READ

Surah Al-Anfaal

 اَلْاَ نْفَال
75 Ayaat    مدنیۃ


8:0
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِیْمِ
اللہ کے نام سے شروع جو بہت مہربان رحمت والا

سورة الفاتحة هي السورة الوحيدة التي أمر الإسلام أتباعه أن يقرءوها في كل صلاة. وفي جميع الركعات، وفي كل الأوقات، ولهذا أصبح حفظها ميسورا لكل مؤمن.وهذه السورة على صغر حجمها، وقلة آياتها، قد اشتملت بوجه إجمالي على مقاصد الدين من توحيد، وتعبد، وأحكام، ووعد ووعيد.ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسيرها بالتفصيل، أن نمهد لذلك بالكلام عما يأتي:أولا: متى نزلت سورة الفاتحة؟للإجابة على هذا السؤال نقول: إن الرأي الراجح بين المحققين من العلماء أنها نزلت بمكة، بل هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة.وقيل: إنها مدنية. وقيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة.قال القرطبي: الأول أصح لقوله- تعالى- في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وسورة الحجر مكية بالإجماع. ولا خلاف في أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه لم يكن في الإسلام قط صلاة بغير الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «يدل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» . وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء» .ثانيا: عدد آياتها: وهي سبع آيات لقوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. قال العلماء: السبع المثاني هي الفاتحة.وقال ابن كثير: هي سبع آيات بلا خلاف. وقال عمرو بن عبيد: هي ثماني آيات لأنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية. وقال حسين الجعفي: هي ست آيات وهذان القولان شاذان» .ثالثا: أسماؤها: لسورة الفاتحة أسماء كثيرة من أشهرها:1- «الفاتحة أو فاتحة الكتاب، وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا. وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا، وتفتتح بها الصلوات، وإن لم تكن هي أول ما نزل من القرآن. وقد اشتهرت بهذا الاسم في أيام النبوة.وقد أصبح هذا الاسم علما بالغلبة لتلك الطائفة من الآيات التي مبدؤها الْحَمْدُ لِلَّهِ..ونهايتها.. وَلَا الضَّالِّينَ.2- «أم القرآن أو الكتاب» وسميت بذلك لاشتمالها إجمالا على المقاصد التي ذكرت فيه تفصيلا، أو لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله بما هو أهله، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء.قال ابن جرير: «والعرب تسمى كل أمر جامع أمّا، وكل مقدم له توابع تتبعه «أما» فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ: «أم الرأس» . وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها «أما» .3- «السبع المثاني» جمع مثنى كفعلي اسم مكان. أو مثنى- بالتشديد- من التثنية على غير قياس. وسميت بذلك لأنها سبع آيات في الصلاة، أى تكرر فيها أخرج الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم» .4- وتسمى- أيضا- سورة «الحمد» . 5- و «الكنز» . 6- و «الواقية» .7- و «الشفاء» ، لحديث. هي الشفاء من كل داء.8- و «الكافية» لأنها تكفي عن سواها ولا يكفى سواها عنها.9- و «الأساس» . 10- و «الرقية» .هذا، وقد ذكر القرطبي للفاتحة اثنى عشر اسما، كما ذكر السيوطي لها في كتابه «الإتقان» خمسة وعشرين اسما.رابعا: فضلها: ورد في فضل سورة الفاتحة أحاديث كثيرة منها:ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى- رضي الله عنه- قال:كنت أصلي في المسجد، فدعاني النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلّي.فقال: ألم يقل الله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ.ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد» . ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت: يا رسول الله. ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» .وروى مسلّم والنسائي، عن ابن عباس، قال:بينما جبريل قاعد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه- أي: صوتا- فرفع رأسه فقال:هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، ولم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته» .وروى مسلّم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:«من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا) : غير تمام» فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: قال الله- تعالى-: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل» ، فإذا قال العبد:الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال:إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال:اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.قال الله: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» .وأخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن جابر، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: اقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى تختمها .تلك هي بعض الأحاديث التي وردت في فضل هذه السورة الكريمة.وقد ذكر العلماء أنه يسن للمسلّم قبل القراءة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، استجابة لقوله- تعالى- فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ .ومعنى «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» : ألتجئ إلى الله وأتحصن به، واستجير بجنابه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي.قال ابن كثير: «والشيطان في لغة العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء.وهو مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع الشر، وبعيد بفسقه عن كل خير.وقيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار. والأول أصح إذ عليه يدل كلام العرب، فهم:يقولون تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشيطان، ولو كان من شاط. لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح» .والرجيم: فعيل بمعنى مفعول أي أنه مرجوم مطرود من رحمة الله ومن كل خير، وقيل:رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والشكوك.قال بعض العلماء: «وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة مع أنه قد أمر بها على وجه العموم في جميع الشئون، لأن القرآن مصدر الهداية والشيطان مصدر الضلال، فهو يقف للإنسان بالمرصاد في هذا الشأن على وجه خاص، فيثير أمامه ألوانا من الشكوك فيما يقرأ، وفيما يفيد من قراءته، وفيما يقصد بها، فيفوت عليه الانتفاع بهدى الله وآياته، فعلمنا الله أن نتقي ذلك كله بهذه الاستعاذة التي هي في الواقع عنوان صدق، وتعبير حق، عن امتلاء قلب المؤمن بمعنى اللجوء إلى الله، وقوة عزيمته في طرد الوساوس والشكوك، واستقبال الهداية بقلب طاهر،وعقل واع، وإيمان ثابت» .قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .والآن وبعد هذا التمهيد الموجز الذي تكلمنا فيه عن نزول سورة الفاتحة، وعن عدد آياتها، وعن أشهر أسمائها، وعن بعض الأحاديث التي وردت في فضلها نحب أن نبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول- وبالله التوفيق-: بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الاسم: اللفظ الذى يدل على ذات أو معنى. وقد اختلف النحويون في اشتقاقه على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو، وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به.وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، فأصل اسم على هذا " وسم ".ويرى المحققون أن رأي البصريين أرجح، لأنه يقال في تصغير " اسم " سُمىَ، وفي جمعه أسماء، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. ولو كان أصله وسم - كما قال الكوفيون - لقيل في جمعه: أوسام، وفي تصغيره وسيم.ولفظ الجلالة وهو " الله " علم على ذات الخالق - عز وجل - تفرد به - سبحانه - ولا يطلق على غيره، ولا يشاركه فيه أحد.قال القرطبي: قوله " الله " هذا الاسم أكبر أسمائه - سبحانه - وأجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن ولم يجمع: فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإِلهية، المنعوت بنعوت الربوبيه، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو - سبحانه -و ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيمِ صفتان مشتقتان من الرحمة. والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإِحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفاً لله - تعالى-، ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإِحسان. وفسرها آخرون بالإِحسان نفسه.والموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته - تعالى - لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان.وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين، فبعضهم يرى أن ٱلرَّحْمٰنِ هو المنعم على جميع الخلق. وأن ٱلرَّحِيمِ هو المنعم على المؤمنين خاصه. ويرى آخرون أن ٱلرَّحْمٰنِ هو المنعم بجلائل النعم، وأن ٱلرَّحِيمِ هو المنعم بدقائقها.ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثاني منهما تأكيد للأول. والذى يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد، بل روعي فب كل منهما معنى لم يراع في الآخر، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران. والرحيم بمعنى دائم الرحمة، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف. فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمة.أو أن ٱلرَّحْمٰنِ صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإِحسان. و ٱلرَّحِيمِ صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإِحسان وتعديهما إلى المنعم عليه.ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأنِ في أسماء الذات. قال - تعالى-: ٱلرَّحْمَٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ و ٱلرَّحْمَٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَٰنَ وهكذا...أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفاً فعلياً، وجاء في الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه. قال - تعالى - إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً إلخ.قال بعض العلماء " وهذا الرأي في نظرنا هو أقوى الآراء، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه، كما أنه ليس مستساغاً أن يقال في القرآن: إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها ".والجار والمجرور " بسم " متعلق بمحذوف تقديره ابتدئ.والمعنى: ابتدئ قراءتي متبركاً ومتيمناً باسم الله الذى هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، والذى رحمته وسعت كل شيء، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة.هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل فى قوله - تعالى - إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة، أو هى آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة ألخ.فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه، ولذا لم يكتبوا " آمين ". فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة.وبهذا الرأي قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعي، وأحمد في أحد قوليه.ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقالوا: إنها آية فذة. من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة، لما اختلف الناس في ذلك، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط.وكما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة، فقد وقع الخلاف بينهم - أيضاً - في وجوب قراءتها فى الصلاة، وفي الجهر بها أو الإِسرار إذا قرئت.وتحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه، وإلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام.
8:1
یَسْــٴَـلُوْنَكَ عَنِ الْاَنْفَالِؕ -قُلِ الْاَنْفَالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُوْلِۚ-فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ اَصْلِحُوْا ذَاتَ بَیْنِكُمْ۪-وَ اَطِیْعُوا اللّٰهَ وَ رَسُوْلَهٗۤ اِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِیْنَ(۱)
اے محبوب! تم سے غنیمتوں کو پوچھتے ہیں (ف۲) تم فرماؤ غنیمتوں کے مالک اللہ اور رسول ہیں (ف۳) تو اللہ ڈرو (ف۴) اور اپنے آ پس میں میل (صلح صفائی) رکھو اور اللہ اور رسول کا حکم مانو اگر ایمان رکھتے ہو،

