة عن الانقياد الظاهر فكأنهم قالوا: لقد استقر الإيمان في قلوبنا استقرارا مكينا، كان من ثماره أن انقادت ظواهرنا لكل ما يأمرنا الله به على لسانك يا عيسى.قال الفخر الرازي ما ملخصه: فإن قيل: إنه- تعالى- قال في أول الآية اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ثم إن جميع ما ذكره- تعالى- من النعم مختص بعيسى، وليس لأمه تعلق بشيء منها. قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم ولذلك قال- تعالى- وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً فجعلهما معا آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر.وإنما ذكر- سبحانه قوله وَإِذْ أَوْحَيْتُ في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم، من أعظم نعم الله على الإنسان.وقد عدد عليه من النعم سبعا: إِذْ أَيَّدْتُكَ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ وَإِذْ تَخْلُقُ وإِذْ تَبَرَّأَ. وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى وَإِذْ كَفَفْتُ وَإِذْ أَوْحَيْتُ .
5:112
اِذْ قَالَ الْحَوَارِیُّوْنَ یٰعِیْسَى ابْنَ مَرْیَمَ هَلْ یَسْتَطِیْعُ رَبُّكَ اَنْ یُّنَزِّلَ عَلَیْنَا مَآىٕدَةً مِّنَ السَّمَآءِؕ-قَالَ اتَّقُوا اللّٰهَ اِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِیْنَ(۱۱۲)
جب حواریوں نے کہا اے عیسیٰ بن مریم! کیا آپ کا رب ایسا کرے گا کہ ہم پر آسمان سے ایک خوان اُتارے (ف۲۷۶) کہا اللہ سے ڈرو ! اگر ایمان رکھتے ہو(ف۲۷۷)

ثم حكى- سبحانه- بعض ما دار بين عيسى وبين الحواريين فقال: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ.«المائدة» الخوان إذا كان عليه الطعام من ماد يميد، إذا تحرك. فكأن المائدة تتحرك بما عليها. وقال أبو عبيدة: سميت «مائدة» لأنها ميد بها صاحبها. أى: أعطيها وتفضل عليه بها. والخوان: ما يؤكل عليه الطعام.ويرى الأخفش وغيره أن المائدة هي الطعام نفسه، مأخوذة من «مادة» إذا أفضل.و «إذ» في قوله إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ متعلق بمحذوف تقديره: اذكر وقت قول الحواريين يا عيسى ابن مريم.وقد ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه- كما حكى القرآن عنهم- لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا ألوهيته أو ولديته وقوله: هَلْ يَسْتَطِيعُ- رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ فيه قراءتان سبعيتان:الأولى: يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بالياء- على أنه فعل وفاعل. وقوله أَنْ يُنَزِّلَ المفعول.والاستفهام على هذه القراءة محمول على المجاز، لأن الحواريين كانوا مؤمنين، ولا يعقل من مؤمن أن يشك في قدرة الله.ومن تخريجاتهم في معنى هذه القراءة أن قوله يَسْتَطِيعُ بمعنى «يطيع» والسين زائدة.كاستجاب وأجاب.أى: أن معنى الجملة الكريمة: هل يطيعك- ربك يا عيسى إن سألته أن ينزل علينا مائدة من السماء.وسنفصل القول في تخريج هذه القراءة، وفي اختلاف المفسرين في إيمان الحواريين بعد انتهائنا من تفسير هذه الآيات الكريمة.أما القراءة الثانية: فهي «هل تستطيع ربك» بالتاء وبفتح الباء في «ربك» والمعنى: هل تستطيع يا عيسى أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء. فقوله «ربك» منصوب على التعظيم بفعل محذوف يقدر على حسب المقام وهذه القراءة لا إشكال فيها، لأن الاستطاعة فيها متجهة إلى عيسى. أى: أتستطيع يا عيسى سؤال ربك إنزال المائدة أم لا تستطيع؟قال القرطبي: قراءة الكسائي وعلى وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد «هل تستطيع» بالتاء «ربك» بالنصب وقرأ الباقون بالياء «هل يستطيع» «ربك» بالرفع.والمعنى على قراءة الكسائي- بالتاء: هل تستطيع أن تسأل ربك..قالت عائشة: كان القوم أعلم بالله- تعالى- من أن يقولوا «هل يستطيع ربك» وقال معاذ: أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم: هل تستطيع ربك قال معاذ: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء» .وقوله- سبحانه- قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حكاية لما رد به عيسى على الحواريين فيما طلبوه من إنزال المائدة:أى قال لهم عيسى: اتقوا الله وقفوا عند حدوده، واملئوا قلوبكم هيبة وخشية منه، ولا تطلبوا أمثال هذه المطالب إن كنتم مؤمنين حق الإيمان، فإن المؤمن الصادق في إيمانه يبتعد عن أمثال هذه المطالب التي قد تؤدى إلى فتنته.