سورة الأنفالتمهيد بين يدي تفسير السورة1- سورة الأنفال هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف، فقد تقدمتها سورة الفاتحة وهي مكية، ثم جاءت بعد سورة الفاتحة أربع سور مدنية، هن أطول السور المدنية في القرآن الكريم، وهن سور: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة. ثم جاءت بعد هذه السور الأربع سورتان مكيتان، وهما أطول السور المكية في القرآن، سورتا: الأنعام والأعراف.ثم جاءت سورة الأنفال بعد ذلك، فكانت الثامنة في ترتيب سور المصحف.2- وعدد آياتها خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي، وست وسبعون في الحجازي، وسبع وسبعون في الشامي.3- وقد سميت سورة الأنفال بهذا الإسم، لحديثها عن الأنفال أى الغنائم في أكثر من موضع.وقد أطلق عليها بعض الصحابة سورة بدر، فقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عنها فقال: تلك سورة بدر .4- وسورة الأنفال كلها مدنية، وممن قال بذلك: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح والحسن، وعكرمة.قال صاحب المنار: وقيل إنها مدنية إلا آية «64» وهي قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب، فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام، وروى عن مقاتل استثناء قوله- تعالى- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ ... «الآية «30» لأن موضوعها ائتمار قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة، بل في الليلة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبى بكر بقصد الهجرة وباتا في الغار، وهذا استنباط من المعنى، وهو استنباط يرده ما صح عن ابن عباس من أن الآية نفسها نزلت في المدينة.وزاد بعضهم استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية، وهي قوله- تعالى-: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا.. إلى قوله: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ «الآيات من 31- 35» لأن موضوعها حال كفار قريش في مكة، وهذا لا يقتضى نزولها في مكة، بل ذكّر الله بها رسوله بعد الهجرة، وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني».والذي ترتاح إليه النفس أن سورة الأنفال جميعها مدنية، وأن ما في بعض آياتها من أوصاف لأحوال المشركين في مكة قبل الهجرة لا يعنى كون هذه الآيات مكية لأن هذه الآيات إنما هي من باب تذكير الرسول وأصحابه بما كان عليه أولئك القوم من عناد ومكابرة وانحراف عن الطريق القويم، أدى بهم إلى الهزيمة في بدر وفي غيرها من المعارك التي كان النصر فيها للمؤمنين.5- وقد ذكر بعض المفسرين- ومنهم الزمخشري- أن سورة الأنفال نزلت بعد سورة البقرة، ولعل مرادهم بذلك أن نزولها كان بعد نزول بعض الآيات من سورة البقرة، لأنه من المعروف أن سورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة، وإنما ابتدأ نزولها بعد الهجرة، ثم امتد هذا النزول لآياتها إلى قبيل وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بمدة قصيرة.6- قال الآلوسى: ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن سورة الأعراف فيها خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ... وفي هذه- أى الأنفال- كثير من أفراد المأمور به، وفي الأعراف ذكر قصص الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم، وفي هذه ذكره صلى الله عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه.وقد فصل- سبحانه- في تلك- قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ...وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله- تعالى-: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها ... وصرح بذلك هنا إذ يقول.. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا ... إلى غير ذلك من المناسبات.ثم قال الآلوسى: «والظاهر أن وضعها هنا توقيفي، وكذا وضع براءة بعدها، وإلى ذلك ذهب غير واحد ... ».والحق أنه بمطالعتنا لما يقوله الآلوسى وغيره من المفسرين في بيان وجه مناسبة السورة للتي قبلها، نرى أن هذه الأقوال لا تخلو من تكلف، وأن كثيرا مما ذكروه من مناسبات بين سورتين معينتين لا يختص بهما، بل هو موجود فيهما وفي غيرهما.فالآلوسى- مثلا- يجعل من وجوه مناسبة الأنفال للأعراف أن الأعراف فيها وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ. وأن الأنفال فيها كثير من أفراد المأمور به..وهذا المعنى نراه في كثير من السور المتتالية، فسورة آل عمران- مثلا- من بين آياتها قوله- تعالى-: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...وسورة النساء- التي بعدها- فيها- أيضا- كثير من أفراد المأمور به لأن الأمر بالمعروف من الدعائم التي يقوم عليها المجتمع الإسلامى.والذي تميل إليه النفس أن ترتيب السور توقيفي، وأن كل سورة لها موضوعاتها التي نراها بارزة بصورة تميزها عن غيرها.7- وسورة الأنفال عند ما نتأمل ما اشتملت عليه من آيات، نراها تحدثنا- في مجموعها- عن غزوة بدر، فتعرض أحداثها الظاهرة، كما تعرض بشارات النصر فيها، وتكشف عن قدرة الله وتدبيره في وقائع هذه الغزوة الحاسمة، وتبين كثيرا من الإرشادات والتشريعات الحربية التي يجب على المؤمنين اتباعها حتى ينالوا النجاح والفلاح.أخرج البخاري عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر:(أ) لقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن قسمة الأنفال أى- الغنائم- مردها إلى الله ورسوله، وأن على المؤمنين أن يذعنوا لما يفعله فيها رسولهم صلى الله عليه وسلم ثم وصفت المؤمنين الصادقين أكمل وصف، وبشرتهم بأسمى المنازل، وأرفع الدرجات.قال- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.(ب) وبعد هذا الحديث الطيب عن أوصاف المؤمنين الصادقين، تبدأ السورة في الحديث عن حال بعض الذين اشتركوا في غزوة بدر، وكيف أنهم كرهوا القتال في أول الأمر، لأنهم لم يخرجوا من أجله وإنما خرجوا من أجل الحصول على التجارة التي قدم بها مشركو قريش من بلاد الشام لكن الله- تعالى- أراد أن يعلمهم وغيرهم أن الخير فيما قدره، لا فيما يقدرون ويريدون.استمع إلى السورة الكريمة بتأمل وتدبر وهي تصور هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول.كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.(ج) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألوانا من البشارات التي تشعر المؤمنين بأن الله- تعالى- قد أجاب لهم دعاءهم، وأنه- سبحانه- سيجعل النصر في هذه المعركة حليفا لهم.ومن مظاهر هذه البشارات أن الله- تعالى- أمدهم بألف من الملائكة مردفين، وأمدهم بالنعاس ليكون مصدر طمأنينة لقلوبهم، وأمدهم بمياه الأمطار ليتطهروا بها، ولتثبت الأرض من تحتهم، وأمدهم قبل ذلك وبعده بعونه الذي جعلهم يقبلون على قتال أعدائهم بقلوب ملؤها الإقدام والشجاعة.قال- تعالى-: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.(د) ثم وجهت السورة الكريمة خمسة نداءات إلى المؤمنين، أرشدتهم في كل واحد منها إلى ما فيه خيرهم وفلاحهم.فقد أمرتهم في النداء الأول بالثبات في وجوه أعدائهم، ونهتهم عن الفرار منهم، وهددت من يوليهم دبره بسوء المصير، وأخبرتهم بأن الله معهم ما داموا معتمدين عليه، ومستجيبين لما يدعوهم إليه.وأمرتهم في النداء الثاني بطاعة الله ورسوله، وحذرتهم من المعصية، ومن التشبه بالكافرين الذين «قالوا سمعنا وهم لا يسمعون» .وأمرتهم في النداء الثالث بالمسارعة إلى أداء ما كلفوا به من تكاليف فيها سعادتهم وفلاحهم، وخوفتهم من ارتكاب ذنوب لا يحيق شرها بالذين ارتكبوها وحدهم، وإنما يعمهم وغيرهم ممن رأوا المنكر فلم يعملوا على تغييره.ونهتهم في النداء الرابع عن خيانة الله ورسوله، أى: عن ترك فرائض الله، وعن هجر سنة رسوله.. وحذرتهم من أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن طاعة الله وعن أداء واجباته.ثم بشرتهم في النداء الخامس بأنهم إذا ما اتقوا الله حق تقاته، فإنه- سبحانه- سيرزقهم الهداية والنصر والنجاة من كل مكروه.تدبر معى- أخى القارئ- هذه النداءات، وما اشتملت عليه من توجيهات سامية وإرشادات عالية، حيث يقول- سبحانه-:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ..يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ..يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ..يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ..يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ..(ه) ثم أخذت السورة بعد ذلك في تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم ليزدادوا له شكرا، وفي تصوير ما عليه الكافرون من جهل وعناد وخسران.فحكت ما قالوه في شأن القرآن من كذب ومكابرة.وحكت استهزاءهم بالدين، وإمعانهم في الجحود، وتعجلهم للعذاب..وحكت ما كانوا يقومون به من تصفيق ولغو عند قراءة القرآن، حتى يشغلوا الناس عن سماعه..وحكت مسارعتهم إلى إنفاق أموالهم، لا في وجوه الخير، ولكن في وجوه الشر التي ستكون عاقبتها الخسران وسوء المصير.وبعد أن حكت كل هذه الرذائل عن الكافرين، أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم أنهم إذا ما انتهوا عن كفرهم وعنادهم، فإن الله- تعالى- سيغفر لهم ما سلف من ذنوبهم.أما إذا استمروا في طغيانهم وجحودهم، فستدور الدائرة عليهم.قال- تعالى-: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.(و) وبعد أن افتتحت السورة الكريمة بالحديث المجمل عن الغنائم وساقت في أعقابه ما ساقت من توجيه وإرشاد وترغيب وترهيب.بعد كل ذلك عادت السورة إلى الحديث عن الغنائم، ففصلت ما أجملته في مطلعها، وذكّرت المؤمنين بنعم أخرى منحهم الله إياها في بدر.ومن ذلك: أنّه- سبحانه- هيأ لهم المكان المناسب لقتال أعدائهم، وجعل اللقاء الحاسم بين الفريقين بدون موعد سابق.. وقلل كل فريق في عين الآخر ليقضى- سبحانه- قضاءه النافذ..قال- تعالى-: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.(ز) ثم يأتى بعد ذلك النداء السادس والأخير للمؤمنين، فيأمرهم- سبحانه- فيه بالثبات عند لقائهم لأعدائهم، وبالإكثار من ذكره، وبالطاعة التامة له ولرسوله، وبالابتعاد عن التنازع والاختلاف.ثم ينهاهم عن التشبه بالمرائين، والمتكبرين، والمغرورين، الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم- ولكنه عند ما تراءى الجمعان نكص على عقبيه- والذين سيكون مصيرهم الهزيمة في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة بسبب كفرهم بآيات الله، وإيثارهم الضلالة على الهداية.قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.(ح) ثم تمضى السورة الكريمة في تصوير رذائل الكافرين، وفي تشجيع المؤمنين على قتالهم، وإعداد العدة لدحرهم وتشريدهم ما داموا مستمرين على كفرهم وخيانتهم..، فإن جنحوا للسلم. ومالوا إلى المصالحة والمهادنة فاقبل منهم ذلك- أيها الرسول الكريم،واحترس من خداعهم وغدرهم، وحرض أتباعك على قتالهم بصبر وجلد.قال- تعالى-: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.(ط) ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن أسرى غزوة بدر من المشركين فبينت ما كان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في شأنهم، وعاتبتهم لإيثارهم أخذ الفداء على ما عند الله من ثواب عظيم، وأباحت لهم أن يأكلوا مما غنموه، فإنه حلال طيب، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الأسرى إلى الدين الحق، وأن يخبرهم بأنهم متى آمنوا ظفروا بخير الدنيا والآخرة..تأمل معى- أخى القارئ- هذه الآيات الكريمة التي ساقتها السورة في هذا المعنى.ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.(ى) وإذا كانت السورة قد تحدثت في أوائلها عن صفات المؤمنين.. الصادقين، وعن حال الذين كرهوا الخروج إلى القتال في بدر.. فإنها قد تحدثت في ختامها- أيضا- عن أصناف المؤمنين.. فمدحت المهاجرين السابقين، ومدحت الأنصار الذين آووا ونصروا، لأنهم قد اشتركوا جميعا في بذل أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله.. ثم بينت ما يجب عليهم نحو غيرهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا، بل ظلوا في أرض الشرك. ثم مدحت المؤمنين الذين تأخرت هجرتهم عن صلح الحديبية- وإن كانوا أقل في الدرجات من المهاجرين السابقين.قال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.8- هذا عرض مجمل لما اشتملت عليه سورة الأنفال من توجيهات سامية، وآداب عالية، وتشريعات حكيمة ...ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي:(ا) تربية المؤمنين على العقيدة السليمة، وعلى الطاعة لله ولرسوله. وإصلاح ذات بينهم، والثبات في وجه أعدائهم، والإكثار من التقرب إلى خالقهم، والمداومة على مراقبته وخشيته وشكره، فهو الذي هداهم للإيمان، وهو الذي آواهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات.. بعد أن كانوا ضالين ومستضعفين في الأرض.ولقد أفاضت السورة في غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين لأنها نزلت كما سبق أن بينا- في أعقاب اللقاء الأول بينهم وبين أعدائهم- فكان من المناسب أن تكرر غرس هذه المعاني في القلوب حتى تستمر على طاعة الله ورسوله، تلك الطاعة التي من ثمارها الظفر الدائم والخير الباقي..(ب) تذكير المؤمنين بما عليه أعداؤهم من جحود وعناد، وبما كان منهم من مكر برسولهم صلى الله عليه وسلم ومن استهزائهم بدينهم وقرآنهم ومن عداوة شديدة للحق وأهله، ومن صفات ذميمة جعلتهم أهلا لاستحواذ الشيطان عليهم ...وهذا التذكير قد تكرر كثيرا في سورتنا هذه، لكي يستمر المؤمنون على حسن استعدادهم، ولكي لا تنسيهم نشوة النصر في بدر ما يضمره لهم أعداؤهم من كراهية وبغضاء، وما يبيتونه لهم من سوء وشر.(ج) إرشاد المؤمنين إلى المنهاج الذي يجب أن يسيروا عليه في حالتي حربهم وسلمهم، لأنه متى ساروا عليه حالفهم النصر، وصاحبهم التوفيق.ففي حالة الحرب: أمرتهم السورة الكريمة بأن يعدوا لأعدائهم كل ما يستطيعون من قوة.وأن يبذلوا أموالهم بسخاء من أجل نصرة الحق.. وأن يقاتلوا خصومهم بشجاعة وإقدام، وأن يكثروا من التقرب إلى الله بصالح الأقوال والأعمال- خصوصا في مواطن القتال-.. وأن يجعلوا غايتهم في قتالهم إحقاق الحق وإبطال الباطل حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ....وأن يؤثروا السلم على الحرب متى وجد السبيل إليه، فإن السلم هو الأصل أما الحرب فهي أمر لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة التي تقتضيها.. أما في حالة سلمهم: فقد أمرتهم السورة الكريمة بالتآخى والتناصر والتواد والتراحم والتصالح.. ونبذ التنازع والتخاصم والاختلاف والبطر.كما أمرتهم بتقوى الله وبإيثار ما عنده من ثواب وأجر على الأموال والأولاد.قال- تعالى-: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.وهناك موضوعات أخرى تعرضت لها السورة:كحديثها عن الغنائم، وعن الأسرى، وعن المعاهدات، وعن أحداث غزوة بدر، وعن المشاعر التي تحركت في نفوس بعض المشتركين فيها قبل أن تبدأ المعركة وخلالها وبعدها.وقد ساقت السورة الكريمة كل ذلك بأسلوب يهدى القلوب، ويشرح الصدور، ويرشد الناس إلى مواطن عزهم وسعادتهم.هذا، ونرى من المناسب- أخى القارئ- أن نختم هذا العرض المجمل لسورة بدر- كما سماها ابن عباس- بتلخيص لقصة هذه الغزوة لنتنسم الجو الذي نزلت فيه هذه السورة، ولندرك مرامي النصوص فيها.. لأننا نعتقد أن ما يعين على فهم الآيات القرآنية فهما قويما مستنيرا، أن يكون القارئ أو المفسر لها ملما بأسباب نزولها وبالجو التاريخى الذي نزلت فيه، وبالأحداث التي لا بست نزولها.. يجانب إلمامه بمدلولاتها اللغوية والبيانية..قال الإمام ابن هشام عند حديثه عن «غزوة بدر الكبرى».قال ابن إسحاق: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى سفيان مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة.. ندب المسلمين إليها وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها» فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا.وكان أبو سفيان- حين دنا من الحجاز- يتجسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان: تخوفا على أمر الناس- أى: على أموالهم التي معه في القافلة حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.فلما وصلها أخذ يصرخ ببطن الوادي.. ويقول يا معشر قريش: اللطيمة اللطيمة- أى:العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب..- أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها. الغوث الغوث.فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد.- خرجوا بالقيان والدفوف يغنين في كل منهل، وينحرون الجزر، وهم تسعمائة وخمسون مقاتلا، وقادوا مائة فرس، عليها مائة درع سوى درع المشاة، وكانت إبلهم سبعمائة بعير.قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه: واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، واستعمل على المدينة أبا لبابة.. ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير.وكان إبل المسلمين يومئذ سبعين بعيرا، فاعتقبوها- أى كانوا يركبونها بالتعاقب- وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ.وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة.. ثم نزل قريبا من بدر.. وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال وأحسن.ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا على أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك لأنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، وإنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله.ففرح- رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد..ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله- تعالى- قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم.قال ابن إسحاق: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر فسارا حتى وقفا على شيخ من العرب. فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم، فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك.قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرنى، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به المسلمون.وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرنى صدقنى، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش.فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء، ثم انصرف عنه.ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فلما أمسى أرسل بعضهم إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له.. فأصابوا ساقيين لقريش فأتوا بهما.. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أخبرانى عن قريش.قالا: هم والله وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.فقال لهما: كم القوم؟ قالا كثير قال: ما عددهم؟ قالا لا ندري قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا. فقال: القوم فيما بين التسعمائة والألف ثم قال لهما.فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأمية بن خلف.. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها..قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، فنقيم عليه ثلاثة، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها.وقال الأخنس بن شريق لبنى زهرة، يا بنى زهرة قد نجى الله لكم أموالكم فارجعوا فرجعوا فلم يشهد غزوة بدر زهري واحد.ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي: وبعث الله السماء بالماء فأصاب المسلمون منه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء ماء نزل به..فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله؟ أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والمكيدة والحرب؟.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأى والمكيدة والحرب.فقال الحباب يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فنزله، ثم نغور ما وراءه من القلب- أى: ثم نغطى ما خلفه من الآبار- ثم نبنى عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد أشرت بالرأى» ثم نهض ومعه الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء. ثم قال سعد بن معاذ يا رسول الله، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا. كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا. فقد تخلف عنك أقوام- يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك.فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير، ثم بنى لرسول الله عريش فكان فيه.ثم ارتحلت قريش حين أصبحت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمة من الكثيب إلى الوادي قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم أحثهم الغداة» .ثم أرسلت قريش عمير بن وهب الجمحي فقالوا له: احزر لنا أصحاب محمد، فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: هم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا..ولقد رأيت- يا معشر قريش- البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع.قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم. والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم.فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، فهل لك إلى أن تفعل شيئا تذكر به بخير إلى آخر الدهر؟ فقال عتبة: وما ذاك يا حكيم؟قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي ...قال عتبة: قد فعلت.. ثم قام عتبة خطيبا في الناس فقال:يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه. قتل ابن عمه أو ابن خاله.. فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون..وبلغ كلام عتبة أبا جهل فسبه.. ثم بعث أبو جهل إلى ابن الحضرمي فقال له: هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثارك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك- أى: فقم فاطلب من الناس الوفاء بالعهد والأخذ بثأر أخيك..فقام ابن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: وا عمراه، وا عمراه، فحميت الحرب، واشتد أمر الناس، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد أبو جهل الرأى الذي دعا عتبة الناس إليه..قال ابن إسحاق: ثم خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي- وكان شرسا سيئ الخلق- فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه فلما دنا منه خرج إليه حمزة بن عبد المطلب. فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه- أى.أطارها- وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه. ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، فضربه حمزة حتى قتله في الحوض..ثم خرج عتبة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة.. فنادى يا محمد: أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم يا عبيدة وقم يا حمزة وقم يا على.. أما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما على فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه- أى: جرحه جرحا شديدا لا يملك معه الحركة- وكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا عبيدة فحازاه إلى أصحابه.قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس، ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله الناس أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: «إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل» ...ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش فدخله- ومعه أبو بكر الصديق.. وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويقول فيما يقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك» .ثم خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله. هذا جبريل آخذ بعنان فرس.. يقوده على ثناياه النقع» - أى الغبار.وكان قد رمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل.. من المسلمين.ثم رمى حارثة بن سراقة وهو يشرب من الحوض بسهم فقتل.ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم وقال: «والذي نفس محمد بيده.لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» ...ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشا بها، ثم نفخهم بها وأمر أصحابه فقال: «شدوا» فكانت الهزيمة فقتل الله- تعالى- من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم..فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحا السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم!» .فقال سعد: أجل والله يا رسول الله؟ كانت هذه أول موقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال..ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يومئذ: «إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، ولا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله ومن لقى أبا البحتري فلا يقتله..قال ابن إسحاق: - وبعد انتهاء المعركة- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى من المشركين أن يطرحوا في القليب فلما طرحوا وقف عليهم فقال: «بئس العشيرة كنتم لنبيكم- يا أهل القليب- لقد كذبتموني وصدقنى الناس، وأخرجتموني وآوانى الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس» ..ثم قال: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإنى قد وجدت ما وعدني ربي حقا» فقال المسلمون: يا رسول الله! أتنادي قوما قد جيّفوا؟فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني» .ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع، فاختلف فيه المسلمون، فقال من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو..: والله لولا نحن ما أصبتموه..ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشر أهل المدينة بنصر الله لهم على المشركين.ثم فرق الرسول صلى الله عليه وسلم الأسرى من المشركين بين أصحابه وقال لهم:«استوصوا بالأسارى خيرا» .قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له: ما وراءك؟ فقال، قتل عتبة، وشيبة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف..فلما جعل يعدد أشراف قريش الذين قتلوا، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فاسألوه عنى!! فقالوا له: ما فعل صفوان بن أمية؟ فقال: ها هو ذاك في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا..ولما قدم أبو سفيان بن الحارث قال له أبو لهب: هلم إلى، فعندك لعمري الخبر!! فجلس إليه الناس قيام عليه فقال له أبو لهب: يا ابن أخى أخبرنى كيف كان أمر الناس؟فقال أبو سفيان: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا..أما بعد: فهذا ملخص لغزوة بدر سقناه قبل البدء في التفسير التحليلى لسورة الأنفال، وقصدنا من ذكر هذا الملخص لهذه الغزوة الحاسمة: أن نتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة- كما سبق أن أشرنا وأن نستعين به على فهم الآيات فهما واضحا مستنيرا..لأن سورة الأنفال هي سورة بدر كما سماها ابن عباس- رضى الله عنه- وفي ختام هذا التعريف بسورة الأنفال، نسأل الله- تعالى- أن يوفقنا لتفسير آياتها تفسيرا واضحا مقبولا، بعيدا عن الانحراف. محررا من لغو القول وباطله..وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.لعل من الخير قبل أن نتكلم فى تفسير هذه الآيات الكريمة أن نذكر بعض الروايات التى وردت فى سبب نزولها . فإن معرفة سبب النزول يعين على الفهم السليم .قال الإِمام ابن كثير - ما ملخصه - روى الإِمام أحمد بن عبادة بن الصامت قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدرا فالتقى الناس . فهزم الله - تعالى - العدو ، فانطلقت طائفة فى آثام يهزمون ويقتلون . وأقبلت طائفة على العسكر يجوزونه ويجمعونه . وأحدثت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكى لا يصيب العدو منه غرة . حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا فى طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لستم أحق بها منا . نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم مخافة أن صيب منه غرة فاشتغلنا به - فنزلت : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول ) . . فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين .وروى أبو داود والنسائى وابن جرير وابن مردويه - واللفظ له - عن ابن عباس قال : " لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ، فتسارع فى ذلك شبان القوم ، وبقى الشيوخ تحت الرايات . فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذى جعل لهم . فقال الشيوخ : لا تسأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم ، لو انكشفتم لبثتم إينا . فتنازعوا ، فأنزل الله - تعالى - : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول ) " .وقال الثورى ، عن الكلبى ، عن أبى صالح عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " ، فجاء أبو اليسر بأسيرين ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليك - أنت وعدتنا . فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شئ ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة فى الأجر ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك . فتشاجروا ، ونزل القرآن : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول ) " .وقال الإِمام أحمد : حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبى أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا فى النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدنا وجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقسمه بين المسلمين عن بواء - أى : على السواء .هذه بعض الروايات التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات ، ومنها يتبين لنا أن نزاعاً حدث بين بعض الصحابة الذين اشتركوا فى غزوة بدر ، حول الغنائم التى ظفروا بها من هذه الغزوة ، فأنزل الله - تعالى - فى هذه الآيات بيان حكمه فيها .والضمير فى قوله ( يَسْأَلُونَكَ ) يعود إلى بعض الصحابة الذين اشتركوا فى غزوة بدر ، وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر ، لأن السورة نزلت فى هذه الغزوة ، ولأن هؤلاء الذين اشتركوا فيها هم الذين يهمهم حكمها ، ويعنيهم العلم بكيفية قسمتها .قال الإِمام الرازى - ما ملخصه - : فإن قيل من هم الذين سألوا؟ فالجواب : إن قوله ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال ) إخبار عمن لم يسبق ذكرهم ، وحسن ذلك ههنا ، لأنه فى حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوماً فانصرف اللفظ إليهم . ولا شك أنهم كانوا أقواماً لهم تعلق بالغنائم والأنفال ، وهم أقوام من الصحابة اشتركوا فى غزوة بدر .والأنفال جمع نفل - بفتح النون والفاء - كسبب وأسباب - وهو فى أصل اللغة من النفل - بفتح فسكون - أى : الزيادة ، ولذا قيل للتطوع نافلة ، لأنه زيادة عن الأصل وهو الفرض وقيل لولد الولد نافلة ، لأنه زيادة على الولد . قال - تعالى - : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) قال الآلوسى : ثم صار النفل حقيقة فى العطية ، لأنها لكونها تبرعاً غير لازم كان زيادة ، ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإِمام للغازى زيادة على سهمه لرأى يراه سواء أكان لشخص معين أو لغير معين ، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإِمام لمن صدر منه اثر محمود فى الحرب كبراز وحسن إقدام ، وغيرهما .وإطلاقه على الغنيمة ، باعتبار أنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله ، أو باعتبار أنها زيادة خص الله بها هذه الأمة ، أو باعتبار أنها منحة من الله - تعالى - من غير وجوب .ثم قال : ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص . فقيل : الغنيمة ما حصل مستغنماً سواء أكان بتعب أو بغير تعب ، قبل الظفر أو بعده ، والنفل ما كان قبل الظفر ، أو ما كان بغير قتال وهو " الفئ " .والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما ورى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، وطائفة من الصحابة وغيرهم .هذا ، وجمهور العلماء على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأنفال - أى الغنائم - إنما هو حكمها وعن المستحق لها ، فيكون المعنى :يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم؟ ومن المستحق لها؟ قل لهم : الأنفال يحكم فيها بحكمه - سبحانه - وللرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو الذى يقسمها على حسب حكم الله وأمره فيها .وفى هذه الإِجابة على سؤالهم تريبة حكيمة لهم - وهم فى أول لقاء لهم مع أعداءهم حتى يجعلوا جهادهم من أجل إعلاء كملة الله . أما الغنائم والأسلوب وأعراض الدنيا التى تأتيهم من وراء جهاده فعليهم ألا يجعلوها ضمن غايتهم السامية من جهادهم ، وأن يفوضوا الأمر فيها لله ورسوله عن إذعان وتسليم .وبعض العلماء يرى أن السؤال للاستعطاء ، وأن المراد بالأنفعال ما شرط للغازى زيادة على سهمه ، وأن حرف " عن " زائدة ، أو هو بمعنى من ، فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد إعطاءهم الأنفعال التى وعدتهم بها زايدة على سهامهم فيها . قل لهم : الأنفال لله ولرسوله .والذى نراه أن الرأى الأول أرجح وذلك لأمور منها :1- بعض الروايات التى وردت فى أسباب نزول هذه الآية تؤيده تأييداً صريحاً ، ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن عبادة بن الصامت أنه قال : " فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا فى النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا . فجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء " .2- ولأن غزوة بدر كانت أول غزوة لها شأنها وأثرها بين المسلمين والكافرين ، وكانت غنائهما الضخمة التى ظفر بها المؤمنون من المشركين ، حافزاً لسؤال بعض المؤمنين رسولهم - صلى الله عليه وسلم -عن حكمها وعن المستحق لها .3- ولأن الجواب عن السؤال بقوله - تعالى - : ( قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول ) يؤيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن مصرفها ، إذ أن هذا الجواب يفيد أن اختصاص أمرها وحكمها مرجعه إلى الله ورسوله دون تدخل أحد سواهما .ولو كان السؤال للاستعطاء لما كان هذا جواباً له ، فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله والرسول لا ينافى إعطاءه إياهم بل يحققه ، لأنهم إنما يسألونه بموجب شطره لهم الصادر عنه بإذن الله - تعالى - لا بحكم سبق أيديهم إليهم أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور .4- ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك ( فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ . . ) إلخ يؤيد أن السؤال عن حكم الأنفال ومصرفها بعد أن تنازعوا فى شأنها ، فهو - سبحانه - ينهاهم عن هذا التنازع ، وبأمرهم بأن يصونوا أنفهسم عن كل ما يغضب الله . . . ولو كان السؤال للاستعطاء - بناء على ما شرطه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعض زيادة على سهامهم - لما كان هناك محذور يجب اتقاؤه ، لأنهم لم يطلبوا من الرسول إلا ما
8:2
اِنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ الَّذِیْنَ اِذَا ذُكِرَ اللّٰهُ وَ جِلَتْ قُلُوْبُهُمْ وَ اِذَا تُلِیَتْ عَلَیْهِمْ اٰیٰتُهٗ زَادَتْهُمْ اِیْمَانًا وَّ عَلٰى رَبِّهِمْ یَتَوَكَّلُوْنَۚۖ(۲)
ایمان والے وہی ہیں کہ جب اللہ یاد کیا جائے (ف۵) ان کے دل ڈر جائیں اور جب ان پر اس کی آیتیں پڑھی جائیں ان کا ایمان ترقی پائے اور اپنے رب ہی پر بھروسہ کریں (ف۶)

ثم وصف- سبحانه- المؤمنين الصادقين بخمس صفات، وبشرهم بأعلى الدرجات، فقال في بيان صفتهم الأولى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.. فالجملة الكريمة مستأنفة وهي مسوقة لبيان أحوال المؤمنين الذين هم أهل لرضا الله وحسن ثوابه، حتى يتأسى بهم غيرهم.وقوله وَجِلَتْ من الوجل وهو استشعار الخوف. يقال: وجل يوجل وجلا فهو وجل، إذا خاف وفزع.والمراد بذكر الله: ذكر صفاته الجليلة، وقدرته النافذة، ورحمته الواسعة، وعقابه الشديد، وعلمه المحيط بكل شيء، وما يستتبع ذلك من حساب وثواب وعقاب.والمعنى: إنما المؤمنون الصادقون الذين إذا ذكر اسم الله وذكرت صفاته أمامهم، خافت قلوبهم وفزعت، استعظاما لجلاله وتهيبا من سلطانه، وحذرا من عقابه، ورغبة في ثوابه، وذلك لقوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، وشدة مراقبتهم لله- عز وجل- ووقوفهم عند أمره ونهيه..وقد جاء التعبير عن صفاتهم بصيغة من صيغ القصر وهي «إنما» ، للإشعار بأن من هذه صفاتهم هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم وإخلاصهم، أما غيرهم ممن لم تتوفر به هذه الصفات، فأمره غير أمرهم، وجزاؤه غير جزائهم.قال الفخر الرازي: فإن قيل: إنه- تعالى- قال هاهنا: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وقال في آية أخرى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ... فكيف الجمع بينهما؟قلنا: الاطمئنان: إنما يكون عن ثلج اليقين، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل:إنما يكون من خوف العقوبة. ولا منافاة بين هاتين الحالتين. بل نقول: هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة وهي قوله- تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ...والمعنى تقشعر الجلود من خوف عذاب الله، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله.والصفة الثانية من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين عبر عنها- سبحانه- بقوله: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً.أى أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم إذا قرئت عليهم آيات الله أى: حججه وهي القرآن زادتهم إيمانا، أى: زادتهم قوة في التصديق، وشدة في الإذعان، ورسوخا في اليقين، ونشاطا في الأعمال الصالحة، وسعة في العلم والمعرفة.وجاء التعبير بصيغة الفعل المبنى للمفعول في قوله: ذُكِرَ اللَّهُ وتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ، للإيذان بأن هؤلاء المؤمنين الصادقين إذا كانوا يخافون عند ما يسمعون من غيرهم آيات الله.. فإنهم يكونون أشد خوفا وفزعا عند ذكرهم لله وعند تلاوتهم لآياته بألسنتهم وقلوبهم.فالمقصود من هذه الصيغة: مدحهم، والثناء عليهم، وبيان الأثر الطيب الذي يترتب على ذكر الله وعلى تلاوة آياته.والصفة الثالثة من صفاتهم قوله- تعالى-: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.أى: أن من صفات هؤلاء المؤمنين- أيضا- أنهم يعتمدون على ربهم الذي خلقهم بقدرته، ورباهم بنعمته، فيفوضون أمورهم كلها إليه وحده- سبحانه- لا إلى أحد سواه، كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله.ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة: أى: أنهم لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. ولهذا قال سعيد بن جبير: «التوكل على الله جماع الإيمان».ومن الواضح عند ذوى العقول السليمة أن التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب التي شرعها- سبحانه- بل إن الأخذ بالأسباب التي شرعها الله وأمر بها لبلوغ الغايات، لدليل على قوة الإيمان، وعلى حسن طاعته- سبحانه- فيما شرعه وفيما أمر به.وليس من الإيمان ولا من العقل ولا من التوكل على الله أن ينتظر الإنسان ثمارا بدون غرس، أو شبعا بدون أكل، أو نجاحا بدون جهد، أو ثوابا بدون عمل صالح.إنما المؤمن العاقل المتوكل على الله، هو الذي يباشر الأسباب التي شرعها الله لبلوغ الأهداف مباشرة سليمة.. ثم بعد ذلك يترك النتائج له- سبحانه- يسيّرها كيف يشاء، وحسبما يريد..
8:3
الَّذِیْنَ یُقِیْمُوْنَ الصَّلٰوةَ وَ مِمَّا رَزَقْنٰهُمْ یُنْفِقُوْنَؕ(۳)
وہ جو نماز قائم رکھیں اور ہمارے دیے سے کچھ ہماری راہ میں خرچ کریں،

أما الصفتان الرابعة والخامسة من صفات هؤلاء المؤمنين فهما قوله- تعالى- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.والمراد بإقامة الصلاة: أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وآدابها وخشوعها- من أقام الشيء إقامة إذا قومه وأزال عوجه لأن الشأن في صلاة المؤمنين أن تكون: إحساسا عميقا بالوقوف بين يدي الله، وانقطاعا تاما لمناجاته، وتمثلا حيا لجلاله وكبريائه، واستغراقا كاملا في دعائه.والمراد بقوله: يُنْفِقُونَ يخرجون ويبذلون، من الإنفاق وهو إخراج المال وبذله وصرفه.والجملة الكريمة في محل رفع صفة للموصول في الآية السابقة أو بدل منه أو بيان له.والمعنى: أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يؤدون الصلاة في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وسننها وآدابها وخشوعها.. وأنهم يبذلون أموالهم للفقراء والمحتاجين بسماحة نفس، وسخاء يد، استجابة لتعاليم دينهم.فأنت ترى أنه- سبحانه- قد وصف هؤلاء المؤمنين بخمس صفات: الأولى والثانية والثالثة منها ترجع إلى العبادات القلبية التي تدل على شدة خشيتهم من ربهم، وقوة تأثرهم بآيات خالقهم، واعتمادهم عليه- سبحانه- وحده لا على أحد سواه.والصفة الرابعة ترجع إلى العبادات البدنية، وهي إقامة الصلاة بإخلاص وخشوع.أما الصفة الخامسة فترجع إلى العبادات المالية، وهي إنفاق المال في سبيل الله ولا شك أن هذه الصفات متى تمكنت في النفس، كان صاحبها أهلا لمحبة الله ورضوانه،
8:4
اُولٰٓىٕكَ هُمُ الْمُؤْمِنُوْنَ حَقًّاؕ-لَهُمْ دَرَجٰتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَّ رِزْقٌ كَرِیْمٌۚ(۴)
یہی سچے مسلمان ہیں، ان کے لیے درجے ہیں ان کے رب کے پاس (ف۷) اور بخشش ہے اور عزت کی روزی (ف۸)

ولذا مدح- سبحانه- أصحاب هذه الصفات، وبين ما أعده لهم من ثواب جزيل فقال: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.أى: أولئك المتصفون بتلك الصفات الكريمة هم المؤمنون إيمانا حقا لَهُمْ دَرَجاتٌ عالية، ومكانة سامية عِنْدَ رَبِّهِمْ ولهم مَغْفِرَةٌ شاملة لما فرط منهم من ذنوب، ولهم رِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنة، يجعلهم يحيون فيها حياة طيبة لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ.وقوله حَقًّا منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أى: أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا.والتنوين في قوله دَرَجاتٌ للتعظيم والتهويل أى: لهم درجات رفيعة، ومنازل عظيمة، وفي وصف هذه الدرجات بأنها عِنْدَ رَبِّهِمْ مزيد تشريف لهم، ولطف بهم، وإيذان بأن ما وعدهم به متيقن الوقوع، لأنه وعد من كريم لا يخلف وعده- سبحانه- وفي وصف الرزق الذي أعده لهم بالكرم، زيادة في إدخال السرور على قلوبهم لأن لفظ الكريم يصف به العرب كل شيء حسن في بابه، بحيث يكون لا قبح فيه ولا شكوى معه.وبذلك نرى أن أصحاب تلك الصفات الحميدة قد مدحهم الله- تعالى- مدحا عظيما، وكافأهم على إيمانهم الحق بالدرجات العالية، والمغفرة الشاملة، والرزق الكريم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.هذا، وقد استنبط العلماء من تلك الآيات جملة من الأحكام والآداب منها:1- حرص الصحابة على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم.فإن قيل: كيف تأتى لأصحابه الذين شهدوا بدرا- وهم من هم في عفتهم وزهدهم- أن يختلفوا في شأن الغنائم.فالجواب،، أن بعض الصحابة المشتركين في هذه الغزوة هم الذين حدث بينهم الخلاف في شأنها لأنهم لم يكن لهم عهد سابق بكيفية تقسيمها، أما أكثر الصحابة فإنهم لم يلتفتوا إلى هذه الغنائم، بل تركوا أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها كيف يشاء.وأيضا فإن هؤلاء الذين حدث بينهم الخلاف في شأن الغنائم، كان من الدوافع التي دفعتهم إلى هذا الخلاف، ما فهموه من أن حيازة الغنائم تدل على حسن البلاء، وشدة القتال في سبيل الله، فكان كل واحد منهم يحرص على أن يظهر بهذا المظهر المشرف وهم في أول لقاء لهم مع أعدائهم.وعند ما جاوز هذا الحرص حده، بأن غطى على ما يجب أن يسود بينهم من سماحة وصفاء، نزل القرآن ليربيهم بتربيته الحكيمة، وليؤدبهم بأدبه السامي، وليخبرهم بحكم الله في شأن هذه الأنفال.. وبعد أن عرفوا حكم الله في شأنها، قابلوه بالرضا والإذعان والتسليم.2- أن القرآن في ترتيبه للحوادث، لا يلزم سردها على حسب زمن وقوعها، وإنما يرتبها بأسلوبه الخاص الذي يراعى فيه مقتضى حال المخاطب.فلقد افتتحت السورة التي معنا بالحديث عن الغنائم التي غنمها المسلمون في بدر- مع أن ذلك كان بعد انتهاء الغزوة- ليشعر المخاطبين من أول الأمر أن النصر في هذه الغزوة كان للمسلمين، وأن الإسلام قد صرع الكفر منذ أول معركة نازله فيها.وهذا اللون من الافتتاح هو ما يعبر عنه البلغاء ببراعة الاستهلال.ولقد أفاض بعض العلماء في شرح هذا المعنى فقال ما ملخصه.وقد بدأت السورة بموضوع الأنفال واختلافهم في قسمتها وسؤالهم عنها، فساقت في ذلك أربع آيات، هن: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ.. إلى قوله- وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.وقد عالجت هذه الآيات نفوس المؤمنين، وعملت على تطهيرها من الاختلاف الذي ينشأ عن حب المال والتطلع إلى المادة، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة من أكبر أسباب الفشل.ولأهمّيّة هذا الموضوع في حياة المؤمنين بدأت به السورة، وإن كان اختلافهم في قسمة الأنفال متأخرا في الوجود عن اختلافهم في الخروج إلى بدر، وقتال الأعداء.وقد عرفنا من سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها، وذلك لأنه لا يذكرها على أنها تاريخ يعين لها الوقت والمكان، وإنما يذكرها لما فيها من العبر والمواعظ، ولما تتطلبه من الأحكام والحكم.وقد بدأت السورة بالحديث عن الأنفال للمسارعة من أول الأمر بنتائج النصر الذي كفله الله للمؤمنين.وليس من تربية النفوس أن نبدأ الكلام معها بما يدل على الاضطراب والفزع والتردد أمام وسائل العزة والشرف، متى وجد لهم بجانب هذا التردد ما يدل على مواقف الشرف والكرامة..ولا كذلك يكون الأمر إذا بدئت ببيان تثاقلهم في الخروج إلى الغزوة، وانظر كيف يكون وقع المطلع إذا جاء على هذا الوجه «كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ... إلخ» .لا ريب أنه مطلع شديد الوقع على النفوس، يصور علاقة المؤمنين بنبيهم في صورة يأباها إيمانهم به وامتثالهم لأمره. يصورهم في شقاق واختلاف مع قائدهم ورسولهم ويصورهم في ثوب الكراهية الشديدة لمعالي الأمور وعز الحياة.لهذا كله جاء الأسلوب في سرد الوقائع غير مكترث بمخالفة ترتيبها في الوجود الخارجي.3- استدل جمهور العلماء بقوله- تعالى- وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً على أن الإيمان يزيد وينقص..ومن المفسرين الذين بسطوا القول في هذه المسألة الإمام الآلوسى، فقد قال ما ملخصه:قوله- تعالى- وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أى: القرآن زادَتْهُمْ إِيماناً أى:تصديقا كما هو المتبادر، فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك.وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا.بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل- أيضا- وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي، مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة، واللازم باطل فكذا الملزوم.وقال النووي: إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذا التصديق والمعرفة يتفاضلان بحسب ظهور البراهين وكثرتها.وذهب الإمام أبو حنيفة وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين، محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان، وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة.وذهب جماعة منهم الإمام الرازي إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي، وهو فرع تفسير الإيمان، فمن فسره بالتصديق قال: إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال: إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول البخاري «لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعنى بما روى عن ابن عمر أنه قال. قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص، قال، نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار.ويبدو لنا أن رأى جمهور العلماء في هذه المسألة، أولى بالقبول لأنه من الواضح أن إيمان الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أرسخ وأقوى من إيمان آحاد الناس، ولأنه كلما تكاثرت الأدلة كان الإيمان أشد رسوخا في النفس وأعمق أثرا في القلب، فلا تزلزله الشبهات ولا تزعزعه العوارض والفتن.ومن أوضح الأدلة على أن الإيمان يقوى بقوة البرهان إلى درجة الاطمئنان، ما حكاه الله- تعالى- عن إبراهيم في قوله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.فهذه الآية تدل دلالة واضحة على أن مقام الطمأنينة في الإيمان، يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا. إن إبراهيم- عليه السلام- لا شك أنه كان مؤمنا عند ما سأل ربه هذا السؤال، سأله ذلك لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة أعلى: وهي مرتبة عين اليقين ...هذا، وشبيه بهذه الآية في الدلالة على قبول الإيمان للزيادة والنقصان قوله- تعالى-:الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً...وقوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ...وقوله- تعالى-: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ.وقوله- تعالى-: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي وردت في هذا المعنى.4- في هذه الآيات الكريمة تربية ربانية للمؤمنين، وتوجيه لهم إلى ما يسعدهم، وإرشاد لهم إلى أن المؤمن الصادق في إيمانه، هو الذي يجمع بين سلامة العقيدة، وسلامة الخلق، وصلاح العمل، وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات، وأحس بحلاوة الإيمان في قلبه..روى الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصارى أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «كيف أصبحت يا حارث» ؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك» ؟ فقال الحارث: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري. وكأنى أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا حارث عرفت فالزم» ثلاثا.ثم أخذت السورة- بعد هذا الافتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه وأحكمه..، في الحديث عن الغزوة التي كان من ثمارها تلك الأنفال، فاستعرضت مجمل أحداثها، وصورت نفوس فريق من المؤمنين الذين اشتركوا فيها أكمل تصوير، استمع معى- أخى القارئ- بتدبر وتعقل إلى قوله- تعالى-:
8:5
كَمَاۤ اَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْۢ بَیْتِكَ بِالْحَقِّ۪-وَ اِنَّ فَرِیْقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِیْنَ لَكٰرِهُوْنَۙ(۵)
جس طرح اے محبوب! تمہیں تمہارے رب نے تمہارے گھر سے حق کے ساتھ برآمد کیا (ف۹) اور بیشک مسلمانوں کا ایک گروہ اس پر ناخوش تھا (ف۱۰)

الكاف في قوله- تعالى-: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ.. بمعنى مثل، أى: للتشبيه وهي خبر لمبتدأ محذوف هو المشبه، وما بعدها هو المشبه به، ووجه الشبه مطلق الكراهة، وما ترتب على ذلك من خير للمؤمنين.والمعنى: حال بعض أهل بدر في كراهتهم تقسيمك الغنائم بالسوية، مثل حال بعضهم في كراهة الخروج للقتال، مع ما في هذه القسمة والقتال من خير وبركة.ونحن عند ما نستعرض أحداث غزوة بدر، نرى أنه قد حدث فيها أمران يدلان على عدم الرضا من فريق من الصحابة، ثم أعقبهما الرضا والإذعان والتسليم لحكم الله ورسوله.أما الأمر الأول فهو أن فريقا من الصحابة- وأكثرهم من الشبان- كانوا يرون أن قسمة الغنائم بالسوية فيها إجحاف بحقهم، لأنهم هم الذين قاموا بالنصيب الأوفر في القتال، وأن غيرهم لم يكن له بلاؤهم- كما سبق أن بينا في أسباب نزول قوله- تعالى- «يسألونك عن الأنفال.. إلخ» .ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بين الجميع بالسوية، كما أمره الله- تعالى-.وكان هذا التقسيم خيرا للمؤمنين، إذ أصلح الله به بينهم، وردهم إلى حالة الرضا والصفاء..وأما الأمر الثاني: فهو أن جماعة منهم كرهوا قتال قريش بعد نجاة العير التي خرجوا من أجل الحصول عليها، وسبب كراهيتهم لذلك أنهم خرجوا بدون استعداد للقتال، لا من حيث العدد ولا من حيث العدد.ولكنهم استجابوا بعد قليل لما نصحهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم من وجوب قتال قريش،.وكان في هذه الاستجابة نصر الإسلام، ودحر الطغيان.قال ابن كثير: روى الحافظ بن مردويه- بسنده- عن أبى أيوب الأنصارى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: «إنى أخبرت عن عير أبى سفيان بأنها مقبلة، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمنا إياها؟ فقلنا نعم. فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا:«ما ترون في قتال القوم؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم» ؟ فقلنا: ما لنا طاقة بقتال العدو ولكننا أردنا العير، ثم قال: «ما ترون في قتال القوم» ؟ فقال المقداد بن عمرو: إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.وفي رواية أن أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ تكلموا بكلام سر له رسول الله صلى الله عليه وسلم.هذا، وما قررناه قبل ذلك من أن الكاف في قوله- تعالى- كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ..بمعنى مثل، هو ما نرجحه من بين أقوال المفسرين التي أوصلها بعضهم إلى عشرين قولا.قال الجمل، قوله كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ.. فيه عشرون وجها، أحدهما: أن الكاف نعت لمصدر محذوف تقديره الأنفال ثابتة لله ثبوتا كما أخرجك ربك، أى: ثبوتا بالحق كإخراجك من بيتك، يعنى أنه لا مرية في ذلك.الثاني: أن تقديره وأصلحوا ذات بينكم إصلاحا كما أخرجك، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد.الثالث: تقديره: وأطيعوا الله ورسوله طاعة ثابتة محققة كما أخرجك أى: كما أن إخراج الله إياك لا مرية فيه ولا شبهة. إلخ.والحق أن معظم الوجوه النحوية التي ذكرها الجمل وغيره من المفسرين- كأبى حيان والآلوسى- أقول: إن معظم هذه الوجوه يبدو عليها التكلف ومجانبة الصواب.ورحم الله صاحب الكشاف فقد أهمل أكثر ما ذكره المفسرون في ذلك، واكتفى بوجهين فقال:قوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ. فيه وجهان أحدهما: أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال كحال إخراجك. يعنى أن حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيل الغزوة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب.والثاني: أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدر في قوله: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أى: الأنفال استقرت لله والرسول، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون.والوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما صاحب الكشاف هو الذي نميل إليه، وهو الذي ذكرناه قبل ذلك بصورة أكثر تفصيلا.وأضاف- سبحانه- الإخراج إلى ذاته فقال: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ للإشعار بأن هذا الإخراج كان بوحي منه- سبحانه- وبأنه هو الراعي له في هذا الخروج.والمراد بالبيت في قوله: مِنْ بَيْتِكَ مسكنه صلى الله عليه وسلم بالمدينة أو المراد المدينة نفسها، لأنها مثواه ومستقره، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه.وقوله: بِالْحَقِّ متعلق بقوله: أَخْرَجَكَ والباء للسببية، أى: أخرجك بسبب نصرة الحق، وإعلاء كلمة الدين، وإزهاق باطل المبطلين.ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من مفعول أخرجك، وتكون الباء للملابسة، أى: أخرجك إخراجا متلبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.قال الآلوسى: وقوله: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ، أى: للخروج، إما لعدم الاستعداد للقتال، أو للميل للغنيمة، أو للنفرة الطبيعية عنه، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار، فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة.والجملة في موضع الحال، وهي حال مقدرة لأن الكراهة وقعت بعد الخروج.والمعنى الإجمالى للآية الكريمة: حال بعض المسلمين في بدر في كراهة قسمة الغنيمة بالسوية بينهم، مثل حال فريق منهم في كراهة الخروج للقتال، مع أنه قد ثبت أن هذه القسمة وذلك القتال، كان فيهما الخير لهم، إذ الخير فيما قدره الله وأراده، لا فيما يظنون.
8:6
یُجَادِلُوْنَكَ فِی الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَیَّنَ كَاَنَّمَا یُسَاقُوْنَ اِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ یَنْظُرُوْنَؕ(۶)
سچی بات میں تم سے جھگڑتے تھے (ف۱۱) بعد اس کے کہ ظاہر ہوچکی (ف۱۲) گویا وہ آنکھوں دیکھی موت کی طرف ہانکے جاتے ہیں (ف۱۳)

وقوله- تعالى-: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ حكاية لما حدث من هذا الفريق الكاره للقتال، وتصوير معجز لما استبد به من خوف وفزع.والمراد بقوله يُجادِلُونَكَ مجادلتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن القتال وقولهم له: ما كان خروجنا إلا للعير، ولو أخبرتنا بالقتال لأعددنا العدة له.والضمير يعود للفريق الذي كان كارها للقتال.والمراد بالحق الذي جادلوا فيه: أمر القتال الذي حضهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعدوا أنفسهم له.وقوله: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ متعلق: يُجادِلُونَكَ وما مصدرية والضمير في الفعل تَبَيَّنَ يعود على الحق.والمراد بتبينه: إعلام الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم سينصرون على أعدائهم فقد روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم قبل نجاة العير بأن الله وعده الظفر بإحدى الطائفتين: العير أو النفير، فلما نجت العير علم أن الظفر الموعود به إنما هو النفير، أى: على المشركين الذين استنفرهم أبو سفيان للقتال لا على العير، أى: الإبل الحاملة لأموال المشركين.والمعنى: يجادلك بعض أصحابك- يا محمد- فِي الْحَقِّ أى في أمر القتال بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أى، بعد ما تبين لهم الحق بإخبارك إياهم بأن النصر سيكون حليفهم، وأنه لا مفر لهم من لقاء قريش تحقيقا لوعد الله الذي وعد بإحدى الطائفتين.وقوله: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أى: يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت، وهو ناظر إلى أسبابه، ومشاهد لموجباته.والجملة في محل نصب على الحالية من الضمير في قوله: لَكارِهُونَ.وفي هذه الجملة الكريمة تصوير معجز لما استولى على هذا الفريق من خوف وفزع من القتال يسبب قلة عددهم وعددهم.وقوله: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ زيادة في لومهم، لأن الجدال في الحق بعد تبينه أقبح من الجدال فيه قبل ظهوره.
8:7
وَ اِذْ یَعِدُكُمُ اللّٰهُ اِحْدَى الطَّآىٕفَتَیْنِ اَنَّهَا لَكُمْ وَ تَوَدُّوْنَ اَنَّ غَیْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُوْنُ لَكُمْ وَ یُرِیْدُ اللّٰهُ اَنْ یُّحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمٰتِهٖ وَ یَقْطَعَ دَابِرَ الْكٰفِرِیْنَۙ(۷)
اور یاد کرو جب اللہ نے تمہیں وعدہ دیا تھا کہ ان دونوں گروہوں (ف۱۴) میں ایک تمہارے لیے ہے اور تم یہ چاہتے تھے کہ تمہیں وہ ملے جس میں کانٹے کا کھٹکا نہیں (کوئی نقصان نہ ہو) (ف۱۵) اور اللہ یہ چاہتا تھا کہ اپنے کلام سے سچ کو سچ کر دکھائے (ف۱۶) اور کافروں کی جڑ کا ٹ دے(ف۱۷)

ثم حكى- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين، مع جزع بعضهم من قتال عدوه وعدوهم، وإيثارهم العير على النفير فقال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ.والمراد بإحدى الطائفتين: العير أو النفير، والخطاب للمؤمنين.والمراد بغير ذات الشوكة: العير، والمراد بذات الشوكة: النفير.والشوكة في الأصل واحدة الشوك وهو النبات الذي له حد، ثم استعيرت للشدة والحدة، ومنه قولهم: رجل شائك السلاح أى: شديد قوى.والمعنى: واذكروا- أيها المؤمنون- وقت أن وعدكم الله- تعالى- على لسان رسوله-- بأن إحدى الطائفتين: العير أو النفير هي لكم تظفرون بها، وتتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه، وأنتم مع ذلك تودون وتتمنون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح وهي العير.وعبر- سبحانه- عن وعده لهم بصيغة المضارع يَعِدُكُمُ مع أن هذا الوعد كان قبل نزول الآية، لاستحضار صورة الموعود به في الذهن، ولمداومة شكره- سبحانه- على ما وهبهم من نصر وفوز.وإنما وعدهم- سبحانه- إحدى الطائفتين على الإبهام مع أنه كان يريد إحداهما وهي النفير، ليستدرجهم إلى الخروج إلى لقاء العدو حتى ينتصروا عليه، وبذلك تزول هيبة المشركين من قلوب المؤمنين.وقوله إِحْدَى مفعول ثان ليعد، وقوله: أَنَّها لَكُمْ بدل اشتمال من إِحْدَى مبين لكيفية الوعد.أى: يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم، ومختصة لكم، تتسلطون عليها تسلط الملاك، وتتصرفون فيها كيفما شئتم.وقوله: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ معطوف على قوله: يَعِدُكُمُ أى: وعدكم- سبحانه- إحدى الطائفتين بدون تحديد لإحداهما، وأنتم تحبون أن تكون لكم طائفة العير التي لا قتال فيها يذكر، على طائفة النفير التي تحتاج منكم إلى قتال شديد، وإلى بذل للمهج والأرواح.وفي هذه الجملة تعريض بهم، حيث كرهوا القتال، وأحبوا المال، وما هكذا يكون شأن المؤمنين الصادقين.ثم بين لهم- سبحانه- أنهم وإن كانوا يريدون العير، إلا أنه- سبحانه- يريد لهم النفير، ليعلو الحق، ويزهق الباطل، فقال: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ.أى: ويريد الله بوعده غير ما أردتم، أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أى أن يظهر الحق ويعلمه بآياته المنزلة على رسوله، وبقضائه الذي لا يتخلف، وأن يستأصل الكافرين ويذلهم،ويقطع دابرهم أى آخرهم الذي يدبرهم.والدابر: التابع من الخلف، يقال: دبر فلان القوم يدبرهم دبورا، إذا كان آخرهم في المجيء، والمراد أنه سبحانه يريد أن يستأصلهم استئصالا.وقد هلك في غزوة بدر عدد كبير من صناديد قريش الذين كانوا يحاربون الإسلام، ويستهزئون بتعاليمه.قال صاحب الكشاف في معنى الآية الكريمة، قوله: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ... يعنى أنكم تريدون العاجلة وسفساف الأمور، وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم، والله- عز وجل- يريد معالى الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلو الكلمة والفوز في الدارين، وشتان ما بين المرادين ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزكم وأذلهم، وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها».
8:8
لِیُحِقَّ الْحَقَّ وَ یُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُوْنَۚ(۸)
کہ سچ کو سچ کرے اور جھوٹ کو جھوٹا (ف۱۸) پڑے برا مانیں مجرم،

ثم بين- سبحانه- الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم، ونصرتهم عليهم فقال: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.أى: فعل ما فعل من النصرة والظفر بالأعداء لِيُحِقَّ الْحَقَّ أى: ليثبت الدين الحق دين الإسلام وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أى: ويمحق الدين الباطل وهو ما عليه المشركون من كفر وطغيان.وقوله: وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ بيان لنفاذ إرادته- سبحانه-، أى: اقتضت إرادته أن يعز الدين الحق وهو دين الإسلام، وأن يمحق ما سواه، ولو كره المشركون ذلك لأن كراهيتهم لا وزن لها، ولا تعويل عليها..وبهذا يتبين أنه لا تكرار بين الآيتين السابقتين، لأن المراد بإحقاق الحق في قوله- تعالى- وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ: إعلاؤه وإظهاره ونصرته عن طريق قتال المؤمنين للمشركين.والمراد بإحقاق الحق في قوله بعد ذلك في الآية الثانية لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ:تثبيت دين الإسلام وتقويته وإظهار شريعته، ويمحق دين الكفر.فكان ما اشتملت عليه الآية الأولى هو الوسيلة والسبب وما اشتملت عليه الآية الثانية هو المقصد والغاية.وقد بسط هذا المعنى الإمام الرازي فقال ما ملخصه: فإن قيل: أليس قوله: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ثم قوله بعد ذلك: لِيُحِقَّ الْحَقَّ تكرارا محضا، فالجواب:ليس هاهنا تكرير لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء، والمراد بالثاني تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة، لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين، كان سببا لعزة الدين وقوته، ولهذا السبب قرنه بقوله وَيُبْطِلَ الْباطِلَ الذي هو الشرك، وذلك في مقابلة الْحَقَّ الذي هو الدين والإيمان.وإلى هنا نرى السورة الكريمة قد حدثتنا في الأربع الآيات الأولى منها عن حكم الله- تعالى- في غنائم بدر بعد أن اختلف بعض المؤمنين في شأنها، وعن صفات المؤمنين الصادقين الذين يستحقون من الله- تعالى- أرفع الدرجات.ثم حدثتنا في الأربع الآيات الثانية منها عن حال بعض المؤمنين عند ما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال أعدائهم، وعن مجادلتهم له في ذلك، وعن إيثارهم المال على القتال، وعن إرادة ما هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم، وفي ذلك ما فيه من العبر والعظات لقوم يعقلون.ثم ساق- سبحانه- بعض مظاهر تدبيره المحكم في هذه الغزوة، وبعض النعم التي أنعم بها على المؤمنين، وبعض البشارات التي تقدمت تلك الغزوة أو صاحبتها، والتي كانت تدل دلالة واضحة على أن النصر سيكون للمسلمين فقال- تعالى-:
8:9
اِذْ تَسْتَغِیْثُوْنَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ اَنِّیْ مُمِدُّكُمْ بِاَلْفٍ مِّنَ الْمَلٰٓىٕكَةِ مُرْدِفِیْنَ(۹)
جب تم اپنے رب سے فریا د کرتے تھے (ف۱۹) تو اس نے تمہاری سن لی کہ میں تمہیں مدد دینے والا ہوں ہزاروں فرشتوں کی قطار سے (ف۲۰)