5:113
قَالُوْا نُرِیْدُ اَنْ نَّاْكُلَ مِنْهَا وَ تَطْمَىٕنَّ قُلُوْبُنَا وَ نَعْلَمَ اَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَ نَكُوْنَ عَلَیْهَا مِنَ الشّٰهِدِیْنَ(۱۱۳)
بولے ہم چاہتے ہیں (ف۲۷۸) کہ اس میں سے کھائیں اور ہمارے دل ٹھہریں (ف۲۷۹) اور ہم آنکھوں دیکھ لیں کہ آپ نے ہم سے سچ فرمایا (ف۲۸۰) اور ہم اس پر گواہ ہوجائیں(ف۲۸۱)

ثم حكى القرآن ما رد به الحواريون على عيسى فقال: قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ.أى: قال الحواريون لعيسى إننا نريد نزول هذه المائدة علينا من السماء لأسباب:أولها: أننا نرغب في الأكل منها لننال البركة، ولأننا في حاجة إلى الطعام بعد أن ضيق علينا أعداؤك وأعداؤنا الذين لم يؤمنوا برسالتك.وثانيها: أننا نرغب في نزولها لكي تزداد قلوبنا اطمئنانا إلى أنك صادق فيما تبلغه عن ربك، فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلالي، مما يؤدى إلى رسوخ الإيمان، وقوة اليقين.وثالثها: أننا نرغب في نزولها لكي نعلم أن قد صدقتنا في دعوى النبوة، وفي جميع ما تخبرنا به من مأمورات ومنهيات، لأن نزولها من السماء يجعلها تخالف ما جئتنا به من معجزات أرضية، وفي ذلك ما فيه من الدلالة على صدقك في نبوتك.ورابع هذه الأسباب: أننا نرغب في نزولها لكي نكون من الشاهدين على هذه المعجزة عند الذين لم يحضروها من بنى إسرائيل، ليزداد الذين آمنوا منهم إيمانا، ويؤمن الذي عنده استعداد للإيمان.وبذلك نرى ان الحواريين قد بينوا لعيسى- كما حكى القرآن عنهم- أنهم لا يريدون نزول المائدة من السماء لأنهم يشكون في قدرة الله، أو في نبوة عيسى أو أن مقصدهم من هذا الطلب التعنت. وإنما هم يريدون نزولها لتلك الأسباب السابقة التي يبغون من ورائها الأكل وزيادة الإيمان واليقين والشهادة أمام الذين لم يحضروا نزولها بكمال قدرة الله وصدق عيسى في نبوته.
5:114
قَالَ عِیْسَى ابْنُ مَرْیَمَ اللّٰهُمَّ رَبَّنَاۤ اَنْزِلْ عَلَیْنَا مَآىٕدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُوْنُ لَنَا عِیْدًا لِّاَوَّلِنَا وَ اٰخِرِنَا وَ اٰیَةً مِّنْكَۚ-وَ ارْزُقْنَا وَ اَنْتَ خَیْرُ الرّٰزِقِیْنَ(۱۱۴)
عیسیٰ بن مریم نے عرض کی، اے اللہ! اے رب ہمارے! ہم پر آسمان سے ایک خوان اُتار کہ وہ ہمارے لیے عید ہو (ف۲۸۲) ہمارے اگلے پچھلوں کی (ف۲۸۳) اور تیری طرف سے نشانی (ف۲۸۴) اور ہمیں رزق دے اور تو سب سے بہتر روزی دینے والا ہے،

ثم حكى- سبحانه- ما تضرع به عيسى بعد أن سمع من الحواريين ما قالوه في سبب طلبهم لنزول المائدة من السماء فقال- تعالى- قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.وقوله: اللَّهُمَّ أى: يا الله. فالميم المشددة عوض عن حرف النداء، ولذلك لا يجتمعان. وهذا التعويض خاص بنداء الله ذي الجلال والإكرام.وقوله: عِيداً أى سرورا وفرحا لنا، لأن كلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور.قال القرطبي: والعيد واحد الأعياد. وأصله من عاد يعود أى: رجع وقيل ليوم الفطر والأضحى عيد، لأنهما يعودان كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم يجمع الناس فيه كأنهم عادوا إليه، وقال ابن الأنباري: سمى عيدا للعود إلى المرح والفرح فهو يوم سرور» .والمعنى: قال عيسى بضراعة وخشوع- بعد أن سمع من الحواريين حجتهم- اللَّهُمَّ رَبَّنا أى: يا الله يا ربنا ومالك أمرنا، ومجيب سؤالنا. أتوسل إليك أن تنزل علينا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ. أى: أطعمة كائنة من السماء، هذه الأطعمة تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أى:يكون يوم نزولها عيدا نعظمه ونكثر من التقرب إليك فيه نحن الذين شاهدناها، ويكون- أيضا- يوم نزولها عيدا وسرورا وبهجة لمن سيأتى بعدنا ممن لم يشاهدنا.قال ابن كثير. قال السدى: أى نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا. وقال سفيان الثوري: يعنى يوما نصلى فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي: يعنى يوما نصلى فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي: تكون عظة لنا ولمن بعدنا .وقوله: وَآيَةً مِنْكَ معطوف على قوله عِيداً.أى: تكون هذه المائدة النازلة من السماء عيدا لأولنا وآخرنا، وتكون أيضا- دليلا- وعلامة منك- سبحانك- على صحة نبوتي ورسالتي، فيصدقونى فيما أبلغه عنك، ويزداد يقينهم بكمال قدرتك.وقوله: وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييل بمثابة التعليل لما قبله. أى: أنزلها علينا يا ربنا وأرزقنا من عندك رزقا هنيئا رغدا، فإنك أنت خير الرازقين، وخير المعطين، وكل عطاء من سواك لا يغنى ولا يشبع.وقد جمع عيسى في دعائه بين لفظي «اللهم وربنا» إظهارا لنهاية التضرع وشدة الخضوع، حتى يكون تضرعه أهلا للقبول والإجابة.وعبر عن مجيء المائدة بالإنزال من السماء للإشارة إلى أنها هبة رفيعة، ونعمة شريفة، آتية من مكان عال مرتفع في الحس والمعنى، فيجب أن تقابل بالشكر لواهبها- عز وجل- وبتمام الخضوع والإخلاص له.وقوله تَكُونُ لَنا عِيداً صفة ثانية لمائدة، وقوله لَنا خبر كان وقوله عِيداً حال من الضمير في الظرف.قال الفخر الرازي: تأمل في هذا الترتيب، فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا، فقدموا ذكر الأكل فقالوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وأخروا الأغراض الدينية الروحانية.فأما عيسى فإنه لما ذكر المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال: وَارْزُقْنا وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحية، وبعضها جسمانية.ثم إن عيسى لشدة صفاء دينه لما ذكر الرزق انتقل إلى الرازق بقوله وَارْزُقْنا لم يقف عليه: بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. فقوله: رَبَّنا ابتداء منه بذكر الحق. وقوله أَنْزِلْ عَلَيْنا انتقال من الذات إلى الصفات.وقوله تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة، بل من حيث إنها صادرة من المنعم.وقوله: وَآيَةً مِنْكَ إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال.وقوله: وَارْزُقْنا إشارة إلى حصة النفس.ثم قال الإمام الرازي: فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون ثم قال: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق، ومن غير الله إلى الله، وعند ذلك تلوح لك سمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية إلى الكمالات الإلهية ونزولها .