قال القرطبي: قوله- تعالى-: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ الاستغاثة: طلب الغوث والنصر، يقال: غوّث الرجل، أى: قال وا غوثاه، والاسم الغوث والغواث، واستغاثني فلان فأغثته، والاسم الغياث .وقوله مُمِدُّكُمْ من الإمداد بمعنى الزيادة والإغاثة، وقد جرت عادة القرآن أن يستعمل الإمداد في الخير، وأن يستعمل المد في الشر والذم.قال- تعالى-: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ .وقال- تعالى-: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً .قال- تعالى-: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا .وقال- تعالى-: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ .وقوله: مُرْدِفِينَ من الإرداف بمعنى التتابع.قال الفخر الرازي: قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم مُرْدِفِينَ- بفتح الدال- وقرأ الباقون بكسرها، والمعنى على الكسر، أى: متتابعين يأتى بعضهم في إثر البعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب.والمعنى على قراءة الفتح، أى: فعل بهم ذلك، ومعناه أن الله- تعالى- أردف المسلمين وأمدهم بهم أى جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم.والمعنى: اذكروا- أيها المؤمنون- وقت أن كنتم- وأنتم على أبواب بدر- تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أى: تطلبون منه الغوث والنصر على عدوكم فَاسْتَجابَ لَكُمْ دعاءكم، وكان من مظاهر ذلك أن أخبركم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم بأنى مُمِدُّكُمْ أى: معينكم وناصركم بألف من الملائكة مردفين، أى: متتابعين، بعضهم على إثر بعض، أو أن الله- تعالى- جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم وتثبيتهم.ويروى الإمام مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: كان يوم بدر، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه.فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله!! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله- عز وجل-: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ الآية فأمده الله بالملائكة .وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد، فأخذ أبو بكر بيده، فقال حسبك، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «سيهزم الجمع ويولون الدبر» .وروى سعيد بن منصور عن طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم، وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته: «اللهم لا تودع منى، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تترنى- أى لا تقطعني عن أهلى وأنصارى- أو لا تنقصني شيئا من عطائك- اللهم أنشدك ما وعدتني- أى: أستنجزك وعدك» .وروى ابن إسحاق في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني .فإن قيل: إن هذه النصوص يؤخذ منها أن هذه الاستغاثة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلماذا أسندها القرآن إلى المؤمنين؟فالجواب: أن المؤمنين كانوا يؤمنون على دعائه صلى الله عليه وسلم ويتأسون به في الدعاء، إلا أن الروايات ذكرت دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه هو قائد المؤمنين، وهو الذي يحرص الرواة على نقل دعائه، أكثر من حرصهم على نقل دعاء غيره من أصحابه.وقيل: إن الضمير في قوله تَسْتَغِيثُونَ للرسول صلى الله عليه وسلم، وجيء به مجموعا على سبيل التعظيم، ويعكر على هذا القيل أن السياق بعد ذلك لا يلتئم معه، لأنه خطاب للمؤمنين بالنعم التي أنعم بها- سبحانه- عليهم.وعبر- سبحانه- بالمضارع تَسْتَغِيثُونَ مع أن استغاثتهم كانت قبل نزول الآية- استحضارا للحال الماضية، حتى يستمروا على شكرهم لله، ولذلك عطف عليه.فاستجاب لكم، بصيغة الماضي مسايرة للواقع.وكان العطف بالفاء للإشعار بأن إجابة دعائهم كانت في أعقاب تضرعهم واستغاثتهم وهذا من فضل الله عليهم، ورحمته بهم، حيث أجارهم من عدوهم، ونصرهم عليه- مع قلتهم عنه- نصرا مؤزرا.والسين والتاء في قوله: «تستغيثون» للطلب، أى: تطلبون منه الغوث بالنصر.فإن قيل: إن الله- تعالى- ذكر هنا أنه أمدهم بألف من الملائكة، وذكر في سورة آل عمران أنه أمدهم بأكثر من ذلك فكيف الجمع بينهما؟.فالجواب أن الله- تعالى- أمد المؤمنين بألف من الملائكة في يوم بدر، كما بين هنا في سورة الأنفال، ثم زاد عددهم إلى ثلاثة آلاف كما قال- تعالى- في سورة آل عمران: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ... ، ثم زاد عددهم مرة أخرى إلى خمسة آلاف، قال- تعالى- بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ .وقد صبروا واتقوا وأتاهم المشركون من مكة فورا حين استنفرهم أبو سفيان لإنقاذ العير..فكان المدد خمسة آلاف..واختار ابن جرير أنهم وعدوا بالمدد بعد الألف، ولا دلالة في الآيات على أنهم أمدوا بما زاد على ذلك، ولا على أنهم لم يمدوا، ولا يثبت شيء من ذلك إلا بنص.وهذا بناء على أن المدد الذي وعد الله به المؤمنين في آيات سورة آل عمران كان خاصا بغزوة بدر.أما على الرأى القائل بأن هذا المدد الذي بتلك الآيات كان خاصا بغزوة أحد فلا يكون هناك إشكال بين ما جاء في السورتين.وقد بسط القول في هذه المسألة الإمام ابن كثير فقال ما ملخصه:«اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين:أحدهما: أن قوله- تعالى-: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ متعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ.وهذا قول الحسن والشعبي والربيع بن أنس وغيرهم..، فإن قيل فكيف الجمع بين هذه الآيات- التي في سورة آل عمران وبين قوله في سورة الأنفال-: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ.فالجواب: أن التنصيص على الألف هنا، لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله- تعالى- مُرْدِفِينَ بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم.قال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف» .والقول الثاني يرى أصحابه أن هذا الوعد- وهو قوله- تعالى-: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ. متعلق بقوله- قبل ذلك- وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ. وذلك يوم أحد.وهو قول مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وغيرهم.لكن قالوا: لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف، لأن المسلمين يومئذ فروا.
8:10
وَ مَا جَعَلَهُ اللّٰهُ اِلَّا بُشْرٰى وَ لِتَطْمَىٕنَّ بِهٖ قُلُوْبُكُمْۚ-وَ مَا النَّصْرُ اِلَّا مِنْ عِنْدِ اللّٰهِؕ-اِنَّ اللّٰهَ عَزِیْزٌ حَكِیْمٌ۠(۱۰)
اور یہ تو اللہ نے کیا مگر تمہاری خوشی کو اور اس لیے کہ تمہارے دل چین پائیں، اور مدد نہیں مگر اللہ کی طرف سے (ف۲۱) بیشک اللہ غالب حکمت والا ہے،

ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر فضله عليهم ورحمته بهم في هذا الإمداد فقال: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فالآية الكريمة كلام مستأنف ساقه- سبحانه- لبيان بعض مظاهر فضله على المؤمنين، ولبيان أن المؤثر الحقيقي هو الله وحده حتى يزدادوا ثقة به، وحتى لا يقنطوا من النصر عند قلة أسبابه.أى: وما جعل الله- تعالى- هذا الإمداد بالملائكة إلا بشارة لكم- أيها المؤمنون- بالنصر على أعدائكم في هذه الغزوة الحاسمة وقوله بُشْرى مفعول لأجله مستثنى من أعم العلل.وقوله: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ معطوف عليه: أى: ولتسكن بهذا الإمداد قلوبكم، ويزول عنكم الخوف، وتهاجموا أعداءكم بنفوس لا يداخلها الإحجام أو التردد..- وقوله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أى: ليس النصر بالملائكة أو غيرهم إلا كائنا من عند الله وحده، لأنه- سبحانه- هو الخالق لكل شيء، والقادر على كل شيء..وإن الوسائل مهما عظمت، والأسباب مهما كثرت، لا تؤدى إلى النتيجة المطلوبة والغاية المرجوة، إلا إذا أيدتها إرادة الله وقدرته ورعايته.وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى: غالب لا يقهره شيء، ولا ينازعه منازع حكيم في تدبيره وأفعاله.فالجملة الكريمة تذييل قصد به التعليل لما قبله، وفيه إشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات حكمته البالغة- سبحانه-.
8:11
اِذْ یُغَشِّیْكُمُ النُّعَاسَ اَمَنَةً مِّنْهُ وَ یُنَزِّلُ عَلَیْكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّیُطَهِّرَكُمْ بِهٖ وَ یُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّیْطٰنِ وَ لِیَرْبِطَ عَلٰى قُلُوْبِكُمْ وَ یُثَبِّتَ بِهِ الْاَقْدَامَؕ(۱۱)
جب اس نے تمہیں اونگھ سے گھیر دیا تو اس کی طرف سے چین (تسکین) تھی (ف۲۲) اور آسمان سے تم پر پانی اتارا کہ تمہیں اس سے ستھرا کردے اور شیطان کی ناپاکی تم سے دور فرمادے اور تمہارے دلو ں کی ڈھارس بندھائے اور اس سے تمہارے قدم جمادے(ف۲۳)

ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك بعض المنن الأخرى التي منحها للمؤمنين قبل أن يلتحموا مع أعدائهم في بدر فقال: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.وقوله: يُغَشِّيكُمُ بتشديد الشين من التغشية بمعنى التغطية من غشاه تغشية أى:غطاه.والنعاس: أول النوم قبل أن يثقل، وفعله- على الراجح- على وزن منع.والأمنة: مصدر بمعنى الأمن. وهو طمأنينة القلب وزوال الخوف، يقال: أمنت من كذا أمنة وأمنا وأمانا بمعنى.قال الجمل: في قوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ ثلاث قراءات سبعية.الأولى: يغشاكم كيلقاكم، من غشيه إذا أتاه وأصابه وفي المصباح: غشيته أغشاه من باب تعب بمعنى أتيته- وهي قراءة أبى عمرو وابن كثير.الثانية: يغشيكم- بإسكان الغين وكسر الشين- من أغشاه. أى أنزله بكم وأوقعه عليكم- وهو قراءة نافع- الثالثة: يغشيكم- بتشديد الشين وفتح الغين وهي قراءة الباقين- من غشاه تغشية بمعنى غطاه.أى: يغشيكم الله النعاس أى يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم.والنعاس على القراءة الأولى مرفوع على الفاعلية، وعلى الأخيرتين منصوب على المفعولية. وقوله: «أمنة» حال أو مفعول لأجله .وقال القرطبي: وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، ولكن الله ربط جأشهم.وقال القرطبي: وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، ولكن الله ربط جأشهم.وعن على- رضى الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلى حتى أصبح.وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: - أحدهما: أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.الثاني: أن أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم: كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر» «2» .وقال ابن كثير: وجاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق، وهما يدعوان، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم. ثم استيقظ متبسما، فقال: «أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» . ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله- تعالى- سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ .والمعنى: واذكروا- أيها المؤمنون- أيضا، وقت أن كنتم متعبين وقلقين على مصيركم في هذه المعركة، فألقى الله عليكم النعاس، وغشاكم به قبل التحامكم بأعدائكم، ليكون أمانا لقلوبكم، وراحة لأبدانكم، وبشارة خير لكم.هذا، ومن العلماء الذين تكلموا عن نعمة النعاس التي ساقها الله للمؤمنين قبل المعركة، الإمامان الرازي ومحمد عبده.أما الامام الرازي فقد قال ما ملخصه: واعلم أن كل نوم ونعاس لا يحصل إلا من قبل الله- تعالى- فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله لا بد فيه من مزيد فائدة، وذكروا في ذلك وجوها: منها: أن الخانف إذا خاف من عدوه فإنه لا يأخذه النوم، وإذا نام الخائفون أمنوا.فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد، يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن.ومنها: أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن معه العدو من معافصتهم، بل كان ذلك نعاسا يزول معه الإعياء والكلال، ولو قصدهم العدو في هذه الحالة لعرفوا وصوله، ولقدروا على دفعه.ومنها: أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة. فلهذا السبب قيل: إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز .وقال الإمام محمد عبده: لقد مضت سنة الله في الخلق، بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا، ومصابا عظيما، فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه فيصبح خاملا ضعيفا. وقد كان المسلمون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غدا فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد.. ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس: غشيهم فناموا، واثقين بالله، مطمئنين لوعده، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه.. فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها» .وبذلك نرى أن النعاس الذي أنزله الله تعالى- على المؤمنين قبل لقائهم بأعدائهم في بدر كان نعمة عظيمة ومنة جليلة.وقوله- تعالى-: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ معطوف على قوله يُغَشِّيكُمُ وهو- أى: إنزال الماء من السماء نعمة عظمى تحمل في طياتها نعما وسننا.أولها: يتجلى في هذه الجملة الكريمة، أنه- سبحانه- أنزل على المؤمنين المطر من السماء ليطهرهم به من الحدثين: الأصغر والأكبر، فإن المؤمن- كما يقول الإمام الرازي- «يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب .وثانيها: قوله- تعالى-: ويذهب عنكم رجز الشيطان» .وأصل الرجز: الاضطراب ويطلق على كل ما تشتد مشقته على النفوس.قال الراغب: أصل الرجز الاضطراب، ومنه قيل رجز البعير رجزا فهو أرجز، وناقة رجزاء إذا تقارب خطوها واضطرب لضعفها..» .والمراد برجز الشيطان: وسوسته للمؤمنين، وتخويفه إياهم من العطش وغيره عند فقدهم الماء وإلقاؤه الظنون السيئة في قلوبهم.أى: أنه- سبحانه- أنزل عليكم الماء- أيها المؤمنون- ليطهركم به تطهيرا حسيا وليزيل عنكم وسوسة الشيطان، بتخويفه إياكم من العطش وبإلقائه في نفوسكم الظنون والأوهام.. وهذا هو التطهير الباطني.وثالثها قوله- تعالى-: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أى: وليقويها بالثقة في نصر الله، وليوطنها على الصبر والطمأنينة.. ولا شك أن وجود الماء في حوزة المحاربين يزيدهم قوة على قوتهم، وثباتا على ثباتهم، أما فقده فإنه يؤدى إلى فقد الثقة والاطمئنان، بل وإلى الهزيمة المحققة.وأصل الربط: الشد. ويقال لكل من صبر على أمر: ربط قلبه عليه، أى: حبس قلبه عن أن يضطرب أو يتزعزع، ومنه قولهم: رجل رابط الجأش. أى: ثابت متمكن.ورابع هذه النعم التي تولدت عن نزول الماء من السماء على المؤمنين، قبل خوضهم معركة بدر، يتجلى في قوله- تعالى- وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.أى: أنه- سبحانه- أنزل عليهم المطر قبل المعركة لتطهيرهم حسيا ومعنويا، ولتقويتهم وطمأنينتهم، وليثبت أقدامهم به حتى لا تسوخ في الرمال، وحتى يسهل المشي عليها، إذ من المعروف أنه من العسير المشي على الرمال، فإذا ما نزلت عليها الأمطار جمدت وسهل السير فوقها، وانطفأ غبارها.. فالضمير في قوله بِهِ يعود على الماء المنزل من السماء.قال الزمخشري: ويجوز أن يعود للربط- في قوله وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت القدم في مواطن القتال.هذا، وقد وردت آثار متعددة توضح ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من نعم جليلة،ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس أنه قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم يعنى حين سار إلى بدر- والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة- أى كثيرة مجتمعة- فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم، تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين؟ فأمطر الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم..» .وعن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه» .ومن هذا القول المنقول عن عروة- رضى الله عنه- نرى أن المطر كان خيرا للمسلمين، وكان شرا على الكافرين، لأن المسلمين كانوا في مكان يصلحه المطر، بينما كان المشركون في مكان يؤذيهم فيه المطر.
8:12
اِذْ یُوْحِیْ رَبُّكَ اِلَى الْمَلٰٓىٕكَةِ اَنِّیْ مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْاؕ-سَاُلْقِیْ فِیْ قُلُوْبِ الَّذِیْنَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوْا فَوْقَ الْاَعْنَاقِ وَ اضْرِبُوْا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍؕ(۱۲)
جب اے محبوب! تمہارا رب فرشتوں کو وحی بھیجتا تھا کہ میں تمہارے ساتھ ہوں تم مسلمانوں کو ثابت رکھو (ف۲۴) عنقریب میں کافروں کے دلوں میں ہیبت ڈالوں گا تو کافروں کی گردنوں سے اوپر مارو اور ان کی ایک ایک پور (جوڑ) پر ضرب لگا ؤ (ف۲۵)

ثم ذكرهم بنعمة أخرى كان لها أثرها العظيم في نصرهم على المشركين فقال- سبحانه-:إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ. فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ.والبنان: - كما يقول القرطبي- واحده بنانة. وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء..وهو- أى البنان- مشتق من قولهم أبّن الرجل بالمكان إذا أقام به. فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة. وقيل: المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء......وذكر بعضهم: «أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان..» .والمعنى: واذكر- أيها الرسول الكريم- وقت أن أوحى ربك إلى الملائكة الذين أمد بهم المسلمين في بدر أَنِّي مَعَكُمْ أى بعونى وتأييدى فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أى فقووا قلوبهم، واملئوا نفوسهم ثقة بالنصر، وصححوا نياتهم في القتال حتى تكون غايتهم إعلاء كلمة الله.قال الآلوسى: والمراد بالتثبيت: الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال. وكان ذلك هنا- في قول- بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها، ووعدهمإياهم النصر على أعدائهم، فقد أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم. كروا عليهم.وقال الزجاج: كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم. وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له إلهام، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له وسوسة، .وقوله- تعالى-: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بشارة عظيمة للمؤمنين.أى: سأملأ قلوب الكافرين بالخوف والفزع منكم- أيها المؤمنون-، وسأقذف فيها الهلع والجزع حتى تتمكنوا منهم.والرعب: انزعاج النفس وخوفها من توقع مكروه، وأصله التقطيع من قولهم: رعبت السنام ترعيبا إذا قطعته مستطيلا، كأن الخوف يقطع الفؤاد.وقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ الخطاب فيه للمؤمنين، وقيل، للملائكة.والمراد بما فوق الأعناق الرءوس كما روى عن عطاء وعكرمة. أو المراد بها الأعناق ذاتها فتكون فوق بمعنى: على وهو قول أبى عبيدة.ويرى صاحب الكشاف أن المراد بما فوق الأعناق: أعالى الأعناق التي هي المذابح، لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها جزا وتطييرا للرءوس.والمراد بالبنان- كما سبق أن بينا- الأصابع أو مطلق الأطراف.والمعنى: لقد أعطيتكم- أيها المؤمنون- من وسائل النصر ما أعطيتكم، فهاجموا أعدائى وأعداءكم بقوة وغلظة، واضربوهم على أعناقهم ورءوسهم ومواضع الذبح فيهم. واضربوهم على كل أطرافهم حتى تشلوا حركتهم، فيصبحوا عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم.
8:13
ذٰلِكَ بِاَنَّهُمْ شَآقُّوا اللّٰهَ وَ رَسُوْلَهٗۚ-وَ مَنْ یُّشَاقِقِ اللّٰهَ وَ رَسُوْلَهٗ فَاِنَّ اللّٰهَ شَدِیْدُ الْعِقَابِ(۱۳)
یہ اس لیے کہ انہوں نے اللہ اور اس کے رسول سے مخا لفت کی اور جو اللہ اور اس کے رسول سے مخالفت کرے تو بیشک اللہ کا عذاب سخت ہے،

ثم بين سبحانه- السبب في تكليفه المؤمنين بمجاهدة الكافرين والإغلاظ عليهم وقتلهم.فقال- تعالى-لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.فاسم الإشارةلِكَيعود إلى ما سبق بيانه من تأييد المؤمنين، وأمرهم بضرب الكافرين.. وهو في محل رفع على الابتداء. وقوله أَنَّهُمْ ...خبره. والباء للسببية.وقوله: اقُّوامن المشاقة بمعنى المخالفة والمعاداة مشتقة من الشق- أى الجانب-، فكل واحد من المتعاديين أو المتخالفين صار في شق غير شق صاحبه.والمعنى: ذلك الذي ذكره الله- تعالى- فيما سبق، من تأييده للمؤمنين وأمره إياهم بضرب الكافرين، سببه أن هؤلاء الكافرين اقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُأى: عاد وهما وخالفوا شرعهما: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُبأن يسير في غير الطريق الذي أمرا به، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِلهذا المعادى والمخالف.قال الآلوسى: وقوله: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِإما نفس الجزاء، وقد حذف منه العائد عند من يكتفى ولا يلتزم بالعائد في الربط. أى: شديد العقاب له. أو قائم مقام الجزاء المحذوف أى: يعاقبه الله- تعالى- فإن الله شديد العقاب. وأيا ما كان فالشرطية بيان للسببية السابقة بطريق برهاني. كأنه قيل: ذلك العقاب الشديد بسبب المشاقة لله- تعالى- ولرسوله صلى الله عليه وسلم وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان، فله بسبب ذلك عقاب شديد، فإن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله عقابا شديدا .
8:14
ذٰلِكُمْ فَذُوْقُوْهُ وَ اَنَّ لِلْكٰفِرِیْنَ عَذَابَ النَّارِ(۱۴)
یہ تو چکھو (ف۲۶) اور اس کے ساتھ یہ ہے کہ کافروں کو آ گ کا عذاب ہے (ف۲۷)