5:115
قَالَ اللّٰهُ اِنِّیْ مُنَزِّلُهَا عَلَیْكُمْۚ-فَمَنْ یَّكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَاِنِّیْۤ اُعَذِّبُهٗ عَذَابًا لَّاۤ اُعَذِّبُهٗۤ اَحَدًا مِّنَ الْعٰلَمِیْنَ۠(۱۱۵)
اللہ نے فرمایا کہ میں اسے تم پر اُتارتا ہوں، پھر اب جو تم میں کفر کرے گا (ف۲۸۵) تو بیشک میں اسے وہ عذاب دوں گا کہ سارے جہان میں کسی پر نہ کروں گا(ف۲۸۶)

ثم ختم- سبحانه- حديثه عن هذه المائدة وما جرى بشأنها بين عيسى والحواريين من أقوال فقال- تعالى-: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.وقوله: مُنَزِّلُها ورد فيه قراءتان متواتران.إحداهما: منزلها- بتشديد الزاى- من التنزيل وهي تفيد التكثير أو التدريج كما تنبئ عن ذلك صيغة التفعيل. وبهذه القراءة قرأ ابن عامر وعاصم ونافع.وقرأ الباقون مُنَزِّلُها بكسر الزاى- من الإنزال المفيد لنزولها دفعة واحدة.والمعنى: قال الله- تعالى- إنى منزل عليكم المائدة من السماء إجابة لدعاء رسولي عيسى- عليه السلام- فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أى فمن يكفر بعد نزولها منكم أيها الطالبون لها فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أى: فإن الله- تعالى- يعذب هذا الكافر بآياته عذابا لا يعذب مثله أحدا من عالمي زمانه أو من العالمين جميعا.وقد أكد- سبحانه- عذابه للكافر بآيات الله بعد ظهورها وقيام الأدلة على صحتها بمؤكدات منها: حرف إن في قوله فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ ومنها: المصدر في قوله فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً إذ المفعول المطلق هنا لتأكيد وقوع الفعل وهو العذاب. ومنها: وصف هذا العذاب بأنه لا يعذب مثله لأحد من العالمين.وهذه المؤكدات لوقوع العذاب على الكافر بآيات الله بعد وضوحها من أسبابه: أن الكفر بعد إجابة ما طلبوه، وبعد رؤيته ومشاهدته وبعد قيام الأدلة على وحدانية الله وكمال قدرته، وبعد ظهور البراهين الدالة على صدق رسوله.أقول: الكفر بعد كل ذلك يكون سببه الجحود والعناد والحسد، والجاحد والمعاند والحاسد يستحقون أشد العذاب، وأعظم العقاب.هذا، وهنا مسألتان تتعلقان بهذه الآيات الكريمة، نرى من الخير أن نتحدث عنهما بشيء من التفصيل.المسألة الأولى: آراء العلماء في إيمان الحواريين وعدم إيمانهم.المسألة الثانية: آراء العلماء في نزول المائدة وعدم نزولها.وللاجابة عن المسألة الأولى نقول: لعل منشأ الخلاف في إيمان الحواريين وعدم إيمانهم مرجعه إلى قولهم لعيسى- كما حكى القرآن عنهم- هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ؟ فإن هذا القول يشعر بشكهم في قدرة الله على إنزال هذه المائدة.وقد ذهب فريق من العلماء- وعلى رأسهم الزمخشري- إلى عدم إيمانهم، وجعلوا الظرف في قوله: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ متعلقا بقوله قبل ذلك قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ.أى: أنهم قالوا لعيسى آمنا واشهد بأننا مسلمون، في الوقت الذي قالوا له فيه هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ فكأنهم ادعوا الإيمان والإسلام ادعاء بدون إيقان وإذعان، وإلا فلو كانوا صادقين في دعواهم لما قالوا لعيسى بأسلوب الاستفهام: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت: ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم اتبعه بقوله: إِذْ قالَ فإذن دعواهم كانت باطلة، وانهم كانوا شاكين، وقوله: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم. وكذلك قول عيسى لهم معناه: اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه ولا تحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى: إن كانت دعواكم للايمان صحيحة» .وذهب جمهور العلماء إلى أن الحواريين عند ما قالوا لعيسى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ كانوا مؤمنين واستدلوا على ذلك بأدلة منها:1- أن الظرف في قوله: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ ليس متعلقا بقوله: قالُوا آمَنَّا وإنما هو منصوب بفعل مضمر تقديره اذكر، وهذا ما رجحه العلامة أبو السعود في تفسيره فقد قال:قوله: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ كلام مستأنف مسوق لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام- وبين قومه منقطع عما قبله، كما ينبئ عنه الإظهار في موضع الإضمار وإذ منصوب بمضمر.وقيل: هو ظرف لقالوا أريد به التنبيه على أن ادعاءهم الايمان والإخلاص لم يكن عن تحقيق وإيقان ولا يساعده النظم الكريم» .2- أن قول الحواريين لعيسى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ لا يسحب عنهم الإيمان، وقد خرج العلماء قولهم هذا بتخريجات منها (أ) أن قولهم لم يكن من باب الشك في قدرة الله، وإنما هو من باب زيادة الاطمئنان عن طريق ضم علم المشاهدة إلى العلم النظري بدليل أنهم قالوا بعد ذلك نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا.وشبيه بهذا قول إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.قال القرطبي ما ملخصه: «الحواريون خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم، وقد كانوا عالمين باستطاعة الله لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى وقد كان إبراهيم علم ذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا كما قال إبراهيم وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .(ب) أن السؤال إنما هو عن الفعل لا عن القدرة عليه، وقد بسط الآلوسى هذا المعنى فقال: إن معنى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ هل يفعل ربك كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم معى مبالغة في التقاضي.والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من باب التعبير عن المسبب بالسبب، إذ هي- أى الاستطاعة- من أسباب الإيجاد .(ج) أن الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة- كما سبق أن أشرنا- ويشهد لذلك قول الفخر الرازي: قال السدى قوله هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ. أى: هل يطيعك ربك إن سألته. وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة .والذي نراه أن رأى الجمهور أرجح للأدلة التي ذكرناها، ولأن الله- تعالى- قد ذكر قبل هذه الآية أنه قد امتن عليهم بإلهامهم الإيمان فقال:وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ولأنهم لو كانوا غير مؤمنين لكشف الله عن حقيقتهم، فقد جرت سنته- سبحانه- مع أنبيائه أن يظهر لهم نفاق المنافقين حتى يحذروهم.ولأنهم لو كانوا غير مؤمنين، لما أمر الله أتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسى بهم في إخلاصهم ورسوخ يقيتهم قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ .وقال- تعالى- فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ .فهاتان الآيتان صريحتان في مدح الحواريين وفي أنهم قوم التفوا حول عيسى- عليه السلام- وناصروه مناصرة صادقة، وآمنوا به إيمانا سليما من الشك والتردد.وأما المسألة الثانية: وهي آراء العلماء في نزول المائدة: فالجمهور على أنها نزلت.وقد رجح ذلك ابن جرير فقال ما ملخصه: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال:إن الله أنزل المائدة.. لأن الله لا يخلف وعده، ولا يقع في خبره الخلف وقد قال- تعالى- مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى حين سأله ما سأله من ذلك إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وغير جائز أن يقول الله إنى منزلها عليكم ثم لا ينزلها، لأن ذلك منه- تعالى- خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر .وقد علق ابن كثير على ما رجحه ابن جرير فقال: وهذا القول هو- والله أعلم- الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم.ومن الآثار ما خرجه الترمذي عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد: فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخهم قردة وخنازير.قال الترمذي: وقد روى عن عمار من طريق موقوفا وهو أصح.وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن شهاب عن ابن عباس، أن عيسى ابن مريم قالوا له ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء. قال: فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها. عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة. فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .والذي يراجع بعض كتب التفسير يرى كلاما كثيرا عما كان على المائدة من أصناف الطعام، وعن كيفية نزولها ومكانه، وعن كيفية استقبالها وكشف غطائها، والأكل منها والباقي عليها بعد الأكل. وهذا الكلام الكثير رأينا من الخير أن نضرب عنه صفحا، لضعف أسانيده، ولأنه لا يخلو عن غرابة ونكارة- كما قال ابن كثير- فقد ذكر- رحمه الله أثرا طويلا في هذا المعنى ثم قال في نهايته: هذا أثر غريب جدا قطعه ابن حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم» .ويعجبني في هذا المقام قول ابن جرير: وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول. وجائز أن يكون هذا المأكول سمكا وخبزا، وجائز أن يكون من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به، إذا أقر تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل «2» .ويرى الحسن ومجاهد أن المائدة لم تنزل، فقد روى ابن جرير- بسنده- عن قتادة قال:كان الحسن يقول: لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.وروى منصور بن زادان عن الحسن أيضا أنه قال في المائدة: إنها لم تنزل.وروى ابن أبى حاتم وابن جرير عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد قال: هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء.أى: مثل ضربه الله للناس نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه.قال الحافظ ابن كثير: وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى. وليس في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله. وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا ولا أقل من الآحاد» .وقد علق بعض العلماء على كلام ابن كثير هذا فقال: ولنا أن نقول: إن هذا الاستدلال إن كان يعنى عدم نزولها فقط، فقد يكون له شيء من الوجاهة وإن كان يعنى أنها لم تنزل ولم يسأل، فهو محل نظر كبير، لأن السؤال ما لم ينته بإجابة كونية فعلية تبرز بها المائدة للناس ويرونها بأعينهم ويلمسونها بأيديهم فلا يعد بذلك مما تتوافر الدواعي على نقله، لا سيما وعيسى في بيته محصورة:جماعة سألوا وأجيبوا، وانتهى الأمر برجوعهم عما سألوا فعدم تواتر سؤالها في كتب النصارى أو عدم وجوده فيها لا يستغرب كما يستغرب الأمر فيما لو نزلت المائدة فعلا ورآها الناس فعلا وأكلوا منها. وتذوقوا طعامها، ولم يذكر عن ذلك شيء
5:116
وَ اِذْ قَالَ اللّٰهُ یٰعِیْسَى ابْنَ مَرْیَمَ ءَاَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوْنِیْ وَ اُمِّیَ اِلٰهَیْنِ مِنْ دُوْنِ اللّٰهِؕ-قَالَ سُبْحٰنَكَ مَا یَكُوْنُ لِیْۤ اَنْ اَقُوْلَ مَا لَیْسَ لِیْۗ-بِحَقٍّ ﳳ-اِنْ كُنْتُ قُلْتُهٗ فَقَدْ عَلِمْتَهٗؕ-تَعْلَمُ مَا فِیْ نَفْسِیْ وَ لَاۤ اَعْلَمُ مَا فِیْ نَفْسِكَؕ-اِنَّكَ اَنْتَ عَلَّامُ الْغُیُوْبِ(۱۱۶)
اور جب اللہ فرمائے گا (ف۲۸۷) اے مریم کے بیٹے عیسیٰ! کیا تو نے لوگوں سے کہہ دیا تھا کہ مجھے اور میری ماں کو دو خدا بنالو اللہ کے سوا (ف۲۸۸) عرض کرے گا، پاکی ہے تجھے (ف۲۸۹) مجھے روا نہیں کہ وہ بات کہوں جو مجھے نہیں پہنچتی (ف۲۹۰) اگر میں نے ایسا کہا ہو تو ضرور تجھے معلوم ہوگا تو جانتا ہے جو میرے جی میں ہے اور میں نہیں جانتا جو تیرے علم میں ہے، بیشک تو ہی ہے سب غیبوں کا خوب جاننے والا (ف۲۹۱)

ثم حكت السورة الكريمة ما سيقوله الله لعيسى يوم القيامة، وما سيرد به عيسى على خالقه- عز وجل- حتى تزداد حسرة الذين وصفوا المسيح وأمه. بما هما بريئان منه فقال- تعالى-:وقوله: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ.والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا القول إنما يكون في الآخرة- على الصحيح- والمعنى: واذكر أيها الرسول الكريم وليذكر معك كل مكلف وقت أن يسأل الله- تعالى- عبده ورسوله عيسى فيقول له يا عيسى: أأنت قلت للناس اتَّخِذُونِي أى: اجعلوني وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى من غير الله.قال القرطبي: اختلف في وقت هذه المقالة، فقال قتادة وابن جريج وأكثر المفسرين: إنما يقول له هذا يوم القيامة. وقال السدى وقطرب: قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت فإن إِذْ في كلام العرب لما مضى والأول أصح، يدل عليه ما قبله من قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الآية. كما يدل عليه ما بعده وهو قوله: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.وعلى هذا تكون إذ بمعنى إذا كما في قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ أى: إذا فزعوا فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي. لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه. كأنه قد وقع .وكان النداء بقوله- سبحانه- يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أى: بغير ذكر النبوة، للإشارة إلى الولادة الطبيعية التي تنفى أن يكون إلها أو ابن إله أو فيه عنصر الألوهية بأى وضع من الأوضاع لأن الألوهية والبشرية نقيضان لا يجتمعان فلا يمكن أن يكون البشر فيه ألوهية، ولا إله فيه بشرية.والتعبير بقوله اتَّخِذُونِي يدل على أنه ليس له حقيقة، بل هو في ذاته اتخاذ بما لا أصل له.والمقصود بالاستفهام في قوله: أَأَنْتَ قُلْتَ توبيخ للكفرة من قومه وتبكيت كل من نسب إلى عيسى وأمه ما ليس من حقهما، وفضيحتهم على رءوس الأشهاد في ذلك اليوم العصيب، لأن عيسى سينفى عن نفسه أمامهم أنه قال ذلك وإنما هو أمرهم بعبادة الله وحده. ولا شك أن النفي بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع وادعى لقيام الحجة على من وصفوه بما هو برىء منه.قال الآلوسى: واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم إلها.وأجيب عنه بأجوبة الأول: أنهم لما جعلوا عيسى إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده، فذكر إِلهَيْنِ على طريق الإلزام لهم.والثاني: أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.والثالث: أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك. ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامى عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم: المريمية، يعتقدون في مريم الألوهية وهو أولى الأوجه عندي .وقوله- تعالى- قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ بيان لما أجاب به عيسى على خالقه- عز وجل-.أى: قال عيسى مجيبا ربه بكل أدب وإذعان: تنزيها لك- يا إلهى- عن أن أقول هذا القول، فإنه ليس من حقي ولا من حق أحد أن ينطق به.فأنت ترى أن سيدنا عيسى- عليه السلام- قد صدر كلامه بالتنزيه المطلق لله- عز وجل- ثم عقب ذلك بتأكيد هذا التنزيه، بأن أعلن بأنه ليس من حقه أن يقول هذا القول، لأنه عبد له- تعالى- ومخلوق بقدرته. ومرسل منه لهداية الناس فكيف يليق بمن كان شأنه كذلك أن يقول لمن أرسل إليهم اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.ثم أضاف إلى كل ذلك الاستشهاد بالله- تعالى- على براءته، وإظهار ضعفه المطلق أمام علم خالقه وقدرته فقال- كما حكى القرآن عنه- إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.أى: إن كنت قلت هذا القول وهو اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فأنت تعلمه ولا يخفى عليك منه شيء- لأنك أنت- يا إلهى- تعلم ما في نَفْسِي أى ما في ذاتى، ولا أعلم ما في ذاتك.والمراد: تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم، وتعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وتعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل إنك أنت- يا إلهى- علام الغيوب.فهذه الجملة الكريمة بجانب تأكيدها لنفى ما سئل عنه عيسى- عليه السلام- تدل بأبلغ تعبير على إثبات شمول علم الله- تعالى- بكل شيء، وقد أكد عيسى ذلك، بإن المؤكدة وبالضمير أنت، وبصيغة المبالغة «علّام» وبصيغة الجمع للفظ «الغيوب» فهو لم يقل: إنك أنت عالم الغيب وإنما قال- كما حكى القرآن عنه- إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ بكل أنواعها، وبكل ما يتعلق بالكائنات كلها.