ثم يوجه- سبحانه- خطابه على سبيل الالتفات لأولئك الذين شاقوا الله ورسوله، متوعدا إياهم بسوء المصير فيقول: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ فاسم الإشارة ذلِكُمْ يعود إلى ما سبق بيانه من تأييد المؤمنين، وخذلان الكافرين وإنزال العقوبة بهم.أى ذلكم الذي نزل بكم- أيها الكافرون- من القتل والأسر في بدر، هو العقاب المناسب لطغيانكم وشرككم وعنادكم، فذوقوا آلامه، وتجرعوا غصصه، وعيشوا في مذلته.هذا في الدنيا، أما في الآخرة فلكم عذاب النار الذي هو أشد وأبقى من عذاب الدنيا.فاتركوا الكفر، وادخلوا في الإيمان لتنجوا من العذاب وتنالوا الثواب.قال الجمل ما ملخصه وقوله: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ.. يجوز فيه وجوه من الإعراب أحدها أن يرفع بالابتداء والخبر محذوف أى ذلكم العقاب. الثاني: أن يرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: العقاب ذلكم أو الأمر ذلكم وعلى هذين الوجهين يكون قوله فَذُوقُوهُ لا تعلق له بما قبله من جهة الاعراب فهو مستأنف، والوقف يتم على قوله: ذلِكُمْ الثالث: أن يرتفع بالابتداء. والخبر قوله فَذُوقُوهُ وهذا على رأى الأخفش.وقوله وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ معطوف على قوله ذلِكُمْ أو منصوب على أنه مفعول معه، والمعنى: ذوقوا ما عجل لكم مع ما أجل لكم في الآخرة، ووضع الظاهر فيه موضع المضمر- بأن قال فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ ولم يقل فذوقوه وأن لكم- للدلالة على أن الكفر سبب للعذاب الآجل أو للجمع بينهما.ومن هذا نرى أن تلك الآيات الكريمة قد ذكّرت المؤمنين الذين اشتركوا في غزوة بدر بألوان من نعم الله عليهم، وبأنواع من البشارات التي كانت تدل على أن النصر سيكون لهم.1- ذكّرتهم بوعد الله لهم بأن إحدى الطائفتين: العير أو النفير ستكون لهم، وقد وفّى لهم- سبحانه- بوعده، حيث جعل النصر لهم، ومن أوفى بعهده من الله؟.2- وذكرتهم بإجابة الله لدعائهم، حيث أمدهم بألف من الملائكة مردفين.3- وذكرتهم بالنعاس الذي ألقاه- سبحانه- عليهم قبل المعركة، ليكون أمانا لهم، وراحة لأبدانهم.4- وذكرتهم بنزول المطر عليهم من السماء ليكون طهارة ظاهرية وباطنية لهم، وليكون طمأنينة لقلوبهم، وتثبيتا لأقدامهم.5- وذكرتهم بأمر الله لملائكته أن يثبتوهم، بأن يغرسوا في قلوبهم الثقة في نصر الله لهم، والاستهانة بقوة أعدائهم.6- وذكرتهم بما ألقاه- سبحانه- في قلوب الكافرين من رعب وفزع وجزع، جعلهم ينهزمون أمامهم.7- وذكرتهم بأن ما أصاب أعداء الله وأعداءهم من قتل وأسر وخسران كان سببه كفرهم وعنادهم وإيثارهم سبيل الغي على سبيل الرشد، وأنهم- إذا استمروا في كفرهم- فسيلقون في الآخرة عذابا أشد وأبقى مما نزل بهم في الدنيا.ولا شك أن هذا التذكير من مقاصده الأساسية حض المؤمنين على الاستجابة لله ولرسوله:وعلى مداومة الشكر لخالقهم، فهو- سبحانه- الذي منحهم هذه النعم الجزيلة التي تمكنوا معها من رقاب أعدائهم، وهو الذي جعلهم يغنمون كل هذه الغنائم بعد أن خرجوا من ديارهم بلا مال ولا ظهر ولا عتاد.هذا، ومن الخير قبل أن ننتقل من هذه الآيات إلى غيرها، أن نتكلم بشيء من التفصيل عن مسألة كثر الحديث عنها.وهذه المسألة هي: ماذا كانت وظيفة الملائكة في بدر؟ أكانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين فحسب أم أنهم بجانب هذا التثبيت قاتلوا فعلا معهم؟ إننا بمطالعتنا لما كتبه الكاتبون عن هذه المسألة نراهم في كتاباتهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:(أ) أما القسم الأول منهم، فيرى أن الملائكة في غزوة بدر لم تكن وظيفتهم التثبيت فحسب، وإنما هم قاتلوا مع المؤمنين فعلا، ويستدلون على ذلك بأدلة من أهمها:1- ما جاء عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنه قال: بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه. إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلا يقول: أقدم حيزوم، فخر المشرك مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه. فجاء فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة .2- وجاء عنه أنه قال- أيضا-: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء، ويوم أحد عمائم خضراء، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر وكانوا فيما سواه عددا ومددا .3- وعن أبى داود المازني قال: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر. فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.4- وروى عن عبد الله بن مسعود أن أبا جهل سأله يوم بدر: من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمعه ولا نرى شخصا؟ فقال: من الملائكة، فقال له أبو جهل: هم إذن غلبونا لا أنتم .5- وقال القرطبي: وتظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت. ومن ذلك قول أبى أسيد مالك بن ربيعة وكان شهد بدرا: لو كنت معكم الآن ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشعب- أى الطريق في الجبل- الذي خرجت منه الملائكة. لا أشك ولا أمارى.وعن سهل بن حنيف قال: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه .هذه أهم الروايات التي استند إليها العلماء الذين يرون أن الملائكة قد قاتلوا مع المؤمنين يوم بدر، وعلى رأس هؤلاء العلماء القرطبي، فهو يرى أن هذا هو الصحيح وأنه رأى الجمهور.(ب) أما القسم الثاني من العلماء فيرى أن الملائكة لم تقاتل يوم بدر، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين في المعركة، وتقوية أرواحهم وقلوبهم، واستدلوا على ذلك بأدلة من أهمها:1- أنه ليس في الآيات القرآنية التي تحدثت عن غزوة بدر آية واحدة صريحة في أن الملائكة قد قاتلت بالفعل، وإنما هي صريحة في أن الله- تعالى- قد أمد المؤمنين بالملائكة، وجعل هذا الإمداد بشارة لهم.قال الآلوسى عند تفسيره لقوله- تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى.. وفي الآية إشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالا، وهو مذهب لبعضهم. ويشعر ظاهرها بأن النبي- صلى الله عليه وسلم أخبرهم بذلك الإمداد، وفي الأخبار ما يؤيد ذلك. بل جاء في غير ما خبر أنالصحابة رأوا الملائكة- عليهم السلام- .2- أن بعض الآيات القرآنية التي تحدثت عن غزوة بدر قد وضحت وظيفة الملائكة توضيحا تاما، ومن ذلك قوله- تعالى-: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ.قال ابن جرير في معنى فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا قووا عزمهم، وصححوا نياتهم في قتال أعدائهم من المشركين..وقال في معنى قوله- تعالى- فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ..: والصواب من القول في ذلك أن يقال إن الله أمر المؤمنين معلما إياهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف، أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدى والأرجل ... » .وقال الفخر الرازي: قوله فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ فيه وجهان: الأول: أنه أمر للملائكة متصل بقوله- تعالى- فَثَبِّتُوا. وقيل: بل أمر للمؤمنين، وهذا هو الأصح لما بينا أنه- تعالى- ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة. .3- أن الروايات التي استند إليها من قال بأن الملائكة قاتلت مع المؤمنين في بدر لم ترد في كتب السنة المعتمدة، بل لم يذكر معظمها الإمام ابن جرير مع علمنا باهتمامه بالمرويات في تفسيره. وفضلا عن ذلك فإن أكثر هذه الروايات لم تصرح بأن الملائكة قد قاتلت.فمثلا رواية أبى داود المازني لم تصرح بأن المشرك الذي أراد هو أن يقتله قد قتله ملك.وكذلك الحال بالنسبة لروايتي أبى أسيد وسهيل بن حنيف وأما قول أبى جهل لابن مسعود:«هم إذن غلبونا- يعنى الملائكة- لا أنتم، فنرجح أنه من باب التبرير والمغالطة. فهو يريد أن ينفى- حقدا منه وعنادا- قوة المؤمنين الذين صرعوا أمثاله من الطغاة..والخلاصة أن معظم هذه الروايات- مع ضعفها- لم تصرح بأن الملائكة قد قاتلوا مع المؤمنين يوم بدر.4- استبعد كثير من العلماء اشتراك الملائكة في القتال، ومن هؤلاء العلماء الإمام أبو بكر الأصم فقد قال:«إن الملك الواحد يكفى في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط. فإذا حضر هو يوم بدر- وجميع الروايات تذكر أنه كان على رأس الملائكة- فأى حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟ بل أى حاجة حينئذ إلى إرسال سائر الملائكة؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين، وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم.وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أو لا.. وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر، ولم يقل أحد بذلك.. وعلى الثاني كان يلزم جز الرءوس، وتمزيق البطون، وإسقاط الكفار من غير مشاهدة فاعل، ومثل هذا من أعظم المعجزات، فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين المسلم والكافر والموافق والمخالف ... » .وقال صاحب المنار: مقتضى السياق أن وحى الله للملائكة وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى إلخ.وقوله- تعالى- سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.. إلخ بدء كلام خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تتمة للبشرى. فيكون الأمر بالضرب موجها إلى المؤمنين قطعا، وعليه المحققون الذين جزموا بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر تبعا لما قبله من الآيات.ثم قال: وفي كتب السير وصف للمعركة علم منه القاتلون والآسرون لأشد المشركين بأسا، فهل تعارض هذه البينات النقلية بروايات لم يرها شيخ المفسرين ابن جرير حرية بأن تنقل.كفانا الله شر هذه الروايات الباطلة التي شوهت التفسير وقلبت الحقائق، حتى إنها خالفت نص القرآن نفسه فالله- تعالى- يقول في إمداد الملائكة وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ.. وهذه الروايات تقول بل جعله مقاتلة، وإن هؤلاء السبعين الذين قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إلا باجتماع ألف أو ألوف من الملائكة عليهم مع المسلمين الذين خصهم الله بما ذكر من أسباب النصر المتعددة.ألا إن في هذا من تعظيم شأن المشركين، وتكبير شجاعتهم وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول وأشجعهم ما لا يصدر عن عاقل، إلا وقد سلب عقله لتصحيح روايات باطلة لا يصح لها سند، ولم يرفع منها إلا حديث مرسل عن ابن عباس ذكره الآلوسى وغيره بغير سند.وابن عباس لم يحضر غزوة بدر لأنه كان صغيرا، فرواياته عنها حتى في الصحيح مرسلة. .هذه أهم الأدلة التي استند إليها القائلون بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين، وتقوية عزائمهم. وتصحيح نياتهم.(ج) أما القسم الثالث من العلماء الذين كتبوا في هذه المسألة، فمنهم الذي اكتفى بسرد الآراء دون أن يرجح بينها، ومن هؤلاء صاحب الكشاف، فقد قال:فإن قلت: هل قاتلت الملائكة يوم بدر؟ قلت: اختلف فيه. فقيل: نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها على بن أبى طالب في صورة الرجال. فقاتلت. وقيل: قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب.. وقيل: لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد، ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم.. .ومنهم الذي يرى أن البحث في تفاصيل أمثال هذه المسائل ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة، ومن هؤلاء صاحب «في ظلال القرآن» فقد قال ما ملخصه:«تروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر: عددهم وطريقة مشاركتهم في المعركة. وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين، وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين. ونحن- على طريقتنا في الظلال- نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المتيقنة من قرآن أو سنة، والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ.. فهذا عددهم إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا.. فهذا عملهم. ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية. وبحسبنا أن تعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم، وهي قلة والأعداء كثرة، وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله سبحانه في كلماته.. إننا نؤمن بوجود خلق أسماهم الملائكة، ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم. فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصرة المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآنى. وقد أوحى إليهم ربهم: أنى معكم. وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا ففعلوا.- لأنهم يفعلون ما يؤمرون- ولكننا لا ندري كيف فعلوا.إن البحث التفصيلي في كيفيات هذه الأفعال كلها ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة. وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإسلامية ومباحث علم الكلام في العصور المتأخرة، وعند ما فرغ الناس من الاهتمامات الإيجابية في هذا الدين، وتسلط الترف العقلي على النفوس والعقول. وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله- سبحانه- للملائكة في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة لهى أنفع وأجدى.. .وبعد فهذه أهم الأقوال التي قالها العلماء في مسألة وظيفة الملائكة في بدر، بسطناها بشيء من التفصيل لتتضح آراؤهم فيها.والذي نراه بعد كل ذلك: أن أقرب الأقوال إلى الصواب، هو القول الذي ذهب أصحابه إلى أن الملائكة في بدر لم تقاتل، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت وتقوية عزائم المؤمنين.. وذلك لما سبق أن بيناه من أدلة وحجج- والله أعلم بالصواب.وبعد أن بين- سبحانه- بعض البشارات والنعم التي ساقها للمؤمنين الذين اشتركوا في بدر. وجه- سبحانه- نداء إليهم أمرهم فيه بالثبات في وجوه أعدائهم، وذكرهم بجانب من مننه عليهم.فقال- تعالى-:
8:15
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْۤا اِذَا لَقِیْتُمُ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوْهُمُ الْاَدْبَارَۚ(۱۵)
اے ایمان والو! جب کافروں کے لام (لشکر) سے تمہارا مقابلہ ہو تو انہیں پیٹھ نہ دو (ف۲۸)

قوله- سبحانه- زَحْفاً: مصدر زحف وأصله للصبي، وهو أن يزحف على استه قبل أن يمشى. ثم أطلق على الجيش الكثيف المتوجه لعدوه لأنه لكثرته وتكاتفه يرى كأنه جسم واحد يزحف ببطء وإن كان سريع السير.قال الجمل: وفي المصباح: زحف القوم زحفا وزحوفا. ويطلق على الجيش الكثير زحف تسمية بالمصدر والجمع زحوف مثل فلس وفلوس. ونصب قوله: زَحْفاً على أنه حال من المفعول وهو الَّذِينَ كَفَرُوا أى إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين نحوكم.والأدبار: جمع دبر- بضمتين- وهو الخلف، ومقابله القبل وهو الأمام، ويطلق لفظ الدبر على الظهر وهو المراد هنا.والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زاحفين نحوكم لقتالكم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أى. فلا تفروا منهم، ولا تولوهم ظهوركم منهزمين، بل قابلوهم بقوة وغلظة وشجاعة، فإن من شأن المؤمن أن يكون شجاعا لا جبانا، ومقبلا غير مدبر.فالمراد من تولية الأدبار: الانهزام، لأن المنهزم يولى ظهره وقفاه لمن انهزم منه.وعدل من لفظ الظهور إلى الأدبار، تقبيحا للانهزام، وتنفيرا منه، لأن القبل والدبر يكنى بهما عن السوءتين.
8:16
وَ مَنْ یُّوَلِّهِمْ یَوْمَىٕذٍ دُبُرَهٗۤ اِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ اَوْ مُتَحَیِّزًا اِلٰى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللّٰهِ وَ مَاْوٰىهُ جَهَنَّمُؕ-وَ بِئْسَ الْمَصِیْرُ(۱۶)
اور جو اس دن انہیں پیٹھ دے گا مگر لڑائی کا ہنرَ کرنے یا اپنی جماعت میں جاملنے کو، تو وہ اللہ کے غضب میں پلٹا اور اس کا ٹھکانا دوزخ ہے، اور کیا بری جگہ ہے پلٹنے کی، (ف۲۹)

ثم بين- سبحانه- أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين فقال- تعالى-: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.وقوله: مُتَحَرِّفاً من التحرف بمعنى الميل والانحراف من جهة إلى جهة بقصد المخادعة في القتال وهو منصوب على الحالية.وقوله أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ من التحيز بمعنى الانضمام. تقول: حزت الشيء أحوزه إذا ضممته إليك. وتحوزت الحية أى انطوت على نفسها.والفئة: الجماعة من الناس. سميت بذلك لرجوع بعضهم إلى بعض في التعاضد والتناصر. من الفيء بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة.والمعنى: أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين:الحالة الأولى: أن يكون المؤمن عند توليته الأدبار مائلا عن مكانه إلى مكان آخر أصلح للقتال فيه، أو أن يكون منعطفا إلى قتال طائفة من الأدبار أهم من الطائفة التي أمامه، أو أن يوهم عدوه بأنه منهزم أمامه استدراجا له، ثم يكر عليه فيقتله.الحالة الثانية: أن يكون في توليه منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش ومنضما إليها للتعاون معها على القتال، حيث إنها في حاجة إليه.وهذا كله من أبواب خدع الحرب ومكايدها.وقد توعد- سبحانه- الذي ينهزم أمام الأعداء في غير هاتين الحالتين بقوله: فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.أى: ومن يول الكافرين يوم لقائهم دبره غير متحرف ولا متحيز فقد رجع متلبسا بغضب شديد كائن من الله- تعالى- ومأواه الذي يأوى إليه في الآخرة جهنم وبئس المصير هي.وقوله: فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.. جواب الشرط لقوله، ومن يولهم.هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى:1- وجوب مصابرة العدو، والثبات في وجهه عند القتال، وتحريم الفرار منه.قال الآلوسى: في الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز.أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«اجتنبوا السبع الموبقات- أى المهلكات- قالوا: يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .ثم قال: وجاء عد- التولي يوم الزحف- من الكبائر في غير ما حديث.2- أن الخطاب في الآيتين لجميع المؤمنين وليس خاصا بأهل بدر. قال الفخر الرازي ما ملخصه: اختلف المفسرون في أن هذا الحكم- وهو تحريم التولي أمام الزحف- هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإطلاق؟فنقل عن أبى سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر. قالوا: والسبب في اختصاص بدر بهذا الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حاضرا يوم بدر.. وأنه- سبحانه- شدد الأمر على أهل بدر، لأنه كان أول الجهاد، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم.والقول الثاني: أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاما في جميع الحروب بدليل أن قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... عام فيتناول جميع الصور.أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب».وهذا القول الثاني هو الذي نرجحه، لأن ظاهر الآية يفيد العموم لكل المؤمنين في كل زمان ومكان، ولأن سورة الأنفال كلها قد نزلت بعد الفراغ من غزوة بدر لا قبل الدخول فيها.3- أن الآيتين محكمتان وليستا منسوختين. أى أن تحريم التولي يوم الزحف على غير المتحرف أو المتحيز ثابت لم ينسخ.وقد رجح ذلك الإمام ابن جرير فقال ما ملخصه: «سئل عطاء بن أبى رباح عن قوله وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ فقال: هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال بعد ذلك وهي قوله- تعالى-: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ... وليس لقوم أن يفروا من مثليهم.وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزما.وأولى التأويلين بالصواب في هذه الآية عندي: قول من قال: حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر. وحكمها ثابت في جميع المؤمنين. وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف القتال، أو التحيز إلى فئة من المؤمنين، حيث كانت من أرض الإسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما- بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما- فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه.وإنما قلنا: هي محكمة غير منسوخة، لما قد بينا في غير موضع، أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله في غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قوله- تعالى- وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.
8:17
فَلَمْ تَقْتُلُوْهُمْ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ قَتَلَهُمْ۪-وَ مَا رَمَیْتَ اِذْ رَمَیْتَ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ رَمٰىۚ-وَ لِیُبْلِیَ الْمُؤْمِنِیْنَ مِنْهُ بَلَآءً حَسَنًاؕ-اِنَّ اللّٰهَ سَمِیْعٌ عَلِیْمٌ(۱۷)
تو تم نے انہیں قتل نہ کیا بلکہ اللہ نے (ف۳۰) انہیں قتل کیا، اور اے محبوب! وہ خاک جو تم نے پھینکی تھی بلکہ اللہ نے پھینکی اور اس لیے کہ مسلمانوں کو اس سے اچھا انعام عطا فرمائے، بیشک اللہ سنتا جانتا ہے،

ثم بين لهم- سبحانه- بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادوا شكرا له، وطاعة لأمره فقال- تعالى-: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.قال القرطبي: قوله- تعالى-: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، أى يوم بدر.روى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر.ذكر كل واحد منهم ما فعل فقال: قتلت كذا، وأسرت كذا، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك. فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المميت والمقدر لجميع الأشياء، وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده ... ».وقال ابن كثير: قال على بن طلحة عن ابن عباس: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه- يعنى يوم بدر- فقال: «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا، فقال جبريل: «خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم» فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.وقال السدى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى يوم بدر «أعطنى حصا من الأرض» فناوله حصا عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وأنزل الله: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ...وقال أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال:«شاهت الوجوه» ، فدخلت في أعينهم كلهم. وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله. وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى .وهناك روايات أخرى ذكرت أن قوله- تعالى- وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى المقصود به رميه صلى الله عليه وسلم لأبى بن خلف يوم أحد، أو رميه لكنانة بن أبى الحقيق في غزوة خيبر، أو رميه المشركين في غزوة حنين.قال ابن كثير: وقد روى في هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ... وسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم.والمعنى: إنكم- أيها المؤمنون- لم تقتلوا المشركين في بدر بقوتكم وشجاعتكم، ولكن الله- تعالى- هو الذي أظفركم بحوله وقوته، بأن خذلهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، ومنحكم من معونته ورعايته ما بلغكم هذا النصر.والفاء في قوله: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ.. يرى صاحب الكشاف أنها جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر وأذهب عن قلوبكم الفزع والجزع.وقوله: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين.أى: وَما رَمَيْتَ بالرعب في قلوب الأعداء إِذْ رَمَيْتَ في وجوههم بالحصباء يوم بدر وَلكِنَّ اللَّهَ- تعالى- هو الذي رَمى بالرعب في قلوبهم فهزمهم ونصركم عليهم.أو المعنى: ما أوصلت الحصباء إلى أعينهم إذ رميتهم بها، ولكن الله هو الذي أوصلها إليها.ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة: يعنى أن الرمية التي رميتها- يا محمد- لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر، ولكنها كانت رمية الله، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم.. فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه، لأن أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله- عز وجل-، فكان الله- تعالى- هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول صلى الله عليه وسلم أصلا.وقال الآلوسى: واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه- تعالى- وإنما لهم كسبها ومباشرتها وقال الإمام: أثبت- سبحانه- كونه صلى الله عليه وسلم راميا، ونفى كونه راميا، فوجب حمله على أنه صلى الله عليه وسلم رمى كسبا، والله- تعالى- رمى خلقا.فإن قيل: لماذا ذكر مفعول القتل منفيا ومثبتا ولم يذكر للرمي مفعول قط؟فالجواب- كما يقول أبو السعود-: «أن المقصود الأصلى بيان حال الرمي نفيا وإثباتا، إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر، وهو المنشأ لتغير المرمى به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الأمة الجمة شيء من ذلك».وقوله- سبحانه-: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً بيان لبعض وجوه حكمته- سبحانه- في خذلان الكافرين، ونصر المؤمنين.وقوله لِيُبْلِيَ من البلاء بمعنى الاختبار. وهو يكون بالنعمة لإظهار الشكر، كما يكون بالمحنة لإظهار الصبر. والمراد به هنا: الإحسان والنعمة والعطاء، ليزداد المؤمنون شكرا لربهم الذي وهبهم ما وهب من نعم.واللام للتعليل متعلقة بمحذوف مؤخر.والمعنى، ولكي يحسن- سبحانه- إلى عباده المؤمنين، وينعم عليهم بالنصر والغنائم، ليزدادوا شكرا له، فعل ما فعل من خذلان الكافرين وإذلالهم.وقوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييل قصد به الحض على طاعة الله، والتحذير من معصيته، أى: إن الله سميع لأقوالكم ودعائكم، عليم بضمائركم وقلوبكم، فاستبقوا الخيرات لتنالوا المزيد من رعايته ونصره.
8:18
ذٰلِكُمْ وَ اَنَّ اللّٰهَ مُوْهِنُ كَیْدِ الْكٰفِرِیْنَ(۱۸)
یہ (ف۳۱) تو لو اور اس کے ساتھ یہ ہے کہ اللہ کافروں کا داؤ سست کرنے والا ہے،

ثم يقرر- سبحانه- سنة من سننه التي لا تتخلف، وهي تقوية الحق وتوهين الباطل، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، وثباتا على ثباتهم فيقول: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ.قال الإمام الرازي: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو مُوهِنُ- بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين. من التوهين. تقول وهنت الشيء أى ضعفته-، كَيْدِ بالنصب على المفعولية. وقرأ حفص عن عاصم مُوهِنُ كَيْدِ بالإضافة. وقرأ الباقون مُوهِنُ بالتخفيف، - من أوهننه فأنا موهنه بمعنى أضعفته- وكَيْدِ بالنصب وتوهين الله كيدهم ومكرهم يكون بأشياء منها: إطلاع المؤمنين على عوراتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وتفريق كلمتهم، .واسم الإشارة ذلِكُمْ يعود إلى ما سبق من نعمة الإبلاء والقتل والرمي وغير ذلك من النعم. وهو مبتدأ وخبره محذوف، وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ.... معطوف عليه.المعنى: ذلكم الذي منحته إياكم من العطاء الحسن، والقتل للمشركين، والإمداد بالملائكة، وإنزال الماء عليكم. ذلكم كله نعم منى إليكم، ويضاف إلى ذلك كله أنّه- سبحانه- مضعف لكيد الكافرين ومفسد لمكرهم بكم.قال ابن كثير: وهذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم، وأنهم في تبار ودمار»
8:19
اِنْ تَسْتَفْتِحُوْا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُۚ-وَ اِنْ تَنْتَهُوْا فَهُوَ خَیْرٌ لَّكُمْۚ-وَ اِنْ تَعُوْدُوْا نَعُدْۚ-وَ لَنْ تُغْنِیَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَیْــٴًـا وَّ لَوْ كَثُرَتْۙ-وَ اَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُؤْمِنِیْنَ۠(۱۹)
اے کافرو! اگر تم فیصلہ مانگتے ہو تو یہ فیصلہ تم پر آچکا (ف۳۲) اور اگر با ز ا ٓ ؤ (ف۳۳) تو تمہارا بھلا ہے اور اگر تم پھر شرارت کرو تو ہم پھر نہ دیں گے اور تمہارا جتھا تمہیں کچھ کام نہ دے گا چاہے کتنا ہی بہت ہو اور اس کے ساتھ یہ ہے کہ اللہ مسلمانوں کے ساتھ ہے،