5:117
مَا قُلْتُ لَهُمْ اِلَّا مَاۤ اَمَرْتَنِیْ بِهٖۤ اَنِ اعْبُدُوا اللّٰهَ رَبِّیْ وَ رَبَّكُمْۚ-وَ كُنْتُ عَلَیْهِمْ شَهِیْدًا مَّا دُمْتُ فِیْهِمْۚ-فَلَمَّا تَوَفَّیْتَنِیْ كُنْتَ اَنْتَ الرَّقِیْبَ عَلَیْهِمْؕ-وَ اَنْتَ عَلٰى كُلِّ شَیْءٍ شَهِیْدٌ(۱۱۷)
میں نے تو ان سے نہ کہا مگر وہی جو تو نے مجھے حکم دیا تھا کہ ا لله کو پوجو جو میرا بھی رب اور تمھا ر ا بھی رب اور میں ان پر مطلع تھا جب تک ان میں رہا، پھر جب تو نے مجھے اٹھالیا (ف۲۹۲) تو تُو ہی ان پر نگاہ رکھتا تھا، اور ہر چیز تیرے سامنے حاضر ہے(ف۲۹۳)

وبعد هذا التنزيه من عيسى- عليه السلام- لله عز وجل-، وبعد هذا النفي المؤكد لما سئل عنه بعد كل ذلك يحكى القرآن ما قاله عيسى لقومه فيقول: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ أى: ما قلت لهم- يا إلهى- اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وإنما القول الذي قلته لهم هو الذي أمرتنى أن أبلغهم إياه وهو عبادتك وحدك لا شريك لك، فأنت ربي وربهم، وأنت الذي خلقتني وخلقتهم، فيجب أن ندين لك جميعا بالعبادة والخضوع والطاعة، وأنت تعلم يا الهى- أننى لم أقصر في ذلك، وأننى كنت رقيبا وشهيدا على قومي، وداعيا لهم إلى اخلاص العبادات لك والعمل بموجب أمرك مدة بقائى فيهم.قال الفخر الرازي: وأن في قوله أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مفسرة والمفسر هو الهاء في (به) من قوله إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وهو يعود إلى القول المأمور به.والمعنى: ما قلت لهم إلا قولا أمرتنى به، وذلك القول هو أن: اعبدوا الله ربي وربكم.واعلم أنه كان الأصل أن يقال: ما أمرتهم إلا بما أمرتنى به إلا أنه وضع القول موضع الأمر، نزولا على موجب الأدب الحسن لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معا، ودل على الأصل بذكر أن المفسرة .وقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بيان لانتهاء مهمته بعد فراقه لقومه.أى: أنت تعلم يا إلهى بأنى ما أمرتهم إلا بعبادتك وبأنى ما قصرت في حملهم على طاعتك مدة وجودى معهم، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يا إلهى أى: قبضتني بالرفع إلى السماء حيا، كنت أنت الرقيب عليهم، أى: كنت أنت وحدك الحفيظ عليهم المراقب لأحوالهم، العليم بتصرفاتهم.الخبير بمن أحسن منهم وبمن أساء وأنت- يا إلهى- على كل شيء شهيد، لا تخفى عليك خافية من أمور خلقك.هذا. وما ذهبنا إليه من أن معنى فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أى: قبضتني بالرفع إلى السماء حيا قول جمهور العلماء.ومنهم من يرى أن معنى فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أى: أمتنى وزعموا أن رفعه إلى السماء كان بعد موته.قال بعض العلماء مؤيدا ما ذهب أليه الجمهور قوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أى فلما أخذتنى وافيا بالرفع إلى السماء حيا، إنجاء لي مما دبروه من قتلى، من التوفي وهو أخذ الشيء وافيا أى كاملا.وقد جاء التوفي بهذا المعنى في قوله- تعالى- يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا....ولا يصح أن يحمل التوفي على الإماتة، لأن إماتة عيسى في وقت حصار أعدائه له ليس فيها ما يسوغ الامتنان بها، ورفعه إلى السماء جثة هامدة سخف من القول، وقد نزه الله السماء أن تكون قبرا لجثث الموتى، وإن كان الرفع بالروح فقط، فأى مزية لعيسى في ذلك على سائر الأنبياء، والسماء مستقر أرواحهم الطاهرة فالحق أنه- عليه السلام- رفع إلى السماء حيا بجسده وروحه وقد جعله الله آية، والله على كل شيء قدير» .وقال الشيخ القاسمى: وقد دلت الآية الكريمة على أن الأنبياء بعد استيفاء أجلهم الدنيوي، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا» أى غير مختونين- ثم قال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ألا وإنه يجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابى فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح، وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، فيقال لي: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» .