وبعد أن ذكر- سبحانه- عباده المؤمنين بما حباهم به من منن في غزوة بدر، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله.. أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ في الكفر على أن يدعو الله أن يجعل الدائرة في بدر على أضل الفريقين فقال- تعالى-: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم وصححه، عن ثعلبة، أن أبا جهل قال حين التقى القوم- في بدر-: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه- أى فأهلكه- الغداة. فكان المستفتح .وعن السدى أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أهدى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين. فقال- تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا.. الآية.قال الراغب: وقوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ... أى: إن طلبتم الظفر، أو طلبتم الفتاح أى الحكم.. والفتح إزالة الإغلاق والإشكال ... ويقال: فتح القضية فتاحا. أى فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها. قال- تعالى-: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. والاستفتاح: الاستنصار- أى طلب النصر- قال- تعالى- وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ....والمعنى: إن تطلبوا الفتح أى: القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أى: فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل.فالخطاب مسوق للكافرين على سبيل التهكم بهم، والتوبيخ لهم، حيث طلبوا من الله- تعالى- القضاء بينهم وبين المؤمنين، والنصر عليهم، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم، وإعلاء كلمة المؤمنين، لأنهم على الطريق القويم.وقوله: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أى: وإن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق، يكن هذا الانتهاء خيرا لكم من الكفر ومحاربة الحق.وقوله: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ ... تحذير لهم من التمادي في الباطل بعد ترغيبهم في الانقياد للحق.أى: وَإِنْ تَعُودُوا إلى محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعداوتهم نَعُدْعليكم بالهزيمة والذلة. وعلى المؤمنين بالنصر والعزة، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم- ولو كثرت- أن تدفع عنكم شيئا من تلك الهزيمة وهذه الذلة، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده.وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ تذييل قصد به تثبيت المؤمنين، وإلقاء الطمأنينة في نفوسهم.أى: وأن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته.قال الجمل: «قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح «أن» والباقون بكسرها.فالفتح من أوجه:أحدها: أنه على لام العلة والمعلل تقديره، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت.والثاني: أن التقدير: ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم. والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف.أى: والأمر أن الله مع المؤمنين.والوجه الأخير يقرب في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف.هذا وما جرينا عليه من أن الخطاب في قوله- تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا.. للمشركين هو رأى جمهور المفسرين.ومنهم من يرى أن الخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين، وعليه يكون المعنى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ... أى تطلبوا- أيها المؤمنون- النصر على أعدائكم فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أى: فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم.وَإِنْ تَنْتَهُوا أى عن المنازعة في أمر الأنفال، وعن التكاسل في طاعة الله ورسوله، فَهُوَ أى هذا الانتهاء خَيْرٌ لَكُمْ.وَإِنْ تَعُودُوا إلى المنازعات والتكاسل نَعُدْ عليكم بالإنكار وتهييج الأعداء.وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أى: ولن تفيدكم كثرتكم شيئا مهما كثرت إن لم يكن الله معكم بنصره.وأن الله- تعالى- مع المؤمنين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم له.والذي يبدو لنا أن كون الخطاب للكافرين أرجح، لأن أسباب النزول تؤيده، فقد سبق أن بينا أن الكافرين عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أهدى الجندين.. وأن أبا جهل قال حين التقى القوم:اللهم أينا أقطع للرحم.. فأحنه الغداة. قال ابن جرير: فكان ذلك استفتاحه، فأنزل الله في ذلك إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ...ولعل مما يرجح أن الخطاب في قوله- تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ... للكافرين، أن بعض المفسرين- كابن جرير وابن كثير- ساروا في تفسيرهم للآية على ذلك، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا.أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة «وقيل» وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال: قوله- تعالى-: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا.. خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أقرانا للضيف، وأوصلنا للرحم، وأفكنا للعانى ... ».وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التي افتتحت بنداء المؤمنين، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء.. وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم، ورعايته لهم.. ورغبت المشركين في الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق، وحذرتهم من التمادي في باطلهم وطغيانهم..وأخبرتهم في ختامها بأن الله- تعالى- مع المؤمنين بتأييده ونصره.ثم وجهت السورة الكريمة نداء ثانيا إلى المؤمنين، أمرتهم بطاعة الله ورسوله، ونهتهم عن التشبه بالكافرين وأمثالهم من المنافقين.فقال- تعالى-:
8:20
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْۤا اَطِیْعُوا اللّٰهَ وَ رَسُوْلَهٗ وَ لَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ اَنْتُمْ تَسْمَعُوْنَۚۖ(۲۰)
اے ایمان والو! اللہ اور اس کے رسول کا حکم مانو (ف۳۴) اور سن سنا کہ اسے نہ پھرو،

والمعنى يا أيها الذين آمنوا حق الإيمان، أطيعوا الله ورسوله في كل أحوالكم، وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أى ولا تعرضوا عنه، فإن في إعراضكم عنه خسارة عظيمة لكم في دنياكم وآخرتكم.قال الآلوسى: «وأعيد الضمير إليه صلى الله عليه وسلم، لأن المقصود طاعته، وذكر طاعة الله- تعالى- توطئة لطاعته، وهي مستلزمة لطاعة الله- تعالى-، لأنه مبلغ عنه، فكان الراجع إليه صلى الله عليه وسلم كالراجع إلى الله- تعالى-» .وقوله: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ جملة حالية مسوقة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقا، لا لتقييد النهى عنه بحال السماع.أى أطيعوا الله ورسوله- أيها المؤمنون- ولا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته
8:21
وَ لَا تَكُوْنُوْا كَالَّذِیْنَ قَالُوْا سَمِعْنَا وَ هُمْ لَا یَسْمَعُوْنَ(۲۱)
اور ان جیسے نہ ہونا جنہوں نے کہا ہم نے سنا او ر وہ نہیں سنتے (ف۳۵)

وقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ تأكيد لما قبله، ونهى لهم عن التشبه بالضالين.أى أطيعوا الله ورسوله في كل أحوالكم عن إخلاص وإذعان، ولا تقصروا في ذلك في وقت من الأوقات، وإياكم أن تتشبهوا بأولئك الكافرين والمنافقين الذين ادعوا السماع فقالوا سمعنا، والحال أنهم لم يسمعوا سماع تدبر واتعاظ، لأنهم لم يصدقوا ما سمعوه، ولم يتأثروا به. بل نبذوه وراء ظهورهم.فالمنفى في قوله- تعالى- وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع خاص، وهو سماع التدبر والاتعاظ، لكنه جيء به على سبيل الإطلاق، للإشعار بأنهم قد نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا، بجعل سماعهم بمنزلة العدم، حيث إنه سماع لا وزن له، ولا فائدة لهم من ورائه، مع أنهم لو فتحوا آذانهم وقلوبهم للحق لاستفادوا، ولكنهم آثروا الغي على الرشد.
8:22
اِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِنْدَ اللّٰهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِیْنَ لَا یَعْقِلُوْنَ(۲۲)
بیشک سب جانوروں میں بدتر اللہ کے نزدیک وہ ہیں جو بہرے گونگے ہیں جن کو عقل نہیں(ف۳۶)

ثم وصف- سبحانه- الكفار والمنافقين وأشباههم وصفا يحمل العقلاء على النفور منهم، فقال- تعالى-: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ...والدواب: جمع دابة وهي كل ما يدب على الأرض. قال- تعالى-: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.. .قال الجمل: «وإطلاق الدابة على الإنسان لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا، وفي المصباح: الدابة كل حيوان في الأرض مميزا أو غير مميز» .وقد روى أن هذه الآية نزلت في نفر من بنى عبد الدار، كانوا يقولون: نحن صم بكم عما جاء به محمد، فقتلوا جميعا يوم بدر.وهذا لا يمنع أن الآية الكريمة يشمل حكمها جميع المشركين والمنافقين، إذ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.والمعنى: إن شر ما يدب على الأرض عِنْدَ اللَّهِ أى: في حكمه وقضائه، هم أولئك الصُّمُّ عن سماع الحق الْبُكْمُ عن النطق به الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أى لا يعقلون التمييز بينه وبين الباطل.ووصفهم- سبحانه- بذلك مع أنهم يسمعون وينطقون، لأنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس، بل استعملوها فيما يضر ويؤذى، فكان وجودها فيهم كعدمها.وقدم الصمم على البكم، لأن صممهم عن سماع الحق متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له، كما أن النطق به من فروع سماعه.وقوله الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ تحقيق لكمال سوء حالهم، لأن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما فهم بعض الأمور.. أما إذا كان بجانب صممه وبكمه فاقد العقل، فإنه في هذه الحالة يكون قد بلغ الغاية في سوء الحال..قال صاحب المنار: وقوله: الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أى: فقدوا فضيلة العقل الذي يميز بين الحق والباطل والخير والشر، إذ لو عقلوا لطلبوا، ولو طلبوا لسمعوا وميزوا، ولو سمعوا لنطقوا وبينوا، وتذكروا وذكروا.. فهم لفقدهم منفعة العقل والسمع والنطق صاروا كالفاقدين لهذه المشاعر والقوى.. بل هم شر من ذلك لأنهم أعطيت لهم المشاعر والقوى فأفسدوها على أنفسهم لعدم استعمالها فيما خلقها الله لأجله، فهم كما قال الشاعر:خلقوا، وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوارزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقواولم يصفهم هنا بالعمى كما وصفهم في آية الأعراف وآيتي البقرة، لأن المقام هنا مقام تعريض بالذين ردوا دعوة الإسلام، ولم يهتدوا بسماع آيات القرآن» .
8:23
وَ لَوْ عَلِمَ اللّٰهُ فِیْهِمْ خَیْرًا لَّاَسْمَعَهُمْؕ-وَ لَوْ اَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّ هُمْ مُّعْرِضُوْنَ(۲۳)
اور اگر اللہ ان میں کچھ بھلائی (ف۳۷) جانتا تو انہیں سنادیتا اور اگر (ف۳۸) سنا دیتا جب بھی انجام کا ر منہ پھیر کر پلٹ جاتے (ف۳۹)

وقوله- تعالى- وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ... بيان لما جبلوا عليه من إيثار الغي على الرشد، والضلالة على الهداية.أى: ولو علم الله- تعالى- في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أى: استعدادا للإيمان ورغبة فيما يصلح نفوسهم وقلوبهم لَأَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وتدبر، أى: لجعلهم سامعين للحق، ومستجيبين له، ولكنه- سبحانه- لم يعلم فيهم شيئا من ذلك، فحجب خيره عنهم بسبب سوء استعدادهم.ولذا قال- تعالى- بعد ذلك: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ أى: ولو أسمعهم سماع تفهم وتدبر، وهم على هذه الحالة العارية من كل خير لتولوا عما سمعوه من الحق وَهُمْ مُعْرِضُونَ عن قبوله جحودا وعنادا.قال الفخر الرازي: قوله- تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ أى: أن كل ما كان حاصلا، فإنه يجب أن يعلمه الله، فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده، وتقرير الكلام: لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهم، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا به، ولتولوا وهم معرضون» .ثم وجه- سبحانه- إلى المؤمنين نداء ثالثا أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه، وحذرهم من الأقوال والأعمال التي تكون سببا في عذابهم، وذكّرهم بجانب من مننه عليهم، فقال- تعالى-:
8:24
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوا اسْتَجِیْبُوْا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُوْلِ اِذَا دَعَاكُمْ لِمَا یُحْیِیْكُمْۚ-وَ اعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ یَحُوْلُ بَیْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهٖ وَ اَنَّهٗۤ اِلَیْهِ تُحْشَرُوْنَ(۲۴)
اے ایمان والو! اللہ اور اس کے رسول کے بلانے پر حاضر ہو (ف۴۰) جب رسول تمہیں اس چیز کے لیے بلائیں جو تمہیں زندگی بخشے گی (ف۴۱) اور جان لو کہ اللہ کا حکم آدمی اور اس کے دلی ارادوں میں حائل ہوجا تا ہے اور یہ کہ تمہیں اس کی طرف اٹھنا ہے،

قال القرطبي: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ.. هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف، والاستجابة:الإجابة.. قال الشاعر:وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيبأى: فلم يجبه عند ذاك مجيب.وكان الإمام القرطبي يرى أن السين والتاء في قوله: «استجيبوا» زائدتان.ولعل الأحسن من ذلك أن تكون السين والتاء للطلب، لأن الاستجابة هي الإجابة بنشاط وحسن استعداد.وقوله لِما يُحْيِيكُمْ أى لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة، التي توصلكم متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا، وإلى السعادة التي ليس بعدها سعادة في الآخرة.وهذا المعنى الذي ذكرناه لقوله لِما يُحْيِيكُمْ أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن، أو الجهاد، أو العلم ... إلخ.وذلك، لأن أعمال البر والخير والطاعة تشمل كل هذا.والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله حق الإيمان، اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ عن طواعية واختيار، ونشاط وحسن استعداد إِذا دَعاكُمْ الرسول- صلى الله عليه وسلم- لِما يُحْيِيكُمْ أى: إلى ما يصلح أحوالكم، ويرفع درجاتكم، من الأقوال النافعة، والأعمال الحسنة، التي بالتمسك بها تحيون حياة طيبة: وتظفرون بالسعادتين:الدنيوية والأخروية.والضمير في قوله دَعاكُمْ يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله، ولأن في الاستجابة له استجابة لله- تعالى- قال- سبحانه-: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً .وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله، وبعث لهم على مواصلة الطاعة له- سبحانه-.وقوله: يَحُولُ من الحول بين الشيء والشيء، بمعنى الحجز والفصل بينهما.قال الراغب: أصل الحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول: وباعتبار الانفصال قيل حال بيني وبينك كذا ...أى فصل..» .هذا، وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان:أما القول الأول فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه- كما يقول ابن جرير-: أنه- سبحانه- أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر، أو أن يعي به شيئا، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته، وذلك أن الحول بين الشيء والشيء إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز- جل ثناؤه- بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل، وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك قول من قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان.وقول من قال: يحول بينه وبين عقله. وقول من قال: يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.. فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له، .وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى.وقال ابن كثير- بعد أن لخص القول الذي رجحه ابن جرير-: وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفها كيف شاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك) .وروى: الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه» .أما القول الثاني فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه- كما يقول الزمخشري- «أنه- سبحانه- يميت المرء فتفوته الفرصة التي هو واجدها، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله، ورده سليما كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله، .أو- كما يقول الفخر الرازي- بعبارة أوضح: «أن المراد أنه- تعالى- يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه، فإن الأجل يحول دون الأمل. فكأنه قال: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء، فإن ذلك غير موثوق به،وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأمانى الحاصلة في القلب، لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم: سال الوادي، .والذي نراه أن القول الثاني أولى بالقبول، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة للحق الذي دعاهم إليه رسوله صلى الله عليه وسلم والذي باتباعه يحيون حياة طيبة، وتذكيرهم بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب، كما قال- تعالى- في ختامها وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.وليست مسوقة لإثبات قدرة الله، وأنه أملك لقلوب عباده منهم: وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء.فالمعنى الذي ذكره ابن جرير- وتابعه عليه ابن كثير وغيره، معنى وجيه في ذاته، إذ لا ينكر أحد أن الله مقلب القلوب ومالكها.. ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذي ذكره الزمخشري والرازي، لأن الآية التي معنا والتي بعدها صريحتان في دعوة المؤمنين إلى الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين منهم خاصة.والمعنى الإجمالى للآية الكريمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ بعزيمة صادقة، وسرعة فائقة، إِذا دَعاكُمْ الرسول- صلى الله عليه وسلم- لِما يُحْيِيكُمْ أى لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة وَاعْلَمُوا علما يقينا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أى يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا ومتعها: فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا، وسيجمع كذا في المستقبل، وسيحصل على كذا قريبا..ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه.. فبادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت.وقوله: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تذبيل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة. والضمير في قوله وَأَنَّهُ يعود إلى الله تعالى- أو هو ضمير الشأن. أى: وأنه- سبحانه- إليه وحده ترجعون لا إلى غيره، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم، ويجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جمعت بين الترغيب. في العمل الصالح بسرعة ونشاط، وبين الترهيب من التكاسل والغفلة عن طاعة الله.
8:25
وَ اتَّقُوْا فِتْنَةً لَّا تُصِیْبَنَّ الَّذِیْنَ ظَلَمُوْا مِنْكُمْ خَآصَّةًۚ-وَ اعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ شَدِیْدُ الْعِقَابِ(۲۵)
اور اس فتنہ سے ڈرتے رہو جو ہرگز تم میں خاص ظالموں کو ہی نہ پہنچے گا (ف۴۲) اور جان لو کہ اللہ کا عذاب سخت ہے،

ثم يؤكد- سبحانه- بعد ذلك ترهيبه لهم من التراخي في تغيير المنكر فيقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.والفتنة: من الفتن. وأصله- كما يقول الراغب-: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار.كما في قوله- تعالى- ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أى: عذابكم. وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله- تعالى-: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا. وتارة في الاختيار نحو قوله- تعالى- وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً .والمراد بالفتنة هنا العذاب الدنيوي، كالأمراض، والقحط، واضطراب الأحوال، وتسلط الظلمة، وعدم الأمان.. وغير ذلك من المحن والمصائب والآلام التي تنزل بالناس بسبب غشيانهم الذنوب، وإقرارهم للمنكرات، والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.والخطاب لجميع المؤمنين في كل زمان ومكان.فالمعنى: داوموا أيها المؤمنون على طاعة الله بقوة ونشاط، واحذروا من أن ينزل بكم عذاب سيعم عند نزوله الأخيار والفجار والمحسنين والمسيئين.وقوله، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ المراد منه الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله- تعالى-.أى: واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره، وانتهك حرماته.قال صاحب الكشاف: وقوله لا تُصِيبَنَّ لا يخلو من أن يكون جوابا للأمر، أو نهيا بعد أمر، أو صفة لفتنة.فإذا كان جوابا فالمعنى: إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم ... وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنبا أو عقابا، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله الجميع وليس من ظلم منكم خاصة.فإن قلت: كيف جاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر؟قلت: لأن فيه معنى النهى- ومتى كان كذلك جاز إدخال النون المؤكدة- كما إذا قلت:انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك. ومنه قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ .وقوله خَاصَّةً منصوب على الحال من الفاعل المستكن في قوله لا تُصِيبَنَّ.ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف. والتقدير: إصابة خاصة.هذا، وقد دلت الآية الكريمة على وجوب الإقلاع عن المعاصي، ووجوب محاربة مرتكبيها، فإن الأمة التي تشيع فيها المعاصي والمظالم والمنكرات.. ثم لا تجد من يحاربها ويعمل على إزالتها، تستحق العقوبة جزاء سكوتها واستخذائها وجبنها.وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في حق بعض الصحابة الذين اشتركوا في واقعة الجمل فيما بعد.ولكن هذا القول غير صحيح لأن الآية الكريمة تخاطب المؤمنين جميعا في كل زمان ومكان، وتأمرهم بالبعد عن المعاصي والمنكرات التي تفضى بهم إلى العذاب الدنيوي قبل الأخروى. وليست خاصة بفريق دون فريق.لذا قال ابن كثير: والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم هو الصحيح، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن.ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عدى بن عميرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله- تعالى- لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة» .وروى الإمام أحمد أيضا عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه، إلا عمهم الله بعقاب» .وقال الإمام القرطبي: قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب.ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له:يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» .وفي صحيح الترمذي: «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» .وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا- أى اقترعوا- على سفينة فأصاب بعضهم أغلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» .ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة.قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمت هلك الكل وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر وعدم التغيير. وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها.روى ابن وهب عن مالك قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها.واحتج بصنيع أبى الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها.فإن قيل: فقد قال الله- تعالى- وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وقال: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب؟فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عليه فكلهم عاص هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله في حكمه الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة .وقال بعض العلماء: وذكر القسطلاني «أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده. فكل من لم يكن بهذه الحالة، فهو راض بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار .
8:26
وَ اذْكُرُوْۤا اِذْ اَنْتُمْ قَلِیْلٌ مُّسْتَضْعَفُوْنَ فِی الْاَرْضِ تَخَافُوْنَ اَنْ یَّتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَاٰوٰىكُمْ وَ اَیَّدَكُمْ بِنَصْرِهٖ وَ رَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّیِّبٰتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ(۲۶)
اور یاد کرو (ف۴۳) جب تم تھوڑے تھے ملک میں دبے ہوئے (ف۴۴) ڈرتے تھے کہ کہیں لوگ تمہیں اچک نہ لے جائیں تو اس نے تمہیں (ف۴۵) جگہ دی اور اپنی مدد سے زور دیا اور ستھری چیزیں تمہیں روزی دیں (ف۴۶) کہ کہیں تم احسان مانو،

وبعد أن أمر- سبحانه- المؤمنين بالاستجابة له ونهاهم عن الوقوع في المعاصي.. أخذ في تذكيرهم بجانب من فضله عليهم فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ....أى: اذْكُرُوا يا معشر المؤمنين إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أى: وقت أن كنتم قلة مستضعفة في أرض مكة تحت أيدى كفار قريش. أو في أرض الجزيرة العربية حيث كانت الدولة لغيركم من الفرس والروم.وقوله: تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أى: تخافون أن يأخذكم أعداؤكم أخذا سريعا. لقوتهم وضعفكم. يقال خطفه- من باب تعب- أى: استلبه بسرعة.والمراد بالتذكر في قوله: اذْكُرُوا أن يتنبهوا بعقولهم وقلوبهم إلى نعم الله، وأن يداوموا على شكرها حتى يزيدهم- سبحانه- من فضله.وإِذْ ظرف بمعنى وقت. وأَنْتُمْ مبتدأ، أخبر عنه بثلاثة أخبار بعده وهي قَلِيلٌ ومُسْتَضْعَفُونَ وتَخافُونَ.والمراد بالناس: كفار قريش، أوهم وغيرهم من كفار العرب والفرس والروم.وقوله: فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ بيان لما من به عليهم من نعم بعد أن كانوا محرومين منها.أى: اذكروا وقت أن كنتم قلة ضعيفة مستضعفة تخشى- أن يأخذها أعداؤها أخذا سريعا، فرفع الله عنكم بفضله هذه الحال، وأبدلكم خيرا منها، بأن آواكم إلى المدينة، وألف بين قلوبكم يا معشر المهاجرين والأنصار وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ في غزوة بدر، وقذف في قلوب أعدائكم الرعب منكم وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أى: ورزقكم من الغنائم التي أحلها لكم بعد أن كانت محرمة على الذين من قبلكم، كما رزقكم- أيضا بكثير من المطاعم والمشارب الطيبة التي لم تكن متوفرة لكم قبل ذلك.وقوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تذييل قصد به حضهم على مداومة الشكر والطاعة لله- عز وجل- أى: نقلكم الله- تعالى- من الشدة إلى الرخاء، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الفقر إلى الغنى.. حتى تستمروا على طاعة الله وشكره، ولا يشغلكم عن ذلك أى شاغل.قال ابن جرير: قال قتادة في قوله- تعالى- وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ..:«كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردى في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منهم منزلا، حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس. فبالاسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله- تعالى-» .وبذلك نرى أن هذه الآيات الثلاثة قد جمعت بين الترغيب والترهيب والتذكير ... الترغيبكما في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ....والترهيب كما في قوله- تعالى-: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً....والتذكير كما في قوله- تعالى- وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ....وبالترغيب في الطاعات، وبالترهيب من المعاصي، وبالتذكير بالنعم، ينجح الدعاة في دعوتهم إلى الله.ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك نداء رابعا وخامسا إلى المؤمنين فقال:
8:27
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا لَا تَخُوْنُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُوْلَ وَ تَخُوْنُوْۤا اَمٰنٰتِكُمْ وَ اَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ(۲۷)
اے ایمان والو! اللہ اور رسول سے دغا نہ کرو (ف۴۷) اور نہ اپنی امانتوں میں دانستہ خیانت،

روى المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا روايات منها:ما جاء عن ابن عباس من أنها نزلت في أبى لبابة حين بعثه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى بنى قريظة فقالوا له: يا أبا لبابة ما ترى؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا؟فأشار أبو لبابة إلى حلقه. أى أن حكم سعد فيكم سيكون الذبح فلا تنزلوا.قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي- عن مكانهما- حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله.ومنها ما جاء عن جابر بن عبد الله من أنها نزلت في منافق كتب إلى أبى سفيان يطلعه على سر من أسرار المسلمين.ومنها ما جاء عن السدى من أنها نزلت في قوم كانوا يسمعون الشيء عن النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم يحدثون به المشركين.. .قال ابن كثير: والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص فإن الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هو المعتمد عند الجماهير من العلماء.وقوله لا تَخُونُوا من الخون بمعنى النقص. يقال خونه تخوينا أى: نسبه إلى الخيانة ونقصه.قال صاحب الكشاف: معنى الخون: النقص، كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه تخونه إذا تنقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه. وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب- والكرب حبل يشد في رأس الدلو- وخان المشتار السبب. والمشتار مجتنى العسل والسبب الحبل- لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له» .والمقصود بخيانة الله: ترك فرائضه وأوامره التي كلف العباد بها، وانتهاك حرماته التي نهى عن الاقتراب منها.والمقصود بخيانة الرسول صلى الله عليه وسلم: إهمال سننه التي جاء بها وأمرنا بالتقيد بتعاليمها.والمقصود بالأمانات: الأسرار والعهود والودائع وغير ذلك من الشئون التي تكون بينهم وبين غيرهم مما يجب أن يصان ويحفظ.والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ بأن تهملوا فرائضه، وتتعدوا حدوده، ولا تخونوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، بأن تتركوا سنته وتنصرفوا إلى غيرها، وتخالفوا ما أمركم به وتجترحوا ما نهاكم عنه، ولا تخونوا أَماناتِكُمْ بأن تفشوا الأسرار التي بينكم، وتنقضوا العهود التي تعاهدتم على الوفاء بها، وتنكروا الودائع التي أودعها لديكم غيركم، وتستبيحوا ما يجب حفظه من سائر الحقوق المادية والمعنوية، فقوله: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ معطوف على قوله لا تَخُونُوا.وأعاد النهى للإشعار بأن كل واحد من المنهي عنه مقصود بذاته اهتماما به.وقوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الواو للحال، والمفعول محذوف. أى. والحال أنكم تعلمون سوء عاقبة الخائن لله ولرسوله وللأمانات التي اؤتمن عليها، فعليكم أن تتجنبوا الخيانة في جميع صورها لتنالوا رضى الله ومثوبته.
8:28
وَ اعْلَمُوْۤا اَنَّمَاۤ اَمْوَالُكُمْ وَ اَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌۙ-وَّ اَنَّ اللّٰهَ عِنْدَهٗۤ اَجْرٌ عَظِیْمٌ۠(۲۸)
اور جان رکھو کہ تمہارے مال اور تمہاری اولاد سب فتنہ ہے (ف۴۸) اور اللہ کے پاس بڑا ثواب ہے(ف۴۹)

ولما كان حب الأموال والأولاد والاشتغال بهم من أهم دواعي الإقدام على الخيانة، نبه- سبحانه- إلى ذلك فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.أى: واعلموا- أيها المؤمنون- أنما أموالكم وأولادكم فتنة، أى امتحان واختبار لكم من الله- تعالى- ليتبين قوى الإيمان من ضعيفه.أما قوى الإيمان فلا يشغله ماله وولده عن طاعة الله، وأما ضعيف الإيمان فيشغله ذلك عن طاعة الله، ويجعله يعيش حياته عبدا لأمواله، ومطيعا لمطالب أولاده حتى ولو كانت هذه الطاعة متنافية مع تعاليم دينه وآدابه.وقال صاحب المنار: الفتنة هي الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه، أو قبوله أو إنكاره.وأموال الإنسان عليها مدار حياته، وتحصيل رغائبه وشهواته، ودفع كثير من المكاره عنه، فهو يتكلف في طلبها المشاق، ويركب الصعاب، ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام، ويرغبه في القصد والاعتدال في إنفاقها.وأما الأولاد فحبهم- كما يقول الأستاذ الامام- ضرب من الجنون يلقيه الفاطر الحكيم في قلوب الأمهات والآباء، فيحملهم على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهم.روى أبو ليلى من حديث أبى سعيد الخدري مرفوعا «الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة» . فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الآثام، وعلى الجبن، وعلى البخل، وعلى الحزن.فالواجب على المؤمن اتقاء خطر الفتنة الأولى يكسب المال من وجوهه الحلال، وإنفاقه في وجوهه المشروعة.. واتقاء خطر الفتنة الثانية باتباع ما أوجبه الله على الآباء من حسن تربية الأولاد على الدين والفضائل، وتجنبهم أسباب المعاصي والرذائل» .وقوله وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌتذييل قصد به ترغيب المؤمنين في طاعة الله، بعد أن حذرهم من فتنة المال والولد.أى: واعلموا أن الله عنده أجر عظيم لمن آثر طاعته ورضاه على جمع المال وحب الأولاد، فكونوا- أيها المؤمنون- من حزب المؤثرين لحب الله على حب الأموال والأولاد لتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة.
8:29
یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْۤا اِنْ تَتَّقُوا اللّٰهَ یَجْعَلْ لَّكُمْ فُرْقَانًا وَّ یُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَیِّاٰتِكُمْ وَ یَغْفِرْ لَكُمْؕ-وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیْمِ(۲۹)
اے ایمان والو! اگر اللہ سے ڈرو گے (ف۵۰) تو تمہیں وہ دیگا جس سے حق کو باطل سے جدا کرلو اور تمہاری برائیاں اتار دے گا اور تمہیں بخش دے گا اور اللہ بڑے فضل والا ہے،

ثم ختم سبحانه- نداءاته للمؤمنين بهذا النداء الذي يهديهم إلى سبل الخير والفلاح فقال- سبحانه- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.والفرقان في كلام العرب- كما يقول ابن جرير- مصدر من قولهم فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقا وفرقانا- أى أفرق وأفصل بينهما.وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عند تأويل قوله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً فقال بعضهم:يجعل لكم مخرجا. وقال بعضهم نجاة، وقال بعضهم فصلا وفرقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم.. وكل ذلك متقارب المعنى، وإن اختلفت العبارة..» .وقال الآلوسى: فُرْقاناً أى: هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل- كما روى عن ابن جريج وابن زيد- أو نصرا يفرق به بين الحق والباطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين- كما قال الفراء- أو نجاة في الدارين- كما هو كلام السدى- أو مخرجا من الشبهات- كما جاء عن مقاتل- أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم- كما يشعر به كلام محمد بن إسحاق- من بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أى الصبح. وكل المعاني ترجع إلى الفرق بين أمرين. وجوز البعض من المحققين الجمع بينها» .ونحن مع هذا البعض من المحققين في جواز الجمع بين هذه المعاني فيكون المعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه، وتطيعوه في السر والعلن يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أى هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ونصرا تعلو به كلمتكم على كلمة أعدائكم، ومخرجا من الشبهات التي تقلق النفوس، ونجاة مما تخافون،..وفضلا عن كل ذلك فإنه- سبحانه- يكفر عنكم سيئاتكم، أى يسترها عليكم في الدنيا، وَيَغْفِرْ لَكُمْ أى: ويغفر لكم يوم القيامة ما فرط منكم من ذنوب بلطفه وإحسانه وقوله: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تذييل قصد به التعليل لما قبله، والتنبيه على أن ما وعد به- سبحانه- المؤمنين على تقواهم إنما هو تفضل منه لهم، فهو- سبحانه- صاحب العطاء الجزيل، والخير العميم. لمن أطاعه واتقاه، وصان نفسه عما يسخطه ويغضبه.فأنت ترى أنه- سبحانه- قد رتب على تقواه وعلى الخوف منه نعما عظمى، ومننا كبرى، وأى نعم يتطلع إليها المؤمنون أفضل من هداية القلوب وتكفير الخطايا والذنوب؟.اللهم لا تحرمنا من هذه النعم والمنن بفضلك وإحسانك، فأنت وحدك صاحب العطاء العميم، وأنت وحدك ذو الفضل العظيم، وأنت وحدك على كل شيء قدير.وبعد: فنحن- أخى القارئ- لو استعرضنا سورة الأنفال من مطلعها إلى هنا، لرأيناها تحدثنا- على سبيل الإجمال- عن:(أ) أحكام الأنفال، وأن مرد الحكم فيها إلى الله ورسوله..(ب) وعن الصفات الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون لينالوا مغفرة الله ورضوانه.(ج) وعن أحوال بعض المؤمنين الذين اشتركوا في غزوة بدر، وكانوا يفضلون العير على النفير. ولكن- الله تعالى- بين لهم أن الخير فيما قدره لا فيما يفضلون.(د) وعن النعم والبشارات وأسباب النصر التي أمد الله بها المؤمنين في بدر والتي كان من آثارها ارتفاع شأنهم، واندحار شأن أعدائهم.(ه) وعن التوجيهات الحكيمة التي أعقبت تلك النداءات الخمسة التي نادى الله بها المؤمنين، فقد أمرهم- سبحانه- بالثبات في وجه أعدائهم، وبالطاعة التامة له ولرسوله- صلى الله عليه وسلم- وبالاستجابة السريعة للحق الذي جاءهم به الرسول- صلى الله عليه وسلم-.. ونهتهم عن التولي يوم الزحف وعن التشبه بمن قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، وعن إقرار المنكرات والبدع والرضا بها، وعن خيانة الله والرسول، وعن خيانة الأمانات التي تجب صيانتها والمحافظة عليها.ووعدهم- سبحانه- بهداية القلوب، وتكفير الخطايا والذنوب، متى اتقوه ووقفوا عند حدوده.(و) والآن، وبعد هذا التوجيه الحكيم، والتأديب القويم، والتعليم النافع والتذكير بالنعم، والتحذير من النقم..ماذا نرى؟نرى السورة الكريمة تأخذ في تذكير المؤمنين بجوانب من جرائم أعدائهم فتقص عليهم ما كان من هؤلاء الأعداء من تآمر على حياة رسولهم صلى الله عليه وسلم ومن تهكم بالقرآن الكريم وادعاء أنهم في استطاعتهم أن يأتوا بمثله لو شاءوا، ومن استهزاء بتعاليم الإسلام، وسخرية بشعائره وعباداته، ومن إنفاق لأموالهم ليصدوا الناس عن الطريق للحق، ومن إصرار على العناد والجحود جعلهم يستعجلون العذاب.ومع كل هذا فالسورة الكريمة تفتح الباب في وجوه هؤلاء الجاحدين المعاندين، وتأمر المؤمنين أن ينصحوهم بالدخول في دين الله.. فإذا لم يستجيبوا لنصحهم فعليهم أن يقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.استمع- أخى القارئ- بتدبر إلى الآيات التي تحكى كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
8:30
وَ اِذْ یَمْكُرُ بِكَ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا لِیُثْبِتُوْكَ اَوْ یَقْتُلُوْكَ اَوْ یُخْرِجُوْكَؕ-وَ یَمْكُرُوْنَ وَ یَمْكُرُ اللّٰهُؕ-وَ اللّٰهُ خَیْرُ الْمٰكِرِیْنَ(۳۰)
اور اے محبوب یاد کرو جب کافر تمہارے ساتھ مکر کرتے تھے کہ تمہیں بند کرلیں یا شہید کردیں یا نکا ل دیں (ف۱۵۱) اپنا سا مکر کرتے تھے اور اللہ اپنی خفیہ تدبیر فرماتا تھا اور اللہ کی خفیہ تدبیر سب سے بہتر،

قال ابن كثير: عن ابن عباس في قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنه قال:تشاورت قريش ليلة بمكة- في شأن النبي- صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد أن رأوا أمره قد اشتهر، وأن غيرهم قد آمن به- فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق. وقال بعضهم بل اقتلوه. وقال بعضهم بل أخرجوه. ثم اتفقوا أخيرا على قتله-، فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك، وأمره أن لا يبيت في مضجعه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يبيت مكانه ففعل وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليا قالوا له أين صاحبك؟ قال: لا أدرى. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.وقد ذكر ابن كثير وغيره روايات أخرى تتعلق بهذه الآية، إلا أننا نكتفي بهذه الرواية، لإفادتها بالمطلوب في موضوعنا، ولأن غيرها قد اشتمل على أخبار أنكرها بعض المحققين، كما أنكرها ابن كثير نفسه .وقوله: وَإِذْ يَمْكُرُ.. تذكير من الله- تعالى- لنبيه وللمؤمنين ببعض نعمه عليهم، حيث نجى نبيه صلى الله عليه وسلم من مكر المشركين حين تآمروا على قتله وهو بينهم بمكة.قال ابن جرير: أنزل الله على النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد قدومه المدينة سورة الأنفال، يذكره نعمه عليه- ومن ذلك قوله- تعالى- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا..الآية .وقوله يَمْكُرُ من المكر، وهو- كما يقول الراغب- صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان: مكر محمود وذلك أن يتحرى بمكره فعلا جميلا ومنه قوله- تعالى- وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. ومكر مذموم، وهو أن يتحرى بمكره فعلا قبيحا، ومنه قوله- تعالى- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. وقال- سبحانه وتعالى- في الأمرين: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ .وقوله: «ليثبتوك» أى ليحبسوك. يقال أثبته إذا حبسته.والمعنى: واذكر- يا محمد- وقت أن نجيتك من مكر أعدائك، حين تآمروا عليك وأنت بين أظهرهم في مكة، لكي لِيُثْبِتُوكَ أى: يحبسوك في دارك، فلا تتمكن من لقاء الناس ومن دعوتهم إلى الدين الحق أَوْ يَقْتُلُوكَ بواسطة مجموعة من الرجال الذين اختلفت قبائلهم في النسب، حتى يتفرق دمك فيهم فلا تقدر عشيرتك على الأخذ بثأرك من هذه القبائل المتعددة.. أَوْ يُخْرِجُوكَ أى: من مكة منفيا مطاردا حتى يحولوا بينك وبين لقاء قومك.وقوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ بيان لموضع النعمة والمنة، أى:والحال أن هؤلاء المشركين يمكرون بك وبأتباعك المكر السيئ، والله- تعالى- يرد مكرهم في نحورهم، ويحبط كيدهم، ويخيب سعيهم، ويعاقب عليه عقابا شديدا، ويدبر أمرك وأمر أتباعك، ويحفظكم من شرورهم، فهو- سبحانه- أقوى الماكرين. وأعظمهم تأثيرا، وأعلمهم بما يضر منه وما ينفع.قال الآلوسى: قوله وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ أى: برد مكرهم ويجعل وخامته عليهم، أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر، وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد.وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره- سبحانه-. وإطلاق هذا المركب الإضافى عليه- تعالى- إن كان باعتبار أن مكره- سبحانه- أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإضافة للتفضيل، لأن لمكر الغير- أيضا- نفوذا أو تأثيرا في الجملة.. وإن كان باعتبار أنه- سبحانه- لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا ما يستوجب الممكور به، فلا شركة لمكر الغير فيه، وتكون الإضافة حينئذ للاختصاص، لانتفاء المشاركة..» .هذا والصورة التي يرسمها قوله- تعالى-: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ صورة عميقة التأثير، ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون، والله من روائهم محيط، ويمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون.إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة.. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة.. قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط؟والتعبير القرآنى يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير، فيهز بها القلوب، ويحرك بها أعماق الشعور» .
8:31
وَ اِذَا تُتْلٰى عَلَیْهِمْ اٰیٰتُنَا قَالُوْا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هٰذَاۤۙ-اِنْ هٰذَاۤ اِلَّاۤ اَسَاطِیْرُ الْاَوَّلِیْنَ(۳۱)
اور جب ان پر ہماری آیتیں پڑھی جائیں تو کہتے ہیں ہاں ہم نے سنا ہم چاہتے تو ایسی ہم بھی کہہ دیتے یہ تو نہیں مگر اگلوں کے قصے (ف۵۲)

ثم حكى القرآن بعد ذلك جانبا من الدعاوى الكاذبة التي تفوه بها المشركون فقال- تعالى- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.وقد ذكر كثير من المفسرين أن القائل لهذا القول: النضر بن الحارث فإنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس فأحضر منها قصصا عن ملوكهم.. ولما قدم مكة ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن قال للمشركين: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلس، جاء بعده النضر فجلس فيه وحدث المشركين بأخبار ملوك الفرس والروم، وغيرهم ثم قال: أينا أحسن قصصا؟ أنا أو محمد؟ وقد أمكن الله منه يوم بدر، فقد أسره المقداد بن عمرو، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه وقال فيه: «إنه كان يقول في كتاب الله- عز وجل- ما يقول» .وأسند- سبحانه- قول النضر إلى جميع المشركين، لأنهم كانوا راضين بقوله، ولأنه كان من زعمائهم الذين يقودونهم إلى طريق الغواية.والأساطير- كما يقول ابن جرير-: جمع أسطر، وهو جمع الجمع، لأن واحد الأسطر سطر. ثم يجمع السطر: أسطر وسطور، ثم يجمع الأسطر أساطير وأساطر. وقد كان بعض أهل العربية يقول: واحد الأساطير: أسطورة- كأحاديث وأحدوثة .والمراد بها: تلك القصص والحكايات التي كتبها الكاتبون عن القدامى، والتي يغلب عليها طابع الخرافة والتخيلات التي لا حقيقة لها.والمعنى: أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم الكذب والتمادي في الطغيان، أنهم كانوا إذا تتلى عليهم آيات الله قالُوا بصفاقة ووقاحة: قَدْ سَمِعْنا أى: قد سمعنا ما قرأته علينا- يا محمد- ووعيناه لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا أى لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد وما هو إلا من قصص الأولين وحكاياتهم التي سطرها بعضهم عنهم وليس من عند الله- تعالى- ولا شك أن قولهم هذا يدل على تعمدهم الكذب على أنفسهم وعلى الناس فإن هذا القرآن- الذي زعموا أنهم لو شاءوا لقالوا مثله- قد تحداهم في نهاية المطاف أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا وانقلبوا خاسرين.والذي نعتقده أن قولهم هذا، ما هو إلا من قبيل الحرب النفسية التي كانوا يشنونها على الدعوة الإسلامية، بقصد تضليل البسطاء، والوقوف في وجه تأثير القرآن في القلوب، ومحاولة طمس معالم الحق ولو إلى حين.ولكنهم لم يفلحوا. فإن نور الحق لا تحجبه الشبهات الزائفة، ولا يعدم الحق أن يجد له أنصارا حتى من أعدائه، يكفى هنا أن نستشهد بما قاله الوليد بن المغيرة في وصف القرآن الكريم: «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر.. وما يقول هذا بشر» .ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لقوله- تعالى- لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا..: نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاءوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالعجز حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه، مع فرط أنفتهم، واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة ... » .
8:32
وَ اِذْ قَالُوا اللّٰهُمَّ اِنْ كَانَ هٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَاَمْطِرْ عَلَیْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ اَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ اَلِیْمٍ(۳۲)
اور جب بولے (ف۵۳) کہ اے اللہ اگر یہی (قرآن) تیری طرف سے حق ہے تو ہم پر آسمان سے پتھر برسا یا کوئی دردناک عذاب ہم پر لا،

ثم تمضى السورة في حديثها عن رذائل مشركي قريش، فتحكى لونا عجيبا من ألوان عنادهم، وجحودهم للحق. فتقول: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ..وقائل هذا القول: النضر بن الحارث صاحب القول السالف لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا.. ذكر ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير.وأخرج البخاري عن أنس بن مالك أن قائل ذلك: أبو جهل بن هشام. وأخرجه ابن جرير عن ابن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض: أأكرم الله محمدا صلى الله عليه وسلم من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء .والمعنى: أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله، وأن محمدا قد جاءهم بالحق.. بل أضافوا إلى ذلك قولهم: اللهم إن كان هذا الذي جاءنا به محمد من قرآن وغيره هو الحق المنزل من عندك، فعاقبنا على إنكاره والكفر به، بأن تنزل علينا حجارة من السماء تهلكنا. أو تنزل علينا عذابا أليما يقضى علينا.قال الجمل: قوله: هُوَ الْحَقَّ قرأ العامة «الحق» بالنصب على أنه خبر الكون ولفظ هُوَ للفصل. وقرأ الأعمش وزيد بن على «الحق» بالرفع ووجهها ظاهر برفع لفظ «هو» على الابتداء، والحق خبره، والجملة خبر الكون .وفي إطلاقهم الْحَقَّ على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله من عند الله تهكم بمن يقول ذلك سواء أكان هذا القائل- رسول الله صلى الله عليه وسلم- أو المؤمنين.وأل فيه للعهد: أى الحق الذي ادعى محمد أنه جاء به من عند الله.وقوله: مِنَ السَّماءِ متعلق بمحذوف صفة لقوله حِجارَةً. وفائدة هذا الوصف الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة مخصوصة لتعذيب الظالمين.قال صاحب الكشاف: وهذا أسلوب من الجحود بليغ. يعنى إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومرادهم نفى كونه حقا، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا، فكان تعليق العذاب بكونه حقا، مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قولك: إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة من السماء.فإن قلت: ما فائدة قوله مِنَ السَّماءِ والأمطار لا تكون إلا منها؟قلت: كأنهم يريدون أن يقولوا: فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسومة للعذاب، فوضع حجارة من السماء موضع السجيل.وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة، فقال الرجل: أجهل من قومي قومك، فقد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق:إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ... ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .ولقد كان هذا الرجل حكيما في رده على معاوية، لأنه كان الأولى بأولئك المشركين أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه.. ولكن العناد الجامح الذي استولى عليهم جعلهم يؤثرون الهلاك على الإذعان للحق ويفضلون عبادة الأصنام على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده.. وهكذا النفوس عند ما تنغمس في الأحقاد وتتمادى في الجحود. وتنقاد للأهواء والشهوات، وتأخذها العزة بالإثم. ترى الباطل حقا، والحق باطلا، وتؤثر العذاب وهي سادرة في باطلها، على الخضوع للحق والمنطق والصواب.
8:33
وَ مَا كَانَ اللّٰهُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَ اَنْتَ فِیْهِمْؕ-وَ مَا كَانَ اللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ یَسْتَغْفِرُوْنَ(۳۳)
اور اللہ کا کام نہیں کہ انہیں عذاب کرے جب تک اے محبوب! تم ان میں تشریف فرما ہو (ف۵۴) اور اللہ انہیں عذاب کرنے والا نہیں جب تک وہ بخشش مانگ رہے ہیں (ف۵۵)