5:118
اِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَاِنَّهُمْ عِبَادُكَۚ-وَ اِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَاِنَّكَ اَنْتَ الْعَزِیْزُ الْحَكِیْمُ(۱۱۸)
اگر تو انہیں عذاب کرے تو وہ تیرے بندے ہیں، اور اگر تو انہیں بخش دے تو بیشک تو ہی ہے غالب حکمت والا (ف۲۹۴)

وبعد أن أجاب عيسى على سؤال ربه تلك الإجابة الموفقة. فوض الأمر إليه- سبحانه- في شأن قومه. فقال- كما حكى القرآن عنه إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.أى: إن تعذب- يا إلهى- قومي، فإنك تعذب عبادك الذين خلقتهم بقدرتك، والذين تملكهم ملكا تاما، ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بمملوكه. وإن تغفر لهم، وتستر سيئاتهم وتصفح عنهم فذلك إليك وحدك، لأن صفحك عمن تشاء من عبادك هو صفح القوى القاهر الغالب الذي لا يعجزه شيء. والذي يضع الأمور في مواضعها بمقتضى حكمته السامية وقد قال بعض المفسرين هنا: كيف جاز لعيسى أن يقول: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ والله- تعالى- لا يغفر أن يشرك به؟وقد أجاب عن ذلك الإمام القرطبي بقوله: قول عيسى وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ قاله على وجه الاستعطاف لهم، والرأفة بهم، كما يستعطف السيد لعبده، ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك. وقيل قاله على وجه التسليم لأمره، والاستجارة من عذابه، وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر وقيل. الهاء والميم في إِنْ تُعَذِّبْهُمْ لمن مات منهم على الكفر. والهاء والميم في قوله: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ لمن تاب منهم قبل الموت. وهذا وجه حسن» .أقول: هذا الوجه الثالث الذي ذكره القرطبي قد اكتفى به بعض المفسرين فقال: قوله:إِنْ تُعَذِّبْهُمْ أى: من أقام على الكفر منهم فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ أى: لمن آمن منهم فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره الْحَكِيمُ في صنعه .ومع وجاهة هذا الوجه فإننا نرى أن الآية الكريمة حكاية للتفويض المطلق الذي فوضه عيسى إلى ربه- سبحانه- في شأن قومه ولهذا قال ابن كثير:هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله- تعالى- فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وكذبوا على رسوله، وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا.وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.فقد روى الإمام أحمد عن أبى ذر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة: فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الآية فلما أصبح قلت: يا رسول الله ألم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال: إنى سألت ربي- عز وجل الشفاعة لأمتى فأعطانيها- وهي نائلة- إن شاء الله- لمن لا يشرك بالله شيئا» .وبعد أن حكى القرآن الكريم ما رد به عيسى عليه السلام- على قول ربه وخالقه- سبحانه- أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وقد تضمن هذا الرد- كما سبق أن بينا- التنزيه المطلق لله- تعالى-، والنفي التام لأن يكون عيسى قد قال هذا القول.بعد كل ذلك ختم- سبحانه تلك المجاوبة ببيان حسن عاقبة الصادقين يوم القيامة فقال- تعالى-:
5:119
قَالَ اللّٰهُ هٰذَا یَوْمُ یَنْفَعُ الصّٰدِقِیْنَ صِدْقُهُمْؕ-لَهُمْ جَنّٰتٌ تَجْرِیْ مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهٰرُ خٰلِدِیْنَ فِیْهَاۤ اَبَدًاؕ-رَضِیَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوْا عَنْهُؕ-ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِیْمُ(۱۱۹)
اللہ نے فرمایا کہ یہ (ف۲۹۵) ہے وہ دن جس میں سچوں کو (ف۲۹۶) ان کا سچ کام آئے گا، ان کے لئے باغ ہیں جن کے نیچے نہریں رواں ہمیشہ ہمیشہ رہیں گے، اللہ ان سے راضی اور وہ اللہ سے راضی، یہ ہے بڑی کامیابی،

قال الآلوسى: قالَ اللَّهُ كلام مستأنف ختم به- سبحانه- حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل. وأشير إلى نتيجته ومآله. والمراد بقول الله- تعالى- عقيب جواب عيسى الإشارة إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم .والمراد باليوم في قوله هذا يَوْمُ يوم القيامة الذي تجازى فيه كل نفس بما كسبت وقد قرأ الجمهور برفع يَوْمُ من غير تنوين على أنه خبر لاسم الإشارة أى: قال الله- تعالى-: إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينتفع الصادقون فيه بصدقهم في إيمانهم وأعمالهم، لأنه يوم الجزاء والعطاء على ما قدموا من خيرات في دنياهم.أى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم يوم القيامة، بخلاف صدق الكفار يوم القيامة فإنه لا ينفعهم، لأنهم لم يكونوا مؤمنين في دنياهم.وقرأ نافع (يوم) بالنصب من غير تنوين على أنه ظرف لقال. أى: قال الله- تعالى- هذا القول لعيسى يوم ينفع الصادقين صدقهم.وقوله: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً جملة مستأنفه لبيان مظاهر النفع الذي ظفر به الصادقون في هذا اليوم.أى: أن هؤلاء الصادقين في دنياهم قد نالوا في آخرتهم جنات تجرى من تحت أشجارها وسررها الأنهار خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى: مقيمين فيها إقامة دائمة لا يعتريها انقطاع وقوله:رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أى: رضى الله عنهم فأعطاهم بسبب إيمانهم الصادق وعملهم الصالح عطاء هو نهاية الآمال والأمانى. ورضوا عنه بسبب هذا العطاء الجزيل الذي لا تحيط العبارة بوصفه.واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعود إلى ما انتفع به الصادقون من جنات تجرى من تحتها الأنهار. ومن رضا الله عنهم. أى: إلى النعيم الجثمانى المتمثل في الجنات وما يتبعها من عيشة هنيئة، وإلى النعيم الروحاني المتمثل في رضا الله عنهم.قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب. وحقيقة الثواب: أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم، وقوله خالِدِينَ فِيها أَبَداً إشارة إلى الدوام. واعتبر هذه الدقيقة: فإنه أينما ذكر الثواب قال خالِدِينَ فِيها أَبَداً وأينما ذكر العقاب للفساق من أهل الإيمان، ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأييد، وأما قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ فتحته أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها» .