ثم تعقب السورة على هذا الدعاء الغريب الذي حكته عن مشركي مكة، فتبين الموجب لإمهالهم وعدم إجابة دعائهم فتقول: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.أى: وما كان الله مريدا لتعذيب هؤلاء الذين دعوا بهذا الدعاء الغريب تعذيب استئصال وإهلاك، وأنت مقيم فيهم- يا محمد- بمكة، فقد جرت سنته- سبحانه- ألا يهلك قرية مكذبة وفيها نبيها والمؤمنون به حتى يخرجهم منها ثم يعذب الكافرين.واللام في قوله لِيُعَذِّبَهُمْ لتأكيد النفي، وللدلالة على أن تعذيبهم والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة.والمراد بالاستغفار في قوله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين الذين لم يستطيعوا مغادرة مكة بعد أن هاجر منها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.أى: ما كان الله مريدا لتعذيبهم وأنت فيهم- يا محمد- وما كان- أيضا- مريدا تعذيبهم وبين أظهرهم بمكة من المؤمنين المستضعفين من يستغفر الله، وهم الذين لم يستطيعوا مغادرتها واللحاق بك في المدينة.قالوا: ويؤيد أن هذا هو المراد بالاستغفار قوله- تعالى- في آية أخرى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أى: لو تميز المؤمنون عن الكافرين لعذبنا الذين كفروا عذابا أليما.وأسند- سبحانه- الاستغفار إلى ضمير الجميع، لوقوعه فيما بينهم، ولتنزيل ما صدر عن البعض منزلة ما صدر عن الكل. كما يقال: قتل أهل بلدة كذا فلانا والمراد بعضهم.ويرى بعضهم أن المراد بالاستغفار المذكور: استغفار الكفرة أنفسهم كقولهم: غفرانك.في طوافهم بالبيت، أو ما يشبه ذلك من معاني الاستغفار وكأن هذا البعض يرى أن مجرد طلب المغفرة منه- سبحانه- يكون مانعا من عذابه ولو كان هذا الطلب صادرا من الكفرة.ويرجح ابن جرير أن المراد بقوله: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ نفى الاستغفار عنهم فقد قال بعد أن ذكر بضعة آراء: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: تأويله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد، وبين أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم، لأنى لا أهلك قرية وفيها نبيها، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك بل هم مصرون عليه، فهم للعذاب مستحقون ... » .قال بعض المحققين: والقول الأول أبلغ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة.ثم قال: روى الترمذي عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله على أمانين لأمتى «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ... » الآية. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» .قال ابن كثير: ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت الأرواح فيهم. فقال الله- تعالى- فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفرونى» .
8:34
وَ مَا لَهُمْ اَلَّا یُعَذِّبَهُمُ اللّٰهُ وَ هُمْ یَصُدُّوْنَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ مَا كَانُوْۤا اَوْلِیَآءَهٗؕ-اِنْ اَوْلِیَآؤُهٗۤ اِلَّا الْمُتَّقُوْنَ وَ لٰكِنَّ اَكْثَرَهُمْ لَا یَعْلَمُوْنَ(۳۴)
اور انہیں کیا ہے کہ اللہ انہیں عذاب نہ کرے وہ تو مسجد حرام سے روک رہے ہیں (ف۵۶) اور وہ اس کے اہل نہیں (ف۵۷) اس کے اولیاء تو پرہیزگار ہی ہیں مگر ان میں اکثر کو علم نہیں،

ثم بين- سبحانه- بعض الجرائم التي ارتكبها المشركون، والتي تجعلهم مستحقين لعذاب الله، فقال- تعالى-: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.والمعنى: وأى شيء يمنع من عذاب مشركي قريش بعد خروجك- يا محمد- وخروج المؤمنين المستضعفين من بين أظهرهم؟ إنه لا مانع أبدا من وقع العذاب عليهم وقد وجد مقتضية منهم، حيث اجترحوا من المنكرات والسيئات ما يجعلهم مستحقين للعقاب الشديد.فالاستفهام في قوله وَما لَهُمْ.. إنكارى بمعنى النفي. أى: لا مانع من تعذيب الله لهم وقوله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ جملة حالية مبينة لجريمة من جرائمهم الشنيعة، أى: لا مانع يمنع من تعذيبهم: وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يمنعون المؤمنين عن الطواف بالمسجد الحرام، ومن زيارته. ومن مباشرة عباداتهم عنده..؟ إنهم لا بد أن يعذبوا على هذه الجرائم.ولقد أوقع الله بهم عذابه في الدنيا: ومن ذلك ما حدث لهم يوم بدر من قتل صناديدهم ومن أسر وجهائهم.وأما عذابهم في الآخرة فهو أشد وأبقى من عذابهم في الدنيا.وقوله: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ رد على ما كانوا يقولونه بالباطل: نحن ولاة البيت الحرام، فلنا أن نصد من نشاء عن دخوله، ولنا أن نبيح لمن نشاء دخوله.أى: إن هؤلاء المشركين ما كانوا في يوم من الأيام أهلا لولاية البيت الحرام بسبب شركهم وعداوتهم- لله تعالى- رب هذا البيت.وقوله إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بيان للمستحقين لولاية البيت الحرام، بعد نفيها عن المشركين.أى: إن هؤلاء المشركين ليسوا أهلا لولاية البيت الحرام، وليسوا أهلا لأن يكونوا أولياء لله- تعالى- بسبب كفرهم وجحودهم، وإنما المستحقون لذلك هم المتقون الذين صانوا أنفسهم عن الكفر وعن الشرك وعن كل ما يغضب الله، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك بسبب جهلهم وتماديهم في الجحود والضلال.وقد جاءت جملة إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ مؤكدة بأقوى ألوان التأكيد، لنفى كل ولاية على البيت الحرام سوى ولايتهم هم.ونفى- سبحانه- العلم عن أكثر المشركين، لأن قلة منهم كانت تعلم أنه لا ولاية لها على المسجد الحرام ولكنها كانت تجحد ذلك عنادا وغرورا. أو أن المراد بالأكثر الكل، لأن للأكثر حكم الكل في كثير من الأحكام، كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم.
8:35
وَ مَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَیْتِ اِلَّا مُكَآءً وَّ تَصْدِیَةًؕ-فَذُوْقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُوْنَ(۳۵)
اور کعبہ کے پاس ان کی نماز نہیں مگر سیٹی اور تالی (ف۵۸) تو اب عذاب چکھو (ف۵۹) بدلہ اپنے کفر کا،

ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من ألوان ضلال هؤلاء المشركين وجحودهم فقال:وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً، فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.قال القرطبي ما ملخصه: قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، يصفقون ويصفرون، فكان ذلك عبادة في ظنهم.والمكاء: الصفير. يقال مكا يمكو مكوا ومكاء إذا صفر.والتصدية: التصفيق. يقال: صدى يصدى تصدية إذا صفق.قال قتادة: المكاء: ضرب بالأيدى، والتصدية: الصياح.والمعنى: أن هؤلاء المشركين لم تكن صلاتهم عند البيت الحرام إلا تصفيقا وتصفيرا، وهرجا ومرجا لا وقار فيه، ولا استشعار لحرمة البيت، ولا خشوع لجلالة الله- تعالى-، وذلك لجهلهم بما يجب عليهم نحو خالقهم، ولحرصهم على أن يسيئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، أو وهو يطوف بالبيت، أو وهو يؤدى شيئا من شعائر الإسلام وعباداته. فقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن رفعوا أصواتهم بالصياح والغناء ليمنعوا الناس من سماعه. قال- تعالى-: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ .وروى ابن جرير أن ابن عمر حكى فعلهم، فصفر، وأمال خده وصفق بيديه.وقال مجاهد إنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته.وعن سعيد بن جبير: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون به، يصفرون ويصفقون .وقال الفخر الرازي: فإن قيل المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف جاز استثناؤهما من الصلاة؟قلنا: فيه وجوه: الأول: أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة فخرج هذا الاستثناء على حسب، معتقدهم.الثاني: أن هذا كقولك: وددت الأمير فجعل جفائى صلتي. أى: أقام الجفاء مقام الصلة فكذا هنا.الثالث: الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له. كما تقول العرب:ما لفلان عيب إلا السخاء. يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له .وقوله: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وعيد لهم على كفرهم وجحودهم، واستهزائهم بشعائر الله.أى: فذوقوا- أيها الضالون- العذاب الشديد بسبب كفركم وعنادكم واستهزائكم بالحق الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله،
8:36
اِنَّ الَّذِیْنَ كَفَرُوْا یُنْفِقُوْنَ اَمْوَالَهُمْ لِیَصُدُّوْا عَنْ سَبِیْلِ اللّٰهِؕ-فَسَیُنْفِقُوْنَهَا ثُمَّ تَكُوْنُ عَلَیْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ یُغْلَبُوْنَ۬ؕ-وَ الَّذِیْنَ كَفَرُوْۤا اِلٰى جَهَنَّمَ یُحْشَرُوْنَۙ(۳۶)
بیشک کافر اپنے مال خرچ کرتے ہیں کہ اللہ کی راہ سے روکیں (ف۶۰) تو اب انہیں خرچ کریں گے پھر وہ ان پر پچھتاوا ہوں گے (ف۶۱) پھر مغلوب کردیے جائیں گے اور کافروں کا حشر جہنم کی طرف ہوگا،

ثم حكى- سبحانه- ما كانوا يفعلونه من إنفاق أموالهم لا في الخير ولكن في الشرور والآثام وتوعدهم على ذلك بسوء المصير فقال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ...روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما ذكره محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلّهم- أى جيشهم المهزوم- إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبى جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم في بدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا.ففعلوا. قال: ففيهم- كما ذكر عن ابن عباس- أنزل الله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية .وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: نزلت في أبى سفيان بن حرب، استأجر يوم غزوة أحد ألفين من الأحابيش من بنى كنانة، فقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم:وروى عن الكلبي والضحاك ومقاتل أنها نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثنى عشر رجلا من قريش.. كان كل واحد منهم يطعم الناس كل يوم عشر جزر .قال ابن كثير: وعلى كل تقدير فهي عامة وإن كان سبب نزولها خاصا.أى: أن الآية الكريمة تتناول بوعيدها كل من يبذل أمواله في الصد عن سبيل الله، وفي تأييد الباطل ومعارضة الحق.المعنى: إن الذين كفروا بالحق لما جاءهم يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لا في وجوه الخير، وإنما ينفقونها لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى: ينفقونها ليمنعوا الناس عن الدخول في الدين الذي يوصلهم إلى رضا الله وإلى طريقه القويم.واللام في قوله: لِيَصُدُّوا لام الصيرورة، ويصح أن تكون للتعليل لأن غرضهم منع الناس عن الدخول في دين الله الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يرونه دينا مخالفا لما كان عليه الآباء والأجداد فيجب محاربته في زعمهم.وقوله: فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ... بيان لما سيؤول إليه أمرهم في الدنيا من الخيبة والهزيمة والندامة.أى: فسينفقون هذه الأموال في الشرور والعدوان، ثم تكون عاقبة ذلك حسرة وندامة عليهم، لأنهم لم يصلوا- ولن يصلوا- من وراء إنفاقها إلى ما يبغون ويؤملون. وفضلا عن كل هذا فستكون نهايتهم الهزيمة والإذلال في الدنيا، لأن سنة الله قد اقتضت أن يجعل النصر في النهاية لأتباع الحق لا لأتباع الباطل.وقوله: فَسَيُنْفِقُونَها خبر إن في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.. واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط، فصار الخبر بمنزلة الجزاء بحسب المعنى.وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط والجزاء، إشعار بكمال سوء إنفاقهم، حيث إنهم لم ينفقوا أموالهم في خير أو ما يشبه الخير، وإنما أنفقوها في الشرور المحضة.وجاء العطف بحرف ثُمَّ للدلالة على البون الشاسع بين ما قصدوه من نفقتهم وبين ما آل ويئول إليه أمرهم. فهم قد قصدوا بنفقتهم الوقوف في وجه الحق والانتصار على المؤمنين.. ولكن هذا القصد ذهب أدراج الرياح، فقد ذهبت أموالهم سدى، وغلبوا المرة بعد المرة، وعاد المؤمنون إلى مكة فاتحين ظافرين بعد أن خرجوا منها مهاجرين.وقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ بيان لسوء مصيرهم في الآخرة، بعد بيان حسرتهم وهزيمتهم في الدنيا.أى: أن هؤلاء الكافرين ستكون عاقبة إنفاقهم لأموالهم الحسرة والهزيمة في الدنيا، أما في الآخرة فسيكون مصيرهم الحشر والسوق إلى نار جهنم لا إلى غيرها.
8:37
لِیَمِیْزَ اللّٰهُ الْخَبِیْثَ مِنَ الطَّیِّبِ وَ یَجْعَلَ الْخَبِیْثَ بَعْضَهٗ عَلٰى بَعْضٍ فَیَرْكُمَهٗ جَمِیْعًا فَیَجْعَلَهٗ فِیْ جَهَنَّمَؕ-اُولٰٓىٕكَ هُمُ الْخٰسِرُوْنَ۠(۳۷)
اس لیے کہ اللہ گندے کو ستھرے سے جدا فرمادے (ف۶۲) اور نجاستوں کو تلے اوپر رکھ کر سب ایک ڈھیر بناکر جہنم میں ڈال دے وہی نقصان پانے والے ہیں (ف۶۳)

وقوله: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ... بيان لحكمته- سبحانه- في هزيمة الكافرين وحشرهم إلى جهنم.وقوله: فَيَرْكُمَهُ أى: فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض يقال: ركم الشيء يركمه، إذا جمعه وألقى بعضه على بعضه. وارتكم الشيء وتراكم أى: اجتمع.والمعنى: أنه- سبحانه- فعل ما فعل من خذلان الكافرين وحشرهم إلى جهنم، ومن تأييد المؤمنين وفوزهم برضوانه، ليتميز الفريق الخبيث وهو فريق الكافرين، من الفريق الطيب وهو فريق المؤمنين، فإذا ما تمايزوا جعل- سبحانه- الفريق الخبيث منضما بعضه على بعض، فيلقى به في جهنم جزاء خبثه وكفره. واللام في قوله لِيَمِيزَ متعلقة بقوله يُغْلَبُونَ أو بقوله يُحْشَرُونَ ويجوز أن يكون المراد بالخبيث ما أنفقه الكافرون من أموال للصد عن سبيل الله، وبالطيب ما أنفقه المؤمنون من أموال لإعلاء كلمة الله.وعليه تكون اللام في قوله لِيَمِيزَ متعلقة بقوله: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أى:أنه- سبحانه- يميز هذه الأموال بعضها من بعض، ثم يضم الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض، فيلقى بها وبأصحابها في جهنم.والتعبير بقوله- سبحانه- فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً تعبير مؤثر بليغ، لأنه يصور الفريق الخبيث كأنه لشدة تزاحمه وانضمام بعضه إلى بعض شيء متراكم مهمل، يقذف به في النار بدون اهتمام أو اعتبار.واسم الإشارة في قوله: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعود إلى هذا الفريق الخبيث، أى:أولئك الكافرون الذين أنفقوا أموالهم في الصد عن سبيل الله هم الخاسرون لدنياهم وآخرتهم.
8:38
قُلْ لِّلَّذِیْنَ كَفَرُوْۤا اِنْ یَّنْتَهُوْا یُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَۚ-وَ اِنْ یَّعُوْدُوْا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْاَوَّلِیْنَ(۳۸)
تم کافروں سے فرماؤ اگر وہ باز رہے تو جو ہو گزرا وہ انہیں معاف فرمادیا جائے گا (ف۶۴) اور اگر پھر وہی کریں تو اگلوں کا دستور گزر چکا ہے (ف۶۵)

وبعد كل هذا التهديد والوعيد للكافرين.. يوجه- سبحانه- خطابه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم يأمره فيه أن يبلغهم حكم الله إذا ما انتهوا عن كفرهم، كما يأمر المؤمنين أن يقاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا، فيقول- سبحانه-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.أى: قُلْ يا محمد لهؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم، من أهل مكة وغيرهم، قل لهم: إِنْ يَنْتَهُوا عن كفرهم وعداوتهم للمؤمنين يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من كفرهم ومعاصيهم وَإِنْ يَعُودُوا إلى قتالك ويستمروا في ضلالهم وكفرهم وطغيانهم، انتقمنا منهم، ونصرنا المؤمنين عليهم فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ على ذلك.أى: فقد مضت سنة الله- تعالى- في الأولين، وسنته لا تتخلف في أنه- سبحانه- يعذب المكذبين بعد إنذارهم وتبليغهم دعوته، وينصر عباده المؤمنين وينجيهم ويمكن لهم في الأرض. وقد رأى هؤلاء المشركون كيف كانت عاقبة أمرهم في بدر، وكيف أهلك- سبحانه- الكافرين من الأمم قبلهم.وجواب الشرط لقوله وَإِنْ يَعُودُوا محذوف والتقدير: وإن يعودوا ننتقم منهم.وقوله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ تعليل للجواب المحذوف.قال الآلوسى: قوله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أى عادة الله الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء، من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم. وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة. ونظير ذلك قوله- سبحانه- سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته لقوله- سبحانه- وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا باعتبار جريانها على أيديهم. ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر.والآية حث على الإيمان وترغيب فيه.. واستدل بها على أن الإسلام يجب ما قبله، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس.وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعموم الآية ... » .
8:39
وَ قَاتِلُوْهُمْ حَتّٰى لَا تَكُوْنَ فِتْنَةٌ وَّ یَكُوْنَ الدِّیْنُ كُلُّهٗ لِلّٰهِۚ-فَاِنِ انْتَهَوْا فَاِنَّ اللّٰهَ بِمَا یَعْمَلُوْنَ بَصِیْرٌ(۳۹)
اور اگر ان سے لڑو یہاں تک کہ کوئی فساد (ف۶۶) باقی نہ رہے اور سارا دین اللہ ہی کا ہوجائے، اگر پھر وہ باز رہیں تو اللہ ان کے کام دیکھ رہا ہے،

وقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ.. أمر من الله- تعالى- للمؤمنين بقتال الكافرين إذا ما استمروا في كفرهم وطغيانهم.والمعنى: عليكم- أيها المؤمنون- إذا ما استمر أولئك الكافرون في كفرهم وعدوانهم، أن تقاتلوهم بشدة وغلظة، وأن تستمروا في قتالهم حتى تزول صولة الشرك، وحتى تعيشوا أحرارا في مباشرة تعاليم دينكم، دون أن يجرأ أحد على محاولة فتنتكم في عقيدتكم أو عبادتكم..وحتى تصير كلمة الذين كفروا هي السفلى.قال الجمل: وقوله: وَقاتِلُوهُمْ.. معطوف على قوله قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا.ولكن لما كان الغرض من الأول التلطف بهم وهو وظيفة النبي وحده جاء بالإفراد. ولما كان الغرض من الثاني تحريض المؤمنين على القتال جاء بالجمع فخوطبوا جميعا» .وقوله فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى: فإن انتهوا عن كفرهم وعن معاداتكم، فكفوا أيديكم عنهم، فإن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وسيجازيهم عليها بما يستحقون من ثواب أو عقاب.
8:40
وَ اِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ مَوْلٰىكُمْؕ-نِعْمَ الْمَوْلٰى وَ نِعْمَ النَّصِیْرُ(۴۰)
اور اگر وہ پھریں (ف۲۷) تو جان لو کہ اللہ تمہارا مولیٰ ہے (ف۶۸) تو کیا ہی اچھا مولیٰ اور کیا ہی اچھا مددگار،

وقوله وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ بشارة منه- سبحانه- للمؤمنين بالنصر والتأييد.أى: وإن أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا عن الكفر والطغيان فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أى: ناصركم ومعينكم عليهم، فثقوا بولايته ونصرته، فهو- سبحانه- نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ لأنه لا يضيع من تولاه، ولا يهزم من نصره.وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد فتحت الباب للكافرين حتى يفيئوا إلى رشدهم، وينتهوا عن كفرهم، وبشرتهم بأنهم إذا فعلوا ذلك غفر الله لهم ما سلف من ذنوبهم.. أما إذا استمروا في كفرهم ومعاداتهم للحق، فقد أمر الله عباده المؤمنين بقتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله..أى أن القتال في الإسلام شرعه الله- تعالى- من أجل إعلاء كلمته ومن أجل رفع الأذى والفتنة والعدوان عمن يعتنقون دينه وشريعته.هذا، وقد ساق ابن كثير عند تفسيره الآيات جملة من الأحاديث التي تشهد بأن القتال في الإسلام إنما شرعه الله- تعالى- لإعلاء كلمته، وليس لأجل الغنيمة أو السيطرة على الغير.. وأنه لا يجوز لمسلم أن يقتل إنسانا بعد نطقه بالشهادتين. فقال- رحمه الله-:وقوله- تعالى- وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ...روى البخاري عن ابن عمر أن رجلا جاءه- في فتنة ابن الزبير- فقال له يا أبا عبد الرحمن، ألا تصنع ما ذكره الله في كتابه وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ...الآية . فما يمنعك من القتال؟ فقال يا ابن أخى لأن أعير بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إلى من أن أعير بالآية التي تقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها..الآية .فقال الرجل: فإن الله يقول: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فقال ابن عمر: «قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا، فكان الرجل يفتن في دينه: إما أن يقتلوه، وإما أن يوثقوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة..وعن سعيد بن جبير قال: خرج إلينا ابن عمر فقال له قائل: كيف ترى في قتال الفتنة؟فقال له ابن عمر وهل تدرى ما الفتنة؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدخول عليهم فتنة، وليس بقتالكم على الملك.وفي رواية أنه قال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله.ثم قال ابن كثير: وقوله فَإِنِ انْتَهَوْا أى: بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنهم وإن لم تعلموا بواطنهم فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ..وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف، فقال الرجل لا إله إلا الله، فضربه فقتله فذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال لأسامة: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ فكيف تصنع «بلا إله إلا الله» يوم القيامة؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا فقال. هلا شققت عن قلبه؟ وجعل يقول ويكرر عليه من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة، قال أسامة: حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت إلا يومئذ .وبعد هذا الحديث المتنوع عن مكر الكافرين وعن دعاويهم الكاذبة، وعن وجوب مقاتلتهم إذا ما استمروا في طغيانهم وعدوانهم.. بعد كل ذلك بين- سبحانه- للمؤمنين كيفية قسمة الغنائم التي كثيرا ما تترتب على قتال أعدائهم، فقال- تعالى-:
  FONT
  THEME
  TRANSLATION
  • English | Ahmed Ali
  • Urdu | Ahmed Raza Khan
  • Turkish | Ali-Bulaç
  • German | Bubenheim Elyas
  • Chinese | Chineese
  • Spanish | Cortes
  • Dutch | Dutch
  • Portuguese | El-Hayek
  • English | English
  • Urdu | Fateh Muhammad Jalandhry
  • French | French
  • Hausa | Hausa
  • Indonesian | Indonesian-Bahasa
  • Italian | Italian
  • Korean | Korean
  • Malay | Malay
  • Russian | Russian
  • Tamil | Tamil
  • Thai | Thai
  • Farsi | مکارم شیرازی
  TAFSEER
  • العربية | التفسير الميسر
  • العربية | تفسير الجلالين
  • العربية | تفسير السعدي
  • العربية | تفسير ابن كثير
  • العربية | تفسير الوسيط لطنطاوي
  • العربية | تفسير البغوي
  • العربية | تفسير القرطبي
  • العربية | تفسير الطبري
  • English | Arberry
  • English | Yusuf Ali
  • Dutch | Keyzer
  • Dutch | Leemhuis
  • Dutch | Siregar
  • Urdu | Sirat ul Jinan
  HELP

 اَلْاَ نْفَال
 اَلْاَ نْفَال
  00:00



Download

 اَلْاَ نْفَال
 اَلْاَ نْفَال
  00:00



Download