5:120
لِلّٰهِ مُلْكُ السَّمٰوٰتِ وَ الْاَرْضِ وَ مَا فِیْهِنَّؕ-وَ هُوَ عَلٰى كُلِّ شَیْءٍ قَدِیْرٌ۠(۱۲۰)
اللہ ہی کے لئے ہے آسمانوں اور زمین اور جو کچھ ان میں ہے سب کی سلطنت، اور وہ ہر چیز پر قادر ہے(ف۲۹۷)

ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذه الآية الدالة على شمول ملكه لكل شيء في هذا الكون فقال: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى: لله- تعالى- وحده دون أحد سواه الملك الكامل للسموات وللأرض ولما فيهن من كل كائن وهو- سبحانه- على كل شيء قدير لا يعجزه أمر أراده، ومن زعم أن له شريكا- سواء أكان هذا الشريك عيسى أم أمه أم غيرهما- فقد أعظم الفرية وتسر بل بالجهل، وكان مستحقا لخزي الدنيا، وعذاب الآخرة.وقال- سبحانه- وَما فِيهِنَّ فغلب غير العقلاء، للإشارة إلى أن كل المخلوقات مسخرة في قبضة قهره وقدرته وقضائه وقدره وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها. إذ أن قدرة سائر المخلوقات بالنسبة لقدرة الله كلا قدرة.وإن هذه الآية الكريمة، لمتسقة كل الاتساق مع الآية التي قبلها، لأنه- سبحانه- بعد أن بين جزاء الصادقين في دنياهم عقبه ببيان سعة ملكه، وشمول قدرته الدالين على أن هذا الجزاء لا يقدر عليه أحد سواه- سبحانه-.وإن هذه الآية الكريمة- أيضا- لمتسقة كل الاتساق لأن تكون خاتمة لهذه السورة التي ساقت ما ساقت من تشريعات وأحكام وآداب وهدايات ومن حجج حكيمة، وأدلة ساطعة دحضت بها الأقوال الباطلة التي افتراها أهل الكتاب-. خصوصا النصارى- على عيسى وأمه مريم، وبرهنت على أن عيسى وأمه ما هما إلا عبدان من عباد الله، يدينان له بالعبادة والطاعة والخضوع، ويأمران غيرهما بأن ينهج نهجهما في ذلك.ثم أما بعد: فهذا ما وفقني الله- تعالى- لكتابته في تفسير سورة المائدة، تلك السورة التي اشتملت- من بين ما اشتملت- على كثير من التشريعات التي تتعلق بالحلال والحرام وبالعبادات والحدود والقصاص والأيمان. كما اشتملت على كثير من الآيات التي تتعلق بأهل الكتاب فذكرت حكم أطعمتهم وحكم الزواج بالمحصنات من نسائهم، كما ذكرت أقوالهم الباطلة في شأن عيسى وأمه وردت على مزاعمهم بما يدحض مفترياتهم في هذا الشأن وفي غيره.والله أسأل أن يجعل ما كتبناه خالصا لوجهه، ونافعا وشفيعا لنا يوم نلقاه يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه واتباعه إلى يوم الدين.
  FONT
  THEME
  TRANSLATION
  • English | Ahmed Ali
  • Urdu | Ahmed Raza Khan
  • Turkish | Ali-Bulaç
  • German | Bubenheim Elyas
  • Chinese | Chineese
  • Spanish | Cortes
  • Dutch | Dutch
  • Portuguese | El-Hayek
  • English | English
  • Urdu | Fateh Muhammad Jalandhry
  • French | French
  • Hausa | Hausa
  • Indonesian | Indonesian-Bahasa
  • Italian | Italian
  • Korean | Korean
  • Malay | Malay
  • Russian | Russian
  • Tamil | Tamil
  • Thai | Thai
  • Farsi | مکارم شیرازی
  TAFSEER
  • العربية | التفسير الميسر
  • العربية | تفسير الجلالين
  • العربية | تفسير السعدي
  • العربية | تفسير ابن كثير
  • العربية | تفسير الوسيط لطنطاوي
  • العربية | تفسير البغوي
  • العربية | تفسير القرطبي
  • العربية | تفسير الطبري
  • English | Arberry
  • English | Yusuf Ali
  • Dutch | Keyzer
  • Dutch | Leemhuis
  • Dutch | Siregar
  • Urdu | Sirat ul Jinan
  HELP

اَلْمَـآئِدَة
اَلْمَـآئِدَة
  00:00



Download

اَلْمَـآئِدَة
اَلْمَـآئِدَة
  00:00



Download